المؤسّسات في الكنيسة

ريمون رزق


دفعني واجب التعزية إلى الدخول مؤخّرًا إلى إحدى الكنائس غير الأرثوكسيّة. وإذ وصلت إليها باكرًا قبل بدء خدمة الجنّاز، تجوّلت فيها ووقع نظري على مناشير موضوعة على طاولة عند مدخل الكنيسة. فسألت إذا كان يمكنني الاطّلاع عليها، وإذ قيل لي إنّها للتوزيع العام، أخذت واحدة منها. فوجدت أنّها نوع من التقرير عن أوضاع الرعيّة والأبرشيّة المنتمية إليها، الأوضاع الروحيّة والتعليميّة والاجتماعيّة والماليّة. استوقفني اهتمام القيّمين على الرعيّة والمطرانيّة لوضعهم في متناول المؤمنين وصفًا مستفيضًا لأوضاع الجماعة التي تجمعهم. استوقفتني بخاصّة التقارير الماليّة من ميزانيّة وموازنة وتفاصيل مصادر التمويل ونوع المصاريف، والشفافيّة في التعامل التي تشير إليها.

فتسألت لماذا لا أجد الشيء ذاته في كنيستي، حيث لم يطّلع على مثل هذه التقارير، إن وجدت، إلاّ المسؤول و"المقرّبين" منه، وتُحجب كلّيًّا عن باقي العباد المدعوّين في العهد الجديد أنّ يكون لهم "قلب واحد ونفس واحدة... (وأن يكون) عندهم كلّ شيء مشتركًا" (أعمال 4: 32). في عصر يطلب من المؤسّسات الدنيوية مزيدًا من الشفافيّة والتعاون بين العاملين فيها، نرى أنّ الكنيسة، المفترض أن تكون في طليعة مَن يدعو إلى مثل هذا التعاون وهذه الشفافيّة، تبدو كيانًا هرمًا ينتمي إلى القرون الوسطى أكثر منه إلى هذا العصر.

لا بدّ هنا من التمييز بين أمور الكنيسة الإيمانيّة وأوضاعها على أرض الواقع. الأسقف هو بلا أدنى شكّ مَن يسهر على إعلان الإيمان واستقامته، هذا الإيمان الذي "يحفظه الشعب"، حسب عبارات منشور البطاركة الشرقيّين في جوابهم في السنة 1848على الرسالة الموجّهة إليهم من قبل البابا الرومانيّ. ويضمن أساقفة المنطقة (البطريرك والمجمع المقدّس) استقامة إيمان كلّ مطران، وعليهم تقويمه إذا خرج عن الطريق الرسوليّ في تعليمه، وعن الإنجيل في أخلاقه. لكن لا نرى ذلك حاصلاً إلاّ نادرًا في كنيستنا وحتّى في كنائس العالم الأخرى. لذلك كان تجريد البابا فرنسيس أحد كرادلته مؤخّرًا من درجته الكهنوتيّة مثالاً بهيًّا نرجو التشبّه به.

أمّا الأوضاع التي "على الأرض"، فتشمل حياة الرعايا والأبرشيّات العمليّة، والأوقاف والموسّسات التي تعمل باسم الكنيسة. رأيت، قبل الولوج فيها، أن أسترجع ما قالته في المسيحيّين الرسالة إلى ذيوغنيطوس، المكتوبة في أواخر القرن الثاني. تقول إنّهم "لا يختلفون عن سواهم من أبناء البشر في الوطن أو اللغة أو طريقة العيش... يحترمون العادات المحلّيّة بكلّ ما يختصّ بالملبس أو الطعام أو طريقة العيش، ولكنّ أسلوب معيشتهم الملائكيّة يكاد لا يُصدّق. يسكنون المدن كأنّهم غرباء عنها. يتمّمون كلّ واجباتهم كسائر المواطنين، ويتحمّلون كلّ شيء كمسافرين... يشاركون طعامهم مع الجميع، ولكنّهم لا يشاركون فراشهم... هم في العالم، ولكنّهم لا يعيشون بمقتضاه. يجدون أنفسهم بالجسد، ولكنّهم لا يعيشون للجسد. يقضون أيّامهم على الأرض، ولكنّهم مواطنو السماء. يطيعون القوانين المرعيّة، ولكنّهم يتقيّدون بأكثر منها في حياتهم الخاصّة. يحبّون جميع الناس، والناس تضطهدهم... إنّهم فقراء، ولكنّهم يُغنون كثيرين"[1].

