في الذكرى الثالثة والخمسين

 ريمون رزق

النور - العدد التوثيقيّ 1996


عندما طلب منّي الأمين العام أن أتوجّه إليكم لمناسبة الذكرى الثالثة والخمسين لتأسيس حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة لا أدري لماذا استيقظت في داخلي ثلاث حالات عشتها في مراحل مختلفة من حياتي وأودّ أن أنقلها إليكم.

قبل كلّ شيء سأذكر خاطرة حواها ديوان قدّمه إليّ راهب كاثوليكيّ فرنسي قبيل وفاته وذلك منذ حوالي عشر سنوات. وتقول هذه الخاطرة: "دعك من المستقبل فأنت لا تعرف كيف تنظر إليه وعيناك لا تريان فيه سوى الصلبان بينما هو لا يحوي إلّا المحبّة".

وهناك ايضًا جملة أخرى تمتمها برقّة أسقف أرثوذكسيّ روماني منذ ما يقارب أربعين سنة وذلك جوابًا على انتقادات لاذعو وجّهتها أمامه في مرحلة كنت فخورًا خلالها باكتشافي أرثوذكسيّتي من جديد إذ كنت، ككلّ متنصّر حديث، معترضًا على ما أسميته آنذاك "فتور" الكنائس الأرثوذكسيّة في أوروبا الشرقيّة. فقال لي هذا الأسقف وقد عكست عيناه كلّ ألم العالم: "على الأرثوذكس الشباب الذين يعيشون في البلاد المسمّاة حرّة أن يتشبّثوا بالإيمان حتى تتخلّص كنائسهم من فتورها فتعود شاهدة على الأرثوذكسيّة الحقّة".

وأخيرًا أورد لكم نظرة صديقة بروتستنتيّة أميركيّة التقيتها منذ زمن بعيد خلال جمعيّة مسكونيّة على أثر اجتماع تحدّث فيه الأرثوذكس عن الليتورجيا كمصدر لكلّ حياة مشتركة. فقد قالت: "كلّ هذا جميل للغاية وأنتم تقولون إنّ هذه هي رؤية الكنيسة الأولى وأرغب حقًّا في أن أصدّقكم ولكن هل من الممكن تجسيد كلّ هذا في حاضرنا؟ وأنت من تتكلّم حسنًا دلّني أين أراها معاشة اليوم".

يبدو لي أنّ سبب وجودنا والدافع إلى انتمائنا إلى حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة والضرورة القصوى لرؤيتها مستمرّة في عملها بحيويّة متجدّدة رغم الذين يظنّون العكس تكمن كلّها في هذه الجمل الثلاث التي توضع كلّ واحدة منها وعلى طريقتها التجارب التي يجب تجنّبها دومًا وتجعلنا نستشفّ سبل التجدّد.

أناس قليلو الإيمان: فتورنا الشخصيّ

الجملة الأولى، "المستقبل ليس محفوفًا بالصلبان بل بالمحبّة"، تذكّر بتجربة الوهن (وقد وردت هذه في صلاة التوبة عند القدّيس اسحق السرياني في المقدّمة بعد البطالة) التي نسقط فيها غالبًا أمام ضخامة واجبنا نحن كمسيحيّين وتجاه صعوبة المسؤوليّة الملقاة على عاتقنا فتغرقنا في جشع لا ينفكّ يزداد طلبًا لملذّات العالم وتنسينا ثقتنا بقدرة الله المحرّك الحقيقيّ لعملية التجدّد والذي يدعونا دونما انقطاع إلى المشاركة في هذه العمليّة.

والحالة هذه على الزارع أن يزرع لا أن يعرف زمان الحصاد وأهمّيّته ولكن ينبغي عليه أن يعيش على اليقين والرجاء بأنّ إله الحصاد قد قام من بين الأموات وأنّه ينبوع القيامة الأزليّ. المستقبل ثمرة أينعها روح التزامنا اليوم بالأمانة واضعين ثقتنا في الذي غلب العالم.

الإيمان الحقيقيّ ليس ذاك الذي نتكلّم عنه ونفتخر به بل هو الذي يعمل من الداخل في ثقة، لامتناهية، بحكمة الله وفي دعوة إلى أن نصبح "بلهاء" في نظر العالم. هذا الإيمان لا يزال باستطاعته "نقل الجبال" لأنّ العجائب هي في متناول الإنسان المسيحيّ وعلى قدره، هذا الإنسان الذي يحمل المسيح في قلبه.

