حوار مع الفوكولاري - مقابلة مع المدينة الجديدة"

 

ريمون رزق

 

س- نودّ أن تخبرنا، باقتضاب، عن تاريخ حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة في كنيسة أنطاكية وبخاصّة في لبنان وسوريا؟

ج- إذا رجعنا 500 سنة إلى الوراء، إلى تلك الفترة التي عاشتها الكنيسة في الشرق، وبخاصّة عندما كانت تحت الاحتلال العثمانيّ، نجد أنّ الكنائس لم يكن لها الحقّ أن تعلّم ولا أن تفتح مدارس ولا أن يكون لها معاهد لاهوت. هذا كلّه جعل المستوى العامّ للشعب والإكليروس ينخفض، وقلّت المعرفة بشكل ملحوظ. وما أبقى الناس على إيمانهم، على الرغم من كلّ الصعوبات، كانت الليتورجية وبعض النصوص الآبائيّة المخطوطة التي كانوا يتناقلونها باليد، ومن بيت إلى بيت... وما أضعفها أكثر وأكثر الانشقاقات التي تعرّضت لها كلّ الكنائس في القرن الثامن عشر. إذًا، في مطلع القرن العشرين بدأ الشعب يَعي ويتحسّس. في فترة من الفترات أتى الروس وفتحوا مدارس، وهذا ما جعل الشعب الأرثوذكسيّ ينتعش في هذه البلاد. غير أنّ الثورة التي ضربت بلاد الروس أثّرت سلبًا علينا. وهكذا أوّل سعي إلى النهضة التي بدأت على يد المدارس "الموسكوفيّة" فشل. بعد هذه الفترة قام عدد من الجمعيّات العلمانيّة التي وضعت ذاتها في مواجهة مع الإكليروس، وأرادت أن تقوم بنهضة، قوامها إنشاء مؤسّسات ومدارس ومستشفيات. بعضهم نجح وعمل مؤسّسات أو مدرسة، ولكنّ هذه "النهضة" لم تكمّل. ثمّ أتى هؤلاء الشباب الذين أسّسوا حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة السنة 1942. كانوا طلّابًا جامعيّين في عمر الـ17 – 18 سنة، وكانوا كلّهم يدرسون في مدارس كاثوليكيّة كالفرير واليسوعيّة. وهنا وعوا، ولكن لم يعوا وحدهم، بل الله أعطاهم هذا الوعي، أنّه إذا كانت أمّك مريضة لا يمكنك أن تتركها. أمام هذا الوضع المتقهقر، وعدم الرعاية، كان، في كنيسة الغرب، واقع النظام والمعرفة والعلم. فاكتشف هؤلاء الشباب أنّ الموضوع، في الحقيقة، ليس موضوع مؤسّسات (على أهمّيّتها)، ولكنّه نهضة في الكنيسة؟ أي أن تكتشف أنّ يسوع المسيح هو أساس الكنيسة وأن تعطيه قلبك، أن تدعه هو – وليس أنت – ينهض بكنيسته. أن تقبل أنت الدعوة التي يقدّمها لك وتعطيه حياتك. وبعد هذا، الله يعمل الباقي.

اجتمع 16 شخصًا ولم يكونوا يعرفون بعضهم بعضًا. هذه الأفكار التي تحدّثنا عنها بدأت في بيروت وفي اللاذقيّة في الوقت ذاته. لدينا رسائل من ألبير لحّام في بيروت وجورج خضر في طرابلس تقريبًا، ورسالتان من مرسيل مرقس (الأب إلياس حاليًّا) وغابي سعادة من اللاذقيّة، بفارق يومَين أو ثلاثة، تقول الشيء ذاته: أنّه يجب أن نقوم بحركة نهضويّة. التقوا ولم يكونوا يعرفون بعضهم بعضًا. وذلك في السنة الأولى في جامعة الحقوق في بيروت وكان لهم الهمّ ذاته، فأسّسوا الحركة. وانطلقت وأصبحت في كلّ مدن لبنان وسوريا وقراهما.

