ابقَ على محبّتك الأولى

ريمون رزق

النور - العدد الخامس 2007 


السؤال الأوّل، الذي ينبغي طرحه في هذا المجال، هو "ما هي محبّتك الأولى؟" وبعد السعي لتحديد ماهيّة هذه المحبّة، لا بدّ من سؤال آخر نطرحه بعضنا على بعض وكلّ واحد على نفسه، ألا هو: "هل أنا باقٍ على محبّتي الأولى؟". لا يكفي أن أكون موجودًا في الحركة ومستمرًّا بالقيام ببعض النشاطات، لأنّ الموضوع ليس فقط بالاستمراريّة في الانتماء والعمل، بل في نوعيّة هذه الاستمراريّة. نتساءل دومًا، لماذا لا يستمرّ عدد من الأعضاء في الحركة عندما يتجاوزون سنّ الشباب؟ أعتقد أنّ السبب الأساس أنّهم شطّوا في تحديد "محبّتهم الأولى".

فلنستعرض بعض الأمور التي يعتبرها البعض "محبّتهم الأولى" والتي غالبًا لا علاقة لها فعلاً بهذه المحبّة.

إذا كان الجوّ العامّ في الحركة وكلام المسؤولين فيها يشدّد على أنّها منظّمة "شبابيّة"، ولا سعي للتوجّه إلّا نادرًا إلى غير الشباب، فمن الطبيعيّ أنّ الذي لم يبقَ شابًّا (وقليلون هم الذين يبقون شبابًا بالروح) يحسّ أنّ لا مكانة له فعليّة وفاعلة فيها.

إذا كانت الحركة تجمّعًا فئويًّا منغلقًا يوجّه طاقاته "ضدّ" شيء معيّن، كما عاشها في الماضي عدد من أعضائها الذين اعتبروا عن حقّ أنّهم تجمّع ضدّ بعض قوى الانحطاط في الكنيسة الذين كانوا يجسّمونها بأسماء أو حالات أو أوضاع معيّنة، فمن الطبيعيّ أنّ الذين نشأوا على هذه القناعة بالتجمّع الفئويّ – مهما كانت أهدافه – واعتبروا أنّ فيه تكمن محبّتهم الأولى، لم يثبوا، لأنّ الإنسان لا يمكن أن يستمرّ معارضًا، ولأنّ الناس تتغيّر وتتوب، والأوضاع أيضًا تتغيّر، إذا وجدوا أنفسهم بلا هدف يتغيّر الهدف.

في فترة أخرى من تاريخ الحركة، كان هناك اعتقاد راسخ عند البعض – في داخل الحركة وبخاصّة خارجها – أنّ الحركيّين معلّمو المسكونة أو المرجع في كلّ شيء. ورغم أنّ الحركة أدّت دورًا بارزًا في تعليم الأرثوذكس وإرشادهم إلى تراثهم الحقيقيّ الحيّ، فهي لم تعتبر نفسها قطّ مصدرًا للتعليم في الكنيسة وخضعت دومًا للرئاسة الروحيّة، مع اقتناعها بتنوّع المواهب ومسؤوليّتها عبر الكهنوت الملوكيّ. فالذين ارتكزت محبّتهم الأولى فقط على أنّهم "معلّمو المسكونة"، لا بدّ من أن يتغيّروا عندما يرون أنّ هناك معلّمي مسكونة غيرهم، ولم يبقَ لهم الدور الذي كانوا وحدهم يلبّونه.

كُثر تعلّقوا بالحركة والتيّار النهضويّ من جرّاء علاقتهم بأحد الوجوه البارزة من الذين أطلقوا الحركة وسهروا على استمراريّتها. ومع الإقرار بأنّ بعض هذه الوجوه تستحقّ كلّ تقدير، فإنّ مع يضع ثقته بإنسان – مهما كان سموّه – لا بدّ من أن يكتشف أنّ كلّ إنسان يضعف، فيحسّ أنّه متروك، فيخسر المحبّة التي وضعها فيه.

إن شعرنا – كما يعتقد الكثيرون – بأنّ مهمّتنا أن نهتمّ بالأطفال ومدارس الأحد، لا بدّ من أن يتزعزع انتماؤنا عندما نعود لا نهتمّ بالأطفال إذ يوجد في الكنيسة أناس آخرون يهتمّون بهم، فندخل – كما يحصل هنا وهناك – في خلاف مع هؤلاء كأنّهم يغتصبون منّا ما نعتبره حقًّا لنا وحدنا.

كثيرون تعلّقوا بالحركة من أجل جوّ الإخوة والتعاضد بين أعضائها، وهذا شيء أساس وجميل، ولكن صعب جدًّا، إذ تمرّ العلاقة أحيانًا بأزمات فتضعف المحبّة ومعها الاستمراريّة.

