الحركة والخدمة

ريمون رزق - 2009


يسوع الخادم

"لم يأتِ ابن الإنسان ليُخدَم بل ليخدُم ويبذل حياته" (مر 45 – 10). "جئت لأعلن الخلاص للمساكين" (لو 4 – 18). "أنا بينكم كالخادم" (لو 22 – 27). "لقد أعطيتكم المثال... العبد ليس أفضل من السيّد" (يو 13 – 15).

بمجيئه خلّص يسوع البشر وأعلن لهم كيف يريد الآب أن يخدم: يريد منّا الآب أن نتعب من أجل إخوتنا كما فعل يسوع من أجلنا.

كيف خدم يسوع؟ 

خدمة يسوع العظمى تكمن بإعلانه طريق الخلاص بالإيمان والتوبة واتباع وصايا إنجيله، وبتحقيقه هذا الخلاص بموته على الصليب وقيامته وإرساله روحه القدّوس. كذلك أثناء وجوده على الأرض أظهر يسوع قدرته وحنانه تجاه البشر بشفاء المرضى وإخراج الأرواح الشريرة وإقامة الموتى وغفران الخطايا.

هكذا عالج يسوع كلّ ما يجزّء الإنسان ويبعده عن الله، كلّ ما هو ناتج عن الخطيئة والشرير. ربط يسوع الأمراض، بالخطيئة، فعالج الأمراض الجسديّة والأمراض النفسيّة التي تولد الخوف والكآبة وانفصام الشخصيّة. أعاد الإنسان إلى وحدة الذات وإلى العافية والقربى من الله. وقد علّمه أنّ طريق الشفاء من الأمراض والموت، الناتج هو أيضًا عن الخطيئة، يكمن في الإيمان بالله والتمثّل بمسيحه والتوبة إليه وإلى إخوته البشر. هؤلاء تجمعه بهم المحبّة ذاتها التي لله ("أحبّوا بعضكم بعضًا كما أنا أحببتكم").

الامتثال بيسوع

همّ الحركة الأوّل يكمن في أن يصبح كلّ عضو فيها متمثّلاً بيسوع، مكتسبًا فكره، متخلّقًا بأخلاقه، وأن تصبح الجماعة الحركيّة والكنسيّة جماعة متمحورة حوله، جماعة تائبة، شاهدة وخادمة على منوال سيّدها. هويّة الحركة هي إذًا الحياة في المسيح. نظامها الإنجيل مترجمًا حياة. قانونها المحبّة وإعلان رسالة الخلاص لكي يصل الكلّ إلى ملء قامة المسيح.

الحياة في المسيح

طرحنا على أنفسنا منذ سنوات قليلة بعض التساؤلات لحثّنا على حياة أفضل في المسيح. قلنا آنذاك:

هل نحن حقًّا تلاميذ ليسوع تربطنا فيه علاقة شخصيّة ونسعى للتخلّق بأخلاقه؟

هل نحن، جماعة وأفرادًا، إنجيليّون في فكرنا وتصرّفاتنا وعلاقاتنا وخدمتنا؟

هل نحن نصفح لبعضنا البعض ولكلّ البشر وخاصّة الأعداء لأنّنا نثق بأنّ الله يتوب علينا إذا تبنا إليه؟

هل نحن حاملون حقًّا همّ الكنيسة ونتمزّق إذا شاهدنا عيوبًا فيها وإذا لاحظنا أنّ معاصينا تحول دون إبراز وجه المسيح فيها وهبوب روحه القدّوس؟

وأخيرًا وليس آخرًا، هل نحن حقًّا خدّام في الكنيسة والمجتمع والعالم، همّنا التبشير بمحبّة الله؟

هل نحن مقتنعون بأنّ الناس إذا أحببناهم من دون تمييز أو محاباة وكنّا مستعدّين دومًا لخدمتهم، سيكتشفون أنّ الله يحبّهم؟