س- ماذا كانت مبادؤها منذ البداءة؟

ج- وضع الحركيّون الأوائل ستّة مبادئ، هي:

1-   حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة تدعو سائر أبناء الكنيسة الأرثوذكسيّة إلى نهضة دينيّة، ثقافيّة، أخلاقيّة، اجتماعيّة.

2-   تعتقد الحركة أنّ النهضة الدينيّة والأخلاقيّة تقوم باتّباع الفروض الدينيّة ومعرفة تعاليم الكنيسة. لذلك تسعى لنشر تلك التعاليم ولتقوية الإيمان المسيحيّ في الشعب.

3-   تسعى الحركة لإيجاد ثقافة تستوحي عناصرها من روح الكنيسة الأرثوذكسيّة.

4-   تعالج الحركة المشاكل الاجتماعيّة التي تتعلّق بالمبادئ المسيحيّة العامّة.

5-   تستنكر الحركة التعصّب الأعمى والطائفيّة السياسيّة، ولكنّها تعتبر أنّ التمسّك الواعي بالمبادئ الأرثوذكسيّة شرط أساسيّ لتقوية الإيمان ولإيجاد روابط أخويّة بين سائر الكنائس المسيحيّة.

6-   تتّصل الحركة بالتيّار الأرثوذكسي العالميّ وتتّبع عقائد الكنيسة الأرثوذكسيّة وتقليدها الحيّ، كما أنّها تساهم في تطوّرها المسكونيّ ورسالتها الإنسانيّة.

س- ماذا أراد الروح القدس من إطلاق الحركة في كنيسة أنطاكية؟

ج- لقد قلنا لمن يريد أن يكون مسيحيًّا، أنّه عليه أن يعرف كيف يصير مسيحًا ليستطيع أن يفعل شيئًا. فالمسيح هو الذي يفعل في كنيسته. إذا كلّ همّك أن تبرز وجه يسوع، أن تبحث عنه في كلّ مواضع سُكناه، يعني في الكتاب المقدّس، في الليتورجية، في وجوه إخوتك، وعندما تلتقي به، هو سيفعل فيك. ولكن ذلك كلّه يعني جهادًا لتتغلّب على طبعك، على خطاياك، على ضعفك. هذا ما أراد الروح القدس أن يقوله للكنيسة: إنّ كلّ شيء، في النهاية، هو في الحياة في المسيح، وكلّ الباقي يعطى ويزاد. وهو أعطى وأزاد، فأسّسوا أديرة، وأصبح بعض منهم كهنة، وبعضهم الآخر ألّف ونشر. من منّا يعرف هزالة البشر، وكوننا لا شيء، وينظر إلى الأعمال التي فعلها الله في هذه الكنيسة، ليس على يد هؤلاء الشباب ولكن بواسطة ذلك التيّار، لا بدّ من أن يتعجّب ويعترف بأنّ الله في وسطهم.

الأمر الثاني هو أنّ الكنيسة عائلة، شعب الله، وأنّه ضمن هذا الشعب هنالك مواهب متنوّعة، بمعنى أنّ أحدًا لا يمكنه أن يقول لآخر: لا حاجة لي إليك. وهذا يعني أنّ كلّ تقسيم في الكنيسة بين فئة الكهنة وفئة العلمانيّين ليس واردًا. وكما يقول بطرس الرسول في رسالته: "أمّة مقدّسة، كهنوت ملوكيّ". نكتشف من جديد أنّنا شعب واحد وكلّ واحد منّا هو حتمًا مسؤول في الكنيسة وعنها. المسيح هو رأس الكنيسة. المطران هو الناطق باسمها ويحافظ على إيمانها، إنّه المدبّر والمؤدّب. لذلك لا تستطيع أن تفعل شيئًا في الكنيسة إن لم تكن ببركة وبشركة مع المطران. أنت لديك مهمّة، لا يمكن للمطران أن يأخذ مكانك، ولا يمكن أن تأخذ أنت مكان المطران. وتاليًا، الويل لي إن لم أبشّر. والتبشير يكون في كلّ شيء، بافتقاد الفقير، بنشر المبادئ، بالتعليم، بالنشر، بالعمل المسكونيّ، بالحوار، بالخروج من الذات إلى الآخر. وباختصار أعتقد أنّه لا يوجد إلّا طريق القداسة. لا نولَد مسيحيّين ولكن نصبح مسيحيّين.

