كلمة الأخ ريمون رزق - عيد الحركة الخمسين

 

ريمون رزق - 1992


المسيح قام،

صاحب السيادة، آبائي الأجلّاء، أيها السادة، إخوتي،

- المستقبل:

منذ ما يقارب الخمسين سنة تساءل أحد مؤسّسي الحركة، "أيأتي يوم لا يعود للحركة فيه مبرّر وجود"، لن أطرح اليوم السؤال عينه لأنّ المسألة الحقيقيّة ليست في استمرار هذا التنظيم أو ذاك، بل في أن تبقى كنيسة أنطاكية دومًا مطيعة للرّوح الذي يحيي كلّ حركة نهضويّة فيها، بالتأكيد يبقى المستقبل بين يديّ الله، فعلى الزارع أن يزرع دون معرفة وقت ومدى الحصاد. لكن نحن متيقّنون من أنّ هذا المستقبل سيكون نتيجة التزامنا اليوم في أن نكون أمناء لمحبّتنا الأولى وأن نضع ثقتنا الكاملة في الذي غلب العالم، التزام مثمر بالروح.

متابعة اهتدائنا للأرثوذكسيّة:

واحدة من المهمّات الأساسيّة التي أكبّت عليها الحركة، مهمّة يجب أن تتمّ دائمًا وهي أنّها جعلت كلّ واحد منّا يدرك انطلاقًا من معموديّته ومسحته أنّه مدعوّ لأن يكون زارعًا في الحقل الذي جعلت كنيسة الله في أنطاكية مسؤولة عنه، ويدرك أيضًا أنّ هذه المسؤوليّة مسؤوليّة مشتركة يجب أن تنعكس في حياتنا وفي التزامنا.

في الواقع ليس المقصود هنا إلّا دعوة للاهتداء إلى الأرثوذكسيّة الحقّة، دعوة لنصير مسيحيّين بالفعل، لذلك ليس من طريق آخر إلّا الطريق الذي "أُعطيَ مرّة واحدة للقدّيسين" والذي خبرته أجيال من أخوتنا في الإيمان، ألا وهو الإصغاء إلى الذي وحده هو "الطريق والحقّ والحياة". علينا إذًا متابعة البحث عن السيّد في مواضع سكناه هذا إذا كنّا نريد حقًّا أن يُعطى لنا أن نعي كتلميذَيّ عمواس أنّ القائم من بين الأموات هو دائمًا قريب في حين أنّ أعيننا غالبًا ما تكون منغلقة وأنّ فكرنا غالبًا ما يكون منشغلاً باعتبارات نعتبرها جدّيّة جدًّا تمنعنا من أن نفهم أنّ الربّ دائمًا قائمٌ في الانتظار واللقاء، وأنّه يدعونا قبل أيّ شيء آخر أن نتحوّل به وإليه.

يجب علينا إذّا أن نتابع معلنين ومنادين بصوت قويّ جهير، وفي جميع الأوقات أنّ كلّ تغيّر صحيح وعميق نريده أن يتألّق في العالم وفي الكنيسة، هو نتيجة تحوّل، نتيجة ثورة داخليّة حقّة تأتي أوّلاً وتعطى لثورات آخر معناها ومدّها. وأخيرًا أجرؤ فأقول في مفهومها الإنجيليّ، أعني بها تغيير الذهن الكامل.

ودون أن نستبعد طرقًا أخرى علينا متابعة التأكيد أنّ "الطريق الملوكيّ" لنمتلئ من الظمأ إلى الله ونسمع دعوته لنصير باقتنائنا روحه، شهودًا لمسيحه. ما هو إلّا طريق التزامنا بحياة كنيسته. هذا هو الطريق الذي، رغم هزالة البشر وتسوّس البُنى، يضع أمامنا أكثر الفرص للقاء والمسيح الذي يقدّم لنا ذاته في الصلاة وجهًا لوجه، في كلمة الكتاب، في الذبيحة الشكريّة، في اجتماع وشركة الأخوة، والذي يعلّمنا تاليًا أن نلقاه في الإنسان، في كلّ إنسان ارتضى أن يجعل منه مسكنًا له والذي يدعونا لخدمته.

