تحدّيات القرن الآتي

 

ريمون رزق

النور- العدد التوثيقيّ 1996

 

لقد حاولتم، في المداخلات السابقة، الإحاطة بالواقع الأنطاكيّ الراهن والتحوّلات المستجدّة في العالم الأرثوذكسيّ والمشاكل الأساسيّة التي تواجه منطقتنا. تكلّمتم لا شكّ على بعض التحدّيات الكبرى التي واجهتنا أو لا بدّ أن تواجهنا نظرًا للتطوّرات التي حصلت في الغرب خلال العقود الأخيرة. لذا، أطلب منكم أن تعذروا التكرار الذي لا بدّ أن يرد في هذ العرض الهادف بشكل رئيس إلى المساهمة في حثّ التفكير المشترك لرسم أُسس لمعالجة هذه التحدّيات وتاليًا لتحديد مدى فعاليّة شهادتنا، الفرديّة والجماعيّة، وأشكالها ونحن على عتبة القرن الحادي والعشرين.

عالم في حالة من الغليان

لنبدأ أوّلاً بإبراز السمات السائدة التي تطبع عصرنا بطابع خاص وتحملنا في بعض الأحيان على الاعتقاد أنّنا نشهد ثورة كونيّة جديدة.

تقنيّة ودهريّة (Sécularisation)

إنّ عصرنا هو أوّل عصر يستطيع أن يطمح إلى التحرّر من استبداد الطبيعة الماديّة. فالتقنيّة تمدّ الإنسان بإمكانات تبدو وكأنّها لا حصر لها ليسيطر على محيطه الطبيعيّ والثقافيّ ويحوّله، أو حتّى يغيّر طبيعته البيولوجيّة. إلّا أنّ القدرة الناتجة عن هذه الإمكانات كالسكّين ذو حدَّين. إذ تشير علامات كثيرة إلى أنّ إمكانات الإنسان تزيد بسرعة تفوق قدرته على فهم هذه الإمكانات واستعمالها استعمالاً إيجابيًّا.

غالبًا ما تقترن هذه القدرة بتجربة مواجهة المستقبل، أو حتّى إذا صحّ التعبير بصنع هذا المستقبل من خلال "تصفية" الإرث الثقافي والأخلاقي والقضاء على علاقة التبعيّة القائمة منذ القدم بين المجتمع والثقافة من جهة والدين من جهة أخرى. إنّ عالم اليوم النشوان باقتداره يغالي في رفضه لكلّ قدسيّة ويسير بخطى واثقة نحو الدهريّة. لا يجدينا أيّ نفع أن نقول إنّ الدهريّة التي هي "تحوّل جذريّ في علاقة الإنسان مع الواقع، تحرّر مختلف ميادين الحياة (السياسيّة والاجتماعيّة والثقافيّة) واستقلالها عن الميدان الدينيّ"[1]، هي ظاهرة تخصّ الغرب وحده، فلن تؤثّر بالقدر ذاته في مجتمعاتنا الشرقيّة التي لا تزال متمسّكة بانسجام مزعوم بين الدين والدنيا. أعتقد أنّها سيرورة (Processus) لا رجوع عنها وأنّها مسألة وقت فقط. فإنّ هذه الظاهرة التي وصلت إلى مختلف البلدان الأوروبيّة "حيث تحوّلت المجتمعات بشبه رمّتها إلى مجتمعات دهريّة تبحث عن هويّتها"[2]، تنتشر في مجتمعاتنا انتشارًا سريعًا من دون أن نعي ذلك.

ستدوم ظاهرة الدهريّة على الرغم من أنّ الاضطرابات التي طرأت خلال العقود الأخيرة – معتقل "أوشفيتس" (Auschwitz)، والـ"غولاغ" (Goulag)، وتراجع الماويّة، وانهيار الشيوعيّة – قد أثّرت كثيرًا في مسيرتها فنقلتها من "العدميّة (nihilisme) العدوانيّة والرفض القاطع لمنطق الأساطير إلى الاستكشاف المفعم بالحماسة للأساطير، ومن غطرسة العلمويّة (scientificité) إلى جوّ من الشكّ والحذر[3] يهيمن حاليًّا عليها". "بات كلّ شيء مفتوحًا للبحث. هكذا تبدو حداثتنا، تنقد بطبيعتها نفسها بنفسها، لا تثق أبدًا بأسسها ولا بإنجازاتها، تحرّكها ديناميّة ناشطة باستمرار وتغاير حيّ هما مصدر توتّر وسرّ قوّتها الجارفة في الوقت نفسه"[4].