س- كيف كانت خبرة الحركة مع الشعب الأرثوذكسيّ بعامّة ومع السلطات الروحيّة وتقبّلهم تيّارَ النهضة هذا؟

ج- أعتقد أنّه في بداءة الحركة كان بعض المطارنة والبطريرك مأخوذين بها. لنأخذ الطرس البطريركيّ وهو رسالة من البطريرك آنذاك واعتراف بقانونيّة الحركة. في النقطة السادسة نقرأ: "إنّ هذا الاعتراف بقانونيّة الحركة يخوّلها: أن تساعد المسؤولين في نشر التعاليم الأرثوذكسيّة في سائر أنحاء الكرسي الأنطاكيّ (...)، أن تتمتّع بكلّ الحقوق المعترف بها من قبل السلطات المدنيّة للهيئات الطائفيّة (...)، أن تكون محترمة الجانب بصورة أنّ كلّ ما يمسّ حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة أو يعرقل عملها الدينيّ وانتشارها ما بين أفراد الطائفة الأرثوذكسيّة، يمسّ السلطة الروحيّة التي صرّحت لها بحقّ هذا العلم وهذا الانتشار".

الكنيسة قبلت، في البدء، بشخص غبطة البطريرك السنة 1946، أي بعد أربع سنوات على تأسيس الحركة، أن يحمل هؤلاء الشباب تيّار النهضة هذا. والمطارنة بعد ذلك حسموا الأمر في المجمع المقدّس. كان من الواضح أنّ الحركة كانت تعمل في كلّ أبرشيّة ببركة المطران. والبركة لم تُرفض أبدًا، ولكن التفاعل كان يختلف حسب الأشخاص وحسب التصرّفات، وما فعله الحركيّون أيضًا أنّهم هم أيضًا أخطأوا وتكبّروا. إذًا، المطران كان على حقّ أن يرفض التعامل معهم، بسبب خطايانا وخطايا غيرنا أيضًا. إذًا، التفاعل كان متفاوتًا. الشعب الأرثوذكسيّ السنة 1942 كان متشوّقًا، ولم يكن في كلّ بيروت كاهن واحد لديه المعرفة الكنسيّة الكافية. وكان الشعب متعطّشًا ويريد أن يعرف. وعندما رأى هؤلاء الشباب يعلّمون ويؤسّسون الجوقات وينشرون الكتب ويملأون الأديرة التي كانت فارغة لمدّة سنين طويلة، توجّه هذا الشعب طبيعيًّا نحوهم وقَبِلَهم. فقبول الحركة في أوّل عشرين سنة من تاريخها كان لأنّ هذا التيّار هو حركة كلّ مؤمن، أكنّا فيها أعضاء أو لم نكن. كانت مبدئيًّا مقبولة بشكل عامّ. ومع الوقت أصبح الكثير من شباب الحركة كهنة وصار بعضهم أساقفة. البطريرك إغناطيوس الرابع رافق الحركة وحملها منذ نشأتها، كان عضوًا فعّالاً فيها. أنا شخصيًّا عندما دخلت الحركة، وأنا طالب جامعيّ، كان غبطته مسؤولاً عن فرقتي لمدّة أربع أو خمس سنوات. وكذلك عدد آخر من المؤسّسين تكرّس في الكهنوت أو الرهبنة. في طليعتهم سيادة المطران جورج خضر الذي كان ولا يزال ملهم الحركة الكبير، وكذلك الأرشمندريت إلياس مرقس رئيس دير مار جاورجيوس في دير الحرف.

