1- تقديــم

 

بقلم د. جورج معلولي 

تجمع هذه الصفحة نصوصاً متنوّعة خطّها الأخ ريمون رزق في ظروف متنوّعة تمتد على سنين عديدة ويجمعها همّ النهضة أو القيامة. والقيامة كما يقول الأب الياس مرقص هي دائماُ نهوض من وضعية نوم أو خمول. لذلك تسري في نصوص رزق نفحة الفصح المنعشة وإن دلّت بالإصبع على السبات في الكنيسة أو التشوّهات التي تجرح جسد المسيح وأعضائه في أنطاكية والعالم. فترشدنا الى النور المنسكب في وجوه و كلمات إلهية تمخّضت فيها الكنيسة في عصور قديمة و حديثة، و تلتقط النور أيضاً من الأماكن والفنون وحيثما ترسّب الجمال الآتي من فوق لنستطيع أن نحيا في وسط ظلمات كثيفة. فإذا كانت القداسة نسيماً منعشاً يهبّ علينا من زوايا الملكوت فهي تكسر مناخ الضجر المميت الذي يرهق مجتمعاتنا المعاصرة. يلملم ريمون رزق أضواء القداسة من كل مكان وزمان ويكسرها خبزاً للجائعين الى عمق الأرثوذكسية الحق و ينابيع تقليدها الأصيل، وكل من يعاني من جوع الى المعنى في أزمنة الجهل و الوجع و المعاناة.

يحكي رزق عن الكنيسة و الإنسان. و لا فرق بينهما لأن الجماعة الإفخارستية التي هي لبّ رؤيته منبت الإنسان-الشخص الذي يحقق ذاته الأصيلة في الإنفتاح الكامل على الآخر. فعندما تغيب الرؤية الإفخارستية تتقهقر الكنيسة الى عادات هي من صنع البشر فتتكاثر فيها أهواء التسلّط و التفرّد والمعتقدات الخاطئة و النظرة المشوهة الى الإنسان و العالم. وتظهر تحدّيات العالم الأرثوذكسي المعاصر بشكل حادّ أمراضاً ترضّ جسد المسيح من رأسه الى كامل أعضائه كما صرخ أنبياء العهد القديم. يسكب الأخ ريمون بلسماً إفخارستياً على هذه الجروح ويعيد تصويب ألحاظنا الى الوحيد الذي يستطيع أن يشفينا : الرب يسوع المسيح الذي يجب أن نراه وحده كما رآه التلاميذ من بعد نزولهم من جبل التجلي. نراه وحده يضيء بنوره كل تحدي وكل صعوبة وفكر وكل وجه من وجوه الحياة اليومية.

"يسوع يسألني: يا بنيّ أتحبّني؟ هو واقف أمام باب قلبنا يستعطي محبّتنا. هل نجاوب؟ ... إن قلنا نعم علينا أن نصبح كالعريس الذي يفتّش على حبيبته في كلّ مكان. فأين نجد يسوع؟ ... يقول أحد الآباء: الله ليس لا فوق ولا تحت، هو أمامك، هو فيك ينتظر ان تدخل بحوار معه". تظهر هكذا المعاشرة الشخصية لوجه يسوع تحت قلم ريمون رزق نقلاً لخبرات عاشها أحباء الرب في كل عصر و لخبرات عايشها الكاتب في حركة الشبية الأورثوذكسية وعند أشخاص قابلهم في العالم الأورثوكسي. التنوّع والمساحة الروحية الواسعة البارزين في كتابات رزق يشفياننا من الإنغلاق في أذواق ضيّقة رافضة للأذواق الأخرى، يشفياننا من اجترار لغة خشبية خمد اللهب فيها، ويفتحاننا على تجليات روح يسوع الممتدة حتى أقصاع الأرض. يأخذنا الكاتب الى رومانيا وروسيا و آثوس واللاهوتيين الروس المهاجرين وكتّاب تلاقح معهم مسيحيو أنطاكية بتدبير من النعمة كأندريه سكريما وكاليستوس وير وأوليفيه كليمان وغيرهم... يأخذنا الى القسطنطينية و المآسي التي خلّفها الصليبيون ويعود بنا دوماً الى التقليد القديم فيحكي عن رؤية القديس باسيليوس للرهبنة و الكنيسة، و عن صلاة القلب وحياة المسيحيين الأوائل وعلاقة الإيمان بالثالوث بحياة الشركة.