من يجاوب في قرارة نفسه على هذه التساؤلات بأنّه يسعى ويريد أن يكون هكذا، هذا يكون في طريق الحياة في المسيح. ولكن خشيتي أن يكون الكلام عن الحياة في المسيح شعرًا نستلذّ به وليس جهادًا وفعلاً وممارسة مع الأخوة والآخرين. الاقتداء بالمسيح لا مفرّ منه إذا كنّا نريد أن نكون مسيحيّين حقًّا. يقول أغناطيوس الأنطاكيّ في رسالته إلى أهل فيلادلفيا: "اقتدوا بالمسيح كما اقتدى هو بأبيه" (7 – 2) وإلى أهل أفسس: "افعلوا كلّ شيء ليسكن هو فينا ونصبح نحن هياكل له" (15 – 3)، وأيضًا: "أنتم كلّكم رفقاء طريق، حاملو الله... وحاملو المسيح" (9 – 12). فهل نحن كذلك؟

خدمة الحركة الأولى والأساسيّة أن تدعونا وتعلّمنا بالقول والممارسة كيف نصبح فعلاً أولاد الله. هذا يحصل في سعينا إلى التفتيش عن المسيح باستمرار وملاقاته في الصلاة الفردية والجماعية، والتأمّل الدائم بإنجيله، والاندماج به في سرّ الشكر، والشعور بوجوده كلّما اجتمع الأخوة باسمه، وأيضًا اكتشافه في الإنسان، كلّ إنسان ارتضى هو أن يسكن فيه ويدعونا أن نغسل رجلَيه على مثاله. الحركة مدرسة يتخرّج منها كرّسين وخدمة وقدّيسين، وإلّا، مهما اتسعت الأعداد والنشاطات، فهي فاشلة. وهذا كلّه يبتدئ في الفرقة وينطلق منها. على الفرقة الحركيّة أن تكون أوّلاً وأساسًا مختبرًا للحياة في المسيح تحثّنا إلى اكتشافه في الليتورجيا والكتاب وفي الأخوة وفي كلّ إنسان آتٍ إلى العالم لنخدمه ونعلن له وللعالم البشارة السارّة التي في يسوع. الفرقة ليست إذًا أوّلاً مكان دراسة، مع أنّه لا بدّ من الدراسة لاكتساب فكر المسيح، لكنّها مكان نتعلّم فيه كيف نتمثّل بالمسيح ونترجم فكره عيشًا، توبة، خدمة وشهادة. ونتعلّم أنّه بالمعموديّة نصبح "أعضاء لبعضنا البعض" (رو 12 – 5) وأن الحياة في المسيح ليست فقط في مناقبيّة ما، بل بالاستعداد لبذل الحياة كلّها من أجل الآخرين، من أجل كلّ قريب يضعه الربّ على دربنا، كما فعل هو. وأنّ ذلك لا يتحقّق إلّا بالأفعال، وإلّا، كما يقول يوحنّا في رسالته الأولى: "محبّتنا ستقتصر على الخطابات والكلام المعسول" (1 يو 3 – 18). وذلك لا يتحقّق أيضًا بدون تغيير الذهن (وهذا المعنى الحقيقيّ للتوبة) وتبادل الغفران والمصالحة، لأنّه بهذا فقط نلامس الثقافة المسيحيّة المرجوّة أكثر من أيّ وقت مضى في عالم اليوم.

مجالات الخدمة

مجالات خدمة الحركيّ والحركة عديدة ومتنوّعة، أهمّها:

  • "نحن خدّام للكلمة" (أع 6 – 4)، خدمتنا الأولى تكمن في إعلان الإنجيل وإعلام الناس أنّ الله أحبّهم حتى الموت وأنّه، مثل أب الابن الشاطر ينتظر عودتهم، وأيضًا في نقل هذه الرسالة "بكلّ وداعة وإذا لزم الأمر في بكاء وفي وسط التجارب والمتاعب" (أع 20 – 19). علينا الخروج إلى ما هو أبعد من حدود الرعايا الضيّقة للوصول إلى أكثرية لامبالية لا تأتي إلى الكنائس. علينا ابتكار الأساليب الجديدة اللازمة لحثّها على اكتشاف وجه يسوع الدامي والمجيد في آن، وبالتالي الرجوع إلى الحظيرة التي لن تكتمل بدونها. الويل لنا إن اقتصر تبشيرنا على مجال الرعيّة الضيّق وإن تناسينا هؤلاء. علينا السعي لسدّ "الفراغات" في عمل الكنيسة الرعائيّ وإيجاد البدائل عندما يؤمن آخرون أهمّية ما كنّا نقوم به. "اتركوهم. من ليس ضدّنا فهو معنا".
  • نحن خدّام للوحدة والحوار: الحركة خادمة لوحدة شعب اللهخدمتنا تقتضي أن نسعى بشتّى الوسائل الضاغطة والمحبّة إلى هدم الجدران التي يريدها البعض بين أبناء شعب الله الواحد. وبخاصّة بين الإكليريكيّين والعلمانيّين وبين فئات عديدة في الكنيسة تهرطق بعضها البعض. وذلك يتمّ بإعادة تأكيد لاهوت الكهنوت الملوكيّ والمواهب من جهة، وبالدعوة إلى الحوار بين الفئات المتخاصمة في سعي لبلورة رؤية جماعيّة واحدة متجذّرة في تقليد الكنيسة وضرورات التبشير والانفتاح المحبّ على الإنسان. لا بدّ من مبادرات سريعة في هذا المجال تأخذها الحركة بالتعاون مع آخرين وفي طليعتهم معهد اللاهوت في البلمند، لأنّ الأفكار تتباعد باضطراد وسوف تجرّ القلوب. لا يكمن الخطأ في حالة الاختلاف بالرأي ضمن الجماعة الواحدة، وهذا شرعيّ، بل أن يهرطق الواحد الآخر لمجرّد اختلاف بالرأي ويرفض الحوار ممّا يقود إلى رفض الآخر وانتزاع صفة الأخوّة عنه.

مهمّة أخرى تبدو لي ملحّة على صعيد الوحدة الأنطاكيّة، ألا وهي التبعثر الحاصل على صعيد الشباب الأنطاكي. على الحركة ألّا تدّعي الحصريّة في التمثيل الشبابيّ، بل أن تسعى إلى مدّ الجسور بين مختلف التجمّعات الشبابيّة المنضوية تحت راية أسقف أو كاهن والهادفة إلى اكتشاف وجه يسوع والانخراط في خدمة كنيسته. وكذلك علينا التفاعل مع الشباب في أبرشيّات الاغتراب الأنطاكيّ داعمين بذلك وحدة الكرسي الأنطاكيّ.

· سرّ الأخ

نتكلّم كثيرًا عن "سرّ الأخ" ولا أدري إذا كنّا نعي دومًا تمامًا مدى هذا السر. المسيح اختار أن يسكن في الإنسان، بخاصّة البؤساء والمظلومين وأن يأتي إلينا من خلالهم. كلّ تجاهل لأحد من هؤلاء يمكن أن يكون تجاهلاً للسيّد نفسه. يقول القدّيس غريغوريوس الكبير: "عندما تلتقون منبوذين، كرّموهم جميعًا، لأنّكم لا تعلمون أيّ واحد منهم هو المسيح". علينا إذًا أن نعتاد على البحث عن المسيح في كلّ كائن بشريّ، فنستقبله تمامًا كما لو كان المسيح، وندعو المسيح الساكن فينا للتحاور مع المسيح الذي فيه لكي يوحّدنا. علينا اعتماد نهج حياة نكون دومًا مهيّئين فيه للقاء المسيح ي كلّ لحظة وفي قلب كلّ إنسان. يقول الأنبا أبولوس، وهو من آباء الصحراء: "عندما ترى أخاك فإنّما أنت ترى الربّ إلهك". لن أردّد ههنا أقوال العديد من الآباء الكبار حول هذا الموضوع. لم يقصدوا الدعوة إلى صدقة ما تعطى للمحتاج، بل قصدوا شراكة كاملة بين الناس ورؤية ثوريّة نوعيّة للعلاقات بينهم. المبدأ أنّ كلّ شيء من الله ويخصّ جميع أبنائه وأنّ البشر مدعوّون إلى وحدة المصير. علينا إذًا ألّا نقبل أن يجوع أو يُظلَم أحد بننا وحولنا،