هذا الالتزام في حياة الكنيسة، حتى لا يفقد أصالته، عليه أن يتجاوز معًا تجارب الخلقيّة الفرّيسيّة في "مسلك الحدّ الأدنى"، والطقوسيّة المنقطعة من العالم والنشاطيّة الفارغة. الحياة الكنسيّة هي ليتورجيّة في جميع مظاهرها وهي لا تتوقّف عند حدود مبنى الكنيسة، فالمشاركة الحقّة في الليتورجيا التي محورها هو سرّ الشكر تبدأ وتستمرّ خارج نطاق الهيكل، أي قبل وبعد إقامة الخدمة، وهي قائمة في التوبة وفي نمط إنجيليّ للحياة ومشاركة في سرّ القريب.

على الحركة أن تضمّ صوتها إلى كلّ العاملين بصدق في حقل الربّ منادية ومستمرّة في النداء، في العديد من فرق الأطفال والشباب والكهول وفي أكثر الحلقات شموليّة مائلة أن نصبح مسيحيّين يعني أن نتغيّر، أن ندع جانبًا الدين المتحف والدين الطائفة والدين الحرف حتى نتحرّق بنار الكلمة المحيية. أن نصبح مسيحيّين يفترض ابتعادًا عن فكر وممارسات هذا العالم، رجاء أن نستطيع يومًا وبتواضع أن نتمّم مع الرسول "أمّا نحن فلنا فكر المسيح". ويفترض أن نرتضي من عمق القلب في أن نكون على صورة السيّد عند أقدام الجميع.

في نصّ جميل إلى "ذيغونيطوس"، وصف معبّر للمسيحيّين الأوّلين. يقول هذا النصّ: "هم لا يتميّزون عن الآخرين بوطن أو لغة أو زيّ... ولكن من خلال تقيّدهم بالعادات المحليّة يعطون بسلوكهم مثلاً عجيبًا رائعًا".

الحركة حافز النهضة:

على الحركة أن تصلّي وبكثير من الحرارة كي يعطى لها متابعة القيام بدور الحافز المحرّك للنهضة في قلب كنيسة أنطاكية. أؤكّد على دور الحافز هذا وأعني به حافزًا غير محتكر للنهضة بل مشير إلى متطلّباتها ومذكر بها، حافز يذكي الورع والحماس، حافز يساعد على إيجاد البرامج والالتزام بها، حافز يدعو الجميع إلى العمل والخِدَم. في ورشة النهضة هذه تعتبر الحركة نفسها آخر الخدّام وهاجسها أن تكون حزبًا لله وحده دون سواه.

وفي وعي أكيد بالانتماء إلى كنيسة المسيح على أرض أنطاكية وبالأخوّة مع جميع الذين يؤلّفونها في أيّ مكان وُجِدوا، بعيدًا عن مؤسّساتيّة مفرطة بل في شركة كاملة مع أسقف كلّ محلّة.

في محبّتنا المفرطة لكنيسة المسيح، على الحركة وبروح التواضع والوعي العميق لضعفات أعضائها تذكر الكنيسة بأنّها مدعوّة أن تكون "كنيسة مجيدة" لا دنس فيها ولا غضن أو شيء من قبل ذلك، بل أن تكون كنيسة مقدّسة وبلا عيب (أفسس 5: 27)، وأن تعي أنّها مدعوّة لتكون قلب وضمير العالم، وأنّ هذه الدعوة يفرض عليها أن تعيش نهضة مستمرّة في وجوهها العلاقاتيّة والمؤسّساتيّة وفي شهادتها ومواجهتها لمشاكل العالم.

الدعوة لعيش وحدة كنيسة أنطاكية:

في هذا المجال نقدّم الشكر لله ولله وحده لانفجار النعمة التي هزّت كنيستنا في العقود الأخيرة ونشكره لإطلالات حقيقيّة للروح في الزمن الحاضر. هذا لم يمنعني من أن أسجّل أنّه هنا وهناك شياطين قديمة تنبعث ثانية وأنّ أمورًا ملحّة قد دخلت طيّ النسيان. ويخيّل لي أنّ حركة التجديد في كنيسة أنطاكية توشك أن تغوص أحيانًا في خصومات الأشخاص.