 قلائل هم المطارنة الذين هم اليوم في المجمع الأنطاكيّ ولم يرافقوا الحركة بشكل من الأشكال كأعضاء أو مسؤولين أو مؤسّسين أو مرّوا فترة من الفترات بفرق حركيّة وساهموا في نشاطاتها. إذًا، هذا الشيء غيّر الوضع. ففي السنة 1970 – 1974 أصبح هذا الدخول إلى المجمع من عناصر كانت، في هذا التيّار النهضويّ، في أساس التغيير. لذلك في بعض الأماكن يقولون إنّنا أصبحنا في المجمع. ثمّ أتت الحرب اللبنانيّة فأصبح هناك تقهقر، وكنّا نتساءل إذا كان المجمع قد أصبح هو الفعّال، وهل يوجد مبرّر لوجود الحركة؟ الجواب كان واضحًا بعد بضع سنوات من الحرب: الموضوع، اليوم أكثر من أيّ يوم، ليس تنظيمًا وإدارة، ولكنّه عيش المسيح على صعيد الشخص.

س- ما هي دعوة الحركة اليوم أن تقوم به كعمل الله في الكنيسة وفي العالم؟

ج- اليوم، إضافة إلى الشيء الأساس الذي هو السعي إلى القداسة وعيش الحياة في المسيح، نكتشف أكثر فأكثر ضرورة إبراز نمط جماعيّ مشترك على صورة الجماعة المسيحيّة الأولى. لا يكفي أن أعيش وحدي لا بدّ من أن نعيش سويًّا بعضنا مع بعض. وهنا يوجد تلاقي وتفاعل من قبلكم، ربّما هذا ليس جديدًا عندنا، ولكن توجد الآن حدّة وضرورة كبيرة.

الحركة مدعوّة إلى أن تكون منبرًا للحوار. في أيّامنا هذه، وفي الجوّ اللبنانيّ، كلّ واحد يريد أن يؤكّد نفسه برفضه الآخرين، إذ إنّ هناك تيّارات عديدة في الكنيسة الأرثوذكسيّة. دورنا هو، إذا عرفنا أن نكون متواضعين كثيرًا، أن نصبح محرّكًا للحوار وحافزًا لمن يرفضون الآخرين لكي يرجعوا إلى الحوار ويبقوا في الكنيسة بعضهم مع بعض. يجب أن نكون خدّامًا للوحدة في الكنيسة، لم نكن نعي هذا الشيء كثيرًا من قبل، إنّ ضرورته الملحّة اكتشاف حديث. الله أعطانا هذا الوعي. وأعتقد أنّ الله يعطينا الوعي أنّ في كنيستي لا يوجد أنت وأنا، بل كلّنا معًا. وإذا أحببنا نخدم أكثر إخوتنا ونغسل بعضنا أرجل بعض. الحقيقة والمحبّة لا يمكن أن يكونا منفصلَين. يُقال لبعض الحركيّين تعتبرون أنّكم تعرفون كلّ شيء، وتظنّون أنّكم معلّمون في الكنيسة، كنيسة في الكنيسة، نحن لا نريد أن نكون هكذا بل ما يطلبه الله منّا، نحن خطأة، ونريد فقط أن نكون خدّامًا للوحدة وغاسلي أرجل.

        ما يزيد الحركة عمقًا هو الخدمة الاجتماعيّة، أي خدمة الفقراء والمضطهدين. من هنا كانت المراكز الطبّيّة الاجتماعيّة التي أسّستها الحركة، وهي فعّالة جدًّا. من ناحية التعليم، هناك المنح المدرسيّة، وهناك الاهتمام بالعجزة والمرضى، والاهتمام بمواجهة مشكلة الهجرة عند الشباب. وهناك الآن فرق للمعوّقين الصمّ والبكم. توجد فرق في الحركة تهتمّ بأمثال هؤلاء وقرّرنا أن نقوم بمبادرات محلّيّة في الشام وحمص، وقرّرنا أن تكون المسؤوليّة عامّة، لأنّ هؤلاء الأشخاص هم منبوذون... نتّجه نحو الأخ المكسور. هناك اليوم بُعد جديد للتبشير. تاريخيًّا، كان عملنا يتمحور حول الرعيّة أو المدارس بعامّة. الآن نكتشف أنّ 80 إلى 90 بالمئة من الشعب الأرثوذكسيّ، كما هي الحال في سائر الكنائس، لا يأتون إلى الكنيسة، فكيف تصل إليه كلّ هذه الأمور. كيف نصل إلى كلّ الفئات؟ إنّ همّ التبشير اليوم وكأنّه يقع على عاتق هؤلاء الشباب الجدد الذي يملك وعيًا كبيرًا.

