الحركة والرعاية

 ريمون رزق


وضع المؤسّسون في مبدأ الحركة الأوّل أنّها محرّكة من الروح "لتدعو جميع أبناء الكنيسة الأرثوذكسيّة إلى نهضة دينيّة أخلاقيّة ثقافيّة اجتماعيّة". ويقول المبدأ الثاني إنّ "النهضة الدينيّة والأخلاقيّة تقوم... بمعرفة تعاليم الكنيسة". ونجد في كتابات كثيرة للمؤسّسين وحركيّين أتوا بعدهم أنّ تعاليم الكنيسة تتلخّص بالحياة في المسيح. لذلك لم تدعو الحركة إلى درس عقائد وتعاليم، بل الذي أوحاها وواضعها، يسوع المسيح. تتمّ الرعاية بالنسبة إليها بالدعوة إلى معرفة الراعي والتمثّل بأقواله.

كتب أحد الأخوة الحركيّين معلّقًا على مبدأ الحركة الأوّل: "هذا المبدأ يفرض همّ السعي الدؤوب ليلامس الفكر النهضوي جميع أبناء الكنيسة الأرثوذكسيّة. لذا هو يحتّم الانفتاح، والانفتاح يغاير التقوقع. لا حاجة لإطالة الكلام عن تلازم العضويّة في الحركة والبشارة. يجب تأكيد حتميّة الانفتاح على الآخرين لننقل لهم بشارة قيامة المسيح. والآخرون يتعدّون أبناء الكنيسة الأرثوذكسيّة إلى العالم أجمع".

لا نبالغُ إذًا إن أسمينا حركتَنا حركةً رعائيّةً. كلُّ فعلٍ كنسيٍّ يفقدُ معناه إن لم يكنْ رعائيٍّا، إن لم يثبّتْ عضويّةَ المعمّدِ في كنيستِه، تثبيتٌ قائم على إعلان وجه المسيح لدى الشعبِ الأرثوذكسيِّ وإقناعه، أنّ الكنيسةَ من دونِه تغدو متحفًا لا روحَ فيه، ومجموعة طقوس لا حياة فيها. لذا قال يومًا المطران جورج خضر إنّ "برنامج الحركة هو يسوع المسيح".

 وبما أنّ المسيح أراد أن يكون كلّ أعضاء شعبه مسؤولين عنه وعن نشر الرسالة السارّة لكيّ يؤمن العالم "أنّهم تلاميذه"، أصرّتْ الحركةُ، منذ نشأتِها، على أنّ تغييبَ دورِ الشعبِ تغييبٌ لفعلِ الروحِ في الكنيسةِ وفاعلُه سيُدان. وقالت إنّ دور الشعبِ لا يُختصرُ على الطاعةِ للرؤساء، بل هو في الشراكةِ المسؤولةِ معهم إستنادًا إلى كهنوتِه الملوكيِّ (1بطرس 2: 9) الذي عملتْ الحركةُ على إيقاظِه في القلوبِ المؤمنةِ، معلّمة أنّ هذا الكهنوت يتحقّق في الخدمة الإلهيّة وفي تفعيل الشورى بين العباد وتحمّل مسؤوليّتهم مع الذين أُقيموا من الله لرعايتهم. وقد وضع حركيّون مقالات كثيرة لشرح مفهوم الكهنوت الملوكي والتأكيد على ضرورة التكامل الوثيق بين الإكليريكيّين في الكنيسة والعلمانيّن في كلّ ما يتعلّق في بنيان الجسد الواحد.

 وبما أنّ مشاركة العلمانيّين الفعليّة في شؤون الكنيسة الإداريّة كانت مختصرة، عند نشأة الحركة على الأغنياء والسياسيّين، لعب الحركيّون دورًا كبيرًا في تطوير الأنظمة الأنطاكية، أوّلًا السنة 1955، ثمّ السنة 1972، وساهموا في الوصول إلى نظام المجالس الذي فتح المجال لمشاركة فعليّة لأبناء الكنيسة على مستوى الرعيّة والأبرشيّة والكرسي الأنطاكي، عبر ممثّلين عنهم يشاركون الكهنة والمطارنة والبطريرك في السهر على أمور شعب الله. ونصّت هذه الأنظمة أيضًا على قيام مؤتمرات دوريّه للأبرشيّات والبطريركيّة، تضع سياسة الرعاية العامّة. وتجندّت الحركة في غير مكان لشرح النظام الجديد والسعي إلى تنفيذه. من أجل ذلك وضع المرحوم الأخ كوستي بندلي كتيّيًا قيّمًا في هذا الخصوص ووضعت الأخت فريدا حدّاد أكثر من كتيّب شرحت فيهم النواحي العمليّة للمجالس.

  وكانت قد أصدرت الحركة في موتمرها الثاني عشر في السنة 1970 وثيقة العمل الرعائي، التي أكّدت أنّ لا نهضة حقيقيّة إلّا في تبنّي المسيحيّ التمثّل بالمسيح على الصعيد الشخصي، وتثبيت الرعيّة في إخلاصها له وإظهار الرسالة التي أوكلها بها على الصعيد الكنسي، والتزام النضال ضدّ الفقر والظلم وكلّ أشكال الاستغلال على الصعيد المجتمعي العام. ودعت الوثيقة إلى قيام فرقًا رعائيّة تتعاون من الهيئات الكنسيّة ويتطوّع أعضاؤها لدرس أوضاع الرعيّة والاستفادة من الطاقات الموجودة فيها ووضع مشاريع لتحسين خدمتها.

