تقرير الأمين العامّ إلى المؤتمر الثاني والثلاثين 2001

 

ريمون رزق

النور - العدد الثاني 2002

لن أتطرّق، في هذا التقرير، إلى ما سعت الأمانة العامّة إلى أن تقوم به خلال السنة المنصرمة، تنفيذًا لمقرّرات المؤتمر الأخير وتلبيةً لما وجدته ملحًّا لحاجات المراكز ومقتضيات الشهادة. سيقدّم كلّ مسؤول في مكتب الأمانة العامّة تقريرًا خاصًّا مقتضبًا عمّا جرى في حدود المسؤوليّة التي يحملها، وعن الإيجابيّات والسلبيّات التي واجهها في عمله. وسيُتاح لنا جميعًا مناقشة هذه التقارير بغية تقييمها والوصول إلى رؤية مشتركة وأداء أفضل. علّنا نرى اليوم الأصالة العميقة التي أطلقها، بنعمة من روح الله القدّوس، منذ ستّين سنة، هذا التيّار النهضويّ الذي غايته الوحيدة أن يبرز وجه المسيح وإيّاه وحده في كلّ واحد منّا وفي البيعة التي تجمعنا على التواضع ومحبّة بعضنا البعض وخدمة الجميع، وذلك لكي يؤمن العالم بأنّ يسوع هو المخلّص الوحيد الذي أحبّ كلّ إنسان آتٍ إلى العالم.

هذه الأصالة المرجوّة دائمًا تلخّص بالنسبة إليّ كلّ ما يجب أن يجمعنا.

عندما ارتضى الأخوة المجتمعون في المؤتمر الثلاثين أن يسندوا إليّ مسؤوليّة الأمانة العامّة، كان واضحًا عندي أنّ حفظ الأمانة يفترض تذكيرًا دائمًا بهذه الرؤية وحثّ الأخوة، في كلّ مكان، على أن يصحّحوا كلّ اعوجاج فينا لا يتلاءم والأصالة الأولى. وقد عبّرت عن هذا الهمّ الكبير في تقريري إلى المؤتمر الأخير، وفي مناسبات عدّة، وذلك في المراكز كافّة.

في الواقع أنا لا أعلم إذا فُهم قصدي. فمنذ فترة وجيزة التقيت بأحد الأخوة الشباب الذي لم أكن أعرفه من قبل، ولقد قال لي: "يُقال إنّك متشائم أكثر من اللازم. لماذا؟". استغربت هذا القول كثيرًا واعتذرت منه – وهذا عينه ما أفعله أيضًا أمامكم اليوم – لأنّ كلامي وتصرّفاتي أعطيا هذا الانطباع. أعتذر لأنّي مقتنع، كلّ الاقتناع، بأنّ من يسعى إلى أن يبقى على الإيمان الحقّ ويعيش دومًا على الرجاء لا يحقّ له أن يتشاءم أبدًا، بل عليه، مهما ازدادت الصعوبات وتفاقمت المشاكل وقويت وطأة الخطايا، أن يثق بأنّ الغلبة، في النهاية، هي ليسوع ولكنيسته، وأن يضع نصب عينيه كلام الربّ الذي قال: "من يصبر إلى المنتهى فهذا يخلص". إنّ لفظتَي التشاؤم واليأس لا يجوز أن يكون لهما موقع في قاموس من يسعى إلى أن يكون حركيًّا أمينًا لله. ولا أعني بهذا أنّ الحركيّ هو من يغضّ طرفه عن الواقع أو يتغاضى عن المشاكل أو يقبل الانحرافات من دون أن ينبّه إليها أو يحاول معالجتها. فالأمانة لله تفترض أن نرصد المرض ونُحسن تشخيصه ونلفت نظر المريض إليه، لأنّ هذا النوع من الأمراض غالبًا ما يكون خبيثًا ولا يعلن عن ذاته بوضوح، ولذلك علينا، في كلّ حال، أن نعمل معًا على وضع العلاج ومتابعته حتّى يهبنا الله كلّ برء.