ذلك أن حياة الشركة إشعاع الإفخارستيا بإمتياز ومصدر كل رعاية وشهادة. يفصّل الأخ ريمون أوجه الرعاية و العوائق التي تُضعف شهادة الكنيسة ولا يملّ من العودة الى روح الشورى ومعوّقاتها. يرافق رزق هموم الكنيسة و العالم برفق كبير تميّز شخصيته المنطبعة برفق المسيح وأحبائه فيقول : " المحبّة هي مفتاحُ كلّ شيء. وهي تأتي قبل المعرفة. فمحبّة الإخوة ومحبّة الأعداء، ليست مجرّد مبدأ أخلاقيّ، بل سبيل من سبل معرفة الله".

إنطلاقاً من محبة الله لنا يطلب منا : " أن نسعى مع القيّمين على الرعيّة، كهنةً وعلمانيّين، إلى ألّا ينحصر نشاط الرعيّة بإقامة الخدم الليتورجيّة وبعض النشاطات (على أهمّيّتها)، بل أن يتعدّاها إلى أن تكون حياتنا كلّها امتدادًا، أو كشفًا، لمحبّة الله المسكوبة علينا في الحياة الكنسيّة." فالمبتغى الأخير هي إمتداد الإفخارستيا الى العالم ليصبح العالم كلّه مغروساً في جسد المسيح.

في هذه الرؤية لا بدّ للمواهب أن تتضاعف و تنمو على تنوّعها. هذه الرؤية الملتهبة بمشهد المحبة غير المحدودة ( إن استعرنا عبارة الأب ليف جيلله في حديثه عن العليقة الملتهبة وقد سطّر عنه ريمون رزق كتاباً ملهماً ) تلتقي مع رؤية الآباء القدماء للكنيسة وحياة المؤمنين و الرهبنة : " كان باسيليوس الكبير مقتنعًا، على غرار يوحنّا الإنجيليّ، بأنّ الله محبّة وبأنّ الخلاص هو الدخول في شركة محبّة معه ومع الإخوة. لذلك نظامه "الرهبانيّ" الأوّل كان موجّهًا إلى المسيحيّين كافّة... كان يحلم بحركة تضمّ مسيحيّين عاديّين يختارون أن "يلبسوا" المسيح، ويكونوا في منتصف الطريق بين الرهبنة التقليديّة التي غالبًا ما تكون منقطعةً عن العالم وتحبّذ النسك والتوحّد، والرعيّة العاديّة"

كل هذه الرؤى تتجسّد في نصوص كتبها الأخ ريمون حول حركة الشبيبة الأورثوذكسية وإليها. فيكتب عن التطلّعات، و عن الثقافة و النشر، والإحياء الليتورجي، و العيش في حضرة الله الدائمة في الفرقة الحركية، و العمل المسكوني و الحواري ، وكلمات أخوية خاطب بها الأعضاء أميناً عاماً للحركة. فإن قال  "الحركة هي ميثاق مع الله والأخوة" جسّد أن هذا الميثاق هو الذي يحرّكه شخصيا ويربطه بالله والإخوة محبةً لا تحدّ.  

إن هذه الصفحات دعوى لتجديد النور فينا إذ تفتح لنا آفاقاً إن أردنا التوغّل في كل وجه تصفه لنا وكل رافد تنقله لنا من روافد نهر البلور المتدفق من عرش الحمل. نصلّي أن يحفظ الرب الإله الأخ الحبيب ريمون رزق أيقونة لمجده وبهاء كنيسته وأن يضع في فكر وقلب  كل من يقرأه إلهامات من روحه القدوس.

 

 

 


المشاركات الشائعة