الثالوث القدّوس وثقافة المشاركة

 ريمون رزق

النور- العدد الخامس 2011


الثالوث القدّوس هو محبّة متبادلة

تنبع كلّ حياة شركويّة من الثالوث القدّوس مع أنّ كثيرين يعتقدون أنّ هذا السرّ لا تأثير له حقيقيّ في فكرنا وحياتنا. وغالبًا ما يمتنع المسيحيّون عن الغوص في هذا السرّ، مدّعين أنّه يتخطّى العقل، ولا يمكن للإنسان أن يسبر غوره. بالحقيقة، إنّه، كباقي الأسرار، يتخطّى العقل البشريّ الذي لا يمكنه الإحاطة سوى بما كشفه الله بشأنه. كُشف لنا أنّ الثالوث شركة أقانيم أو أشخاص تجمعهم وحدة في الجوهر والطبيعة. وضمن هذه الوحدة السامية يحتفظ كلّ شخص في الثالوت بصفاته الشخصيّة الخاصّة. الثالوث هو المثال الأعلى للوحدة في التعدّديّة. يعطي إنجيل يوحنّا ورسالته الأولى أفضل تعابير عن هذه الشركة الثالوثيّة، حيث يُظهران الحياة الإلهيّة كشركة محبّة، أو بالحريّ كمحبّة.

انطلاقًا من المعطيات الكتابيّة توسّع الآباء في الكلام على الثالوث. ورد في أحد قوانين أثناسيوس الكبير: "إنّ الإيمان الجامع هو أن نعبد إلهًا واحدًا في ثالوث، وثالوثًا في وحدانيّة، ثالوثًا غير مشوّش الأقانيم ولا مقسّم الجوهر. فإنّ أقنوم الآب آخر، وأقنوم الابن آخر، وأقنوم الروح القدس آخر، لكن للآب والابن والروح القدس لاهوت واحد ومجد متساوٍ وعظمة متساوية في الأزليّة... لكن ليسوا ثلاثة آلهة، بل هم إله واحد... فمَن أراد أن يخلص، فليعتقد بالثالوث الأقدس، كما أشرنا".

كلّ أقنوم مرتبط حميميًّا بالآخرَين، ومنسكب فيهما، مع المحافظة التامّة على ميزاته الشخصيّة. الآب مصدر الألوهة، والابن مولود من الآب منذ الأبد، والروح منبثق من الآب، أيضًا منذ الأبد. تشترك الأقانيم الثلاثة  في الطبيعة الواحدة، وبالجوهر الواحد، وهي متساوية في هذا الجوهر.

يؤكّد هذا المفهوم باسيليوس الكبير في قوله إنّ "الوحدة داخل الألوهة تتحقّق في الشركة". ويذهب المطران جان زيزيولاس إلى القول إنّه: "لا يمكن الكلام على وجود الله خارج مفهوم الشركة".

هذه هي معطيات الإعلان الإلهيّ. تؤكّد أنّ الله محبّة متبادلة بين أقانيمه الثلاثة، وأنّه وحدة بين أشخاصه الثلاثة الذين تربطهم هذه المحبّة المتبادلة، بشكل كامل، من دون خلط بين شخصيّة كلّ واحد منهم المميّزة.

الإنسان مخلوق على صورة الإله الثالوث ومدعوّ إلى التشبّه بمثاله.

لقد خُلقنا "على صورة الله ومثاله"، أي على صورة الإله الثالوث ومثاله. يقول الأسقف كالِستوس وير إنّنا مدعوّون، في سعينا الى التشبّه بالمثال الإلهيّ، إلى "أن نصبح كنسخ أصليّة عن الثالوث". كلام المسيح، في إنجيل يوحنّا، كلّيّ الوضوح: "كما أنّك أيّها الآب، فيّ وأنا فيك، فليكونوا واحدًا كما نحن واحد" ( يوحنّا 17 : 21 الى 23 ).

يشير استعمال عبارة "كما نحن" بوضوح إلى أنّنا مدعوّون إلى أن نصبح "مشابهين" لله الثالوث. وينطبق علينا إذًا بعض ما يُقال في الله. علينا استكشاف هذا التطابق شيئًا فشيئًا، على مدى حياتنا. وعلينا ان نجتهد للعبور من الصورة الى المثال، كما يقول الآباء. 