غير أنّ كلّ مرض أو ضعف يعترينا أو يتربّص بالجماعة لا يمنعنا من الاعتراف، بشكر وتواضع، بكلّ ما يفعله روح الله في أوساطنا. فوجوده المبارك والفاعل يمكن أن يلمسه المرء، هنا وثمّة، في أحيان كثيرة، لمس اليد، على الرّغم من كلّ شيء.

أريد أن أشهد أنّ الاتّصالات التي تسنّى لي أن أجريها مع عدد من الشباب، وذلك في كلّ المراكز، تجعلني أؤكّد، بدون تحفّظ، أنّ هؤلاء لا يقلّون عزمًا واستعدادًا للخدمة وللدخول في مغامرة القداسة عمّن سبقهم من الأجيال الحركيّة الأولى. فلا بدّ لي، أوّلاً، من أن أرفع الشكر لله على التعزيات العديدة التي سمح لي بأن أذوقها عند لقائي بعضًا ممّن كانوا لي بمثابة مثل حيّ للمحبّة المتجسّدة في الخدمة وحمل همّ الكنيسة. هؤلاء شدّدوا عزمي مراراً وزادوني شعورًا بالمسؤوليّة، ولكن بالتقصير أيضًا، لأنّني شعرت – ولا أزال – بأنّهم يستحقّون أكثر بكثير ممّا يسمح لي به قلّة وقتي وضعف إمكانيّاتي الفكريّة والجسديّة.

وأريد أن أشهد، أمام الله وأمامكم، بإعجاب كبير، للأعداد الهائلة جدًّا من هؤلاء الشباب الذين يعطون، من دون كلل أو ملل، الكثير الكثير من الوقت للاشتراك في سهرانيّات طويلة وحملات تبشير جريئة وحمل مسؤوليّة الرعاية والخدمة والتعليم في فروع لا عدّ لها والسعي إلى نشر الكلمة وترجمتها بلغة يفهمها أبناء جيلهم. فلنشكر الله كلّنا على كلّ واحد منهم. وأيضًا على التعزيات الأخرى، وأوّلها الهديّة الكبرى التي أعطانا إيّاها في السنة الماضية، وهي أن نتلاقى بطريقة وطيدة وتفاعل أعمق ومسيرة واحدة مع أخوتنا العاملين في مكتب التعليم الدينيّ في أبرشيّتَيّ حمص وحماه، وذلك ببركة مطرانَيهما الجليلَين ورضاهما وتشجيعهما. وتاليًا تلك المساعي المبذولة من أجل توحيد شهادة الشباب الأنطاكيّ في أبرشيّات أخرى مثل حوران وزحلة وجنوب لبنان، والتي نرجو أن تتكلّل بالنجاح. ومن التعزيات المباركة أيضًا المناخ المنفتح على الحوار والسعي المشترك الذي شهدناه في الآونة الأخيرة بين الحركة والرئاسة الروحيّة في أنطاكية، وفي طليعتها صاحب الغبطة الذي لم يبخل علينا بالتوجيهات والبركة، وكذلك فعل العديد من السادة المطارنة.

ولا بدّ أيضًا من أن نشكر لله بوادر التنسيق بين بعض مراكز النهضة الحقيقيّة في أنطاكية، من أديرة ومؤسّسات، والتجاوب العظيم الذي ذقناه خيرًا في لقائنا وإيّاهم.

ولن أنسى أخيرًا، في باب التعزية، تلك الأعداد الكبيرة من الشبّان والصبايا الذين يأتون إلى الحركة وينخرطون في أحد نشاطاتها. إنّهم لا يعرفون حقًّا ماذا يريدون، لكنّ قلوبهم مستعدّة وحلمهم كبير وطاقتهم إلى العطاء والمحبّة لا حدّ لها. هؤلاء يأتون طالبين منّا الهدف، سائلين عن المعنى. يريدون خبزًا، وهذا يُعطى لهم أحيانًا، ولكن في أحيان أخرى كثيرة ينالون الحجارة بدلاً من الخبز.