إيجابيّات التقنيّة والدهريّة

- إنّ إيجابيّات حضارة التقنيّة والدهريّة لأمر بديهيّ "إذ أدّت هذه الحضارة إلى اكتشافات مذهلة (في الكون من جهة والإنسان من جهة أخرى) وإنجازات عظيمة. فعلى الرغم من الانحرافات العديدة، قد زاد معدّل عمر الإنسان وتضاعف عدد البشر، وكوكبنا يسير نحو الوحدة. فالحضارة الغربيّة حضارة منفتحة تسعى إلى استيعاب الحضارات الأخرى كلّها والفنون كلّها والأساطير كلّها. فلسفتها الضمنيّة هي فلسفة الآخر الذي يقبل كما هو على اختلافه. على المستوى السياسي، ترتبط الدهريّة بالديمقراطيّة: لا يملك أحد الحقّ في فرض حقيقته"[5].

- لقد ساعدتنا الدهريّة أيضًا بدعوتها إلى العقل على أن نتخلّص من الصور الطبيعيّة والنفسيّة ومن المفاهيم الشائعة عن الله في الفكر المسيحيّ، فنسمو بالعالم إلى لقاء من نوع آخر. إنّ "موت الله" الذي نادى به نيتشه وكثيرون آخرون لا يزعجني أبدًا، إذ ليس الإله الحيّ، الربّ يسوع المسيح، هو المعنيّ، بل الصور التي رسمها المسيحيّون عنه تبعًا لمصالحهم وضعفهم. إنّ صدمة "موت الله" قد نتجت عن التأكيد أنّ السماء فارغة (هذه المقولة الشائعة في الترويج ضدّ الدين الذي اعتمده السوفيات بعد إطلاق القمر الصناعيّ "سبوتنيك" وأن ليس لله مكان فيها، في حين أنّ السماء الروحيّة تعني سموّ القلب وسريرته (intériorité) القصوى. لقد نتجت المنازعات حول نظريّة التطوّر إلى حدّ ما عن التأكيد القصير النظر الذي تشبّث به المسيحيّون وهو أنّ الفردوس قد وجد على الأرض نفسها، في حين أنّ الآباء، في وصفهم إيّاه، تكلّموا دائمًا عن حالة مغايرة للوجود الكونيّ، داخليّة، تتجاوز أشكال الزمان والمكان والمادّة المعروفة حاليًّا[6]. فقد تبيّن أنّ النزاع بين الدين والعلم يرتكز على مقاربة أصوليّة للدين، "عاجزة عن التمييز بين الرمز والمرموز إليه"[7]. هكذا "فإنّ كوبرنيك وغاليله قد قضيا على إيمان الذين حدّوا الله في أطر الفلك... وقد قام نيوتن بالشيء ذاته مع الذين اعتبروا الله "الساعاتيّ الأكبر" للكون... أمّا فويرباخ وماركس وفرويد... فقد قضوا على الله الشرطيّ والجلّاد والساديّ. وكم من الناس سيفقدون إيمانهم في أيّامنا هذه إذا ما نجحت اختبارات علم الوراثة في التحكّم بالتبدّلات الأحيائيّة البدنيّة؟"[8]. الله ليس مفهومًا، ومن الأفضل أن يموت إذا ما تحوّل إلى مفهوم. قد يبدو العلم عملاً تدنيسيًّا ولكنّه في الحقيقة يخدمنا خدمة كبيرة إذ يُظهر رجال العلم "كمحطّمي الأصنام" ومبدّدي الأوهام؛ لأنّ الله، كما يعلّم اللاهوت التنزيهيّ في الشرق المسيحيّ، "هو من لا يمكن تشبيهه بشيء"[9].

- للمقاربة العلميّة أيضًا إيجابيّات أخرى إذ إنّها تقضي على الأفكار الخاطئة المكتسبة عن الإنسان. فماذا يبقى من ثنائيّة الروح والجسد، التي تكلّمت عنها الفلسفة المدرسيّة (scolastique) فطبعت حضارة البلدان المسمّاة "مسيحيّة"، بعد الإكتشافات في علم الأحياء والاجتماع وتحليل النفس؟ هنا أيضًا يتّفق العلم مع واقعيّة (réalisme) الآباء الذين يعتبرون أنّه "لا يمكن تعريف الكيان البشريّ بأيّ جزء من أجزائه: لا بالجسد ولا بالنفس ولا حتى بالعقل التأمّليّ. فهو يتخطّى هذا الذهن الذي يبدو الآن وكأنّه متّصل بالمادّة. هو الآخر بكلّيّته الذي لا يمكن تشبيهه بأحد ولا يمكن معرفته إلّا بواسطة بذل الذات في مجازفة اللقاء"[10]. هنا أيضًا تظهر ضرورة يقظة جديدة، ضرورة العودة إلى فكر الكنيسة الأولى، فكر آباء الصحراء وكبار الرهبان، ذلك الفكر التنزيهيّ لكن التجريبيّ، الذي يحملنا على الاعتقاد أنّ بعض هؤلاء الرهبان قد اكتشفوا، من خلال محبّة الناس، قواعد التحليل النفسيّ الحديث وعلم أعماق النفس البشريّة.