لأنّ الربّ يسوع نفسه يئنّ فيه. سأكتفي بنصّ من القرن الثاني الميلادي، من هرماس الراعي، يقول: "اعمل الخير واعطِ ببساطة ما تنتجه بأتعابك للّذين يحتاجون لأنّ المعطي هو الله. لا تتردّد في عطاء هذا أو ذاك ولا تقل هذا يستحقّ وذاك لا يستحقّ. أعطِ الجميع لأنّ الله يريدك أن تشرك الجميع بخيراته" (الوصيّة الثانية). علينا التساؤل مجدّدًا: أين وحدتنا مع الفقير والظلوم؟ نذكرهم وعظًا في أوقات كثيرة، وبواسطة عطاءات منظّمة في بعض الأحيان، وبتبرّعات شخصيّة هنا وهنالك. هل هذا ما يطلبه السيّد، بخاصّة في إنجيل الدينونة؟ هل نحن معنيّون حقًّا بهذا الكمّ الهائل من الناس الذين يعيشون حولنا في حالة جوع دائمة. أو هم عاطلون عن العمل. أو ساعون إلى الهجرة بحثًا عن لقمة العيش؟ هل نحن معنيّون أيضًا بالمظلومين في غير مكان، وهم كثر. وهل نربّي أنفسنا على النضال من أجلهم؟ يقول القدّيس سمعان اللاهوتيّ الجديد في حديثه عن نفسه: "أعرف رجلاً كان يرغب بشدّة في خلاص كلّ إخوته، لدرجة أنّه كان ليرفض دخول ملكوت السموات حتّى لا يفترق عنهم". علينا التمحّص بهذه الأمور والاقتناع بها قبل الولوج بمجالات الخدمة المفتوحة أمامنا.

· "جعت فأطعمتموني... كنت غريبًا فأويتموني... عريانًا فكسوتموني... مريضًا فزرتموني... سجينًا فجئتم إليّ"

وعت الحركة هذه المجالات للخدمة منذ نشأتها، وفي الستينات أسّست في عدد من المدن مستوصفات ومراكز طبيّة اجتماعيّة. كان الهدف من هذه المبادرات مزدوجًا: الإهتمام المنظّم بالمحتاج من جهة وحثّ الشباب الحركيّ على الانفتاح واعتبار العمل الاجتماعيّ جزءًا أساسيًّا من الشهادة. كان التوجّه، انطلاقًا من أقوال يسوع وتمثّلاً بأفعاله، إلى خدمة الإنسان على كلّ صعد حياته. المرض مرتبط بالخطيئة، وبالتالي لا يكفي أن نعالج المرض الجسدّي وأن نوزّع الأدوية بل يجب أيضًا أن ندعو إلى التوبة ونعلن رسالة يسوع السارّة. والتوجّه ذاته ينطبق على الجائع، إذ ليس بالخبز وحده يحيا الإنسان. وأيضًا على الفقير، إذ لا يكفي إعطاء الصدقات أو مساعدة الأهل على إرسال أولادهم إلى المدارس، وزيارة المساجين، إلخ... ، على أهمّيّة هذه الأعمال، بل يجب السعي الجدّيّ لإبراز وجه يسوع في معالجة الأوضاع الإجتماعيّة للعائلة، بتسهيل فرص العمل أو المساهمة قدر الإمكان وبشتّى الأساليب غير العنفيّة، لإزالة أسباب تلك الأوضاع. خبرتنا مع هذه المراكز، على أهميّة العمل لشفاء المرضى وإطعام الجائع وبعض المبادرات الاجتماعيّة، لم تحقّق كلّ طموحاتنا، إذ غالبًا ما فقدت مراكزنا النكهة التي كنّا نريد وأصبحت كسائر المستوصفات لا تتميّز عن غيرها بشيء يُذكَر. تمأسست، وكان آباء الصحراء يقولون: "أخشى المؤسّسة كما تخشى "الأسود"، لأنّها تطفئ الروح وتقدّس الشكل والعادات والحرف. وجه يسوع هو وحده الشافي والمعين، وروحه القدّوس، المعزّي. كيف يمكننا عدم كشف هذه الكنوز التي أُعطِيَت لنا مجّانًا والاكتفاء بأدوات بشريّة، مهما سمت؟ لا بدّ من وقفة تأمّل جدّيّ في وضع مستوصفاتنا لتصحيح عاجل للمسار وإيجاد الطرق الناجعة لكي تكون أداة لإيصال البشارة، ولكي يلتزم شبابنا جدّيًّا في عملها، يعطي ليس فقط من ماله بل من ذاته، ويقتنع أنّ الفقير هو سيّدنا. وأنّنا مدعوّون أن نصبح غسلة أرجل مثل سيّدنا، وصوت من لا صوت لهم، ونطلق ثقافة جديدة لإيجاد مجتمعات بشريّة لا فقير فيها.