أليست خطيئة ضدّ الروح في ألّا نعي بشكل كامل العثرة التي تسبّبها لأولئك المؤمنين الصغار، بهذا التفسّخ الذي يظهر داخل شعب الله والذي يعطي الانطباع عينه الذي وصفه باسيليوس الكبير في رسالته المئة والواحدة والتسعين "كأنّنا جميعنا منغلقون في كنائس متفرّقة حيث يرتاب كلّ منّا بجاره"؟. ألا ندرك أنّ صلاة السيّد "ليكونوا واحدًا حتّى يؤمن العالم" تعني أوّلاً وقبل كلّ شيء أعضاء كنيستنا الأنطاكيّة المقدّسة. وأنّ وِحدة هؤلاء شرط لعودة العالم الذي يحيط بنا إلى الإيمان في صداميّة شهادتنا الإنجيليّة.

حياة الشركة والشورى والروح المحيية الشركويّة يجب أن تكون الذهنيّة السائدة في الكنيسة لأنّها انعكاس للحياة الثالوثيّة فيها. صحيح أنّ هذه الشركويّة تظهر أوّلاً في الحياة الأفخارستيّة والليتورجيّة التي هي خبرة مشتركة لمصالحة الناس مع الله وفي ما بينهم، خبرة لصلب الأنا الذاتيّ والجماعيّ لاحتضان حياة الناهض من القبر خبرة لأخوّة مُعاشة مع المسيح وللمسيح متجسّدة في خدمة الآخر، وأخيرًا خبرة القداسة في كنيسة الخطأة. لكنّ مشاركتنا في الحياة الليتورجيّة ستكون مشوبة بالخبث إن لم تعش هذه الشركويّة كممارسة دائمة لشعب الله في مختلف مجالات حياة الكنيسة وإدارتها، وإن لم تظهر في طبيعة ونمط العلاقات في ما بين المؤمنين جميعًا، والعمل على ترتيب شؤونهم ضمن الشركة أكان ذلك على صعيد مجلس الرعيّة أو مجلس الأبرشيّة أو المجمع المقدّس وجميع الهيئات الأخرى الموجودة أو التي يمكن تصوّر وجودها من أجل إرساء الوحدة بشكل فعّال وأفضل ومن أجل بلورة المسؤوليّة المشتركة لجميع أعضاء شعب الله.

مسؤوليّة إثارة هذه الذهنيّة وتحريكها منوطة أساسًا بالمجمع المقدّس ولكن أعتقد أنّ للحركة دورًا تقوم به في إطار هذا التوجّه لأنّها واحد من المنابر الكنسيّة القليلة التي تضمّ في الواقع وفي لقاء شبه مستمرّ أعضاء من شعب الله في سائر الأبرشيّات عبر الحدود القانونيّة.

القصد من هذا وببساطة كلّيّة أن نعيش لاهوتنا ونكفّ عن صنع لاهوت يخدم أوضاعنا ومصالحنا وشهادتنا. لاهوتنا الحقيقيّ المعبَّر عنه في القانون الأساسيّ لسنة 1973 يهدف إلى تجنّب في آن معًا لتجارب السلطويّة الإكليريكيّة من جهة وتجارب الفوضى العلمانيّة التي يدعوها البعض ديموقراطية، فوضى تسمح لجميع المعمَّدين أن يفرضوا إرادتهم حتّى لو لم يكونوا قد جدّدوا معموديّتهم بسيرهم في طريق الاهتداء الدائم للمسيح. نحن ندرك ويجب أن نقولها بلا هوادة ولا توقّف أنّ لاهوت الكهنوت الملوكيّ الأرثوذكسيّ يرسم الخطّ الفاصل – هذا إذا كان هناك من خط فاصل في عينيّ الله – ليس بين الإكليروس والعلمانيّين إنّما بين إكليروس وعلمانيّين ملتزمين بالتوبة الإنجيليّة والحياة الليتورجيّة والذين يؤلّفون شعب الله من جهة، وبين إكليروس وعلمانيّين يريدون أنفسهم منضمّين إلى الكنيسة فقط انطلاقًا من اعتبارات جماليّة أو اجتماعيّة سياسيّة أو مصالح شخصيّة أو جماعيّة من جهة أخرى.

