أتحبّني؟ إرع خرافي!

 ريمون رزق


السؤال يُعاد ثلاثة مرّات، وكأنّ الربّ يريد تذكير بطرس بنكرانه له المثلّث، ويدعوه إلى التوبة بتأكيده لمحبّته له. 
يسوع يسألني أنا أيضًا: يا بنيّ أتحبّني؟ هو واقف أمام باب قلبني يستعطي محبّتي. هل سوف استجيب له؟ أو أستحي أن أفتح له الباب لكثرة أوساخي والاهتمامات العديدة التي تملىء قلبي.
الحياة المسيحيّة قصّة حبّ. لا تكريس ولا مسؤوليّة ممكنة قبل أن أقول نعم على سؤأله. نعم أحبّك، فإعِن قلّة محبّتي. تلاحظوا أنّي وضعت عبارة محبّة بدل الإيمان لأنّها هي تؤدّي إلى الإيمان، وهي أمّ كلّ الفضائل، وهي أعظم، يقول اللآباء، من الصلاة وسائر الفضائل.

الخطوة الأولى إذًا للقائد أن يقول نعم ويتمّم ما تقتضيه هذه النعم. هكذا قالت والدة الإله، فولدت المسيح. ونحن إن قلنا نعم تعالى، وسمعنا ما يريد أن يقوله لنا، وتبعناه حيث يدعونا، يمكننا أيضًا أن ندعو الناس إليه، ونولده للعالم، ونجعل الناس يعترفون بوجوده من خلال محبّتنا لهم، ويعرفون من خلال تصرّفاتنا المحبّة أنّه أحبّهم حتّى الموت ومادد يده لهم.

هذه "النعم" تتطلّب من القائد أن يفتّش على يسوع في كلّ مواضع سكناه ويكرس حياته له، يكتسب فكره ويمتثّل به،. فينقص آناه وينمو المسيح فيه. وبعشرة المسيح هذه، يقتحم العالم، وفرقته.

أن نعي أنّنا نعيش في حضرة الله الدائمة. 
على القوّاد أن يعوّدوا ذواتهم على ذكر الله الدائم، وأنّهم موجودين دومًا في حضرته تعالى، وأن يسلّموا عليه مرارًا أثناء النهار، ويختلوا به وبكتابه، ويتحدّثوا معه. إذا وعوا أنّهم دومًا في هذه الحضرة، يتعوّدوا على اتّخاذ المواقف والتصرّفات اللائقة بها. بقيت عندنا عادات مثل كلمات: يا ربّ، إنشاء الله، التي نردّده بدون إعطائها حقيقة مضمونها. فالنحييها، ونتعوّد، أمام كلّ مشكلة وبدون مشكلة أن نقول طبيعيًّا: يا ربّ ارحم!، يا يسوعي ارحمنيّ.

أن نصبح محبّة
الصلاة الوحيدة التي علّمنا الربّ يسوع هي الأبانا. تُرى لماذا اكتفى بها؟ أليس لأنّها تلخّص كلّ ما أتى يرشدنا إليه؟ وقد أحاطت الكنيسة الأولى هذه الصلاة باحترام شديد وهيبة خاصّة جعلتها لا تسلّمها إلى الموعوظين إلاّ بعد عمادهم، إذ كانت تعتبر أنّه من الجرأة بمكان أن يدعو المرء الله "أبانا" إن لم يكن يعيش أو على الأقل يسعى أن يعيش حياة توهّله لذلك. وقد أكّد النيصصيّ هذا المفهوم إذ قال إنّه شيء خطير جدًّا أن ندعو الله أبًا قبل أن نقوّم حياتنا، أن "نقلبها" مغيّيرين مفاهيمنا كلّيًّا، أيّ بعبارة أخرى، قبل أن ندخل في طريق التوبة، التي هي بالفعل "انقلاب" كما تعني العبارة اليونانية "metanoia" المستعملة في الإنجيل  للإشارة إليها.
كنيسة أنطاكية تعتبر الصلاة "الربيّة" "شرعة الأخلاق المسيحيّة"، إذ مَن لا ينتقل من الإنسان القديم إلى الإنسان الجديد، ولا يطابق حياته بكلّ متطلّبات هذه الصلاة لا يستحق أبدًا أن يُدعى مسيحيًّا، وبالتالي قائدًا لآخرين..