الرعيّة: نواة الوجود المسيحيّ الجماعيّ

يدلّ نصّ هذه الرسالة أنّ حياة المسيحيّن الأوائل كانت تختلف بأمور كثيرة عن أوضاع رعايانا الراهنة. ويبلغ هذا الاختلاف حدًّا يجعل المرء يتساءل أحيانًا إن كانت الجماعتان ملتزمتان بالرؤية الإنجيليّة الواحدة. عند الأوائل، كلّ شيء متمحور حول هذه الرؤية، المعاشة في واقع الحياة اليوميّة، انطلاقًا من اجتماعات تُقام في بيوت متواضعة. أمّا عندنا فكثيرًا ما تنحجب هذه الرؤية وراء تشعّب طقوسنا وعظمة كنائسنا، وطغيان المؤسّسة على المواهب في الكنيسة. لماذا هذا التباين؟ ألم ننبع كلانا من مشارب الكرازة الرسوليّة الواحدة؟ ألم يهبّ علينا الروح القدس الواحد؟ ألاّ نتمثّل بوجه يسوع المجيد والدامي الواحد؟

قال المثلّث الرحمة البطريرك أغناطيوس الرابع (هزيم)، في إحدى محاضرته إنّنا "نأخذ اليوم الروح القدس رهينة"، ولا نسمح له أن يهبّ حيثما يشاء، وإنّ علينا "إطلاق حرّيّة الروح القدس في الكنيسة»[2]. وقال في مكان آخر:"إنّ الروح القدس هو الجِدّة الفاعلة في العالم. هو حضور الله معنا (رؤيا 8: 6). من دونه، يبقى الله بعيدًا، والمسيح في الماضي، والإنجيل أحرفًا ميتة، والكنيسة مجرّد مؤسّسة، والسلطة تسلّطًا، والبشارة دعاية، والعبادة مجرّد ذكريات، والعمل المسيحيّ مناقبيّة عبيد. ولكن، في الروح، ينتفض الكون، ويدخل الإنسان في عراك مع الجسد، ويظهر المسيح القائم من بين الأموات هنا وثّمة، ويصبح الإنجيل قوّة حياة، والكنيسة تعني الشركة الثالوثيّة، والسلطة تصبح خدمة تحرّر، والشهادة عنصرة، والقدّاس الإلهيّ ذكرى واستحضارًا، ويتألّه العمل الإنسانيّ»[3]؟ عبارات نبويّة لم نعد نسمعها كثيرًا في أيّامنا!، إذ تكتفي عظاتناغالبًا بالكلام الطوباويّ (أو السياسيّ) الذي لا يُلزمنا بشيء.

مَن يقارن أوضاع الكنيسة في أيّام المسيحيّين الأوائل بما آلت إليه أمورنا اليوم، يجد تشابهًا واختلافًا في آن. ثمّة تشابه كبير في كوننا نعيش في عالم متعدّد المشارب، يغوص في علمنة وعولمة ورفض للقيم المسيحيّة. وقد أصبح المسيحيّون فيه الآن أقليّة معرّضة، هنا وثمّة، لاضطهادات، ليست دومًا دمويّة، بل مزدرية لمعتقدنا وتقاليدنا وتعاليم آبائنا. هذا هو وجه التشابه مع عالم الأوائل الذين كانوا "يحبّون جميع الناس، والناس تُضطهدهم"[4].