بديهيّ أنّ كنيسة المسيح تفتح ذراعيها وقلبها لكلّ المعمّدين ومن خلالهم لكلّ إنسان يأتي إلى هذا العالم صاغية لهم، حاضرة لخدمتهم ومعيرة مشاكلهم اهتمامها وداعية جميع المؤمنين بالإلحاح عينه من أجل أن يؤكّدوا انتماءهم لشعب الله في المشاركة الفعّالة والحيّة في حياة الكنيسة الليتورجيّة والأسراريّة والتخلّق بخلق الإنجيل، الطريق إذًا مفتوحة والنهج واضح أمام الذين يرتضون حقًّا أن يكونوا من هذا الشعب الإلهيّ الذي بعرفنا "يحفظ الإيمان" والذي يستطيع وينبغي عليه أن يثبت القرارات المتعلّقة بحياة الكنيسة الداخليّة.

العمل من أجل أن تُعاش الذهنيّة الشركويّة هذه على جميع مستويات الحياة الكنسيّة، يجب أن يبقى أمرًا أوّليًّا وملحًّا لمحبّي الكنيسة. بالإضافة إلى ضرورة تشكيل مختلف المجالس والهيئات انطلاقًا من قانون 1973 نصًّا وروحًا، يجب العمل على حثّ كلّ قوى النهضة في الكنيسة أن تقبل تنوّع مواهبها وتقتنع أن تتكامل في طروحاتها. إثبات الوجود في التعارض وتجاهل الآخر هو من خصائص حديثي الاهتداء.

أنقبل بأن نبقى من حديثي الاهتداء إلى ما لا نهاية؟ يجب علينا إذًا أن نتعلّم كيفيّة التفكير سويًّا، أو التخطيط معًا وتحديد نطاق المشروع الأنطاكيّ للألف الثالث. يجب أن نكتشف الطريق الناجحة من أجل عيش أفضل للحياة الشركويّة أكان ذلك في علاقات الأساقفة في ما بينهم أو في علاقاتهم مع الكهنة والرهبان والعلمانيّين، وفي علاقات هؤلاء الآخرين في ما بينهم. يجب أن نقنع أنفسنا بضرورة دعوة جميع الأرثوذكسيّين ليأخذوا دورهم ويتحمّلوا مسؤوليّتهم في هذه العائلة، دون استبعاد أحد ولكن ضمن الأصول والترتيب وفي احترام "الأوّلين بين المتساويين" وذلك على جميع من يعتبرون أنفسهم من عَملة الساعة الحادية عشرة بفرح متجاوزين ميلهم لاعتبار كلّ واحد منهم "ابنًا شاطرًا". بكلمة علينا أن نحرّك كلّ ما باستطاعته أن يؤدّي بنا إلى عيش أكثر اكتمالاً "للشركة الأخويّة" وأن نلبس المحبّة التي هي رباط الكمال (كول 3: 14) التي يدعونا إليها انتماؤنا إلى كنيسة المسيح.

دعوة الكنيسة لاسترجاع شبابها الأبديّ وأن نكون وسطاءها مع العصريّة:

ثمّة مجال آخر يمكن للحركة فيه أن تخدم المسيح في الكنيسة وهو في استمرارها في تحريك طليعة ممّن يتحسّسون تساؤلات عالم اليوم وكلّ همّهم أن يحثّوا الكنيسة مجتمعة للإجابة عنها. الحركة عليها أن تضطلع بهذا الدور لأنّها منبر للكنيسة يستطيع فيه الشباب أكثر من أيّ مكان آخر التعبير عن آرائهم بحرّيّة وجرأة وبالتالي أنّه لمن الأمور المهمّة أن تعير الكنيسة أذنًا صاغية لصراخ شبابها ولهفتهم ونفاذ صبرهم. بالإضافة إلى الاستعداد للالتزام الذي يظهره الشباب حين يقرّرون ملء القلب الخوض في مغامرة القداسة، تبقى مساهمتهم رغم أو بسبب فتوّتهم، في طرح أسئلة على الكنيسة جمعاء، في استجوابها، في إزعاجها، ومن خلال التزامهم، مساعدتها على أن تستردّ دومًا شبابها الأبديّ.