في هذه الحال، على ما أعتقد، يلزمنا أن نعترف بأنّنا نفتقر إلى هذا الإيمان وأنّ بعض كلمات من الإنجيل مثل "أطلبوا ملكوت الله وبرّه وهذه كلّها تُزاد لكم" و"لا تهتمّوا بشيء" وأخرى غيرها تدعونا إلى الخروج من قوقعة ذواتنا ومن كفايتنا ومن عليائنا، من الأمان المضطرب الذي يوفّره لنا المال، من التسلّط والاستبداد في حدود المنطق والعقل. ولا تنقطع النداءات التي تحثّنا على التجرّد من كلّ شيء حتى نتبع يسوع. وعلينا أن نقرّ بأنّ كلمات الإنجيل هذه تبدو لنا أحيانًا على شيء من المغالاة والمزايدة الشفويّة لوصايا مخالفة للطبيعة لأنّنا ننسى أنّ الطبيعة الحقّة وأنّ المقاييس الصحيحة لا تعود، بعد القيامة، تتناسب وطبيعتنا المهشّمة الممزّقة ولكنّها تتطابق مع الإله – الإنسان الذي تقبّل هذه الطبيعة وأجلسها على كرسي المجد عن يمين الآب.

الفتور في كنائسنا

الجملة الثانية، وهي التي قالها الأسقف الشيخ، تعيد إلى أذهاننا الفتور الذي لا ينفكّ يهاجم كنيستنا وتذكّرنا بالضرورة التي تدعو أعضاء شعب الله وبشكل خاصّ الشباب منهم إلى اعتبار أنفسهم مسؤولين عن هذا الخمول وتحثّهم على الانكباب على عمليّة التجدّد. وهذا يفترض التخلّي عن دور المتفرّج المتّهِم، وما أكثره في أوساطنا الأرثوذكسيّة، ذاك الذي يهاجم بانتقاداته الجميع سواء أكانوا كهنة أم علمانيّين، للوصول إلى مرحلة الاتحاد بالجماعة والترفّع عن الفرديّة والأنانيّة.

ولكن لماذا الإصرار على الشباب ضمن شعب الله ونحن نعلم أنّه أمام السيّد لا شباب ولا شيوخ؟ قبل كلّ شيء لأنّهم حتمًا أعضاء في شعب الله وأنّنا غالبًا لا نحملهم على محمل الجدّ وهذا يؤدّي إلى خلل في الرؤية والعمل الرعائيَّين وقد اعْتُبر هذان وقفًا على الراشدين والبالغين. وفي هذه الحالة، ومع اعترافنا أنّ دور البالغين، إذا كانوا مؤمنين، يكمن في المحافظة على التقليد الحيّ الذي سُلِّم إليهم وفي إغنائه بخبرة القدّيسين التي يبعثها الله بينهم في نهاية حياة قُضيت في خدمته، لكن لا بدّ مع ذلك من الإشارة إلى أنّهم يميلون أحيانًا كثيرة إلى التعلّق بالوضع القائم فيؤدّي بهم الحذر إلى عدم القدرة على التمييز بين كلّ العناصر التي يتكوّن منها هذا التقليد الذي يحاولون المحافظة عليه بحقّ، حتّى يتمكّنوا في النهاية من تشذيب أغصانه اليابسة. بالمقابل، الشباب يميلون بطبعهم إلى إعادة البحث في كلّ ما يُعرَض عليهم. ولأجل هذا أحد أدوار الشباب في الكنيسة، في حال أرادوا الانخراط في اللعبة أي الانطلاق بحماسهم المعهود في مغامرة القداسة، يكمن في طرح الأسئلة على الكنيسة واستجوابها و"إزعاجها" مع تذكيرها في أي وقت بالأخطار المحدقة بها، وفي التزامهم المتواضع بخدمة الكنيسة ومساعدتها على استعادة شبابها الأزليّ.

