الحركة والاحياء الليتورجيّ

 ريمون رزق

 

يؤكد المبدأ الثاني من مبادئ الحركة أنّها "تعتقد أنّ النهضة الدينيّة والأخلاقيّة تقوم باتباع الفروض الدينيّة". لذا اقتنعت الحركة منذ بدء انطلاقتها أنّه لا وجود للمسيحي بدون انخرط في الجماعة الكنسيّة، والمشاركة في طقوس الكنيسة، خاصّة الليتوجيا وسرّي المصالحة والشركة الشكريّة في الإفخارستيا. ففهم الحركيّون أنّ كلّ شطّط أو تباطؤ في ممارسة هذه الطقوس يعرّض الحقيقة الكنسيّة للخطر، ويمنع عيش ملئها.

 كانت تُختصر ممارسة الليتورجيا في معظم أبرشيّات الكرسي الأنطاكي عند تأسيس الحركة، على القدّاس الإلهي في الآحاد وخِدم الأعياد، خاصّة خلال أسبوع العظيم والفصح. وكاد حتّى الأتقياء بين الناس لا يعرفون شيئًا آخر (كصلوات السحر والغروب والنوم الكبرى وغيرها). أمّا خدمة القدّاس الإلهي، فكان يشوبها الانحرافات التالية: الإكثار من استعمال اللغة اليونانيّة في الترتيل، إمتناع الكهنة عن تلاوة الصلوات "السرّيّة" أي "الأسراريّة" بصوت عالٍ، منع مناولة الشعب أكثر من أربع مرّات في السنة، ممارسة الاعتراف بصورة جماعيّة وربطه حكمًا بالمناولة. وكان يوجد قلّة عزيزة بين الكهنة المؤهّلهين لتقبّل توبة الناس وتوجيههم نحو المصالحة.

وعت الحركة أنّ هذا الواقع يخلق هوّة شاسعة مع التقليد الشريف والتعليم الكنسي الأصيل، ودعت إلى التعاطي معه بجدّيّة فائقة. فكتبت مرارًا في مجلّتها، شارحة رأي الآباء الكبار في مناولة الشعب في كلّ قدّاس، وضرورة إقامة القدّاس بلغة مفهومة من الشعب، وتلاوة صلوات الأنافورا علنية، ورفض التلازم القصري بين الاعتراف والمناولة. وأعلنت أنّ هذا الشطط بالممارسة ناتج عن عوامل تاريخيّة فرضت ذاتها في عصور الإنحطاط، حيث مجالات المعرفة باتت ضئيلة.

اختبرت الحركة جمال الليتورجيا ومغزاها الروحي العميق من خلال اشتراك أعضائها بانتظام في كلّ الخِدم. نظّمت الجوقات وشجّعت الترتيل المفهوم وطالبت بالسماح بالمناولة في كلّ قدّاس. اعتبر المطارنة وبعض الناس هذه الطلبات "غير المألوفة" بمثابة هرطقات، ما استدعى من الحركة المزيد من الاستشهادات الآبائيّة لتبريرها. مع ذلك، لم تُقبَل الممارسات الجديدة-الأصيلة بسهولة. فاضطرّ مثلًا شباب حركي، في إحدى كنائس بيروت، الوقوف أمام الهيكل بعد دعوة الكاهن أن "تقدّموا بخوف الله"، والبقاء واقفين هكذا حتّى آخر القدّاس بدون أن يحظوا بالمناولة. حصل ذلك مرارًا في آحاد متتالية إلى أن خرج الكاهن، مع الكأس غير مغطاة وناولهم. ثمّ عمل الله فعله، فوصلنا إلى الأوضاع الحالية حيث المناولة متاحة للجميع.

ومارس الحركيّون الاعتراف بشكل دوري في مؤتمراتهم واجتماعاتهم العامّة، إذ كان معظمهم أُصيب بخيبة كبيرة بسبب مستوى الإصغاء والتوجيه الضعيفين لدى معظم كهنة الرعايا. فاضطرّوا في البداية إلى ممارسة هذا السرّ مع كهنة حركيّين كالأب جورج خضر أو الأب الياس مرقس أو غيرهما، لاختبار حلاوة المصالحة مع الله والناس، والإحياء الحقيقي التي تُحدثه التوبة.

وفهمت الحركة أنّ قدّاس الأحد الإلهي يؤمّن التلاحم مع المسيح القائم من بين الأموات وأنّ إعلان القيامة يتمّ في صلاة السحر، حيث يُدعى المؤمنين إلى "الخروج إليها" والسجود لها. ويتمّ أيضًا في صلاة السحر عيش أهم أحداث تاريخ الخلاص مع أعياد السنة الطقسيّة. لذلك انكبّ الحركيّون على ممارستها ودعوة الناس لاختبارها.

أفهمت المشاركة الدائمة في الخِدم الليتورجيّة، الحركيّين أنّهم جميعًا أعضاء مسؤولون عن كنيستهم التي يكوّنونها مع أسقفهم وكهنتهم في الاجتماع الإفخارستي. وفهموا معنى الكهنوت الملوكي الحقيقي، وأنّهم مشاركون بآمينهم ومبادلة السلام والبركة (بقولهم "مع روحك أيضًا") في إقامة الخِدم، وليسوا مجرّد مستمعين أو مشاهدين. من هنا دعوتهم إلى مشاركة فعليّة للعلمالنيّين في كلّ أمور الكنيسة، ووقوفهم وراء إيجاد مجالس الرعايا والأبرشيّة والبطريركيّة لكي تسود روح الشورى من خلالها.

وشمل التقيّد "بفرائض الكنيسة" إحياءً لممارسة الصوم. فاكتشف الحركيّون أنّ الصوم، إذا اقترن بالصلاة الدائمة وخدمة الآخرين الدؤوبة، يجعلهم يعيشون أخوّة حقيقيّة، ليس فقط مع المسيح، بل مع بعضهم البعض، ويُساهمون في تقديس الزمن، ويضحون في هذا الزمن وفي الأبديّة في آن معًا.

وفهمت الحركة أيضًا أنّ الليتورجيا لا تختصر في وقت إقامتها، بل تبتدئ قبل إقامتها وتستمر بعدها بواسطة حياة "ليتورجيّة"، تعطي نظرتنا لواقعنا والعالم والكنيسة منظارًا إفخارستيًّا. تبدأ الليتورجيا قبل الليتورجيا بالتذكّر بحضور الله الدائم وبالبُعد الأخروي لحياة المؤمن ("تعالى ياربّ يسوع، تعالى")، وبسلوك حياة توبة وتمثّل بالمسيح. وتستمرّ بعدها بالانتقال من سرّ المذبح إلى سرّ القريب.

 

المشاركات الشائعة