آخرون تعلّقوا بالحركة لأنّهم تلقّفوا في اجتماعاتها معلومات ومعرفة كنسيّة  قلّما وجدوها في مكان آخر، إذ أُعطي لهم مجالاً للولوج في الكتاب المقدّس، وفكر الآباء وتاريخ كنيستهم. هؤلاء أحبّوا الحركة كمدرسة. والمدرسة جيّدة، ولكن بالنهاية لا بدّ للتلميذ من أن يتخرّج، فينهي دراسته أو يملّ من الدراسة، فينتقل إلى شيء آخر.

هذه الظواهر كلّها لا تشير إلى حقيقة محبّتنا الأولى. فلنعد إلى السؤال الأوّل: ما هي محبّتنا الأولى؟

قرأتُ أنّنا "نعمل من أجل الملكوت"، ماذا يعني هذا القول؟ هل تكمن محبّتنا الأولى بهذا القول؟ وكيف تحبّ ما لا يُفهم. فلا تحديد إذًا فيه لمحبّتنا الأولى. نقع كثيرًا من الأحيان بتشيئ هذه المحبّة، وهي ليست متعلّقة بشيء، بل بشخص. المحبّة الأولى هي محبّة شخص هو يسوع المسيح. وكلّ من يبتعد عن هذا الشخص يبتعد عن الجماعة التي تحبّهه وتسعى إليه. ليست هناك محبّة أولى غير محبّة يسوع المسيح، وليست هناك صخرة نرتكز عليها سوى يسوع المسيح، وليست ثقة عمياء إلّا بيسوع المسيح. كلّنا نقع، ووقعنا كلّنا، لكنّ يده ممدودة دومًا إلينا لترفعنا إليه، حيث هو، على صليب هذا العالم وصليب خطايانا. علينا أن نسعى إلى البقاء على محبّة يسوع، على مبادلته محبّته الجنونيّة لنا، إذا فعلنا هذا رغم كلّ الصعوبات ومن صميم الأتون الذي نقع فيه أحيانًا، نبقى على محبّتنا الأولى.

سعت الحركة إلى أن تعلّمنا قبل كلّ شيء آخر كيف نعرف يسوع، وكيف نتمثّل به، وأين نجده، لكي نحبّه، وننمو في محبّته. وهذا يتطلّب جهدًا وجهادًا واستمراريّة في التفتيش عنه في كلّ مواضع سكناه، وهو موجود ينتظر لقيانا في كتابه، في الليتورجية الكنسيّة وسرّ الشكر، في لقاء الصلاة وأيضًا في إخوتنا في الكنيسة وكلّ إنسان ضعيف مكسور ارتضى أن يسكن فيه. لقد حصل مرّة أن اهتدت إحدى الأخوات إلى الأرثوذكسيّة لأنّها تأثّرت بمحبّة حركيّين بعضهم لبعض، والطريقة التي يصافحون بعضهم عند كلّ لقاء، واللهفة التي يظهرونها، والخدمة ووحدة الحال التي تجمعهم. بهذا التفتيش عن يسوع والتمثّل به واكتساب فكره والتخلّق بأخلاقه تكمن، أوّلاً وأخيرًا، محبّتنا الأولى. أن نتمحور حول يسوع، أن نجده في كلّ قريب وضعه الله أمامنا... هناك أمور أساسيّة في هذه المحبّة الأولى لا نستطيع أن نحيا بدونها، منها أن نغفر لكلّ إنسان، ومهما فعل لا نحكم عليه. إذا تدرّبنا على تصرّف كهذا، تتغيّر كلّ حياتنا في العالم ومع البشر. أن نشكر الله في كلّ حين وعلى كلّ شيء، السلبيّ قبل الإيجابيّ، ونتّكل عليه دائمًا (انظروا إلى طيور السماء). عندما نتدرّب على شكر الله والاتّكال عليه وقبول الآخر، يبقينا الله على محبّته، وكلّ شيء آخر يعطى لنا ويزاد.

علينا أن نأخذ الإنجيل على محمل الجدّ، أصبح البعض يعتقد أنّ بعض العبارات في الإنجيل هي مجاز أو تعابير شعريّة ليست من أجل التطبيق. علينا أن نأخذها حرفيًّا، وهكذا ندخل في علاقة شخصيّة مع الربّ يسوع في جماعة محييّة. أنت مسيحيّ قبل أن تكون أيّ شيء آخر (طبيب، مهندس، تلميذ، معلّم إلخ...). علينا الاقتناع بأنّنا نقوم في العالم بدور المسيح. فمن يحبّ، يتحوّل إلى من يحبّ. من يحبّ يسوع، يسكن يسوع فيه وينمو هو وتنقص الأنا. نحن مخوّلون أن نحمل العالم مثلما حمله هو. لنا خدمة كهنوتيّة، فنتجرّأ على أن نقول للآب: "التي لك ممّا لك نقدّمها لك – نحن الخطأة – على كلّ شيء ومن جهة كلّ شيء". كوننا كلّنا نشكّل أمّة ملوك وكهنة يفرض علينا أن نكون خدّامًا للكلّ ولدينا مسؤوليّة كنسيّة، أي كلّ جسم الكنيسة وسائر أعضائها. يميل البعض لنعت الحركة بحركة علمانيّين، برأيي هذه هرطقة. لا توجد في الكنيسة فئويّة. كلّنا أعضاء في جسد الربّ، كهنة وعلمانيّين كلّنا مسؤول عن هذا الجسد، كلّ حبّ ما أعطي له من فوق، الحركة ليست حركة علمانيّين، هي حركة الكنيسة. يعمل ويتجنّد فيها، على حدّ سواء، من أراد من الكهنة والعلمانيّين.