ألم يقل رسول الأمم في رسالته الأولى إلى تيموثاوس: "لا يستهنّ أحد بحداثتك"؟ سريعو التأثّر بالظلم، مثاليّون، ميّالون لرفض كلّ تسوية، جارحون بقدر ما هم جرحى الألم والقلق في هذا العالم وما يعتبرونه أحيانًا خطأ – وكأنّه مجرّد تسويات أو تواطؤ بين الكبار والمسؤولين في الكنيسة في علاقاتهم مع السلطة والمال. الشباب هؤلاء يحتلّون مكانًا مميّزًا وسط شعب الله ليكونوا وسطاء بين الكنيسة والعصريّة ودعوة الكنيسة تاليًا لتفهّم أفضل لمشاكل العالم وما تقتضيه من تجاوب في عملها الرعائيّ وشهادتها.

منذ نصف قرن أشياء كثيرة تغيّرت في كنيسة أنطاكية وفي عالمنا معيدة إلى جدول الأعمال أولويّات سابقة عفاها الإهمال وفي إثارة الأولويّات على شمولها ولكنّني سأكتفي بتعداد الأهمّ الذي لا بدّ أن يُلحَظ في المشروع الأنطاكيّ للسنوات المقبلة.

- أوّلاً: مشاركة بعضنا البعض بالخيرات:

نصوص كثيرة في العهد القديم تذكّرنا بأنّ المسيحيّين الأوّلين "كان كلّ شيء بينهم مشتركًا" (أع 2: 44). غير أنّني أريد أن أستشهد بمقطع من نصّ دفاعيّ وضع في القرن الثاني. جاء في معرض كلامه عن مسيحيّي ذلك الزمن ما يلي: "إن وُجِد بينهم رجل فقير أو في عوز. ولم تتوفّر لهم الأشياء الضروريّة بكثرة، صاموا ليومَين أو ثلاثة ليؤمّنوا لمن هو في حاجة للطعام الضروريّ". أنا أعرف أنّنا اليوم – ويا للأسف – بحاجة لصيام يتجاوز الثلاثة أيّام أو يزيد من أجل تأمين حاجات أخوتنا المتعاظمة. لذلك فكنيستنا بحاجة إلى نبرة آبائنا الكبار لدعوتنا إلى العطاء، فيما هي تذكّرنا "بأنّ الخبز الذي تحتفظ به يخصّ الجائع" على حدّ تعبير باسيليوس الكبير وأنّ عدم مساعدة القريب نكران لمائدة الربّ" كما قال القدّيس إيريناوس أسقف ليون وهي أيضًا بحاجة متزايدة إلى اعتبار أنّ إنشاء ودعم المؤسّسات الاجتماعيّة هو في صلب عملها الرعائيّ.

- ثانيًا: الإحياء الليتورجيّ:

كلّ أولويّة أخرى يبدو أنّها تتعثّر وهي الإحياء الليتورجيّ في العمق من أجل استعادة المعنى الحقيقيّ لليتورجيا كعمل مشترك لمجموع شعب الله. الأمر الذي يستتبع قراءة جديدة لكثير من النصوص وتنقيح بعضها الآخر وإدخال كلّ ما يمكن أن يساهم في الوصول إلى مشاركة حيّة وفهم أفضل، ويستتبع أيضًا توضيح وتوحيد ممارستنا الطقسيّة والأسراريّة وخصوصًا لسرَّي التوبة والشكر وكلّ ما يمتّ بصلة إلى اختيار وتدريب وتأمين العيش الكريم للكهنة، خدّام الأسرار.