من هنا آتي إلى الجراح وخيبات الأمل. لا يمكنني أن أخفي عنكم الشعور الذي يراودني ويخيفني أحيانًا، وهو أنّ شيئًا من الأصالة الحركيّة يضيع هنا أو هنالك، وذلك من جرًاء أسباب عديدة، أهمّها:

1- تضعضع همّ التكريس الفعليّ وإهمال التأكيد أنّ العضو الحركيّ ليس هو عابر سبيل في كنيسة الله، بل إنّما هو من أراد أن يكرّس ذاته كلّيًّا للربّ في خدمة الكنيسة والبشر، أكاهنًا كان أم راهبًا أم علمانيًّا.

2- تفاقم الطابع المدرسيّ والدراسيّ في حياة الفرقة، بدلاً من السعي إلى جعل كلّ فرقة – مهما كان عمر الذين ينتمون إليها أو مستواهم – مختبرًا فعليًّا للحياة في المسيح واكتساب فكره وأخلاقه ومحبّته، واختبار الأخوّة الحقيقيّة وصفة سفرائه إلى الناس البعيدين والقريبين.

3- تمأسس الحركة وطغيان الروح الإداريّة والأنظمة على العلاقات بين الأفراد والأُسر والفروع والمراكز وبينهم جميعًا والأمانة العامّة.

4- طغيان الهمّ المحلّيّ على الهمّ العامّ. كلّ فرقة، كلّ رعيّة، كلّ أسرة، إلخ... تنغلق على ذاتها، وتهتمّ بنشاطاتها الخاصّة، ولا تبالي بالنشاطات العامّة. وحدة المسيرة في تضعضع وخطر. الشيطان يزأر ويحاول أن يفرّق. وهو كثيرًا ما يفعل عن طريق نزواتنا واكتفائنا الذاتيّ ورفضنا الآخر. وهذا يخالف الروح الإنجيليّة التي تحضّنا على اكتشاف السيّد في كلّ وجه. ولعلّ أفضل تعبير عن هذا البعد والانغلاق ما نُقل إليّ مؤخّرًا على لسان أحد المسؤولين الكبار في أحد المراكز، إذ استغرب مجيء الأمين العامّ إلى مركزه ليبحث في شأن مصيريّ فيه، إذ قال: "شو بخصّو بشؤوننا الداخليّة؟".

5- ازدياد الخوف من كلّ جديد أو مجهول واعتماد التحجّر، وكأنّنا لا نعرف أنّ الهروب من الواقع وحتّى نحو الصلاة لا يُجدي أيّ نفع. ولذلك نرى أنّ البعض يتسرّعون بإطلاق شتّى الاتّهامات على كلّ من لا يسلك الطريق التي اعتادوا عليها.

6- عدم الشعور أو القبول بوجود مرجعيّة واحدة، ولا أعني بهذه المرجعيّة شخصًا واحدًا، ولكن جماعة متفاعلة حاملة الرؤية النهضويّة. وهذا ناتج من أسباب عديدة، منها: ضعف بعض القيادات الحركيّة؛ تصلّب بعضها الآخر الذي يرفض كلّ من يخالفه في الرأي؛ تزايد المدارس الفكريّة وعدم تفاعلها مع بعضها البعض؛ تزايد المرجعيّات الروحيّة التي يتعامل بعضها، عن قصد أو غير قصد، مع الشباب على طريقة المعلّم أو قائد الشيع (Gourou) بدلاً من الأب الروحيّ الحقّ الذي يختفي وراء وجه يسوع.

7- ضعف البرامج وتنوّعها غير المنسّق، وأيضًا ضعف الأداة التدريبيّة الناتجة من هزالة الكثير من المسؤولين.

8- وأخيرًا وليس آخرًا، الجوّ العام السائد في الكنيسة والمجتمع والعالم، هذا الجوّ المقلق الممزّق حيث لا حوار ولا شورى ولا تخطيط بل تسلّط للقوّة وللقويّ وذوي النفوذ.