بالمحبّة يتحقّق المثال

وبما أنّ الله محبّة، وبما أنّ الإنسان هو على صورة الله، عليه في سعيه إلى الوصول إلى المثال الإلهيّ، أن يعزّز المحبّة فيه، نحو الله والآخرين. لا يتحقّق المثال الإلهيّ أبدًا بدون المحبّة. يقول مكسيموس المعترف إنّ "المثال يتحقّق بالنعمة، عندما توجد المحبّة"[1]. ويقول أيضًا : "الكلّ من أجل الفرد، والفرد من أجل الكلّ، أو بالحريّ الكلّ مع الله ومع بعضهم البعض"[2]. ويتابع قائلًا: "يجعل سرّ المحبّة من البشر آلهة"[3]. يُلخّص التصميم الإلهيّ بالنسبة إلى الإنسان في العبارات التالية التي وردت عند عدد من الآباء: "إنّ الله صار إنسانًا لكي يصبح الإنسان إلهًا"[4]. ولا يتحقّق ذلك سوى بالمحبّة.

يؤكّد غريغوريوس النزينزيّ، المعروف باللاهوتيّ، في القرن الرابع: "يجب أن أصبح وريثَا للسماء مع المسيح، أن أصبح ابنًا لله، أن أصبح إلهًا... لقد جاء المسيح لكي يرفع الجسد ويرتقي به، وليخلّص صورته، ويصلح الإنسان. لقد جاء لكي يوحّدنا فيه... لقد حلّ فينا لينسكب كمالًا فينا"[5]. ويؤكّد باسيليوس الكبير أنّنا "نتشبه بالله ونتحوّل إليه، بقدر ما تسمح لنا طبيعتنا البشريّة؛ هذا ما نحن مدعوّون إليه"[6].

ويقول مكسيموس المعترف (580- 662): "يعيد الابن الطبيعة إلى ما كانت عليه...  المجد نفسه الذي منحه الآب للابن، يمنحنا الابن إيّاه بالنعمة... لقد جعلنا أقرباء له"[7]. وفي حديثه عن الله، يضيف: "إنّه الذي يتمنّى خلاص الإنسان ويتعطّش إلى تألّهه"[8]. ويؤكّد إسحق السريانيّ، الذي وُلد في ما يعرف اليوم بدولة قطر، في القرن السابع، على أنّ الله هو "بانتظار اللقاء" دومًا. وأنّه ليس مهمًّا أن "نتكلّم على الله، بل أن نتحوّل به ومن أجله"[9]. 

وكتب سمعان اللاهوتيّ الحديث، مخاطبًا المسيح: "أنت من جنسنا بالجسد ونحن من جنسك بالألوهة. فبتجسّدك منحتنا روحك القدّوس... تصنع من كلّ واحد منّا مسكنًا لك، تسكن فينا وتصبح أنت مسكننا جميعًا ونسكن فيك. كلّ واحد منّا، أيّها المخلّص، معك بكلّيّته. وتكون مع كلّ واحد منّا بصورة خاصّة... فتصبح أعضاء كلّ واحد منّا أعضاء المسيح... ونصبح آلهة إذ إنّنا نحيا دائمًا مع الله"[10]. 

سرّ الإنسان

بالتصاق الإنسان بالمسيح هو يشترك في سرّه. ويقول غريغوريوس النيصصيّ: "بما أنّ صفة الإدراك هي إحدى ميزات الطبيعة الإلهيّة، على صورة الله أن تتمتّع به"[11]. فلا يمكن إذًا اقتحام سرّ الإنسان. يؤكد إنجيل يوحنّا هذه الكينونة السرّيّة للإنسان المعمَّد بقوله: "لا أحد يعرف أين يذهب المولود من الروح، ومن أين يأتي" (يوحنّا 3: 3). لذلك لا يُعرف الإنسان بواسطة العقل، بل يَكشف ذاته في سرّ المحبّة. 

الإنسان ثلاثيّ التكوين على صورة الثالوث 

يقول غريغوريوس بالاماس: " كيان الإنسان الروحانيّ مؤلّف من ثلاث: نعمة الروح القدس، والنفس العاقلة والجسد الترابيّ" ويُعرّف عن التمثّل بالمسيح بأنّه "صحّة النفس وكمالها". يصبح الإنسان كالإله-الإنسان أو لا يكون. فخلاص الانسان رهن بتألّهه[12]. لا يكوَّن الإنسان الحقيقيّ من جسد ونفس فقط، بل من نعمة الروح المسكوبة عليه بالمعموديّة ومسحة الميرون. ويؤكد بولس الرسول هذه النظرة للإنسان مشيرًا إلى "روحكُمْ وَنَفْسكُمْ وَجَسَدكمْ" (1 تسالونيكي 5: 23). 