- ثالثًا: تجديد تعليمنا الدينيّ والإفادة من وسائل الإعلام:

يجب أيضًا أن نعي أنّ العالم الذي يحيط بنا يتغيّر بسرعة مذهلة مع نتائج غالبًا ما تكون مأساويّة تنعكس سلبًا على شهادتنا. أمام تصاعد العلمنة والانجراف نحو الاستهلاك وتآكل الأخلاق، وبدأ الإلحاد العمليّ يأخذ مكانه فيما بيننا. تأثير الشيع المتعاظم، واقع، إنّ نسبة كبيرة من أولادنا يتلقّون العلم في مدارس غير أرثوذكسيّة أو علمانيّة، وانحلال العائلة كوحدة أساسيّة في الكنيسة، يجعل الكثيرين من الأرثوذكس بعيدين فعلاً عن الأرثوذكسيّة.

رعايانا ممتدّة جدًّا، وعدد كهنتنا غير كاف حتّى أنّه ليس باستطاعتنا الاتّكال فقط على الوعظ واتصال الكهنة بالشعب وحتّى مدارس الأحد، هذه جميعها في أفضل الفرضيّات لا تصل إلّا إلى نسبة قليلة من الناس. إذًا من الأمور الملحّة مضاعفة سبل إيصال "الخبر السارّ" إلى الناس حيث هم، في بيوتهم ومدارسهم ومراكز عملهم. بالإضافة إلى الهمّ البشاريّ الذي يجب أن يدفع كهنتنا ورهباننا وعلمانيّينا الملتزمين إلى قرع الأبواب كلّها وضرورة جعل مؤسّساتنا العلميّة واعية مدركة لتنمّي فكرًا وتربية غنيّين بالرؤية الأرثوذكسيّة، علينا وبأيّ ثمن الاستعانة بالكتابة والصوت والصورة، أي اللجوء إلى وسائل النشر جميعها والوسائل السمعيّة والبصريّة.

من الأمور الملحّة أيضًا إعادة النظر بأساليب تعليمنا الدينيّ يجعلها أكثر وضوحًا وتعبيرًا. ومنها أيضًا الخروج من الدروب المطروقة لنقول للنّاس أنّ الله أحبّهم ويحبّهم، وأنّه صار إنسانًا ليعطيهم إمكانيّة أن يصيروا آلهة. وأنّ كنيسته، بعيدًا عن إبقائهم في الطفوليّة تسمح لهم بالدخول إلى الحريّة الكبرى لأبناء الله وتساعدهم على إيجاد المعنى الضائع للوجود، وتعلّمهم من جديد تهجئة إسم الله من خلال الجمال والثقافة.

البارز هنا مبادرة أبرشيّة الجبل في إيصال النشرة الرعائيّة إلى الناس في بيوتهم تصبّ في هذا المجرى وأرجو أن تكون مقدّمة لتحريك مسؤوليّة الكنيسة في ضرورة استعمال أوسع للنشر ووسائل الاتصال الحديثة.

- رابعًا: تجسيد الوحدة اللاهوتيّة المثبّتة مع غير الخلقدونيّين:

لا يكفي فقط أن نقدّم الشكر لله من أجل الجهود التي أدّت إلى الاعتراف الإيمانيّ المتبادل بين الكنيسة الأرثوذكسيّة والكنائس الشرقيّة الأرثوذكسيّة الشقيقة السريانيّة والقبطيّة والأرمنيّة والحبشيّة. علينا منذ الآن أن ننقل إلى حيّز التطبيق التوجيهات الرعائيّة التي أعلنها بطريركنا وآباء المجمع المقدّس حتّى تأتي وحدة الإيمان المستعادة هذه متجسّدة في وحدة القلب وقبول التباين بين الأخوة كوسيلة إغناء وتجاوز الأحقاد والجهل المتبادل الذي هو نتيجة أجيال من صراع بين الأخوة لا جدوى منه أدّى إلى تمزيق مسيحيّتنا المشرقيّة وتشويه شهادتنا. يجب إيقاظ وعي أعضاء كنيستنا حول أهمّيّة الرهان هذا والانطلاق قدمًا في لقاء أخوتنا الذين عدنا فوجدناهم حيث يمكننا من خلال هذا اللقاء أن نعيش بشكل أعمق فيما تتشابك جذورنا اليونانيّة والعربيّة بأصولنا السريانيّة.