هذا كلّه إن دلّ على شيء فهو يدلّ، أساسًا، على ضعف حياتنا في الربّ، وتاليًا على أنّنا نهتمّ بأمور كثيرة، بينما
الحاجة إلى الواحد الذي إن سعَينا إليه حقًّا، وبكلّ قوانا وإرادتنا، سيعطينا كلّ شيء آخر ويزيد.
من هنا كانت التساؤلات الأربعة التي وضعتها وأردتها محورًا للتفكير الحركيّ، والتي سعيت إلى أن ترسَل إلى المراكز
قبيل انعقاد المؤتمر الأخير بغية تشخيص أفضل للمرض وإيجاد العلاج الملائم للخروج من الأزمة التي تسود حياتنا
ومواقفنا. وأعتقد أنّه من المفيد أن نعيد تلاوتها في هذا المؤتمر، لأنّ معظم المراكز، كما بدا لي، لم تعطها الاهتمام
الذي تستحقّه، ولأن بعضها لا يزال يفتّش عن أسباب الأزمة بعيدًا عن هذه التساؤلات.

- هل نحن حقًّا تلاميذ ليسوع؟ هل لنا علاقة شخصيّة معه ونتخلّق بأخلاقه؟

- هل أنّ جماعتنا جماعة إنجيليّة في فكرها، في تصرّفاتها، في مناقبيّتها، في خدمتها، في علاقاتها؟ وتاليًا هل نحن جماعة تائبين نصفح لبعضنا البعض وللآخرين لأنّنا نعرف أنّ الله يتوب علينا إذا تبنا إليه؟

- هل نحن حاملون حقًّا همّ الكنيسة؟ هل نحن نتمزّق إذا شاهدنا الأوساخ فيها؟ وهل نقول حقًّا: الويل لنا إن لم نبشّر؟ وتاليًا هل نحن حقًّا شهود ليسوع في مجتمعنا وفي العالم؟

- هل نجرؤ، إذا سألنا أحدٌ عن إيماننا، أن نقول له: تعال وانظر كيف نعيش في الحركة فتعرف أنّ إلهنا إله محبّة وتكتشف أنّك محبوب، وتاليًا قادر على أن تنقل الجبال؟

أيهّا الأخوة،

أطرح هذه التساؤلات مرّة أخرى أمامكم داعيًا إيّاكم إلى انتفاضة حركيّة، انتفاضة بكلّ ما للكلمة من معنى. انتفاضة يقودها من دعاهم الله إلى ذلك، وذلك بغية العودة إلى الينابيع وتقويم كلّ فكر منحرف وممارسة معيبة. الترقيع لا ولن ينفع. ولا تقبيل اللّحى والمجاملات. ولن ينفع أيضًا التذرّع في الكلام على الأمر الواقع والعادة والتقاليد والأنظمة التي تتعارض مع التقليد الحركيّ الأصيل. الحلّ لن يأتي بتوافق عدديً. نحن لسنا بصدد ديموقراطيّة ما. ولا نقصد أدنى قاسم مشترك بيننا، بل نريد الأعلى، وأعني وجه الربّ واكتساب قداسته. فلنبتعد، إذًا، عن المماحكات الناموسيّة، ولنكفّ عن التعلّل بعلل الخطايا. الجبال تُنقل، صدّقوني، تُنقل بالإيمان والإرادة الصادقة. هذا ما أدعوه انتفاضة. أدعو إلى مثل هذه الانتفاضة، بإلحاح، وأرجو أن يكون لهذا النداء صدى، ليس فقط في الأوساط الحركيّة، بل أيضًا في كلّ مركز نهضة في أنطاكية، في الرعايا، والأديرة، والمجالس، والمؤسسات الكنسيّة وفي المجمع المقدّس. وذلك لأنّ غاية هذه الانتفاضة الأساس هو خلع إنساننا العتيق وكلّ ممارسة باطلة عادت تظهر وتتسلّط على نمط العلاقات بين أعضاء شعب الله الواحد، وكلّ ما يمنعهم من التعبير، في الواقع المُعاش، عن وحدتهم وأخوّتهم في المحبّة المتبادلة التي بدونها لن يعرف العالم أنّنا أبناء الله حقًّا وأخوة يسوع. أمّا بالنسبة إلينا فيمكن أن تظهر بوادر هذه الانتفاضة بالأمور التالية، وهي ما يجب أن نطبّقه مهما كان الثمن باهظًا، حتّى لو كلّفنا الإقلاع عن بعض النشاطات أو الممارسات.

1- قانون حياة لكلّ منّا، يقرّه مع الأخوة ويلتزمون به معًا، في إطار الفرقة التي تساعد بعضها البعض على تطبيقه وتحاسب على عدم اتّباعه.