- يساعدنا العلم أيضًا على أن ننفض عنّا نوعًا من أنواع التديّن الممزوج بالتطيّر والشكليّات الشائعة في الأوساط المسيحيّة. فقد كان العلم مناسبة لإعادة نظر رصينة في الواقع المسيحيّ الذي "يتبخّر فيه الوجه الدينيّ ويظهر ثانية الوجه الوثنيّ متجذّرًا في حياتنا، والذي يحلّ فيه الغريب والفولكلور الدينيّ محلّ الحياة الروحيّة، وتحلّ الرموز والشعائر المفرغة من معناها محلّ الأسرار"[11].

فالتحيّة واجبة إذًا للعلم وللعقل، الذي هو ركيزته الأساسيّة، فهو يعلّمنا التمييز بين الخارق والعجائبيّ، ويذكّرنا بواسطة لغته، وإن كانت حقًّا جارحة وفظّة في بعض الأحيان، بكلمات السيّد: "أيّما أعظم الذهب أم الهيكل الذي يقدّس الذهب، القربان أم المذبح الذي يقدّس القربان؟" (متّى 23: 18 – 19). "يمكن للعلم إذًا أن يكون، بواسطة نظرته النقديّة وتوقه إلى التفسير، أداة للروح القدس في وجه العادات المقدّسة تقديسًا سلفيًّا، إذ قد يكون أداة نقد للكنيسة...". إنّنا بحاجة إلى العلم من أجل "فهم أفضل لتقليدنا الليتورجيّ وكشف مصادر الخدم ومعناها الحقيقيّ... ممّا يمكّننا من استعادة موهبة الخلق ومن إحياء أمانة خلّاقة...". إنّنا بحاجة إلى العلم "لإبراز قيمة إرثنا الروحيّ واللاهوتيّ والفنّيّ، لإعادة كتابة سيرة قدّيسينا وتحريرها من القوالب الجاهزة فنحذو حذو الفكر الأنطاكيّ بنقائه ونعيد للقدّيسين حجمهم الإنسانيّ الطبيعيّ"[12]. إنّنا بحاجة إلى العلم من أجل ردم الهوّة التي تفصلنا عن فهم أفضل لكلمة الله كما نقلها الكتاب المقدّس وتراث الآباء. يجب علينا أن نستعيد، بمساعدة العلم، موقف الآباء الذين استخدموا معطيات عصرهم العلميّة والفلسفيّة للتعبير بشكل أفضل عمّا هو غير قابل للتفسير. علينا أن نحذو حذوهم وأن نعود إلى الجذور فلا نكتفي بأن نكرّر كالببغاء وبلا ملل أقوال الآباء. ومن أجل التمييز بين الأبديّ والآنيّ في كلام الآباء، لا نستطيع الاستغناء عن المقاربة العلميّة. ليس المقصود هنا "أن نوضع (objectiver) الآباء أو نكرّرهم، لكن أن نعود إلى تأصّلهم في الكتاب من دون أن نهاب التفسيرات الكتابيّة المعاصرة، وأن نجرّد فكرهم لنستطيع تطبيقه على واقع اليوم والغد...". هكذا كان آباء القرن الثاني يحاورون التقليد العبريّ وآباء القرن الرابع الفكر الهللينستي، وهكذا كان القدّيس غريغوريوس بالاماس في القرن الرابع عشر يؤكّد في وجه أولى أشكال الحداثة أنّ الطاقات الإلهيّة تخصب التاريخ، وآباء آخرون، أمثال القدّيس تيخن زادونسكي أو القدّيس سلوان الآثوسيّ تعاملوا مع قلق الحداثة العميق الذي واجه معاصريهم"[13]. ويمكننا قول الشيء ذاته بالنسبة إلى القدّيس سلوان الآثوسيّ الذي عاش في مطلع هذا القرن.