س- كيف ترى الحركة العمل المسكونيّ وما كانت مساهمتها فيه؟

ج- ابتداءًا من 1943 و1944 كانت في بيروت مجموعة القدّيس إيريناوس، التي كانت تضمّ عددًا من المسؤولين الحركيّين وأشخاصًا آخرين مثل الأب جان كوربون. أتذكّر أنّه كان محرّك الفرقة في البناء الذي أسكن فيه، وكان يدعوني لأجتمع معهم وكنت في سنّ السادسة عشرة تقريبًا. وقبل أن يكون هنالك مجلس كنائس، أطلقوا أولى اجتماعات حوار المحبّة والمعرفة، ليس عاطفيًّا، ولكن لنتعرّف جيّدًا بعضنا على بعض. وكلّ ما مرّ أحد في لبنان له علاقة بالعمل المسكونيّ كان يُدعى إلى الاجتماع. وهكذا منذ البدء، مثلما رأينا في المبادئ، هذا البعد المسكونيّ موجود، لذلك قامت هذه الاجتماعات. وعندما ظهر مجلس الكنائس لم يكن غائبًا عن نشاطاتنا. أذكر عندما كنت في سنّ الخامسة عشرة أرسلوني إلى مؤتمر في نيودلهي...

العمل المسكونيّ في الحركة كان له وما يزال مستويان: المستوى الأرثوذكسيّ ضمن الكنيسة الواحدة، وهي منظّمة سيندسموس للشبيبة الأرثوذكسيّة. وهي مجموعة حركات أرثوذكسيّة وليس شبابًا أرثوذكسيًّا بالمطلق. والحركة السنة 1953 كانت من المؤسّسين مع غير حركات أرثوذكسيّة في اليونان وفرنسا وأميركا... واستمرّ في قيادتها لسنين رئيس السيندسموس وأوّل أمين عامّ لها من أعضاء الحركة مثل ألبير لحّام وغابي حبيب وجورج نحّاس وميشال نصير وغيرهم أيضًا كانوا مسؤولين لسنوات عدّة.

ومن ناحية أخرى بقي لسنوات عديدة في مجلس كنائس الشرق الأوسط أعضاء من الحركة مثل غابي حبيب، وأيضًا في WSCF المنظّمة العالميّة للشباب المسيحيّ، وكانت مساهمتنا فيها حتّى يومنا هذا... لا نستطيع أن نعيش بمعزل عن الآخرين، برفض الآخرين، بعض الأحيان نقفل على ذاتنا. أمّا الانفتاح على الآخر فله شروط. يجب أن لا ننزلق إلى التوفيقيّة (syncrétisme) أو نقول لا فرق بين الأديان، فكلّنا واحد... فهذا خطر جدًّا. هناك انتماء إلى الكنيسة مبنيّ على مفهوم، على وعي، على عضويّة في جماعة، لست وحدك، إذ كما يقولون: مسيحيّ وحده يعني ليس بمسيحيّ، فلا يمكن للمسيحيّ أن يكون وحده. إذًا، بعملك المسكونيّ يمكن أن تكون رائدًا، ولكن أنت حامل كنيستك معك. وإذا أردنا أن نحافظ على المحبّة والحقيقة لنسعى بتواضع. وإذا اعتبرنا أنّ الحقيقة ملكنا نقصي الآخر، الحقيقة ليست ملكنا، إنّها عطيّة من الله. إذًا، يجب أن نفهمها بتواضع ونرى الآخرين كيف يفهمونها. ومع الحفاظ على تفسير كنيستنا يجب أن نقبل أن يسألنا الآخرون وأن نسألهم نحن أيضًا حتّى نصل بمساعدة الله إلى المرتجى. منذ سنوات كانت هناك مساهمة متواضعة للحركة في العلاقة مع السريان والأقباط والأرمن... أوّل لقاء أقامته الحركة في البلمند، قبل الحوار اللاهوتيّ، حيث أتى الشباب واللاهوتيّون واكتشفوا أنّ الخلاف الذي كان عمره 1500 سنة كان خلافًا لفظيًّا.