هذه ممارسة كانت بديهيّة في الأجيال الحركيّة الأولى واستمرّت إلى أجيال، ولا تزال قائمة هنا وهناك، ولكن ليس بالشموليّة المطلوبة. فحياة الفرقة تتمحور اليوم غالبًا حول موضوع أو برنامج، وتكاد تنسى، أو تتناسى، هذا الطابع الأساس (الحياة في المسيح) الذي يقوم على ممارسة الأخوّة والمشاركة في الحياة. هناك نموذج لمثل هذا القانون في وثيقة حركيّة وضعت في أواخر السبعينات من القرن الماضي، عنوانها: "من أهمّ أهداف حياتنا أن نعيش في حضرة الله الدائمة".

كلّ إنسان يريد أن ينتسب إلى هذا التيّار الحركيّ وأن يصبح عضوًا فاعلاً ومسؤولاً فيه، عليه أن يلتزم طوعًا بمثل هذا القانون. عليه أن يدخل في نوع من الميثاق أمام الله والأخوة يتعهّد من خلاله أن يستمرّ، بإخلاص، في التزامه هذه المسيرة المسمّاة حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة، ويستعدّ لأن يبذل كلّ ما لديه، وحتّى حياته إذا اقتضى الأمر، من أجل يسوع الساكن في كلّ واحد من الأخوة. من لا يريد هذا الالتزام يبقى في صفوفنا أخًا حبيبًا شريكًا في الخدمة، يساهم في النشاطات، ولكن لا يمكنه أن يعبّر حقًّا عن هذا التيّار، لأنّه رفض أن يعيش الالتزام الحركيّ الصميم، وأعني اختبار الحياة في المسيح ومحبّة الأخوة.

2- القيادة الحركيّة: بما أنّ نموّ الحركة مسؤوليّة بشر أرادوا أن يدخلوا في هذا الميثاق، علينا أن نسهر على ألّا يتسلّم أيّ مهام قياديّة في الحركة إلّا مَن تجنّد كلّيًّا وكرّس ذاته وتدرّج في المحبّة والخدمة. القادة في الحركة يجب أن يكونوا ملهَمين وعلينا أن ندرّبهم لكي يصبحوا ملهِمين. القائد في الحركة يجب أن يكون شعلة نار، وأن تجرح قلبه محبّة الفادي. القائد يجب أن يدعو إخوته إلى نقل الجبال، وأخذ كلام السيّد في الإنجيل حرفيًّا والتصرّف بحسب مقتضياته. فالقائد ليس إنسانًا هامشيًّا، بل هو الذي يدرك أنّه مسؤول عن خلاص كلّ من ائتُمن عليهم، والذي يبكي أمام كلّ تقصير، ويثور لكي يُقبل الجميع إلى محبّة السيّد وتبقى الكنيسة عروسًا لا عيب فيها ولا دنس. كفانا ربط القيادة بحُسن الإدارة. لا بدّ من حُسن إدارة. إنّ مجالسنا (من الأمانة العامّة إلى مجالس المراكز أو الفروع) أصبحت بمعظمها مجالس إدارة تسودها المماحكات والتفاصيل التنظيميّة، بينما الحاجة، كلّ الحاجة، إلى هبوب الروح. انتقاء القادة الأساسيّين مسؤوليّة جماعيّة في الحركة تتعدّى حدود المراكز، إذ إنّ كلّ واحد من رؤساء المراكز أو الفروع يحمل مسؤوليّة التيّار كلّه ويجب أن يعمل بتناغم تامّ مع المسؤولين الباقين وأن يكون مؤهّلاً لنقل التيّار بكلّ زخمه وتحدّياته للجميع.

3- التكريس: من أجل الوصول إلى هذا المبتغى، لا بدّ لنا من إحياء روح التكريس الكلّيّ بين الملهَمين من أعضائنا. ألا نعتقد أنّ التيّار النهضويّ في الكنيسة الأنطاكيّة يستحقّ أن يكرِّس له عددٌ من الشباب حياتهم، أو على الأقل قسمًا منها، كما يفعل سواهم في الرهبنة أو الخدمة الكهنوتيّة؟ نحن بحاجة إلى مثل هؤلاء في كلّ المراكز، وعلى الأخوة جميعًا، إن كنّا جدّيّين، أن يتعهّدوا من يقبل بهذا العمل الشاقّ ويؤمّنوا له العيش الكريم.