التأثيرات الملتبسة والمنحرفة الناتجة عن الدهريّة

- للدهريّة آثار ملتبسة ومخيفة. أوّلاً: التأثيرات الضارّة الناتجة عن حضارة الانتاج والاستهلاك التي تشجّعها الدهريّة، حضارة "الربح المؤلّه" التي "تسعى لعمّ الكوكب كلّه والتي تقضي استراتيجيّتها بخداع رغبة الناس، باستمرار وبدون ورع، فتغريهم بفخّ السعادة التي يولّدها امتلاك الأشياء... ديانة الملكيّة التي لا تزال تملأ عقول الناس بشعارات تعارض روح التطويبات، وتردّد بشتّى الطرق، بمساعدة إعلام فائق التنظيم: "طوبى للذين يملكون المال والحظوة، طوبى للذين يجمعون أكبر عدد من الملذّات المختلفة"[14]. تساهم هذه الحضارة في تحويل العالم الثالث إلى فئة كادحة (فئة البروليتاريا)، كما تؤدّي، "إذا ما أفلتنا لها العنان أي جعلناها أداة طيّعة في يديّ رغبة الربح وهيمنة الأثرياء وأصحاب النفوذ"[15]، إلى "استغلال شَرِه لموارد الأرض مع كلّ ما يرافق ذلك من تبذير وأضرار بيئيّة وتلوّث، بالإضافة إلى استغلال وقح للإنسان على المستوى الاقتصادي والجنسي على حدّ سواء"[16]. يعتبر عالم اليوم مثالاً مؤسفًا على اختلاف مستوى المعيشة بين البلدان وبين الناس. فمع وسائل الإعلام الحديثة التي زوّدتنا بها التقنيّة لم نعد نستطيع اجتناب المقاربة وإدراك الحقيقة. في الواقع إنّ حوالي 85٪ من الثروات والإنجازات التقنيّة في العالم هي في يد حوالي 15٪ فقط من مجموع سكّان الأرض. إنّ اشتداد الجوع في الجنوب مقارنة مع الشمال يعدّ من أكثر صرخات القلق دويًّا في هذ الجيل.

- من جهة أخرى، "إنّ الثقافة الغربيّة التي تسعى دائمًا إلى استعادة الخبرات الإنسانيّة كلّها تهدم بنية الثقافات الأخرى وتقضي بذلك على إرثها الخاص"[17]. من هنا عجرفة الغربيّ وقناعته الراسخة بمركزيّة النموذج الغربيّ وتفاهة أيّ نموذج آخر. ومن هنا أيضًا تجاهله المؤسّسات الدينيّة والكنائس إذ يعتبرها مصدرًا للاستبداديّة والممنوعات.

- يولّد هذا التطوّر أكثر فأكثر مشاكل اجتماعيّة وأخلاقيّة خطرة، فهو يخضع الإنسان لضغوطات وتجارب جديدة ويحمله على سوء استعمال هذا القدر الأكبر من الحرّيّة. هناك كما سبق وأشرت التباس عقلانيّ بين الحقيقة الدينيّة والواقع العلميّ ناتج عن انعدام في التوازن بين التقدّم التقنيّ والنموّ الأخلاقيّ. إنّ التطوّر الصناعيّ في مجال الأسلحة، النوويّة والكيمائيّة، وإدخالها حديثًا في سوق التهريب والعمليّات الإرهابيّة يضفي خطرًا كبيرًا على الإنسانيّة. والتطوّر الصناعيّ الهمجي يغتال الطبيعة ويخلّ بتوازن الكون، كما أنّ حركة السكّان الواسعة حيث تجتذب المدن معظم الناس تخلّ في توازن البنى الاجتماعيّة التقليديّة، وتسلخ الإنسان عن الأرض، مولّدة عند الكثيرين اللامبالاة والعزلة والقلق. ثمّ إنّ وتيرة التغيير الجهنّمية تؤجّج التوتّر بين مختلف الأجيال فتضعضع العلاقة بين الآباء والأبناء وتؤدّي تاليًا إلى تشتيت العائلة. أمّا حركة تحرير المرأة فلا تستطيع الحدّ من استغلال وسائل الإعلام لها إذ تختزلها محوّلة إيّاها إلى مجرّد جسد موضوع للرغبة. زد على ذلك حضور وسائل الإعلام في كلّ مكان والطريقة التي يتمّ بها استغلالها في أوساط عديدة ممّا يحوّل قسمًا كبيرًا من الناس إلى مجموعة من الأغبياء إذ إنّها تعوّدهم على حضارة الأفكار الجاهزة. فالمبادئ أمثال: "كلّ شيء مباح"، و"كلّ شخص حرّ في فعل ما يشاء"، و"كلّ إنسان لذاته"، بالإضافة إلى الشعور أنّ الحياة هي أيضًا مادّة للاستهلاك، تحوّل الحرّيّة عن مجاريها الإيجابيّة وتثير مشاكل أخلاقيّة تتعاظم خطورتها بإطّراد. فالانتحار وتفكّك الزواج والفلتان الجنسيّ والإثارة والإباحيّة التي تعمّ أكثر فأكثر وتقبل الشذوذ الجنسيّ والإجهاض والتسامح المتزايد إزاء القتل بدافع الشفقة والموت الهنيء والإخصاب في المختبرات وتأجير الأرحام والمخاطر الناتجة عن اختبارات علم الوراثة تتصدّى كلّها للمبدأ الذي يعتبر "الحياة هبة من الله" (ومن الآخرين) ولا يحقّ للإنسان تاليًا أن يعتبر نفسه مالكها الوحيد، كما تتصدّى للعلاقة بين الذكر والأنثى[18]. إذًا لم يعد الإنسان كما كان. فقد تغيّر معنى الخطيئة بالنسبة إليه ولم يعد مرتبطًا بالمحرّمات الجنسيّة التي فقدت أهمّيّتها كلّها. فالخطيئة اليوم هي أقرب ما تكون إلى شعور بالفراق أو القلق ما هو إلّا "خوف مستتر من الموت" (القدّيس مكسيموس المعترف)، أو محاولة انتحار، أو جريمة عالم يموت فيه أهل الشمال لغياب أيّ معنى لحياتهم ويموت أهل الجنوب لغياب العدالة والخبز"[19].