أن نصبح شخصًا إنسانيًّا على تواصل مع كلّ البشر

بما أنّ الله شركة بين أشخاص ثلاثة، على الإنسان، المخلوق على صورته، أن يتعالى عن الفرديّة فيه، ليصبح شخصًا إنسانيًّا على صورة الشخص الإلهيّ الذي تجسّد، أي يسوع المسيح، الإله الإنسان، الذي هو المثال الأعلى للشخص الإنسانيّ. كتب أوليفيه كليمان: "يمكن القول إنّه لا يوجد في التاريخ سوى شخص إنسانيّ حقيقيّ واحد، هو شخص يسوع وهو في آن شخص إلهيّ. يسوع هو الإنسان الحقيقيّ، في ملء شركة الثالوث، غير منفصل عن أيّ إنسان آخر"[13].

وبما أنّنا مدعوّون إلى أن نتمثّل بيسوع، علينا أن نسعى، في كلّ أيّام حياتنا، إلى أن نصبح كيانًا شخصيّا مشابهًا به، أي فريدًا وغير منفصل عن الله والبشر في آن.

رغم الشركة مع الآخرين، يبقى الشخص البشريّ فريدًا، ومغايرًا كلّيًّا عنهم في سرّه. يبقى هذا "الشخص في الشركة" على صورة الثالوث، حرًّا أن يكون مختلفًا، في كينونته الخاصّة. هو فريد بالكلّيّة على مثال كلّ واحد من الأقانيم الإلهيّة. لا يخضع لقوالب محدّدة، تقولبه على شاكلة الآخرين، مع أنّ فرادته الحقيقيّة لا تظهر ولا تنمو سوى بعلاقته معهم. لا توجد "الأنا"، بالنسبة إليه، إلّا إذا كانت متّصلة "بالأنت"، علمًا أنّ ميزات كلّ من "الأنا" و"الأنت" تبقى فريدة وخاصّة بكلّ منهما، على شاكلة العلاقات بين أقانيم الثالوث. هذا ما يميّز الشخص عن الفرد. 

الحرّيّة

ولأنّ حرّيّة الإنسان مرتبطة بالشركة، فهي ليست حرّيّة تجاه الآخر، بل حريّة من أجله. حدودها هي حرّيّة الآخر. يعيش الشخص البشريّ إذًا من أجل الآخر. ويكتمل كإنسان شخصيّ ويتحقّق، بقدر ما يقبل الآخرين، ويعتبر إيّاهم أشخاصًا، لا أفرادًا. يقول باسيليوس الكبير: "لا شيء يمكن أن يصف طبيعتنا البشريّة سوى إمكانيّة التواصل مع الآخر". أنا أحتاج إليك لكي أتحقّق. أنا كيان تواصليّ، كما هو الله.

تحرّك محبّتي للآخر حرّيّتي. لا معنى للحرّيّة إذا لم تكن مرادفة للمحبّة. الله محبّة لأنّه ثالوث. لا يمكننا أن نحبّ إلّا إذا كنّا كيانات شخصيّة، تسمح للآخر بأن يكون آخر بالحقيقة، مع بقائنا على الشركة معه. 

أناس كثيرون وطبيعة بشريّة واحدة

يتكلّم الآباء على كيان بشريّ واحد. يقولون إنّه يوجد إنسان فريد في فكر الله، رغم تعدّد الأفراد. أُعطيت صورة الله لكلّ البشر: "رجلًا وامرأة خلقهما". نتشارك كلنّا في الطبيعة الإنسانيّة الواحدة. بنوع من الأنواع، نتشارك في الإنسان الواحد، المكسور من جرّاء خطيئة البشر.

تخشى طبيعتنا الساقطة الآخر وتخاف منه. والخوف، الخوف من الموت، الخوف من الآخر، الخوف من كلّ مغايرة واختلاف، الخوف بكلّ أنواعه، هو جوهر الخطيئة. ولكن الخوف غُلب على الصليب، فوُلد الإنسان الوحيد مجدّدًا في المسيح، وأُعيد إلى سابق عهده، يشمل كلّ البشر.