وأرى أنّنا اليوم بحاجة ماسّة إلى نوعَين من التكريس:

النّوع الأوّل اختيار بعض الحركيّين (اثنين أو ثلاثة)، يلاحظهم الأخوة بسبب من صلابة التزامهم وجدّيتهم ووضوح رؤيتهم واستقامة حياتهم ومثابرتهم وسعيهم، بتواضع كلّيّ، إلى اكتساب الحياة في المسيح، وأيضًا بسبب من ميزاتهم القياديّة. هؤلاء يمكن أن يكونوا كهنة أو رهبانًا أو علمانيّين، لا فرق. نلاحظهم وندعوهم، ويكون شغلهم الشاغل العمل النهضويّ وبقاءه في أصالة الرؤية ووحدة المسيرة وانتشاره في سائر أنحاء الكرسي الأنطاكيّ. هؤلاء قد يصبحون النواة الأساس الفاعلة في الأمانة العامّة، وربّما يُختار من بينهم الأمين العامّ. وأرى أنّ من واجباتهم أن يتجوّلوا، باستمرار، بين المراكز، وأن يشدّدوا العزائم، ويقوّموا الشطط، ويدعموا المبادرات، ويطلقوا المشاريع، وبخاصّة أن يذكّروا دومًا، بالتعاون مع رؤساء المراكز والفروع، بمقتضيات الالتزام الحركيّ وضرورة حمل صليب يسوع والانتفاضة على كلّ ما يخالف روحه القدّوس وكلّ تباطؤ أو تخاذل أو انحراف.

أمّا النّوع الثاني فيتكوّن من شباب أنهوا دراستهم (الثانويّة أو الجامعيّة) وأيضًا خدمة العلم، وقرّروا، أحرارًا، قبل الولوج في دنيا العمل، أن يكرّسوا سنة (على الأقل) من حياتهم لخدمة المسيح في إطار هذا التيّار النهضويّ. أعتقد أنّنا نحتاج اليوم إلى عشرة من هؤلاء في كلّ سنة، يلتزمون الحياة في المسيح ولهم استعداد كامل للخدمة. هؤلاء نضع لهم نظامًا تدريبيًّا خاصًّا، يقتضي، في ما يقتضي، أن يعيشوا فترة من الحياة المشتركة، وأن يشاركوا في لقاءات دوريّة تساعدهم على تعميق رؤيتهم الواحدة وتؤهّلهم للمسؤوليّة واكتساب فكر المسيح. ثمّ نطلقهم ليساعدوا الأخوة المسؤولين عن الأمر والنشاطات في الأمانة العامّة والمراكز.

صدّقوني أنّ الحركة قامت – بالإضافة إلى المتطوّعين الكثيرين الذين هم قاعدة العمل ولا يُستغنى عنهم – على مثل هؤلاء المكرّسين الذين أعطوا معظم أوقاتهم لنشر التيّار النهضويّ وحثّ شعب الله على الخروج من الجوّ الطائفيّ والانخراط في كنيسة المسيح. هؤلاء المكرّسون كانوا النواة التي اجتمع حولها الجميع واكتسبوا، بالاحتكاك الشخصيّ المباشر، فكرًا وروحًا واحدة وأساليب عمل متجانسة. هؤلاء كانوا يتجوّلون بين المراكز حيث تتلمذ عليهم من تحمّل المسؤوليّات فيها. إنّ أسماء بعض هؤلاء محفورة في قلوبنا. لن أذكر منهم سوى الأب أغناطيوس (هزيم) والأب جورج (خضر) والأب قسطنطين (باباستفانوس) والأب استفانوس (حدّاد) والراهب مرسيل (مرقس) والمعلّم شفيق منصور والأستاذ الجامعيّ كوستي بندلي. لماذا لا يعتبر أمثال هؤلاء، وهم كُثر في هذه الأيّام، أنّ العمل النهضويّ يستحقّ ما تستحقّه الرعيّة أو الدير أو أيّ التزام آخر في المؤسّسات الكنسيّة، وأن يبذلوا من أجله كلّ "عتيق وجديد".