- "أمام هذه الوضعيّة – المحدثة – (néo – positivisme) الفلسفيّة أو الفظّة، يتراجع الشعور والحبّ والانفعال"[20]. بعد أن أخذنا بالتجربة البروميثويّة (التي ترتكز على قدرة الإنسان الفائقة) (prométhéen) إذ سعينا إلى فهم الله انطلاقًا من الإنسان، وصلنا الآن إلى شرح الإنسان انطلاقًا من الطبيعة. أمّا الطبيعة فمفترض أن تشرح نفسها بنفسها. غلطتنا الكبرى هي أنّنا اكتفينا بماهيّة العلاقات بين الكائنات والأشياء وبكيفيّتها، بدون أن نتساءل عن أسبابها الداخليّة وغايتها النهائيّة. نلاحظ اليوم أكثر فأكثر أنّ "المنطق الاختباريّ لا يستطيع الإجابة عن تساؤلات الإنسان الكبرى حول الحياة والموت والحب ّوالجمال. عبثًا تحاول التقنيّة إبعاد شبح الموت، إلّا أنّ القلق الخفيّ ينخر كلّ شيء فيؤدّي إلى عصاب روحيّ والبحث عن انفعالات حادّة – إثارة، مخدّرات، أو حتّى إرهاب – تنسينا العدم للحظة لفرط ما تجعلنا ممارستها نعتقد أنّنا أحياء وأنّنا أسياد"[21]. إلّا أنّ السعي وراء إيجاد المعنى يبقى. إنّه زمن الـ"لماذا". "لماذا نقف مذهولين من الفرح أمام الجمال؟ لماذا الحبّ وليس فقط الجنس؟ لماذا الحنان بدل الرغبة؟ لماذا تحول الرغبة لغة حنان؟ لماذا نشعر أنّ الموت هو ضدّ الطبيعة على الرغم من أنّنا ندرك أن لا مفرّ منه؟ وأخيرًا لماذا "حقوق الإنسان" إذا لم يكن هذا الأخير سوى آلة مبرمجة وفق معطياته الوراثيّة ووفق محيطه؟"[22]. نظرًا لفقدان الثقة في الكنائس لم يعد الكثيرون يجدون الأجوبة لديها، أو بالأحرى لم يعودوا يبحثون هناك بل التجأنا بعيدًا إلى أماكن أخرى. لذا نشهد اليوم "عودة مبهمة لما هو دينيّ"[23]. من هنا تكاثر الشيع والانجذاب نحو الطقوس الغريبة واستحضار الأرواح والسحر واللجوء إلى روحانيّات الشرق الأقصى والهروب بواسطة المخدّرات والنشوة الكاذبة بحثّا عن الانفعالات الحادّة ورواج العرّافين والمنجّمين! تتّسم هذه العودة بثلاث سمات رئيسة: "إنّها بمثابة علمويّة (scientisme) اللامنظور كأنّها بحث عن ملجأ خارج التاريخ، نفي للشخص وتمرّد ضدّ مسيحيّة منحلّة"[24].

تلغي الدهريّة إذًا نمطًا معيّنًا من الوجود المسيحيّ القائم على الهيمنة والتوحيد السلطويّ، المستند إلى الإيمان، ومراقبة كلّ شيء[25]. إنّنا نشهد تفكّك "العالم المسيحيّ" التاريخيّ. لقد بدأ الناس يهجرون الكنائس التي تجذّرت في العالم وأصبحت وثيقة الصلة بالأنظمة القائمة إلى حدّ أنّها أهملت دورها النبويّ. "لم تعد اللا-كنيسة مؤلّفة، كما كانت في السابق، "من أشخاص غير مؤمنين معروفين أو من مجموعة الفاترين الذين نجدهم في "محافل" المسيحيّين، بل من جميع الذين فقدوا الإحساس بالله"[26] وغير المبالين بمسألة الدين، وهم يتحوّلون إلى غالبيّة. فقد أظهر بحث جرى مؤخّرًا في فرنسا، التي كانت تعدّ حتّى عهد قريب "الإبنة البكر" للكنيسة الكاثوليكيّة، إنّ عددًا كبيرًا من الأطفال لم يسمعوا أبدًا باسم يسوع! ليس الإلحاد هو التحدّي الأكبر الذي تواجهه الكنائس بل الجهل واللامبالاة بنوع خاص. يجد العالم المسيحيّ نفسه اليوم، من نواحٍ عديدة، في حالة من الأقلّيّة شبيهة بتلك المرحلة الرسوليّة التي كانت تُواجه فيها التلفيقيّة وفلسفات وديانات أخرى مختلفة.