اكتشفنا أنّ الحائط الذي يفصل بين الكنائس لا يصل إلى السماء، وإذا صعدنا من ناحيتنا والآخرين من ناحية ثانية لا بدّ من أن نلتقي. فالوحدة التي تعطى من الله تكون مساهمتنا في تحقيقها أن نسعى إليها أوّلاً بعمل نهضويّ شخصيّ، عمل نهضويّ كنسيّ في كنيستنا وسعي حتّى نلتقي. ولكن إذا التقينا من دون العمل النهضويّ هذا، أعتقد أنّنا نضيّع وقتنا.

ما هو الوضع الآن؟ كلّ هذا العمل المسكونيّ العاطفيّ مثل أن نأخذ المناولة مع بعض فتنحلّ المشكلة، لا يمكن أن نقبله، كما قلتُ، لأنّه يوجد جرح، فإذا تناولنا مع بعض وبقي الجرح فلن نكون واحدًا. يجب أن نعي أنّ هنالك جرحًا ينزف، فإذا ضمّدنا الجرح من دون تنظيفه جيّدًا، فإنّ الجرح سيتفاقم وسيصعب شفاؤه. مهما كان الشوق إلى أن نتناول مع بعض من الكأس الواحدة يجب أن نقبل هذا الألم.

س- كيف تقيّم الاجتماعات المشتركة (مع الفوكولاري) التي قمنا بها حتّى اليوم وكيف ترى مستقبل علاقاتنا المشتركة هذه؟

ج- أعتقد أنّ علاقتنا مع الفوكولاري كانت مُرادة من الله. لم نخطّط لها. اكتشفنا أنّنا أخوة بالعمق. هنالك وحدة على مستوى عميق وليس سطحيًّا. هذا الاكتشاف هو سرّ يجب أن نحاول فهمه. لماذا هذه الأخوّة على الرغم من أنّ كلّ واحد منّا في كنيسة. في الحركتَين نجد السعي نحو العيش مع الربّ. اكتشفنا أيضًا الاختلاف وهذا الاختلاف مهمّ جدًّا لأنّنا هنا نفعل... ونريد أن يبقى كلّ واحد منّا واعيًا، وهذا ما يجب أن نقوم به الآن أكثر فأكثر، أي أن نفهم هذا الاختلاف. على كلّ واحد أن يكون له التواضع الكافي ليقبل أنّ الأشياء التي ليست عنده يمكنه أن يختبرها. وهذا ينطبق على الحركتَين، لأنّنا اكتشفنا الكثير عند الفوكولاري وأعتقد أنّ الفوكولاري اكتشفوا هم أيضًا بعض الأشياء في تطلّعات الحركة، ومنها هذه المسؤوليّة الكنسيّة الشاملة، الهمّ البشاريّ، إلخ... ونحن نلاحظ في حركة الفوكولاري – وهو من ميّزاتها – التأكيد على حياة الجماعة، المشاركة في الخيرات وغيرها، وأعتقد أنّ كلّ ذلك هو من وحي الروح. أعتقد أنّه يجب علينا أن نطوّر العمل الآن في هذا اللقاء بيننا، هنالك عمل مشترك، حان الوقت، وهناك تخطيط أن نقوم بشيء مشترك بخدمة مشتركة مثل العمل في الجنوب.