4- اجتماعات دوريّة: نحن نحتاج إلى اجتماعات دوريّة (على الأقلّ 4 مرّات في السنة لا ينقص كلّ واحد منها عن اليومَين)، تضمّ كلّ أعضاء مكتب الأمانة العامّة ورؤساء المراكز والمسؤولين عن الإرشاد، يختلون معًا ويخصّصون لقاءهم للصلاة والتقارب والتباحث في الهموم الواحدة، وذلك كلّه بغية الوصول إلى بلورة الرؤية بوضوح أكبر وتخطيط أعمق وتبيان ما يجب عمله لتلبية فضلى لرسالة التيّار النهضويّ إزاء هذا العصر وتحدّياته المتزايدة.

5- حلقة دائمة مفتوحة: تعقد طيلة يوم كامل، بانتظام، ربّما مرّة كلّ شهرَين أو ثلاثة. هدف هذه الحلقة أن تكون منبرًا لعرض الأفكار والتيّارات المختلفة التي تظهر في أوساطنا الكنسيّة وبحثها في ما بيننا (بدلاً من الثرثرة في الصالونات)، بغية الوصول إلى رؤية مشتركة مقبولة على ضوء الإنجيل. أرجو أن يعمل الأمين العامّ الجديد على إنشاء هذه الحلقة، وأن تضمّ، إلى جانب الأمناء العامّين السابقين، مَن أراد من الحركيّين وكلّ من يحمل فكر الربّ في أنطاكية. وذلك لكي يسود روح الحوار، ونتعلّم مجدّدًا أنّ أمورنا كلّها مشتركة، وأنّ التزامنا معًا المسيح يرغمنا على التوافق وقبول بعضنا البعض، وهو يحثّنا على الاقتناع بأنّ موقف المتفرّج أو المقاطع أو المنتقد والرافض كلّ آخر وكلّ رأي مخالف، هو موقف مخالف ومرفوض، وعلينا أن نسعى إلى اقتلاعه من أوساطنا بالمحبّة والحوار.

6- البرامج والتدريب: علينا مراجعة البرامج المتّبعة في جميع الأُسر والمراكز. أرجو أن تتمكّن الأمانة العامّة الجديدة من تكليف لجنة تضمّ مجموعة من الأخوة المختصّين والمختبرين المؤهّلين لرصد الموجود ومراجعته واقتراح ما يجب عمله من أجل أداء أفضل والتزام أفعل. وأرجو أيضًا أن تستمرّ في إقامة حلقات التدريب، وأن تستفيد من الأخطاء التي حصلت، في السنتَين المنصرمتَين، لتصحيحها وتحسينها.

7- تشجيع جميع وسائل التواصل في ما بيننا: وهذا يفترض، إلى جانب استمرار العمل، بجدّيّة، في مجلّة النّور ونداء النّور ومجلّة فرح والنشرة والصفحة الحركيّة على شبكة الإنترنت، إيجاد أدوات جديدة للإعلام في الصحف والمجلّات والوسائل السمعيّة البصريّة. نحن لم ننجح حتّى الآن في مجال الإعلام، وعلينا أن نقتنع بأنّه من الوسائل الأساسيّة للتبشير في عالمنا اليوم، وبأن الاستمرار في إهماله وعدم أخذه على محمل الجدّ دلالة على تقاعس فكريّ واضح، أرجو أن نستطيع تجاوزه.