- أضف إلى ذلك تفاقم مخاوف قديمة. فإنّنا نحيا اليوم عصورًا وسطى جديدة بكلّ أوبئتها (مرض السيدا وإيبولا... إلخ) وصراعات بين الأعراق والأمم والقبائل وإبادات جماعيّة ظاهرة أو مقنّعة.

مشاكل خاصّة ببلادنا

على الرغم من أنّ فئات عديدة من سكّان المنطقة (بشكل عام تلك الأكثر انفتاحًا على الغرب والتي تعتبر أنّ كلّ ما يصدر عنه أهل لاتخاذه مرجعًا) قد دجّنتهم حضارة الدهريّة هذه، فإنّ التعلّق المتجذّر الذي تظهره بعض الفئات الأخرى بالثقافات التقليديّة، والنظام الطائفيّ السائد، والنظرة التيوقراطيّة في الإسلام وبعض الطوائف المسيحيّة المحلّيّة توهمنا أنّ القطيعة بين الكنيسة والمجتمع غير ممكنة وتمنعنا من الاعتراف بحقيقة ما حصل منها إلى الآن. يزداد الوضع التباسًا مشجّعًا المواقف المنافقة والكاذبة إن من قبل الدولة والمجتمع الأهليّ أم من قبل المؤسّسة الكنسيّة. إنّه ظاهريًّا وضع ثابت حيث إنّ كلّ فريق يبدو مطمئنًّا لموقفه. إلّا أنّ هذه الطمأنينة الوهميّة التي تشعر بها الكنيسة هي في الحقيقة نوع من التهرّب من مواجهة المشاكل الفعليّة. سيحلّ الاستحقاق عاجلاً وعندها نشعر بمرارة اليقظة.

غالبًا ما يغيب عن بال الكنائس، المتجذّرة في النظام الطائفيّ والمفعمة بالحنين إلى "سنوات المجد الخوالي" التي كانت تحكم خلالها المجتمع، والعاجزة بعد عن التخلّص من العقليّة واللغة اللتَين ورثتهما عن المجتمعات البطريركيّة التي تعود إلى العصر ما قبل الصناعيّ، أنّ سبب وجودها ليس التسلّط على العالم أو التحوّل إلى مراقب أو مشرّع بل تذكير هذا العالم، كما فعل السيّد، بتواضع وبالمثال الحيّ، بمعنى القيم التي تحترم الإنسان والإنسانيّة. عندما تنزوي الكنيسة في منطق حماية حقوق المنتمين إليها فقط، تتحوّل، شاءت أم أبت، إلى الفئويّة، وتصبح هي أيضًا مخادعة، وتمارس العمل السياسيّ وتنسى في النهاية أنّها ملك للجميع وأنّ كلّ إنسان ضعيف أو مضطّهَد أو متعطّش إلى العدالة يجب أن يكون موضع رعايتها إذا كانت تريد أن تظلّ أمينة لدعوتها، فلا تعود كنيسة بل تنحصر في حدود الملّة. وهكذا تتحوّل "بنى الكنيسة من بنى روحانيّة (كارزماتيّة) إلى بنى سياسيّة"[27]، فتجنح تاليًا إلى ممارسة السلطة والوقوع في الدهريّة، وتصبح معظم الأحيان مبعثًا للعثرة بدل أن تكون أداة خلاص.

على الرغم من أنّنا نشهد نهضة روحيّة وعودة إلى الأخلاق التقليديّة في بعض الأوساط، فإنّ عددًا كبيرًا من المسيحيّين (وهم أكثر ممّا نتصوّر) يكتسبون آداب الغرب وإباحيّته، تشجّعهم على ذلك خلايا "مغرّبة" (occidentalisé) في الكنيسة ووسائل إعلام تبثّ سمّها طوال اليوم فتعرض أكثر نماذج الحضارة الغربيّة فسادًا. إن الإنحرافات التي نشهدها كتشتّت العائلة وانحلال الأخلاق واللجوء إلى استحضار الأرواح والسحر والروحانيّات الشرقيّة أصبحت أمورًا اعتياديّة في أوساط كثيرة.