س- بعد أن عرضت علينا موضوع الحياة في المسيح حسب توافق آباء الكنيسة (consensus patristique) والذي لاقى استحسانًا واهتمامًا لدى الحركتَين، ما المكان الذي يعطيه آباء الكنيسة للحركات العلمانيّة اليوم؟

ج- في المفهوم الشرقيّ لا يوجد هنالك شيء اسمه علمانيّ أو حركات، الكلّ شعب الله. كلمة laïc لا تنطبق بالعربيّة، إذ هي تأتي من كلمة يونانيّة لاوس (laos) وتعني شعب، شعب الله. عند الآباء يوجد شعب الله، هناك كهنة وعلمانيّون... وشعب الله يفعل مشتركًا ضمن المواهب التي ذكرناها، هناك خدمة ومواهب. في أعمال الرسل عندما أرادوا أن يسمّوا الشمامسة، أتى بطرس الرسول مع الإخوة جميعًا، وعرض عليهم الموضوع وقال لنتداول به جميعًا، ولم يجمع الشيوخ وحدهم. ثم انتخبوا كلّهم، وبعد ذلك وضع الرسل الأيدي. نحن في حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة (MJO)، مع العلم أنّ أغلبيّة أعضائها هم من العلمانيّين لا يمكن أن تعتبر ذاتها بذاتها، ولكن بكلّ تواضع حركة كنسيّة، لذلك نجد الكثير من الكهنة في الحركة مسؤولين أو أعضاء عاديّين. وأعتقد أنّ المفهوم الذي جعل في الغرب وعيًا، ووعيًا في الحركات العلمانيّة، يتّجه اليوم إلى إعادة المفهوم الأوّل الذي ذكرنا. إنّه نموّ الفكر بعد الإصلاح في القرن الثاني عشر والثالث عشر، أن يُقال إنّه توجد كنيسة مُعلّمة وكنيسة مُتعلّمة، فهذا لا نراه في المفهوم الشرقيّ. يقول البطاركة الأرثوذكس في رسالة إلى البابا في القرن التاسع عشر عندما دعاهم إلى لقاء: عندنا الشعب كلّه هو الذي يحافظ على الإيمان. لذلك هناك مفهوم القبول (réception) في الكنيسة حتّى إنّ قرارات المجمع المسكونيّ مثلاً يجب أن تُقبل من الكنيسة ككلّ، ونرى هنالك مجامع سقطت مثل مجمع أفسس.

واضح عند الآباء في الشرق والغرب أنّ هنالك شعب الله وهو أمّة مقدّسة، كهنوت ملوكيّ، حتّى إنّه في القدّاس الإلهيّ الشعب يشترك في تقديم القدسات، هناك الآمين، وهي تأكيد. عندما يُرسَم كاهن أو مطران يقول المطران "مستحقّ" والشعب يجاوب "مستحقّ"، وإن لم يقل مستحقّ يكون هناك أمرٌ خاطئ. إذًا، هناك مشاركة كلّيّة حتّى في الخدم الأسراريّة. حتمًا لا يستطيع كلّ واحد أن يرسم أو أن يقول خذوا كلوا هذا هو جسدي أو يستدعي الروح القدس على القرابين لتصير جسد الربّ ودمَه. لكن الشعب ليس بمتفرّج، أنا لا أحضر أو أسمع القدّاس، بل أشترك في القدّاس، القدّاس هو اجتماع عائلة الربّ، عائلة الشعب كلّه من أموات وأحياء مع القدّيسين حول جسد الربّ والأسقف، أو الكاهن الذي ينتدبه الأسقف، والشعب الذي اجتمع، هناك توجد الكنيسة، بهذه اللحظة هو اللقاء، وهي موجودة وفي صيرورة مثل كلّ شيء في المسيحيّة هناك ما تقدّم وما سيصبح. نحن دائمًا في السعي ليأتي الله، الله دائمًا آتٍ، أتى ولكنّه آتٍ، حتّى في حياتنا الشخصيّة هذا يجعلنا لا نقع في اليأس. هذا هو الرجاء الذي فينا. وكما يقول الرسول يجب أن نؤدّي الحساب عن هذا الرجاء الذي فينا. أعتقد أنّ هذا ما نحن مدعوّون إليه.

حاوره بيار بعقليني

المشاركات الشائعة