· الخدمة من خلال الصلاة

من الضروري جدًّا ألّا نغرق بتلك الأعمال، على أهمّيتها، لكي لا يقول لنا السيّد: "مرتا، مرتا، إنّك تهتمّين بأمور كثيرة والحاجة إلى واحد". لا بدّ لنا إذًا، في خضمّ المشاكل الاجتماعيّة، أن نسلّم تلك المشاكل وأصحابها لله، طالبين منه المعونة، وإذا شاء، التدخّل. علينا الاقتناع أنّ الصلاة من أجل الآخر هي الخدمة العظمى التي يمكننا تأديتها، بدون التغافل عن أعمال الخدمة والرحمة. الله يعرف أكثر منّا، فالندعهم إليه، ساعين أن نكون بآنٍ واحد مرتا ومريم.

· الخدمة في الرعيّة

لن أطيل الكلام على هذا النوع من الخدمة، إذ لدى الحركة العديد من الخبرات في هذا المجال، التعليميّة منها والنشاطيّة. لكن أودّ التشديد على بعض النواحي التي تستحقّ تركيزًا أكبر. وهي تتعلّق بتأهيل المقبلين على الزواج، ومواكبة المشرفين على الموت، وإرشاد المعوّقين.

الموضوع الأوّل قائم في أبرشيّتكم وهو غاية بالأهميّة أمام تزايد الطلاق والعائلات المفكّكة. لا أدري مدى مساهمة الحركة في العمل، لكنّي أدعو إلى التزامه جدّيًّا.

أمّا الثاني، مواكبة المشرفين على الموت، فيتطلّب محبّة كبرى وتدريب كبير. علينا أن نشجّع أعضاءنا على هذه الخدمة. إنّ الفترة الأخيرة من حياة الإنسان هي جزء لا يتجزًأ من حياته، علينا مساعدته لعيشها بأفضل طريقة ممكنة، إذ هي مرحلة ليست المرحلة الأخيرة من حياته. "عندما يتعذّب أحد الأعضاء، كلّ الأعضاء تتعذّب معه" (كو 12 – 26)، إذ كلّنا أعضاء في جسد المسيح الواحد. لا يتطلّب المشرف على الموت تعليمًا بل فقط يريد الشعور بأنّه محبوب ويوجد من يتجنّد لسماعه وخدمته. علينا أن نشارك تعبه وآلامه، على منوال سمعان القيروانيّ الذي حمل صليب يسوع.

أمّا الموضوع الثالث، إرشاد المعوّقين، أودّ التذكير بخبرة رائدة في مجال انخراط الصمّ والبكم في صفوف الحركة انطلقت من مركز دمشق وامتدّت إلى حلب وربّما إلى مراكز سوريّة أخرى، لا أدري. أدعو إلى نقل هذه الخبرة إلى لبنان وتوسيعها إلى حالات أخرى كثيرة الانتشار في ربوعنا.