أمّا على صعيد الإنتماء الكنسيّ فالتلفيقيّة هي المسيطرة. تنقصنا إحصائيّات جدّيّة لتحديد نسبة المسجّلين تحت مذهب الأرثوذكسيّة والذين لا يمتّون بأيّة صلة بالكنيسة. يشير كثير من كهنة الرعايا، في المدن والقرى، إلى أنّ ما بين 15 و25٪ من أعضاء الرعيّة فقط تربطهم علاقة ما بالكنيسة، وإن اختلفت طبيعة هذه العلاقة، وإنّ ما بين 6 و12٪ منهم ممارسون دائمون. أمّا الغالبيّة التي تعجز الكنيسة عن الوصول إليها فتتوزّع قلّة منها على الملل والكنائس الأخرى لكن غالبيّتهم من اللامبالين الذين هم بمعظمهم دهريّون فعليًّا أو في طريقهم نحو الدهريّة. من جهة أخرى، وحتّى بالنسبة إلى عدد كبير من الممارسين أو الناس الذين على صلة بالكنيسة، أصبح الإيمان، بدون التمييز بين الطوائف، مسألة شخصيّة، علاقة عموديّة مع الألوهة، فلم تعد الكنيسة تُعتبَر سوى موزِّعة خدمات (المعموديّة والزواج وحتّى المناولة) نأخذ منها ما نريد، عندما نريد، للتأكّد من ذلك يكفي، للأسف، أن نقصد إحدى كنائسنا الكبيرة يوم الخميس العظيم المقدّس لنرى كيف يُؤَدَّى سرّا التوبة والمناولة، حتى يملأنا الشعور أنّنا، عذرًا على التعبير، في متجر من نوع الأكل السريع (Fast food) أضف إلى ذلك أنّنا، نظرًا لانشغالنا بحمّى هذا القرن وضيق وقتنا، نقصد أقرب كنيسة منّا، فإنّ الشعارات التي أُطلقت منذ سنوات لأغراض سياسيّة بحتة، لا تزال راسخة في النفوس: "ألسنا كلّنا مسيحيّين؟". "ما من فرق بيننا"، "إنّها قضيّة الإكليريكيّين، فلندعهم لنزاعاتهم التي تعود إلى القرون الوسطى..." إلخ. من هنا الوجهان اللّذان نقابل بهما رجال الدين، فنحن لا نغفل أبدًا أن نهنّئ البطريرك أو الأسقف أو الكاهن بالأعياد وما أن يغيب عنّا حتّى ننهال عليه بشتّى الإنتقادات. إنّها حضارة الكذب والتشهير، الصريح أو الضمنيّ، المنظّمين. أمن سبيل المصادفة أنّ أصواتًا قليلة ترتفع لكي تندّد بالفساد الذي فاق حدّه في لبنان؟ أو بالهوّة المتزايدة بين أقلّيّة تغتني بإفراط وتتفاخر بغناها وفئات فقيرة تكثر يومًا بعد يوم؟

إنّ العلاقات القائمة بين الكنائس والأديان تشوبها الطموحات والمنافسات المذهبيّة والمخاوف المتبادلة والخداع لدرجة أنّه يبدو أن لا مستقبل حقيقيّ صافٍ للّقاء المسكوني بين المسيحيّين والحوار مع المسلمين اللذين بوشر بهما قبل الحرب اللبنانيّة.

كما أنّ هناك مسألة أخرى لا جدوى من إخفائها: فيبدو أنّ مناخ "التعايش" بين الأقليّة المسيحيّة والمجتمع الإسلامي، الذي صمد بشكل من الأشكال، وعلى الرغم من الظروف المتبدّلة، حتّى بداية الحرب اللّبنانيّة، قد عانى جدّيًّا هذه الحرب وعقليّة "الحروب الصليبيّة" و"الجهاد المقدّس" التي رافقتها كما أنّه يعاني ظهور الأصوليّة، وبخاصّة الإسلاميّة منها، كموقف ظاهريّ ضد الحداثة والحضارة والعجرفة الغربيّتين. هذا يولّد عند العديد من المسيحيّين مواقف تتراوح بين هروب من الواقع بالإنزواء في شيع أو Ghettos غير مبالين بالإشكالات المطروحة من حولهم، وهروب بالفكر أو بالفعل إلى غرب يتوهّمونه مسيحيًّا، مرورًا بأحلام استرجاع السيطرة.

مواقف إزاء الدهريّة

إزاء هذا الغليان العام، ما موقف المسيحيّين وجميع الذين ما زالوا يؤمنون بالدين؟ يتأرجح موقف المسيحيّين إزاء الحداثة بين اللعنة والانسجام.