أمّا التمايز فيكمن في ميزة الأوائل بأنّهم أدركوا أنّهم أُحبّوا حتّى الموت فأحبّوا بدورهم، ودشّنوا نمط حياة مبنيًّا على هذه المحبّة. أذهل الوثنيّين هذا النمط الجديد من الحياة المرتكز على شعور عميق بالأخوّة بين البشر لأنّهم جميعًا أبناء إله واحد. رأوا في المسيحيّين أناسًا مثلهم لكنّهم يحبّون بعضهم البعض حقًّا، ويتشاركون في كلّ شيء في وحدة معاشة على أرض الواقع، لا تعرف أيّ فرق بين أغنياء وفقراء، أسياد وعبيد، إذ كلّهم يعتبرون أنّهم إخوة في إيمانهم بهذا ال"كريستوس" الذي مات موتًا شنيعًا على الصليب. فكان يقول الوثنيّون بانزهال: "أنظروا إليهم كم يحبّون بعضهم بعضًا"، بينما هم، أي الوثنيّين "يبغضون بعضهم بعضًا"، على حدّ قول ترتليانوس الإفريقيّ[5].

أين رعايانا من هذا الجوّ العائلي المحبّ، المشارِك والخدوم؟ أين وعي "مؤمنينا" أنّهم كنيسة الله. ألا تختصر عندهم عبارة "الكنيسة" على مَن يرعاها (الأساقفة)، أو المكان الذي يستضيف اجتماعاتها (بيوت الكنيسة)، كما اعتادوا على تسميتها؟ هل يعي الإكليروس والعلمانيّون أنّهم مشتركون بالكهنوت الملوكيّ ومسؤولين معًا عن كنيسة الله التي يشكّلون؟ هل الفقرأء فعلاً أسياد في رعايانا؟ أين رعايانا الكبيرة، وكنائسها "الفخمة المتشامخة"، من "بيوت الكنسيّة" المتواضعة؟ كيف يمكن لدور عبادتنا أن تؤمّن جوًّا عائليًّا وتشجّع التعامل المحبّ بين الآتين إليها؟ ليست المسيحيّة ديانة أفراد بل أشخاصًا في تواصل مع بعضهم البعض. إن لم يُؤمَّن لهم هذا التواصل العضويّ، خاصّة أثناء عبادتهم، يبقى انتماؤهم الروحيّ سطحيًّا، غير متجسّد في جماعة محبّة وخادمة. علّمنا آباؤنا أنّ لا خلاص لأحد بدون إخوته. فأين يلتقيهم في العمق في أبنية كنائسنا التي تتزاحم في العظمة والحجم، صورة لكبريائنا ورغبتنا "بالأبّهة" وشعورنا بالتفوّق على الآخرين؟ و"الحبل على الجرّار"، إذ يزداد باطّراد عدد الكنائس الكبيرة في ديارنا، ولا أحد من المسؤولين ينبّه أنّ الكنيسة الصغيرة وحدها يمكنها احتضان المصلّين وصهرهم إلى جماعة واحدة. مَن ينظر إلى تاريخنا، يجد أنّه كان يوجد في القسطنطينيّة مثلاً بضعة كنائس كبيرة الحجم، دلالة على العظمة الإمبراطوريّة (آيا صوفيا وكنيسة الرسل القدّيسين) وأن معظم الكنائس الباقية كانت كنائس أحياء صغيرة.

لا بدّ أنّ حجم "بيت الكنيسة" يسهّل التواصل بين أبناء الكنيسة. لكن لا بدّ أن تُبرز إقامة الخدم أيضًا كلّ ما يعزّز الشعور بالإخوّة ويجعل الحاضرين يعون أنّهم يشاركون فعلاً بآمينهم في هذه الخدمة وكلّ ما يحدث فيها أمامهم. ولا بدّ أيضًا أن يكون لكلّ رعيّة مجلس يسوس مع كاهنها شؤونها ويسهر على تعليم أولادها، ورعاية شبابها وكهولها، ومعاضدة فقراءها، وتنسيق مواقفها السياسيّة إن وُجدت ليؤمّن حضورًا محبًّا وخادمًا في محيطها. وعلى المجلس أن يُشرك جميع أعضاء الرعيّة، ليس فقط بالنشاطات بل أن يُعلمهم بواسطة تقارير دوريّة عن مشاريعها وماليّتها.