لذا هلّلت الحركة عندما صدر نظام المجالس الجديد ودعت أعضاءها إلى السعي إلى الانخراط بالمجالس المنوي إنشائها، إذ تتوافق كلّيًّا مع ما كانت تدعو إليه وثيقة العمل الرعائي. نجحت بعض مجالس الرعايا في المهمّة المنوطة بها، لكن شاب كثير منها عدد من الشوائب. وامتنع غالبيّة المطارنة من تأليف مجالس الأبرشيّة والدعوة إلى مؤتمراتها. وقد نسف كلّيًّا المجمع المقدّس الأنطاكي في السنة 1993 روح نظام 1972 الذي كان يلحظ حريّة التمثيل العلماني وحصر هذا التمثيل بإرادة المطارنة. مع ذلك لم يلتزم معظم المطارنة بتنفيذ النظام المعدّل الذي وضعوه بمعزل عن الشعب.

إبتدا من 1973، لم تزل تطالب الحركة، عبر اتّصالات لمسؤوليها مع البطريرك والمطارنة، ورسالات إلى المجمع المقدّس، بتنفيذ الأنظمة، لكن لا حياة لمَن تنادي. وقد أنشأت مع بعض الغيورين الأرثوذكسيّين "اللقاء الرعائي الأرثوذكسي"، الذي كان همّه بصورة خاصّة توطيد العلاقة بين الإكليروس والعلمانيّين، ونشر ثقافة الشورى في الأوساط الارثوذكسيّة بواسطة الإلحاح على تأليف المجالس الكنسيّة المختلطة. زار أعضاؤه البطريرك وكلّ مطارنة الكرسي الأنطاكي في لبنان وبعض الفاعليّات، طالبين أن تُنفّذ الأنظمة الكنسيّة بتأليف المجالس على مختلف مستويات العمل الكنسي، من الرعية إلى الأبرشيّة وصولًا إلى المستوى البطريركي ولكن سُدىً.

وعندما سُمع أنّه سوف يُصار إلى تأليف هيئة تمثيليّة أرثوذكسيّة عامّة تختصر عضويّتها على المطارنة والسياسيّين، أي ذات طابع طائفي محض، نظّمت الحركة واللقاء الرعائي الأرثوذكسي حشدًا شعبيًّا كبيرًا رفض مثل هذا الطرح وأفشله.

مع ذلك، استمرّت بعض الفروع الحركيّة بالانخراط بمجالس رعاياها وقامت بالخدمات التعليميّة والإرشاديّة والاجتماعيّة المطلوبة منها. وقامت الحركة في أكثر من أبرشيّة بتنظيم سهرات في البيوت يتخلّلها الصلاة وتأمّلات إنجيليّة.

ودعتْ الحركةُ، ولا تزال، إلى الانخراطِ في الكهنوتِ الخاصِّ لا رغبةً في التسلّطِ والتفرّدِ بل قناعةً أنّ الراعي هو قائدُ الرعايةِ نحو دروبِ القداسةِ محبّةً وخدمةً لرعيّتِه، يلحظُ نفحاتِ الروحِ فيها ويلملمُها موجِّهًا إيّاها نحو خدمةِ فعلِ الروحِ في الجماعةِ الكنسيّةِ الشكريّةِ.

  وقد أمّنت الحركة منذ إنطلاقها الأوّل حضورها "الرعائي" الشاهد على الصعيدين المسيحي والوطني في مدى الكرسي الأنطاكي والعالمي، والتفاعل الحقيقيّ مع مشاكل الناس. كان ذلك بالاتّصال المحبّ بمَن لا يشاركنا الرأي، في الكنيسة الأرثوذكسيّة وخارجها، والتعامل معه، لا بالسخريّة والصدام والمواقف الإلغائيّة، بل بمواقف احتوائيّة وحواريّة وتوضيحيّة، بعيدة عن روح التحزّب وفوقيّة المتسلّطين. وانفتح الحركيّون على المؤسّسات الاجتماعيّة والثقافيّة الناشطة في بلادنا، وقاموا بمشاريع مشتركة معها. وانفتحوا أيضًا على العلاقات المسكونيّة، بدون الخوف من فقدان هويّتهم الأرثوذكسيّة بمعاشرة الآخرين، بل بالنظر إلى هذه العلاقات مجالًا لإعلان إيماننا، ومساهمة منّا متواضعة لعيش الأخوّة مع كلّ مَن يؤمن بربّنا يسوع المسيح.

وقد قامت الحركة مؤخّرًا بإنشاء مركز دراسات وأبحاث لتوضيح الرؤية الأرثوكسيّة تجاه مشاكل العصر وتحدّيات الدهريّة والعولمة، والفردانيّة، وفقدان معنى الحياة، وتضعضع القيَم، وقدسيّة الحياة، والعنف، وانتشار المخدّرات والإدمان وإطلاق العنان للحريّة الشخصيّة بدون ضوابط. إذا أردنا أن يدخل المسيح إلى قلب الناس وإلى فكرهم، لا بدّ لنا أن نعرف ماذا يسكن في هذه القلوب والأفكار لكي نجد اللغة المناسبة لإيصال البشارة والقيام برعايتنا.

 

المشاركات الشائعة