بالإضافة إلى ذلك، الشباب يحملون في أجسادهم عذاب العالم وألمه وقلقه ويدركون كيف يتحوّل ويتطوّر ضمن أشكال جديدة. إذًا يعود إليهم اختبار اللغة والخطوات الجديدة واقتراحها وعلى الكنيسة اعتمادها ليفهمها عالم اليوم بشكل صحيح. وفي هذا، الشباب وسيط في الكنيسة. لكن هذا لا يعني بالنسبة إليهم أن يكونوا محطًّا للأنظار أو مميَّزين عن غيرهم بل عليهم أن يقبعوا في عمق أعماق العالم وأن يتبعوا الحقيقة التي تدعوهم رغم كل العقبات. وظيفتهم في الكنيسة هي أن يكونوا، من دون خجل أو وجل "لا يستخفّنّ أحد بشبابك" (1 تيمو 4: 12)، صدى هذه الدعوات الحقيقيّة حتّى تستعيد الكنيسة ذاتها وتستبدل البلادة التي حملها التقليد الحيّ خلال رحلتها الأرضيّة بالذهب المتواضع الذي يضعه الروح بين يدَيّ كلّ جيل جديد حين يمتلئ هذا من الروح.

ماذا يُنتظَر منّا؟

الجملة الثالثة أيّ الرؤية الأرثوذكسيّة جذّابة ولكن كيف تُعاش وأين؟ تذكّرنا أنّنا، أحيانًا، كأرثوذكس نميل إلى "صنع" اللاهوت "الجميل" بدلاً من أن نسعى إلى عيش هذا اللاهوت.

هذا بالطبع يفرض مشكلة المسؤوليّات الضخمة والتي تُلقى علينا لنترجم بلغة سهلة كنوز الكنيسة الأولى التي اؤتمنّا عليها من دون جدارة. ولكن يبدو لي أنّ العالم يحتاج اليوم أكثر من أي وقت إلى مسيحيّين يكونون شهودًا أحياء. إلى "لاهوتيّين على غرار الصيّادين – الرسل" (القدّيس غريغوريوس النيصصيّ) أكثر منه إلى أساتذة لتاريخ الأديان أو لعلم الآثار اللاهوتيّ. العالم بحاجة إلى أن يسمع عبارة "تعالَ وانظر". هذا يعني أنّه علينا أن نختبر أقوالنا اللاهوتيّة هنا والآن في واقع رعايانا المعاش، بتواضع ومن دون افتخار، في انفتاح دؤوب لنفحات يجعلنا الروح، إذا بقينا متيقّظين، نلتقطها وننقلها كلمات معاشة.

دعوتنا: بعض المنطلقات

في هذا المضمار أتجرّأ وأقتراح بعض المنطلقات القديمة التي تبدو لي أنّها ما تزال جديرة بتوجيه شهادتنا الحاضرة وفي المستقبل.


1- وعي هويّتنا الأرثوذكسيّة الحقيقيّة أكثر فأكثر:

وهذا يعني أنّه علينا أن ندرك أنّنا مسيحيّون قبل أن نكون طلّابًا أو عمّالاً أو موظّفين، أي أنّنا قبل كلّ شيء خدّام وإخوة للمسيح ومقتدرون به وهو الذي يشكّل مع أبيه وروحه القدوس هدفًا نهائيًّا لحياتنا ومعنى لها. فالمسيح والعمل من أجله ليسا مجرّد تسلية أو تمضية وقت فراغ بل الضرورة الحتميّة التي بها نصل إلى كمال المعنى الحقيقيّ.

وعينا لهويّتنا يعني أيضًا أن نفهم أنّنا مسيحيّون أرثوذكس قبل أن نكون لبنانيّين أو سوريّين، يونانيّن أو روس. وطننا الحقيقيّ والوحيد الذي لا نشعر فيه بالغربة يتمثّل في كنيسة المسيح حيث نولَد لحياة أزليّة.

وعينا هويّتنا الحقيقيّة لا يرفض طبعًا الهويّات الأخرى ولكنه يشعّ عليها من الداخل ويسمح لنا بعدم الانجراف في التبعيّة على أنواعها وطنيّة كانت أم قوميّة أم عرقيّة أم عنصريّة وهي قابلة للغلوّ إذا ما تُركَت على هواها.

لنتعرّف إلى أرثوذكسيّتنا ونعيشها ليس من سبيل إلّا الذي سُلّم إلى القدّيسين واختبرته أجيال إخوتنا في الإيمان، يلزمنا الكثير من التواضع والثقة والكثير من الجرأة أيضًا لنقبل أن نسلك الطريق، التي تبدو بالنسبة إلى العديدين وحسب مقاييس هذه الأيّام، بالية تجاوزها الزمان حتّى لا نقول ظلاميّة. علينا أن نتجرّأ ونتحدّى أنفسنا والعالم أيضًا ونعقد العزم على أن نصبح مسيحيّين، لأنّ المرء لن يصل أبدًا وهو في صيرورة دائمة، متشجّعين بالخطى المنيرة التي قام بها من سبقنا على دروب القداسة وهم لا يزالون اليوم رفقاء الطريق.