8- المشاركة في الخيرات: أخيرًا وليس آخرًا علينا أن ندرس جدّيًّا كيف يمكننا أن نمارس بطرائق فُضلى المشاركة في الخيرات في ما بيننا. الكلام الطوباويّ والنظريّ على الرحمة والعمل الاجتماعيّ لم يعد كافيًا. الفكر الإنجيليّ واضح جدًّا في هذا المجال. آباؤنا الكبار أكّدوا هذه الروح وترجموها عملاً ومواقف. التحدّيات اليوم أصبحت هائلة. شبابنا يهاجر لعدم وجود فرص العمل. عائلات كثيرة لا تشبع. أطفال لا عدد لهم لا يذهبون إلى المدارس، لأنّ أهلهم لا يستطيعون دفع الأقساط. ما تقوم به الحركة في إطار التبنّي المدرسيّ أو البرامج الطبّيّة والاجتماعيّة، على أهمّيّته، لم يعد يفي بالمطلوب. لا بدّ من المزيد. كيف، وإلى أين؟ لا جواب سوى أنّنا مدعوّون إلى أن نلاقي المسيح في القريب الذي هو يضعه على طريقنا ويختاره لنا، وأن نتعامل معه، أفرادًا وجماعة، بأساليب نبتكرها ونستوحيها من مثل السامريّ الشفوق. أرجو أن يُصار، في أقرب وقت، إلى بلورة جديدة لموضوع الخدمة الاجتماعيّة والتزام شؤون الأرض وملاقاة الآخر، من دون التغافل عن أنّ كلّ آخر، مهما كانت قناعاته والتزاماته، هو أخ لنا، ويمكن أن يطلّ يسوع علينا من خلاله.

أيّها الأخوة، لن أطيل عليكم الكلام أكثر. فلن أتكلّم عن التحدّيات الجسيمة التي ما تزال تواجه كنيستنا في وحدتها، وفي ضعف ممارسة الشورى بين رعاتها وأبنائها، وفي استمرار انعدام وجود المجالس في معظم أبرشيّاتها، وفي تزايد المأسسة وتضعضع الهمّ الرعائيّ الحيّ في رعايا كثيرة. هذه الأمور يجب أن تكون، باستمرار، أساسًا لصلواتنا وسعينا الدؤوب المتواضع، مع الأخوة جميعًا، وبتحاور مستمرّ مع السادة المطارنة، بغية التخلّص من كلّ انحراف وإصلاح كلّ اعوجاج.

ولن أتبسّط في الكلام على نهج العنف المتنوّع الأشكال الذي يسود عالمنا اليوم (فهو ليس فقط بالسلاح والقنابل)، ولا على مرتكزات المدنيّة الحديثة الجارفة المبنيّة على الاستهلاك والتمتّع المَرَضيّ وتسلّط القويّ على الضعيف، التي تخالف جميعها المرتكزات التي بنى السيّد عظة الجبل عليها.

"طوبى للمساكين بالروح... طوبى للودعاء... طوبى للحزانى... طوبى للجياع والعطاش إلى البرّ... طوبى للرّحماء... طوبى لأنقياء القلوب... طوبى لفاعلي السلام... طوبى للمضطّهَدين من أجل البرّ... طوبى لكم إذا عيّروكم واضطهدوكم وقالوا عليكم كلّ كلمة سوء من أجلي كاذبين. إفرحوا وابتهجوا فإنّ أجركم عظيم في السموات... أنتم ملح الأرض، فإذا فسد الملح فبماذا يملَّح... أنتم نور العالم، لا يوقد سراج ويوضَع تحت المكيال، لكن على المنارة ليضيء لجميع الذين في البيت" (متّى 5: 2 – 15).

هذا ما نحن مدعوّون إلى أن نكونه. أهل البيت يتوقون، في الظلمة، إلى النّور، وهو موجود وبين أيديكم، وذلك بقدر ما تلتصقون أنتم بالربّ القائم من بين الأموات بتوبة نصوح وجرأة كبيرة وعزم شكور ويقين أنّ يسوع معنا في الأتون، يناصر كلّ عمل محبّ صادق مخلص يُقام من أجله. الكنيسة والعالم لم يعد يكفيهما الكلام، فالحاجة إلى شهود، ولا شاهد إلّا من كان مستعدًّا لأن يكون شهيدًا للمسيح، إذا اقتضى الأمر.

يا يسوع قوّي ضعفاتنا الكثيرة. أنقذنا من أوجاع يشعر المرء بأنّها طالت. قُل لنا كما قلت لقدّيسك سلوان: "لا تيأسوا" مهما حدث ومهما عظمت المصاعب، ابقوا على الرجاء، لأنّني قد غلبت العالم".

المشاركات الشائعة