الأبرشيّة والمقام البطريركيّ

وما يُقال هنا عن الرعيّة ينطبق أيضًا على الأبرشيّة والبطريركيّة. عليهما أن تُبقيان المؤمنين مطّلعين على أحوالهما بواسطة تقارير منتظمة تبيّن موازنتهما وميزانيّتهما، وموازنة وميزانيّة كلّ مؤسّسة تابعة لهما، وكيفيّة إنماء أوقافهما، وتسألانهم أن يساهموا بالفكر والصلاة من أجل حلّ أيّ مشكلة تتعرّض لهما وتهدّد وحدتهما، بدل أن يعرفوا أخبارهما في الصحف وعبر أساليب التواصل الاجتماعيّ. بهذا أيضًا يعبّر الأسقف أو البطريرك عن محبّتهما واحترامهما لأبناء شعب الله المؤتمنين عليهم من الله. لو طُبقت الأنظمة الأنطاكيّة وأُنشأت المجالس ودُعيت بانتظام مؤتمرات الأبرشيّات والمؤتمر الأنطاكي، لكانت قد سهلت المهمّة، إذ كان عدد من المؤمنين، المنتخبين أو المعيّينين في هذه الهيئات، سوف يسهّل هذه المهمّة على المسؤولين، ويؤمّن تواصلاً ناجعًا مع باقي المؤمنين والمجتمع المحيط.

ضرورة ذكر المال في تلك التقارير ليس أمرًا ثانويًّا، لأنّ "موضوع المال في الكنيسة ذات بُعد روحيّ. المال هو الصنم الأكبر، وإذا لم نتغلّب عليه في مدرسة المحبّة التي هي الكنيسة فأين نتغلّب عليه؟"[6]. المشاركة والمفاتحة في أمور المال وكيفيّة صرفه ومطابقة هذا الصرف مع القيَم الإنجيليّة تعبير عن الوحدة الحقيقيّة التي تضمّ المؤمنين في الكنيسة إلى بعضهم البعض وإظهار لها. مَن يحفظ لنفسه مال الكنيسة ولا يقدّم حسابًا عنه يتصرّف في ناحية من النواحي كحنانيا وسفيرة (أعمال الرسل 5)!

مؤسّسات الكنيسة

إنّها الأوقاف والهيئات التعليميّة (مدارس وجامعات) والاجتماعيّة (مستوصفات ومراكز طبيّة إجتماعيّة) والطبيّة (مستشفيات) وغيرها.

ما يجمع بينها جميعًا أنّها وُجدت للمساهمة في رسالة الكنيسة تجاه المجتمع والعالم "لا تطلب ما لنفسها بل تسعى قبلة ربّها بالخدمة... عليها أن تفيض عناية ورعاية ورفقًا وانحناء وتضحيّة وتضميد جراح وإيواء وتعزية وانتشالاً من العزلة والغربة والضيق"[7]. فالمؤسّسة في الكنيسة وسيلة لا غاية. وعليها كوسيلة أن تعمل حسب أفضل معايير العلم والإدارة وأحدثها، وتؤمّن نتاجًا وريعًا كافيًا، على الأقل معادلاً للمؤسّسات المشابهة العاملة في العالم، وتسهر على تأمين جوًّا سليمًا يشعر العاملون فيها أنّهم ليسوا مجرّد أجراء بل معاونين ومشاركين في المسؤوليّة، كما هو الحال الآن في أنجح المؤسّسات الدنيويّة. وعليها أن تحافظ على استقامة العلاقات مع كلّ مَن تتعامل معه. أضف إلى ذلك، أنّه يُطلب من القيّمين على كلّ المؤسّسات في الكنيسة أنّ يكونوا في طليعة العارفين في ميادين عملهم، وتكون لهم معرفة كافية والتزامًا بالمبادئ الإنجيليّة، وأن يتخلّقوا بأخلاق لا يشوبها شائب. أشكّ أنّ هذا ينطبق على كلّ القيّمين على مؤسّساتنا، وإلاّ لما سمعنا من آن إلى آخر أخبارًا عن فضائح واختلاسات وسوء تصرّف.