- خامسًا: وحدة جميع المسيحيّين:

إنّ بالغ الأهميّة يجب أن يحرّك حماس محبّي كنيسة المسيح هو اللقاء في المحبّة والحقّ مع أخوة انفصلوا عنّا أثناء قرون مضت وارتضوا ولأسباب مختلفة أن يتّحدوا بكنائس الغرب. صحيح أن علينا ممارسة أرثوذكسيّة منفتحة وأنّ زمن العزل، أعني حتّى الروحويّة منها، قد ولّى إلى غير رجعة. ولكن هذا لا يعني في المقابل توفيقيّة تلفيقيّة أو مسكونيّة عاطفيّة تدعو إلى ضيافات أفخارستيّة اقتحاميّة. ولا يعني تفوّقًا ضدّ الطبيعة للمحبّة على الحقيقة. يجب أن نكون متيقّظين أكثر فأكثر متجنّبين اللسان المزدوج على الطريقة اللبنانيّة، ومتجنّبين عدم تطابق القول مع الفعل وكلّ ما من شأنه أن يؤدّي إلى تشتّت الانتماء الكنسيّ لأبنائنا. متجنّبين أيضًا تجمّعًا للمسيحيّين بأيّ ثمن. قال بطريركنا مؤخّرًا أنّنا وبعيدًا عن كلّ فكر صليبيّ، يجب أن نتعلّم الاعتراف بعضنا بالبعض الآخر أخوة في "فكر الصليب الذي هو روح القدس" وأن نصغي إلى همسات الروح لنصلّي معًا ونتمّ رحلة العودة إلى الينابيع، ونحمل بعضنا والبعض الآخر، بعضنا متمثّلاً بالبعض الآخر على نمط إنجيليّ أصل حياة وشهادة، هاجرين الاقتناص الذي طالما ظننّا أنّه قد ولّى، وموحّدين الجهد في خدمة الناس، كلّ الناس.

ساعتئذٍ يعطينا من صلّى للوحدة المرجوّة المستحقّة من خلال الحوار والعمل المشترك في العمق بعيدًا عن الخبث والمجاملات المشرقيّة الكاذبة، ذلك أنّ "جدران الانشقاق لن تطال السماء".

- سادسًا: الحوار مع الإسلام:

علينا أن نبعث وننشّط أكثر من أيّ يوم مضى الحوار مع المؤمنين بديانات أخرى. نعود في هذا المجال إلى خبرة أُعطيَ لنا أن نعيشها في لبنان في الستّينات وحملت رجاء كبيرًا. نسأل أن يكون لها خطّ الانتعاش من جديد، هذا الحوار من أولويّات شهادتنا كمسيحيّين مشرقيّين وهو واحد من الخدمات الأكثر أهمّيّة التي يمكننا أن نؤدّيها رغم الفخاخ الكثيرة التي تلازم انطلاقة كهذه.

- سابعًا: كرامة الإنسان والنضال من أجل العدالة والسلام:

حريّ بالقول أن واحدًا من المعايير الأساسيّة لمصداقيّة التزام الحركة في خدمة الكنيسة يكمن في جدّيّة التزام أعضائها في نضالهم المشترك مع ذوي الاستعداد الحسن من أجل كرامة الإنسان وإرساء العدل ورفض العنف والسعي إلى السلام. "لا يمكننا بالفعل أن نتبيّن استقرار نفس الإنسان في اللّهيب الإلهيّ من خلال كلامه عن الله إنّما من خلال كلامه عن شؤون الأرض" كما قالت Simone Weil.

في بلادنا التي مزّقتها الأحقاد والمصالح المتباينة أضحى ملحًّا اليوم أن نعطي للإنجيل مداه الاجتماعيّ كلّه دون تمييز في الانتماء الدينيّ أو العرقيّ أو الطائفيّ. وأضحى ملحًّا أيضًا أن تستمرّ الجماعة الأرثوذكسيّة في أن تبقى حضورًا كنسيًّا فاعلاً داخل موزاييك الطوائف اللبنانيّة مبشّرة بالتعايش المحبّ، رافضة الكذب الذي صار وكأنّه قانون حياة، وداعية إلى العدالة للجميع. لتكن جماعتنا الأرثوذكسيّة جماعة صانعي السلام، جماعة مستعدّة للتضحيات الكبار، الجسور تُوطأ وتُداس، يُعبَر عليها ولكنّها تبقى مكان لقاء فبدونها لا يمكن أن تتوفّر للمقيمين على الضفّة الأخرى فرص اللقاء.