أن نصبو إلى التألّه
يلفتني مطلع صلاة "أبانا" التي هي الصلاة الوحيدة التي أعطانا يسوع، هي عبارة "أبانا". يريدنا الربّ إذًا أن ندعو أباه أبانا.، وبالتالي يريدنا أن نصبح أبناء الله، أيّ إخوة له. هذا هو هدفه: أن نكون أبناء يعني أن نكون إخوة ليسوع. وإن أصبحنا أبناء لله وإخوة ليسوع لا بدّ أن ندخل في علاقة صميميّة معهما، وأن نصير من "عائلتهما"، أو بعبارة أخرى، أن نصبح، بشكل من الأشكال، آلهة بالنعمة التي يغدقونها علينا باستمرار في الروح القدس. من هنا التأكيد منذ أيّام المسيحيّة الأولى، من قبل عدد من الآباء (اقليمنضس الإسكندري، وإيريناوس، وكثيرين بعدهم) ، أنّ "الله صار إنسانًا كي يصير الإنسان إلهًا".

على القائد أن يعي هذا الهدف، ويدرك الجهاد الشخصي والجماعي الذي يتطلّب للوصول إليه. لا نسمع في أيّامنا هذه وفي فرقنا وفي رعايانا الكثير عن هذا الهدف الذي وضعه يسوع لنا. المطلوب أن نصبح بالمحبّة آلهة، ليس إلاّ، وليس فقط أن نتخلّق بما يُسمّى الأخلاق المسيحيّة. لمّا لا يتجرّاء القائد ويذكّر إخوته في الفرقة بما أراده لنا يسوع؟ ألأنّه يعتبره صعب المنال، إن لم يكن مستحيلاً، كما يعتقد كثيرون جعلوا من النصرانيّة مجموعة أخلاق "لائقة". فلننظر إذًا إلى كيف يمكننا أن نصبح أبناء حقيقيّين لله، كما تدعونا الصلاة الربيّة، وبالتالي قادة ملهَمين لكي يتمكنوا من أن يُلهموا.

تلميذ المسيح يكون محبّا أو لا يكون. هذا هو الشرط الأساسيّ الذي يفتح أمامه العيشة الحقّة مع الله وفيه، ليصبح إله بالنعمة والتبنّي. المحبّ يتبع حبيبه إلى حيث يذهب، حتّى إلى الصليب الذي تلحقه القيامة. بعد حديث يسوع مع بطرس، يتكلّم الإنجيل عن استشهاد بطرس لأنّ مَن يحبّ يبذل نفسه عن الذين يحبّ، كما معلّمه. المحبّ، أيّ القائد قلبه مجروح بالمحبّة. ويسير على الطريق معه، ليس وراءه، يعلن تعاليمه، يساعد، يشفي، كما فعل يسوع على طرق فلسطين. 
المحبّ إذًا يسهر على إخوة حبيبه. يتبنّى قول بولس لأهل كورنثوس: "إنّكم في قلوبنا للحياة والموت" (2 كو 7:3). لذلك قال الربّ لبطرس: إرع خرافي. همّ القائد أن يعرفوا أنّ حبيبه أحبّهم حتّى الموت، ويطلب منهم أن يعيدوه الجميل بمحبّته في إخوانه وإخوانهم، وغسل أرجلهم وخدمتهم، كما فعل.
مضمون البشارة هو الاهتمام بإخوة يسوع وحثّهم على المحبّة والامتثال بيسوع، والتخلّق بأخلاقه.

كيف يكون ذلك؟
على القائد أن يكون القدوه، المثال في المحبّة، ألاّ يطلب شيئًا البتّة إن لم يكون مستعدًّا لممارسته. هو يمثّل المسيح في جماعته وعليه الانتباه ألاّ يخلق عثرة لهؤلاء الصغار الذين يدعوهم إلى محبّة الربّ. الإنتباح إلى كلّ كلمة والتأكّد أن التصرّف مطابق لها. عليه أن يعرف الطريق كي يعرف إرشادهم إليه. والطريق ليس معرفة، إذ المعرفة موجودة في الكتب، وفي الأنترنيت، بل طريق حياة، طريق يسوع الذي هو الطريق والحقّ والحياة. عليه دائمًا أن ينتبه ألاّ يتعلقوا به- هو ليس زعيم من هذا العالم- بل رسول يشير إلى معلّمه والذي أرسله. "لم يكن هو النور بل ليشهد للنور".
لا يحقّ للقائد أن ينزلق في ضعف ويقول ما عدت أهلاً أن اقود. لأنّه قائد عليه أن يتقوّى روحيًا عنه وعنهم. "إنتبه لنفسك ولتعليمك وواظب على ذلك، فإن فعلت خلّصت نفسك والذين يستمعون إليك" (1 تي 4: 16).
يبني علاقة شخصيّة محبّة مع كلّ واحد. هو بمثابة أبّ. والأب يلد الابن، فيحبّه ويربيه ويعطيه من نفسه ومن روحه. ويرى وجه بسوع من خلال كلّ واحد منهم. هو مَن يحبّ أكثر.
يجب أن يعرف أبنائه وشخصيّتهم وميولهم ومشاعرهم وضغفاتهم ومؤهّلاتهم، وأن يحبّهم كما هم، بدون تمييز، وبدون اغتصاب إرادتهم. يفتح قلبه بدون تمييز وهذا يتطلب انسلاخًا عن أناه وميوله الطبيعيّة. صحيح أن المحبّة تسبق المعرفة لأنّها كمحبّة الله مجّانيّة، ولكن المعرفة توطّدها.
يوجّه ويقوّم دومًا بلباقة ولطف وفطنة ورحمة. "مَن يضغف ولا أضعف أنا، مَن يحترق ولا أحترق أنا؟" (2 كو 11:29).