· الخدمة في إيجاد ثقافة أرثوذكسيّة تتفاعل مع تحدّيات العصر

وعت الحركة ضرورة هذه الخدمة منذ أوّل نشأتها، فكانت مجلّة النّور، ثمّ منشورات النّور، وثمّ تعاونيّة النّور. ومع أنّ هذا كلّه مستمرّ، يزين لي أنّنا فقدنا شيء من محبّتنا الأولى في هذا المجال، وفي همّ تلبية حاجات النّاس. في البدء الحاجة كانت إلى التعليم المسيحيّ ومعالم اللاهوت والروحانيّة الأرثوذكسيّة، وقد أعطانا الله أن نزوّد المكتبة العربيّة بالكثير الكثير من تلك المواضيع. العديد من الشباب غير المنخرط في الحركة والذي لا يمارس، تتآكله التيّارات المختلفة في مجتمع الاستهلاك، فيغرق باللامبالاة أو يفتّش عن شيء ما لسدّ دوّامة الفراغ الذي يعيش فيه. والذي يسعى بعضهم لتجاوزها بالعنف، أو الجنس، أو المخدّرات، أو باللجوء إلى الذوبان في روحانيّات الشرق الأقصى و"النيو ايدج"؟ إنّهم يلجؤون إلى مثل هذه الروحانيّات تفتيشًا عن ثقافة شركويّة، لاعنفيّة، فيها حنان وعطف إلى الإنسان والكون لا يجدونهم كفاية في أوساطنا. كيف نتّصل بهذا الشباب؟ كيف نخاطبه؟ ما هي المواضيع التي تستقطبه؟ كيف نساهم في إيجاد الجواب الكنسيّ على تساؤلات وتحدّيات العصر؟ بأيّة لغة، بأيّ أسلوب نكتب؟ كيف نقنع هذا الشباب بأنّه محبوب؟ كيف ننقل إليه تراث آبائنا المحيي؟ تساؤلات، لا يبدو لي أنّها تشغلنا كثيرًا في بلورة سياسة للنشر جديدة. وهي أساسيّة إذا أردنا المساهمة في جعل هؤلاء الشباب يكتشف حلاوة يسوع وعطفه. علينا صبّ تراثنا بقوالب جديدة يستطيع فهمها. المواضيع التي تسمح بالتلاقي هي كثيرة. مثلاً، ألا يوجد حوار ممكن بين الفنّ الحديث والأيقونة؟ ألا يوجد تلاقي بين وصف الأهواء وعلاجها عند كبار الآباء الروحيّين وعلوم النفس الحديثة؟ كيف نقنع هذا الشباب أن رؤيتنا لمحوريّة الإنسان وقدسيّة الحياة، التي نشاركهم إيّاها، ناتجة عن كون الإنسان على صورة الله؟ إلخ... إن لائحة مواضيع التلاقي والحوار كثيرة بالفعل.

· الخدمة في استعمال الإعلام للبشارة وإطلاق الحوار

قامت الحركة في السنين القليلة الماضية بعمل كبير ومبدع في هذا المجال، لا بدّ من توسيعه وتطويره لكي يتعدّى الإعلام عن الحركة ونشاطاتها إلى نشر أخبار الكنيسة الأساسيّة ومواضيع شتّى تطلق الحوار مع المؤمنين ومع هؤلاء الشباب الذي ذكرنا آنفًا.

· خدمة الكنيسة الأنطاكيّة في إطلاق مشاريع ضروريّة لتأمين استمراريّة الشهادة

مجال هذه الخدمة واسع جدًّا. لكنّني سأختصره على مشروعَين اثنَين يمكننا إطلاقهما.

أوّلاً، حان الأوان لتطبيق القوانين وتأليف المجالس على كافّة الصُّعد، من الرعيّة، إلى الأبرشيّة، إلى البطريركيّة. الحركة، الموجودة في معظم الأبرشيّات، يمكنها التنسيق لإقناع أكبر عدد ممكن من السادة المطارنة ومساعدتهم لإخراج هذه المجالس إلى الوجود بأسرع وقت ممكن، لتفادي البُعد المتزايد بين الإكليروس والعلمانيّين وجعل كلّ عضو من أعضاء شعب الله الواحد يساهم مع إخوته وآبائه، كلٌّ بحسب موهبته، في السهر على شؤون الكنيسة، بإمامة الأسقف.

ثانيًا، كلّنا يعلم أنّ الكنيسة الأنطاكيّة تواجه مشاكل مختلفة تزعزع العلاقات السليمة بين أعضائها وتسبّب أحيانًا انفصامًا خطيرًا بين الإيمان المستقيم والممارسات على الأرض، ممّا يعيق شهادتها لربّها في خضمّ المتغيّرات المتسارعة في العالم. هذه المشاكل تتعلّق بشتّى مجالات الشهادة. سعى المجمع المقدّس مرارًا بتكليف بعض المطارنة بتحضير ملفّات حول عدد من هذه المواضيع، ولكن لم يتسنّى لهم القيام بهذه المهمّة. الكرسي الأنطاكيّ بحاجة إلى مؤتمر عامّ، على شاكلة ما حصل في الكنائس الأخرى، لدرس وإقرار إصلاحات باتت ضروريّة وملحّة. مشروع كهذا يتطلّب تحضيرًا واسعًا ودقيقًا. باعتقادي أنّ الحركة، بما فيها من طاقات، يمكنها، بالتعاون مع طاقات أنطاكيّة أخرى، من المطارنة ومعهد البلمند وغيرهم، التحضير للمؤتمر بجدّيّة وتواضع، وأن تضع نتاج عملها بتصرّف المجمع المقدّس.