فلنتابع تحمّل مسؤوليّة صنع تاريخنا وتأدية واجباتنا كمواطنين دون الكفّ عن أن نكون شهودًا للطف الإنجيلي. هذه هي المسؤوليّة الكبرى التي يجب أن تتعهّدها مجموعة القوى الحيّة في جماعتنا الأرثوذكسيّة دون أن ننسى مساهمة الشباب الذي يتحسّسون حتى العظم جراحات الماضي وجراحات اليوم ويدعون في الوقت المناسب لتحمّل العبء الثقيل في عمليّة إعادة بناء الواقع اللبناني.

- تعال وانظر:

يمكن للقائمة أن تطول وتطول. السيّد واقف يقرع على أبواب قلوبنا ويتبيّن كلّ يوم، إن نحن أقمنا في الأمانة، الأمور الملحّة والأماكن الجديدة حيث يمكننا لقاءه وخدمته.

على أعضاء الحركة أن يترجموا واقعًا أمانتهم للسيّد مضاعفين دائمًا وبكثافة عدد المستعدّين أن يكرّسوا حياتهم كلّيًّا من أجل الكنيسة في الكهنوت والرهبنة والعلمانيّة الملتزمة. هكذا تتمكّن هذه الأرض الرسوليّة من أن تجيب كلّ إنسان باحثًا عن الحقّ، فيما هي تردّد: تعال وانظر.

أجل تعال وانظر، سترى الكثير من الضعفات والسقطات. سترى الإنسان العتيق ينبعث، سترى تجارب السلطة والمال وتجارب سياسة النزاعات التي تبذر الفتن والشقاقات داخل شعب الله. ولكن بقدر ما نجد رجالاً ونساءً إكليروسًا وعلمانيّين واعين لمواهب مسحة ميرونهم، محترمين عهود معموديّتهم مقرّين بأخوتهم ومسؤوليّتهم المشتركة في كنيسة الله، قائمين في الشركة، متحلّقين حول أسقفهم في جماعة شكريّة، يعطى أن ترى وبعين القلب ألسنة النار تلتهب من جديد.

سترى آنذاك حبوب الخردل تقلقل الجبال، وستعاين وسط التهديدات والمخاطر التي لن تقتل سوى الجسد فرح القيامة مقصيًا الخوف، ورجاءً متفجّرًا من قلب الظلمات.

سترى أيضًا من خلال هؤلاء الذين يحبّون بعضهم بعضًا الذين جعلوا المحبّة شرعة، أو بالأحرى ستستعيد من خلال المقيم فيهم تذوّق طعم الحريّة والجمال والحب.

أخوتي في الحركة، أخوتي في الكنيسة، هذا ما نحن مدعوّون إليه، هنا تكمن حقيقة رسالتنا. ما من أحد يمكنه أن يختطفها منّا. في هذا تكمن حقيقة أمانتنا للأرثوذكسيّة، ما من شيء يستطيع أن يديم النهضة في كنيستنا إلّا حضور القدّيسين إذا ما مَنَّ الله علينا بهم وإن نحن أَجَدْنا الإصغاء. ينبغي علينا اليوم تفعيل اهتدائنا حتّى تغدو رعايانا وكنيستنا خميرًا للعالم، رمزًا وإعلانًا للملكوت حيث المسيح هو الكلّ في الكلّ.

فليُعْطَ لنا أن نعي في كلّ آن أنّه بالقداسة ننتظر ونطلب سرعة مجيء يوم الربّ (2 بط 3: 12). تعال أيّها الربّ يسوع تعال، إلى من نذهب كلام الحياة الأبديّة عندك وحدك (يو 6: 68).

المسيح قام، حقًّا قام.

[1] كلمة الأخ ريمون رزق التي أُلقِيَت في الاحتفال بالذكرى الخمسين لحركة الشبيبة الأرثوذكسيّة – مركز الجبل – في برمّانا في 3 أيار 1992.

المشاركات الشائعة