من دون هذه الإرادة كلّ تعلّق بالأرثوذكسيّة باطل وبتعبير آخر إنّه شهادة معاكسة والشاهد هو الذي يصمت ليتقبّل الكلمة التي وصلت إليه ويمتلئ بها ويعيشها فيضحي شفّافًا لتشعّ هي من خلاله.

أن تصبح أرثوذكسيًّا اليوم كما في الأمس عمليّة تمرّ قسرًا بثلاث مطلّات:

أ‌- التوبة واقتناء "فكر المسيح" وذلك بواسطة الصلاة ومعاشرة ناشطة للكتاب المقدّس والآباء وبجدّيّة نظام حياتنا لأنّ "ما من أحد يستحقّ أن يتقدّم إليك يا ملك المجد إذا كان مرتبطًا بالشهوات واللذّات الجسديّة" كما تقول ليتورجيّتنا.

ب‌- الإشتراك في حياة الجماعة الإفخارستيّة التي تؤصّلنا في المسيح وفي كنيسته وتجعلنا ندرك أهمّيّة وحدة شعب الله والعمل على تحصينها والمساهمة في المسؤوليّة وفي التدريب على المحبّة الأخويّة وعلى الخدمة والمشاركة واختبار الحياة المستمرّة في حضرة الله المقدّسة في تذوّق أوّليّ للحياة الأبديّة.

ج‌- الشهادة والخدمة لأنّ المحبّة تكتمل بهما وتعطيهما معناهما ولأنّ كلّ خدمة في الكنيسة تولَد من الصلاة على حدّ قول القدّيس اسحق السريانيّ. وكما يقول القدّيس أنطونيوس الكبير، الحياة والموت مرتبطان بالقريب... فإذا عثّرنا أخانا فإنّنا نخطئ تجاه المسيح، هذا يعني بالنسبة إلينا أن نشهد للقيامة التي نختبرها ليس فقط ليلة الفصح بل بخاصّة خلال مسيرة هذه الحياة في الكنيسة التي أتينا على ذكرها والمؤلّفة من عمليّة موت وقيامة مستمرّة.

نحن نشهد للقيامة ليس بالكلام فقط بل أن نصير قياميّين إلى درجة تبطل فيها القيامة بالنسبة إلى الآخرين كفرضيّة جدليّة أو مسلّمة إيمانيّة وتصبح حقيقيّة جليّة. ويفترض فينا أن نغدو مشعّين وحاضرين لمشاطرة الناس همومهم من دون خجل أو خوف أو تخاذل وذلك في خدمة وشهادة. هذا يعني أيضًا أنّه علينا، بدل أن نعتبر التيبيكون صنمًا نتعبّد له، أن نتعبّد فعلاً لمن وُجِدَ التيبيكون لتسبيحه ونسترجع معنى الليتورجيا الأصيل ونصبح أناسًا ذوي وجه وبسمة ليتورجيّة أي أناسًا دائمي التسبيح والشهادة والدعوة في آن.


2- دفع كنيستنا إلى تحطيم الأغلال والاستماع إلى الروح:

الوجه الثاني من دعوتنا يكون في دفع كنيستنا إلى تحطيم الأغلال المختلفة التي تسمح بأن تُكبَّل بها، القديم منها والحديث فتنصت إلى الروح لتكشف علامات الأزمنة وتعير أذنًا صاغية لصرخات الناس وتتحسّس ضرورة التجدّد على مستويات الحياة الكنسيّة كافّة. وأورد هنا ما أراه ضرورة ملحّة:

أ‌- تسريع وجود جماعات إفخارستيّة حيّة بفضل تجدّد ليتورجيّ جذريّ حتى نصل بعد استقرائنا التقاليد المتعدّدة إلى إدراك المعنى الحقيقيّ لليتورجيا كعمل جماعيّ. وهذا يفترض تجديدًا في النصوص والممارسات وتشديدًا على مركز الافخارستيّا والجماعة لتوحيد الكنيسة وتحقيقها وضرورة تحضير القلوب وتقارب الإيمان ممّا يفرض على المشتركين تنقية العلاقات بين أعضاء شعب الله متخطّين، ضمن احترام المواهب، تجارب "تسلّط" الإكليروس والعلمانيّين التي لا تقلّ تهديمًا ومحقّقين "الليتورجيا بعد الليتورجيا" أي ممارسة "سرّ القريب" بالمشاركة والخدمة.