وعلى المسؤول الأعلى عن تلك المؤسّسات (المطران في الأبرشيّة والبطريرك في كنيسة أنطاكية) أن يسهر على حسن تمييز مواهب مَن يدير المؤسّسات، وأن يتسلّح باستشارت وافية من أهل العلم والخبرة والمصداقيّة والنزاهة والمعرفة قبل اختيارهم. وعليه أيضًا أن يرى أن يُستعمّل الريع المالي، إضافة إلى تطوير هذه المؤسّسات، للعناية بالفقراء والمحتاجين بموجب قوانين الكنيسة التي ينصّ إحدها أنّه "يجب الاعتناء براحة الأرامل والفقراء والمسافرين (في أيّامنا المهجّرين) منعًا لانزعاجهم، ولا يجوز لأحد أن يحتجز شيئًا من أموال الكنيسة لنفسه"[8]، مهما ارتفع شأنه. والمساعدة أيضًا على مساندة المؤسّسات التعليميّة التي لا تجني ريعًا كافيًا يسمح لها بمدّ الطلبة المحتاجين بالمعونة، فتجعلها متمكّنة من تسهيل مهمّة الأهل المغلوبين على أمرهم الذين لا يستطيعون دفع الاقساط. على الكنيسة أن تجنّد كلّ إمكانيّاتها لتفادي الأوضاعً المأساويّة كالتي نشهدها من وقت إلى آخر.

فهل هذا هو واقع كلّ مؤسّسات الكنيسة في المدى الأنطاكيّ اليوم؟ ألا يستحي يسوع بنا عندما يشاهد طفلاً لا نعلّمه، أو مريضًا لا نعتني به كسامريّ المثل الإنجيليّ؟ ألا يستحي بنا حين تكثر الإشاعات والأخبار حول سوء إدارة بعض مؤسّساتنا وأحاديّة القرار فيها بدون سابق بحث واستشارة وتدقيق؟

الأوقاف وتنميتها

بالرغم من قيام البطريركيّة وبعض الأبرشيّات، في سني العهد البطريركي السابق الأخيرة، بمشاريع مهمّة (مدارس، جامعات، مستشفيّات، عقود استثماريّة)، بقي الشعور العام السائد لدى الأرثوذكسيّين، بل زاد في الآونة الأخيرة، أنّه مع كون الكرسيّ الأنطاكيّ غنيّ جدًّا بالأوقاف، لم تعتمد الإدارة الكنسيّة منهجيّة واضحة وثابتة في التعاطي معها، ولم تُعلم أبنائها عن مساعيها في هذا الصدد. لكنّ تعاطيها مع الأنظمة التي سنّتها خلال الستّين السنة الماضية، من وضع وتعديل وعدم تنفيذ متكرّر، لا يشجّع لبناء الثقة المرجوّة بين الراعي والرعيّة.

فما العمل؟ هل نحن بحاجة لكتابة مزيد من الأنظمة والقوانين، علمًا أنّ "قانون المجلس الاقتصاديّ والإنمائيّ" وُضع في أيّام البطريرك أغناطيوس الرابع الراحل، لا يزال ينتظر إعادة إحيائه ليرسم سياسة إنمائيّة مبنيّة على مبادئ واضحة يتّفق عليها المجمع المقدّس، ويمكت تلخيصها بالبنود التالية:

1- إعادة التأكيد أنّ المؤمنين هم الأوقاف الحقيقيّة في الكنيسة لأنّ الكنيسة هي كنيسة أحياء وليست كنيسة أموات. وأنّه يجب التعاطي معهم بشفافيّة وجعلهم يعون مسؤوليّاتهم إلى جانببطريركهم وأساقفتهم وكهنتهم في الاهتمام بشؤون بيتهم الواحد الذي هو كنيسة المسيح. دعوة المؤمنين إلى الاشتراك في ورشة الكنيسة هو عمل رعائيّ بامتياز، إذ يفتح لهم المجال لممارسة وصيّة الخروج من الذات الإنجيليّة والمساهمة بهذه الورشة بما أعطاهم الله من وزنات، ماديّة أو علميّة. تولّد هذه الدعوة الثقة عند المؤمنين، وتعيد إليهم الفخر بالانتماء إلى كنيسة تعرف ما تريد وتخطط للوصول إليه.

2- إعادة التأكيد أنّ الكنيسة وُجدت لخدمة شعب الله والبشر، ليس فقط روحيًّا، بل أيضًا في حاجاتهم الحياتيّة اليوميّة، وأنّ كلّ إمكاناتها يجب أن تسخّر لهذه الغاية. لذلك لا مفرّ من بحث جديّ متواصل عن حاجات الناس والاستماع إليهم في طور تحديدها.

3- إعادة التذكير أنّ "كلّ شيء بيننا مشترك"، والسعي إلى كسر مبدأ "مال الرعيّة للرعيّة" (والأبرشيّة للأبرشيّة) السائد في كثير من الأمكنة، فلا تساهم الرعيّة الغنيّة في ميزانيّة الرعيّة الفقيرة، ولا تعطي إلاّ نادرًا نسبة من مدخولها إلى مقرّ الأبرشيّة المنتمية إليها، وكذلك تفعل الأديرة الموجودة في الأبرشيّة. إذا كان الوضع هكذا في معظم الأبرشيّات، فماذا نقول عن مساهمة الأبرشيّة الغنيّة في ميزانيّة الأبرشيّة الفقيرة والمشاريع الأنطاكيّة المشتركة، إذ لا وجود لها إلاّ نادرًا جدًّا؟ يحتّم علينا مفهوم الوحدة الكيانيّة بين الأبرشيّات وكون كل واحدة منها وجميعها كنيسة الله التي في أنطاكية وفي العالم، أن نترجَمه تكاملاً بين الرعايا والأبرشيّات لخدمة شعب الله.

4- إعادة التأكيد على أولويّة خدمة المستضعفين من أبناء الرعيّة والذين يعيشون في محيطها بصرف النظر على دينهم أو انتمائهم الوطنيّ. هم أولى باهتمام الكنيسة وبمواردها. ولن تكون المساعة فقط بسدّ الحاجات الماديّة بل بالاهتمام بالنواحي الطبيّة والتعليميّة والتوظيفيّة والسكنيّة والاجتماعيّة عامّة.

5- البحث الجدّي في كيفيّة مساعدة المهجّرين من بيوتهم، والكثيرين الذين وصلوا إلى القناعة أن الهجرة خارج أوطانهم هي الحلّ الوحيد لحالة عدم الاستقرار الذي يعيشون وخوفهم على مستقبل أولادهم. ألا يجب أن نُنشأ، إلى المساعدات الآنيّة، والمشاريع الإسكّانيّة التي لا بدّ من إطلاقها وتشجّع ربمّا على عدم الهجرة، حلقة ذهبيّة بين أبرشيّات الوطن وأبرشيات الانتشار لتسهيل استقبال وتأقلم الذين يهاجرون؟

8- ضرورة اللجوء إلى أساليب الإدارة الحديثة وأدواتها للسهر على الأوقاف والمؤسّسات وتنميتها. تستدعي الإدارة الحسنة وجود أناس يكرّسون كل وقتهم للعمل، وهيئات استشاريّة تكلّف بالدراسات اللازمة، إلى جانب المجالس التوجيهيّة التخطيطيّة التي تضمّ المتطوّعين المؤهّلين، الكثيرين في أوساطنا رغم ما يقول البعض عكس ذلك، فيعطون بعضًا من وقتهم وخبرتهم في الموافقة على المشاريع  والإشراف على تنفيذها.