على محبّتنا الأولى التي هي للمسيح أن تنصبّ عملاً في الكنيسة. الذي يحبّ يحبّ عروس من يحبّ. المسؤوليّة في الكنيسة أساسيّة للحفاظ على محبّتنا الأولى.

أخشى ما أخشاه أنّنا في مكان ما تهمّنا الحركة المؤسّسة أو نشاطنا في الحركة على الانكسار في خدمة الكنيسة. إذا لم نتحرّر من المؤسّسة وندخل في صلب الكنيسة، فلن نبقى على محبّتنا الأولى.

المتزوّج تشغله العائلة، وهذا أيضًا يقتل المحبّة الأولى. كلّ تقوقع على الذات أو العائلة أو القبيلة أو الطائفة، حتّى وإن كان لأسباب طبيعيّة، يطفئ المحبّة. يقول الذهبيّ الفم إنّ العائلة يجب أن تكون كنيسة...

لا تقتصر الكنيسة على بضعة أشخاص تربطهم عواطف خاصّة. الكنيسة تجمع كلّ الناس.

خطر آخر يهدّد محبّتنا الأولى هو البرجزة في العائلات. المجتمع، الذي نعيش فيه، هو مجتمع الاستهلاك الذي يبعدنا من دون أن نعي يومًا بعد يوم، عن محبّتنا ليسوع لأنّه يلهينا عنه بإغراءاته المتعدّدة. يمكن تعداد أمثلة أخرى، تدلّ على الخطر عينه، التي تهدّد حياتنا مع يسوع. علينا الانتباه، علينا أن نذكّر بعضنا بعضًا دومًا بخطر الانزلاق.

الحركة اليوم بحاجة إلى أن تعود "حركة" أن تطلق ثورة على عاداتها وممارساتها التي ابتعدت عن محبّتها الأولى.

علينا أن نكفّ عن أن نكون مدرسة، فالله لا يُبحَث فيه، بل يُختبَر أوّلاً. بعدما تحبّه في وجوه الناس وفي سرّ الشكر، يصبح لديك شوق للتعرّف إليه أكثر، فتنصبّ على ملاقاته في كلّ مكان وأيضًا إذا لزم الأمر بالدراسة. ليس بتكديس الكتب تكتشف الله، بالكتب تكتشف أقوال الناس عنه وأقوال الناس أغلبها نصف الحقيقة. الله نكتشفه وجهًا لوجه في الكتاب المقدّس وفي وجوه الإخوة وبخاصّة المنكسرين والضعفاء حيث يئنّ فيهم إليك.

إذا لم نبقَ نركّز التوجيه هكذا، فلن يبقى أحد على محبّته الأولى.

علينا أيضًا أن نهتمّ بالمرشدين في الحركة. المرشد الحقيقيّ كان يجب أن يكون دومًا مُلهِمًا وملهَمًا. صحيح أنّ الله يبعث الملهمين، علينا ملاحظتهم لكي يلهمونا ويرشدونا إلى المسيح ليس إلى الحركة. المسيح في الحركة بقدر ما هي تحمله، إذ ذاك تصبح جسرًا إلى المسيح في كنيسته.

في النهاية، علينا الإقرار بأنّنا كلّنا سقطنا ولو بقينا في الحركة. إذا تطلّعنا إلى العلاقات الشخصيّة بيننا، نجد أحيانًا أنّها لا تمتّ بصلة إلى العلاقات التي يفترض فيها أن تكون بين أناس يسعون حقيقة إلى أن يبقوا في محبّتهم الأولى. نحن نسقط، ولكنّنا مدعوّون إلى التوبة والرجوع. عندما نسقط يكون سقوطنا فظيعًا. لا شيء يؤلم في الصميم أكثر من رؤية أخ كنّا سويّة على المحبّة الأولى الواحدة، وابتعد عنها. لكنّ هذا من طبيعة البشر، ويجب ألّا يشكّل عثرة كيانيّة، بل يجب أن يدعونا جميعًا إلى مزيد من التوبة. والتوبة هي التي تثبّتنا وترسّخنا بمحبّتنا الأولى، فنتساءل في كلّ حين مثل تلميذَيّ عمواس على درجة اضطراب قلوبنا، ونسعى لإعادتها إلى الصفاء، لكي نعود فنرى يسوع، ونعيد الصلة به.

إذا أردنا أن نعود إلى محبّتنا الأولى، فعلينا قبل كلّ شيء أن نرسّخ مجدّدًا علاقتنا بالله، الصخرة الوحيدة التي عليها يمكننا بناء كلّ شيء آخر.

المشاركات الشائعة