يتّبع قانون حياة يتّفق عليه معهم
يصلّي من أجل كلّ واحد إذ يعرف أنّ يسوع وحده هو الراعي الصالح، ويحبّهم أكثر بكثير منه.
عليه أن يزرع، دون انتظار الحصاد. إن أتى في أيّامه يشكر، وإن لم يأت يعيش في الرجاء ويثابر.
على قائد أصغر فرقة حركيّة أن يعتبر نفسه مسؤولاً عن الحركة وحامل الكنيسة، وأن ينقل هذا الهم وهمّ البشارة إلى الذين يرشد (الويل لي إن لم أبشّر).

يعطي مثل السامريّة معالم القائد الأساسيّة:
القائد يسكت ويستمع قبل أن يتكلّم، يهتمّ، يسأل عن الأوضاع العائليّة، يحترم ولا يدين، بل يسامح ويدعو بخفر إلى تقويم الأوضاع. يبرز الإمكانات الإيجابيّة لمَن يتكلّم معه (أعطني ماء)، يعتبر نفسه مسؤولاً عن النفوس، يخصّص كلّ انتباهه لهم ويرشدهم إلى الحقّ (المحبّة والتألّه).

وكذلك
يصلّي معهم، ويعلّمهم على الصلاة الشخصيّة، واسترحام يسوع الدائم، يعلّمهم التخلّي عن الذات والعطاء والغفران ومحبّة، ليس فقط مَن يحبّهم بل الكلّ، ولذلك يرشدهم إلى سرّ المصالحة ويمارسه معهم. يوجّههم لاكتساب فكر المسيح. من هنا القراءة الفرديّة والجماعيّة للكتاب المقدّس كطريقة لسماع ما يقوله يسوع وماذا يفعل، ليس دائمًا للبحث بالتفسير العلمي. يشترك معهم بالخدم الإلهيّة ويتناولوا سويّة في القدّاس. الليتورجيا هي المكان الأفضل للإرشاد إن عرفنا فكّ رموزها. يشاركهم أفراحهم وأحزانهم. يعلّمهم أنّ يسوع في وسطهم في كلّ اجتماع لأنّ كلّما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي أكون في ما بينهم. يشجّعهم على ترجمة كلّ ما يُقال في الفرقة بمشاريع على الأرض، في خدمة الناس يكون هو القدوة فيها.

وأيضًا
ينبّههم على الأهواء، ونقل إليهم تعاليم الآباء لضبطها والتخلّص منها. ويحثّهم على تنقية حواسهم الخمس:
النظر بتدريبه من خلال الإيقونة أن ينظر إلى خفايا الظاهر البهيّة
والشمّ من خلال ريحة أجسام القدّيسين العبقة والبخّور من أجل التسبيح
والسمع بواسطة التسبيح والترتيل وسماع أصوات الملائكة المشتركين معنا في كلّ قدّاس إلهيّ، والتدريب على سماع صوت كلّ نسمة وهي تسبّح الربّ.
والذوق بتذوّق القرابين الإلهيّة والإحساس كم هو أن الربّ لهو لذيذ.
واللمس بمعاشرة الذخائر ولمس القرابين

فليسأل كل قائد نفسه إن هو حقًّا يحبّ يسوع، ويستحق أن يكون من تلاميذه ورسله، وهل يتجاسر ويقول لمَن يسأله عن إيمانه والرجاء الذي فيه: تعالى وانظر المحبّة التي تجمعنا لأنّها سمة تلاميذ الربّ؟ هذا الجواب يحفظه كلّ واحد منّا في داخله، ويتأمّل به باستمرار، ويتشفّع إلى المحبوب لإعانته لكي يتجاوز الصعوبات والضعف الشخصيّ. يا ربيّ، هأنذا مستعد، أعِ ضعفي وارحمني.

المشاركات الشائعة