· خدمة الطبيعة والكون

المشاكل البيئيّة التي يعاني العالم منها ناتجة عن خلل في علاقة الإنسان بالكون، الذي هو أيضًا خليقة الله. هو بالفعل "آخر" يدعونا الله أن ندخل بشركة معه. علينا أن نقتنع ونقول، مثل الخالق أثناء الخلق، أنّ الكون هو شيء "حسن" وأنّه يجب المحافظة عليه، من أجله هو، ومن أجل استمراريّة الحياة البشريّة فيه. ويذهب القدّيس اسحق السريانيّ إلى حدّ القول بأنّ "القلب المحبّ والرحوم هو الذي يلتهب بمحبّة الخليقة كلّها، بمحبّة الإنسان والطيور والحيوانات والشياطين وسائر الخلائق، وتحرّكه رحمة لامتناهية تستيقظ في قلب الذين يتشبّهون بالله". يشارك هذا الحسّ تجاه الكون وضرورة المحافظة على كلّ أنواع الحياة فيه، العديد من الشباب المعاصر. هذا الموضوع هو إذًا مجال آخر للتواصل معه. بفعلنا هذا نسترجع بعض مواقف الكبار من آبائنا الذين تكلّموا عن المدى الكونيّ للخلاص بيسوع المسيح، ونتعلّم مجدّدًا أن "نزرع جنّة عدن ونحافظ عليها". ونعطي الكون شيئًا من السلام والقدسيّة التي يهبنا إيّاهما الله في سرّ الشكر. فيمكننا آنذاك أن نرفع الكون إلى الله قربانًا: "التي لك... نقدّمها لك". علينا إذًا تعميم هذا الهمّ بين شبابنا أوّلاً، وبواسطتهم المساهمة في مشاريع تحافظ على البيئة وتنهي التعدّي عليها.

· المحبّة الأخويّة

أخيرًا وليس آخرًا، خدمتنا تكمن في إظهار جماعتنا متجذّرة في الموعظة على الجبل، مجسّدة الفكر الإنجيليّ في حياتنا اليوميّة وفي علاقاتنا. العالم ليس بحاجة إلى عقائديّين معلّمي المسكونة، بل إلى أناس يقتدون بالمسيح فيبرهنون بمسلكهم الحياتيّ أنّ الحياة ليست عبثيّة بل هي تقدمة وخدمة ومشاركة وهي ورشة للملكوت الآتي. المسيحيّون الأوائل أبهروا العالم الوثنيّ بمحبّتهم لبعضهم البعض وخدمتهم للإنسان، فاقتحموه وجعلوا المسيح يغلبه. لا خدمة ولا غلبة للوثنيّة المعاصرة إلّا بأناس يعيشون على مثال الأوائل. متسلّحين بالزهد بالمغريات الأرضيّة، وروح المجّانيّة وفرح العطاء، والحنان على كلّ مخلوق، والتصميم على مشاركة الإخوة في كلّ شيء. خدمتنا الكبرى تتلخّص في العيش حسب كلام بطرس الرسول، في رسالته الثانية، القائل: "وأنتم باذلون كلّ اجتهاد، قدّموا في إيمانكم فضيلة، وفي الفضيلة معرفة، وفي المعرفة تعفّفًا، وفي التعفّف صبرًا، وفي الصبر تقوى، وفي التقوى مودّة أخويّة، وفي المودّة الأخويّة محبّة" (1 – 5 إلى 7). بهكذا عيش نشهد حقًّا أنّ الله موجود وأنّ له اسمًا ووجهًا، إسم يسوع المسيح ووجهه، الذي مات لأنّه يحبّنا. ونشهد أنّ القريب هو أيضًا موجود وأنّه على صورة الله، لا يجب استخدامه بل خدمته، لكي يعي ويحقّق المثال الإلهيّ المدعوّ إليه. وأنهي بصلاة بولس الرسول القائل:

"بسبب هذا أحني ركتبيّ لدى ربّنا يسوع... لكي يعطيكم أن تتأيّدوا بالقوّة بروحه... ليحلّ المسيح في قلوبكم، وأنتم متأصّلون ومتأسّسون في المحبّة حتّى تستطيعوا أن تدركوا مع جميع القدّيسين ما هو العرض والطول والعمق والعلوّ، وتعرفوا محبّة المسيح الفائقة المعرفة، لكي تمتلئوا إلى كلّ ملء الله" (أف 3 – 14).

 



المشاركات الشائعة