علينا السعي لإيجاد رعايا حيث الأرثوذكس المحلّيّون من دون تفريق في العمر أو الأصل أو الطبقة الإجتماعيّة يكونون مدعوّين إلى الإقرار بأنّهم إخوة في الشهادة والخدمة كلّ واحد منهم حسب موهبته والوزنة المعطاة له وذلك ضروريّ لتجاوز الانقسامات التي تتجلّى أكثر فأكثر في أوساطنا بين الكنيسة والطائفة، بين الأغنياء والفقراء، بين الروحانيّين والعمليّين، بين الوجهاء وعامّة الشعب في محاولة للتوضيح أنّ أشرف لقب لكلّ أرثوذكسيّ في كنيسة المسيح بعيدًا عن كلّ مظاهر العالم وانقساماته يتمثّل في وعيه وتفعيل انتمائه إلى شعب الله.

ب‌- تشجيع ما اتفق على تسميته "بالتكريس" ولاسيّما في صفوف حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة. في حين يفرض الانتباه في إعطاء هذه اللفظة معناها الذي مُنح لها في التقليد الأرثوذكسيّ. في الواقع دعوة كلّ معتمد تكتسب مغزاها عند مسحته أي عندما يمسح بختم الروح القدس مكرَّسًا لله. دعوته هي إذًا تحقيق هذا التكريس في الخدمة التي يدعوه إليها الله وشعبه حسب المواهب المعطاة له. الجماعة الإفخارستيّة الحقيقيّة لا تُشَكَّل ولا تستمرّ إلّا إذا حوت بين أعضائها نواة تعي هذ التكريس وتعمل على تحقيقه في ذاتها وفي الآخرين.

نحن بحاجة إلى علمانيّين ملتزمين كلّيًّا من دون أن يكونوا، كما يعتقد أنصار الإكليروسيّة الغربيّة والتي بدأ الغرب نفسه يرفضها، في مرتبة ثانويّة وفي درجة ثانية في الكنيسة لأنّ الله نفسه، مهما قال بعض الناطقين باسمه، يجعل هؤلاء العلمانيّين مسؤولين ويدعوهم إلى المشاركة الكاملة مع الأسقف في إدارة قضايا الكنيسة وشؤونها كافّة. كما أنّ ضرورة إنشاء مجالس رعايا محلّيّة أو مجالس أبرشيّة أو أنطاكيّة كما تفرضهما القوانين الكنسيّة ليست ترفًا أو تعبيرًا عن همٍّ محض إداريّ وهذه الضرورة مفروضة لأنّ الكهنة لا يعلمون كيف يهتمّون بالشؤون المادّيّة أو لا يفترض فيهم ذلك ولكن بمنأى عن كلّ هذا يكون إنشاء المجالس للمساعدة في التعبير عن طبيعة الكنيسة كحقيقة مجمعيّة وجامعيّة.

ولكن بالإضافة إلى العلمانيّين الملتزمين نحن بحاجة ماسّة وملحّة إلى كهنة ورهبان على حسب قلب الله. هذه الضرورة يجب أن تكون حاضرة في صفوف حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة ويجب أن نفهم أنّ الكاهن الورع والمثقّف والذي يكون عادة متزوّجًا حسب تقليدنا العريق والحكيم هو العامل الأساسيّ وركيزة كلّ جماعة إفخارستيّة ويجب أن ندرك أن الكنيسة كلّها تعيش على صلوات الرهبان.

إزاء هذا الإلحاح يُفرض فينا أن نقاوم كلّ تردّد أو تحفّظ يظهر هنا وهناك بين الشباب بسبب عدد من الممارسات ومن الاعتبارات الماديّة لأنّ من أراد أن يكرّس نفسه يكرّس نفسه لله وليس للبشر، والله الذي يؤمّن قوت طيور السماء ولا يعطي حجرًا للابن الذي يطلب منه خبزًا يُفهِم الناس دائمًا وجوب معاملة الآخرين كما يعاملهم هو وبخاصّة في الكنيسة حيث النداء إلى المشاركة يحتلّ الصدارة في الوعظ والإرشاد.