أريد أن أختم هذا المقال باستشهادي مرّة أخرى بالمثلّث الرحمة البطريرك أغناطيوس الذي قال السنة 1960، وكان لا يزال أرشمندريتًا، في صفات كلّ مسؤول ومدير:

"الإدارة ككلّ أمر كنسيّ رفيع تتطلّب مواهب خاصّة لا تأتي بطريقة سحريّة، بل بالتدرّب والتعليم والإخلاص. ومن هذه المواهب، إلى جانب حسن المعاملة، معرفة الأمور معرفة علميّة حسابيّة تخلو تمام الخلو من العاطفة اللعوب والمشاعر المتقلّبة والاعتبارات الاعتباطيّة. المسؤول إداريًّا شخص متقشّف مستعدّ كلّ الاستعداد لإنكار ذاته كي يرتفع العمل ويعلو... بدون هذا الانكار ينقلب المخدوم خادمًا، والمفيد مستفيدًا، والمثمر مستثمرًا. وهناك موهبة ثانية عند المدير الحقيقيّ، هي الشجاعة التي هي ابنة المحبّة من جهة وإنكار الذات من جهة أخرى... المحبّة لا تعرف الخوف. المدير الذي يخاف على نفسه ليس شجاعًا، وليس بالتالي محبًّا لعمله... الشجاعة محك الإخلاص في الأعمال الإداريّة، وتقتضي الحزم... عندما تقضي المصلحة "بتسويد الوجه"... أمّا الصفة الإداريّة الثالثة فهي وضوح في المعرفة والمقدرة على التنفيذ... ليس من إدارة بالمعنى الصحيح إلاّ حيث التصميم والخطّ المرسوم والسياسة المقرّرة".

وينتهي البطريرك الراحل إلى طرح بعض التساؤلات التي لا تزال جديرة باهتمامنا اليوم، ألا وهي: هل يعكس واقعنا بالإجمال العناصر الإداريّة المذكورة؟ أين تدريبنا للطاقات؟ ما هي الخطوط المرسومة وما هي الوسائل الفعّالة المستخدَمة في الواقع لإيصالنا إلى حيث يريد الله؟ ما خير السبل إلى التعبير عن تنظيمنا؟ هل المناخ عندنا مناخ فعل وعمل؟ هل يسجّل تاريخنا منذ سنوات تقدّمًا وتوسّعًا يجعلاننا نركن إلى مجمل عناصر إدارتنا؟".

لم يُعطي أجوبة على أسئلته هذه، بل نبّهنا إلى أنّ "الإنسان لا يشفى من مرضه إذا لم يعرف أنّه مريض ويسعَ إلى الدواء، هذا إذا كان بالفعل ينوي الشفاء"[9]. فهل نريد الشفاء فعلاً؟

 



[1]  الرسالة إلى ذيوغنيطوس، 5.

[2] مقابلة مع غبطته في SOP، 1984.

[3] محاضرة لغبطته أُلقيت في باريس، 1987.

[4]  الرسالة إلى ذيوغنيطوس، 5.

[5]  كاتب مسيحيّ بربريّ عاش في قرطاجة (160-220).

[6]  "الكنيسة الأنطاكيّة الأرثوذكسيّة اليوم"، جورج نحّاس، في أنطاكية تتجدّد، منشورات النور، 1992، ص. 389.

[7]  "مؤسّسات الكنيسة"، شفيق حيدر، في أنطاكية تتجدّد، منشورات النور، 1992، ص. 397 و398.

[8]  القانون العاشر  من رسائل القدّيس ثيوفيلوس الاسكندري والذي قبلته المجامع المسكونيّة اللاحقة.

[9]  مجلّة النور، العددان 1 و2، 1960

المشاركات الشائعة