وكما أنّ الأقانيم الإلهيّة تشترك في الطبيعة الواحدة، يمكننا القول إنّ البشر يشتركون في المسيح، في طبيعة إنسانيّة واحدة. هذه هي الرؤية المسيحيّة لما يجب أن تكون العلاقة بين البشر. لسنا بصدد تعاضد ما. لا يكفي أن نكفّ عن اعتبار الآخر عدوًّا أو عبدًا لنا. ولا يكفي أيضًا أن نقول إنّه ينبغي لنا أن نتعاضد معه لأنّنا متشابهون، ونشترك في طبيعة واحدة. في المسيح، عليّ اعتبار الآخر كنفسي. قال لنا يسوع أن نحبّ قريبنا كنفسنا، أي أن نعتبره "أنا" آخر. يقول أوليفيه كليمان: "نحن كيان واحد في المسيح، وجسد واحد، بكلّ ما للكلمة من معنى. نحن أعضاء جسد المسيح، وتاليًا أعضاء بعضنا البعض"[14]. 

المسيح أيقونة الثالوث التي علينا الامتثال بها

فلننظر إلى تصرّف يسوع مع البشر، كما يظهر في العهد الجديد. علينا أن نتصرّف مثله تمامًا، وأن يصبح بذل الذات، والمجّانيّة، والعطاء، ومعاضدة الآخر ومحبّته، نمط حياتنا الأساس. لا يمكننا أن نصبح صورة للمسيح، وتاليًا للثالوث، إلّا عبر نمط تعاطينا مع بعضنا البعض، إن كان في شركة الزواج، أو في الأخوّة الرهبانيّة، أو في العلاقة بين الآباء والأبناء في العائلة، أو في الكنيسة، وأخيرًا وليس آخرًا، في حياتنا في المجتمع. ولا يحدث ذلك حتمًا بالكلام، بل في التصرّف. على حدّ تعبير المفكّر الروسيّ روزانوف، يجب أن يكون الثالوث "البرنامج الاجتماعيّ الوحيد للمسيحيّين". 

الوحدة في التعدّديّة

هذا التشبّه بالثالوث الذي يُفترض أن يميّز المسيحيّين يفرض علينا قبول التعدّديّة في الآراء، مع الحفاظ على وحدتنا في المسيح. يمكن أن نختلف في الرأيّ، وهذا مفيد إذ يغني النقاش، طالما لم نُسرع إلى هرطقة الآخر لمجرّد أنّه يفكّر بطريقة تختلف عن تفكيرنا. حتمًا، تبقى حدود هذا التباين في الرأي ضمن إيماننا المشترك، حتّى لو عبّر أحدنا في الأمور غير الأساسيّة المنوطة بإيمان الكنيسة، بأشكال تبدو لنا جديدة أو مخالفة لما نتصوّره. من الجدير بالملاحظة أنّ الكنيسة سمحت مثل هذا الاختلاف في التعبير إذ ميّزت دومًا بين "العقيدة" و"الرأي اللاهوتيّ" (ثيولوغومينون)، تاركة المجال واسعًا لحرّيّة الإنسان وعبقريّته أن تُعبّر عن ذاتها بأسلوب غير مألوف. لا تتبنّى الكنيسة هذا الرأي "المستحدث"، لكنّها تقبل أن يُعبَّر عنه ويُتداول فيه ضمن الجماعة. ممّا لا شكّ فيه أنّ أوساطًا كثيرة في أيّامنا الحاضرة ليس لها رحابة صدر الكنيسة هذه.

 



[1] الرسالة الأولى.

[2] الرسالة الثالثة.

[3] الرسالة الثانية.

[4] أوّل مَن استعمل هذه العبارة إيريناوس، أسقف ليون في القرن الثاني، وتبعه في استعمالها أثناسيوس الكبير وغريغوريوس اللاهوتي وغريغوريوس النيصصي في القرن الرابع ةبعدهم معظم الآباء,

[5] الخطاب 7.

[6] المقال في الروح القدس.

[7] المقال في المناقب 1: 6.

[8] المئويّات حول مواضيع مختلفة 1: 74.

[9] المقالات النسكيّة.

[10] الأناشيد 15.

[11] المقال في خلق الإنسان.

[12] الثلاثيّات II، 1، 42.

[13] في "أسئلة حول الإنسان".

[14] أسئلة حول الإنسان.

المشاركات الشائعة