ج‌- عيش وحدة الروح الحقيقيّة في الطاعة المتبادلة بين أعضاء شعب الله.

هذا الشكّ وهذا التقصير في المحبّة الأخويّة بين أعضاء شعب الله يدعواني إلى الاعتقاد بأنّ هناك أزمة في الوحدة ضمن كنيستنا. فمن جديد تشكّل تيّارات وتتكاثر الشقاقات وتُعقَد تحالفات وتنحلّ أخرى. وشياطين اعتقدنا أنّها قُهِرَت إلى الأبد تعود وتظهر مجدّدًا وتزرع الفتنة. أنا أعلم أنّ عددًا من البريئين في الإيمان قد تعثّروا بالعمق بفعل هذا الوضع القائم المتّسم بالوشاية والغيرة وحملات الهيمنة التي ترافقه فيسود الاعتقاد بأنّ كنيستنا على وشك فقدان المحبّة، وإذا فعلت فهي تخسر معنى وجودها وسببه. القدّيس باسيليوس الكبير إزاء وضع مماثل من حيث النتائج العمليّة كتب إلى نظرائه، وكأنّ كلامه موجّه اليوم إلى كلّ واحد منّا، كهنة وعلمانيّين، جملة يُفترض فيها أن تهزّنا يقول: "من الأفضل أن نزول وأن تعيش الكنائس في وئام متبادل بدلاً من أن نرى صراعاتنا التافهة والحقيرة تسبّب أذىً كبيرًا لشعب الله" (رسالة 4. 2: 7).

هل نحن قادرون على تبنّي صرخته وأن نرفع هذا العار؟ من هنا ألا يجب التفكير جدّيًّا بتنظيم أصوام عامّة أو خاصّة وصلوات متواصلة حتّى يغفر لنا الله ويعطينا القوّة لننبعث ونعود نحيا ككنيسة.

الهيكليّة الكنسيّة يجب أن تكون هيكليّة شركة وخدمة لا شيء آخر. هدفها الأساسيّ ليس تأمين أيّ دور قانونيّ ولا حتّى تأمين وحدة محض مؤسّساتيّة بل تأمين التناغم من خلال المحبّة الأخويّة ومن هنا الوحدة المشتركة كبذل للذات متبادل يعكس إخلاء الذات المتبادل الموجود بين أقانيم الثالوث (ليكونوا واحدًا كما نحن واحد). "أيّها الإخوة أنتم مدعوّون إلى الحرّيّة وبالمحبّة إلى خدمة بعضكم بعضًا" (غلاطية 5: 12). في هذا الإطار عينه يجب أن نحرص على أن نبقى مطيعين ونعطي في الوقت عينه هذه العبارة معناها الكنسي الحقيقيّ لأنّه يبدو لي أنّنا نعيش حاليًّا أزمة في مفهومنا المشترك للطاعة.

هدف الطاعة في الكنيسة ليس تأمين النظام عن طريق تدمير المحبّة الأخويّة أو إضاعة ذاتيّة هذا القطيع الصغير. الطاعة ليست أيضًا إعلاء شأن الذي يأمر وإذلال مَن يطيع ولكنّها تجعل من حياة الاثنين معًا عطاءً ذاتيًّا من خلال الخدمة المتبادلة والمحرِّرة في مسؤوليّة مشتَرَكة ترمي إلى تشييد الكنيسة حيث تتألّق حياة المسيح (دانيال كيوبوتيا – أسقف مولدافيا). قال أحد آباء البرّيّة: "طاعة مقابل طاعة، إذا أطاع أحد الله فالله يطيعه". في الحياة المسيحيّة من يُطاع عليه أن يكون مثالاً يُحتذى في الطاعة. الأنبا بيمن في إجابته على أحد الرهبان الذي أُوكِلَت إليه مهمّة رئاسة إخوته قال: "كن بالنسبة إليهم مَثَلاً لا مشترعًا".

يبدو أنّ كنيستنا تخشى أن تعيش كلّيًّا في الروح الذي يهبّ فيها. الكنيسة الأولى اعتبرت الروح حياتها الحقيقيّة واليوم نفهمه على أنّه إقرار وضمان. وحيث شُدِّد على السلطة كمبدأ مكوّن للكنيسة يُقدّم الروح على أنّه ضمانة لهذه السلطة. وحيث يركّز على الحريّة الفرديّة ضدّ السلطة أصبح الروح ضمانة لهذه الحريّة. ليس من العجب إذا نسينا أنّ الروح القدس هو نبع هذه الحريّة التي هي الكنيسة ومضمونها وفي الوقت عينه نسينا أنّ الروح هو هبة الحريّة وإتمامها أو بتعبير الروح هو الحريّة بذاتها (الأب أ. شميمن في كتاب الكنيسة والعالم والرسالة).

لنصلِّ إذًا حتى يجتاح كنيستنا مجدّدًا روح العنصرة ولنعمل معًا في التواضع والطاعة والمحبّة المتبادلة لنسرّع مجيء هذه العنصرة متقبّلين قولبة الروح لنا الذي له وحده القدرة على تعليمنا "كيف نعيش في الكنيسة كأبناء لها ونحتفظ بالإقدام كيف نصون السرّ وفي الوقت عينه ننقله، كيف نُدخِل العالم في سرّ الله من دون أن ننتزعه من ديناميكيّته الخاصّة به" (المطران جورج خضر).

ح‌- أن نشهد لرجائنا في عالم محطّم:

وإذا فعلنا هكذا نستطيع متابعة الشهادة للرجاء الذي يسكننا في عالم مهشّم فنثابر على المساعدة بكلّ إرادة طيّبة في إظهار العدالة وتحقيق الحريّة والسلام في بلادنا. هذا هو الجاب الثالث من رسالتنا. وعلينا أن نجتنب، في التزامنا خدمة الناس بقصد أنسنة النظام الأرضيّ، الوقوع في تجربة بيلاطس البنطيّ الذي لم يُرد أن يوسّخ يديه والتجربة المعاكسة لمن انغمس عميقًا في مشاكل هذا العالم إلى درجة أنّه لا يتساءل عن المعنى ولم يعد مهتمًّا بحياته الروحيّة وتجذّره في الكنيسة.

في الواقع العالم الحاليّ لم يعد أساسًا بحاجة إلى أحد هذَين بل هو بحاجة إلى أشخاص إنسانيّين فعلاً أي منفتحين على مشاكل معاصريهم ويتحسّسونها بالعمق في أجسادهم وقلوبهم. يحتاج العالم إلى أشخاص يرون أنفسهم "رجال المسيح" لا يخشون، عبر نمط حياتهم المجبول بالصلابة الشخصيّة ودماثة الأخلاق مع الآخرين، أن يكونوا مختلفين ولا يخجلون من أن يصرّحوا أنّ الخطيئة قبل أن تكون انتهاكًا هي تخلّف عن الشكر وأن يثبتوا أنّ الإنسان "لا يكبر إلّا عندما يركع" لأنّه بهذه الوضعيّة يقترب من الله الذي أخلى ذاته وأحبّنا حتّى الجنون ويدعونا كما فعل هو إلى غسل أرجل الناس.

العالم بحاجة إلى مسيحيّين مجانين كإلههم لأنّه إذا "فسد الملح" فمن الطبيعيّ أن لا يعود للحياة طعم فيزداد مذاق المرارة. شهادتنا أن نقول اليوم ونؤكّد بحياة مشعّة بالفرح والاستعداد إن الصلاة المتواصلة، وهذا الصوم وهذا التقشّف وهذه العفّة وهذا التواضع كلّها قيم حياة بالنسبة إلى شباب تحرّروا في نهاية هذا القرن العشرين، من أيّة عقدة.

المسيح لم يدعنا إلى أمر سهل. ومع ذلك فإنّ "نيره هيّن" وهو لم يبخل يومًا بالمعزّي الذي اقتناؤه هو هدف حياتنا وهو الذي يمنحنا هذا "السلام الداخليّ" الذي يخلّص الكثيرين من حولنا وذلك على حسب قول القدّيس ساروفيم ساروفسكي.

بهذه الذهنيّة علينا أن نخرج من أبراجنا العاجيّة التي نشيّدها بسرعة حولنا على ما يوافق كسلنا وخوفنا ومصالحنا ومساوماتنا ويُفرض فينا ألّا نكتفي بمثال الاستقامة الذي يمكننا إعطاؤه في عملنا وتصرّفنا اليوميّ بل أن "نتورّط" في أعمال ملموسة ضدّ الفقر والعنف والظلم. وفي هذا السياق ولنتذكّر هذه الضرورة لم أجد كلمات أكثر إقناعًا من تلك التي أطلقتها منذ سنوات الهيئة الأرثوذكسيّة المشتركة التحضيريّة للمجمع المسكوني الموسّع.

"نحن المسيحيّن وبما أنّنا ولجنا معنى الخلاص من واجبنا أن نقاوم لنخفّف المرض والحزن والقلق. لأنّنا اختبرنا السلام لا يسعنا أن نبقى متفرّجين لامبالين تجاه غياب السلام في المجتمع الحاليّ. لأنّنا أيضًا استفدنا من برّ الله نكافح في سبيل عدالة أكثر انتشارًا في العالم وبقصد محو الجور والتعسّف. ولأنّنا نختبر يوميًّا التسامح الإلهيّ نقاوم ضد التعصّب والتزمّت بين الناس. ولأنّنا نعلن باستمرار تجسّد الإله وتألّه الإنسان نحن ندافع عن حقوق الإنسان بالنسبة إلى كلّ الناس من دون تمييز وإلى كلّ الشعوب. ولأنّنا حصلنا على الحرّيّة كهبة إلهيّة بفضل عمل المسيح الفدائيّ نستطيع أن نعلن بطريقة وافية قيمة الحريّة الشاملة لكلّ إنسان ولكلّ شعب. ولأنّنا نتغذّى روحيًّا بجسد السيّد ودمه نفهم بشكل أفضل الجوع والحرمان. ولأنّنا ننتظر أرضًا جديدة وسماوات حديثة حيث تسود العدالة المطلقة نناضل هنا والآن في سبيل نهضة الإنسان والمجتمع وبقصد تجدّدهما".

لا أستطيع أن أضيف شيئًا إلى هذا النصّ المنير الرائع إلّا أن أرجو أن يلقى آذانًا صاغية وأن تعود حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة منجم رجال مستعدّين دومًا إلى إيجاد، مع الآخرين وحسب كلّ حالة، السبل الخلّاقة والعمليّة بقصد تفعيل محبّة الناس التي قصد هذا النصّ بعثها.

الخاتمة:

لم يتغيّر شيء إذًا، فالمشاكل والقضايا الملحّة والتساؤلات هي هي. وإذا ما شعرنا أنّنا في مأزق وأنّنا جُرحنا وتأثّرنا وتقلّصت ثقتنا ومحبّتنا وخُذلت آمالنا بسبب الانتقادات والتلميحات الجائرة، والتي لا مبرّر لها، التي وُجِّهَت إلى حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة لنتذكّر أنّ المسيح هو أيضًا أحسّ أنّه متروك. ولكن لنتذكّر نحن أيضًا أنّه لا يتركنا قطّ وأنّ ذراعيه ممدودتان أبدًا في انتظارنا حتّى إذا ما أردنا نحن يغمرنا إلى قلبه ولنتذكّر كذلك أنّه في الكتاب المقدّس وفي كلّ مرّة خُيِّل إلينا أنّ كلّ شيء قد ضاع وُجدت بقيّة أمينة سمحت بتحليقات جديدة. هذه البقيّة موجودة وأراها في بعض أساقفتنا شيوخًا وشبابًا وفي هذا العدد المتزايد من الرهبان والكهنة الذين يعطون أنفسهم من دون حساب وفي هؤلاء العلمانيّين الذين يمضون الليالي في الصلاة والشهادة وفي تمتمات حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة التي وسط هذه التساؤلات الكبيرة ومن جرحها تعكس متواضعة هنا وهناك التماع الروح. هذه البقيّة تعمل كالخميرة في العجين، كالحافز، تمامًا "كحبّة الخردل" التي يتكلّم عنها الإنجيل.

إذا أراد الله، ونحن نعلم أنّه يريد وإذا ثابرنا نحن ستستمرّ شجرة الكنيسة الأنطاكيّة بالتجدّد والنهضة. ما يلزمنا إذًا هو العزم والتصميم وألّا نصمّ آذاننا عن أنّات الروح. لا نقسّيَنَّ قلوبنا فتنبعث منها ينابيع ماء حيّة. لقد أُعطي لنا أن نعي في كلّ لحظة أنّه بقداسة حياتنا لا نعمل أكثر على تجديد كنيستنا فحسب بل نسرّع مجيء الملكوت (2 بط 3: 12). "تعالَ أيّها الربّ يسوع، تعال... لأنّه يا ربّ إلى من نذهب وكلام الحياة الأبديّة عندك وحدك؟" (يو 6: 68).

المشاركات الشائعة