- "كما أنّ الكثير من العقول الحديثة تعتبر الدين نتيجة للضعف البشريّ الذي يتهرّب من مواجهة الوجود فيؤدّي إلى التعصّب، يعتبر الكثير من ذوي الفكر الدينيّ أنّ الحداثة هي نتيجة تكبّر الإنسان الذي يرفض الله فيؤدّي إلى العدميّة"[28]. فبعض المسيحيّين الذين يواجهون إنسانًا يعيد النظر في كلّ شيء، مغترًّا بقدرته التقنيّة، يتكلّم لغة جديدة، يستخفّ بمرجعيّاتهم كلّها، لا يتكلّم عن الله "ولا يعترف بأيّة حقيقة غير العالم الساعي إلى التقدّم"[29]، يشعرون بنوع من الرعب إزاء قدرة الآلة والاضطرابات التي تسبّبها الحداثة، وينظرون إلى المكننة والحضارة التي تولّدها على "أنّها وجه من وجوه حكم المسيح الدجّال"[30]. فينزوون في عزلة ساكنة، لا تخلو من التكبّر والأبويّة، تترجم بحرم العالم الحديث. فكما يسمّيهم المطران جورج خضر "أرستقراطيّو الصلاة"[31] "يتسلّحون بنبوءات الرؤيا ويفهمون ما كتبه يوحنّا على هواهم: "لا تحبّوا العالم ولا الأشياء التي في العالم... لأنّ كلّ ما في العالم ليس من الآب بل من العالم" (1 يوحنا 2: 11، 15، 16)، ناسين أنّ "العالم" في فكر يوحنّا هو ملازم للمفهوم الكتابيّ للحم"[32]. يغمر هؤلاء المسيحيّين الحنين إلى نوع من أنواع الوجود المسيحيّ حين كانت الكنيسة مهيمنة في كلّ مكان. لذا يتحوّلون إلى مجموعة محافظة منغلقة، غالبًا ما تلتجئ إلى الأصوليّة والمذهبيّة كملاذ يمتزج فيه كره غرب أسطوريّ وحداثة مقولبة"[33].

- فضلاً عن ذلك، و"بسبب جمال ما تخبّئه لنا الأبديّة، ذلك الجمال الذي لا يُوصَف، يميل بعض المسيحيّين إلى الانتقاص من قيمة أعمال الإنسان، فكلّ ما ليس حصرًا كنسيًّا هو يخصّ هذا العصر فيمرّ وينقضي. وهم يرتكزون في موقفهم هذا على أنّ الكتابات الرهبانيّة تعلّمنا أنّ مصادر ثقافة الراهب تنحصر في الكتاب المقدّس وكتابات الآباء"[34]. والعالم الأرثوذكسيّ، بشكل خاص، مليء بهذا "التواضع المتفاخر"[35]... وبهذا النوع من "إماتة العقل"[36].

- كما أنّه "في وجه غرب تنظر هذه الأوساط إلى قوّته وحيويّته على أنّها انفجار وتفكّك، ينمو حنين إلى ثقافة عضويّة (organique) شاملة، تجمع، بانسجام، بين الدنيويّ والروحيّ. من هنا يقظة الإسلام وانبعاث الحركة "الترويسيّة" (russiste) في روسيا، وأسطورة بيزنطية في اليونان"[37]. والإشارات العديدة في منطقتنا إلى "عصر ذهبيّ" غابر.

- من جهة أخرى، نجد "فعاليّة (activisme) الذين، وبدون إثارة مسألة المعنى الروحيّ والكونيّ للآلة، يرون في الاختصاصيّ التقنيّ "الكاهن" الجديد لإتمام عمليّة الخلق"[38]. فالكنيسة بنظر هؤلاء المسيحيّين هي حليفة للسلطة وأداة قمع وتعتيم في بعض الأحيان. لذا يجب القضاء عليها لكي نشهد ولادة إنسان جديد وأخلاق جديدة يبعثها عالم الاجتماع والمحلّل النفسانيّ، ولم لا، الاختصاصيّ في علم الوراثة. يؤكّد هؤلاء المسيحيّون المسحورون بناسوت المسيح الذي يأكل ويشرب مع الناس، أنّ نقطة الانطلاق لأيّة مبادرة "تكمن في الإنسانيّة وفي أولويّة المجتمع الحديث والثقافة التقنيّة التي تفرض نفسها بالإنجازات التي نعاينها... أمّا المشاكل الروحيّة، إن وُجِدَت، فتأتي بعد المهمّة الأساسيّة التي تقضي بسدّ الحاجات المادّيّة لمجتمعات اليوم والوصول بالإنسانيّة جمعاء إلى وجود أكثر توازنًا على الصعيد الاقتصاديّ والاجتماعيّ والعرقيّ في العالم كلّه"[39].

توجيهات للشهادة المسيحيّة في هذا العالم

إتحاد اللاهوت بالناسوت (divino – humanité)

على الموقف المسيحيّ الأصيل ألّا يتماهى بالنشاطيّة أو الأصوليّة. "يجب أن نختبر جحيم التقنيّة ونبقي فكرنا في تيقّظ وقلبنا في بساطة أبناء الله... من الخطأ أن نواجه التقنيّة بالتأسّف على القيم الروحيّة المفقودة. فما هو أصيل يتجاوز كلّ كارثيّة (catastrophisme) رؤيويّة. نستطيع بلا شكّ الرثاء لاختفاء ثقافة الرمزيّة والاستبطان إلّا أنّها ضريبة العدالة والمساواة في الكرامة"[40]. إنّ المسيحيّة تخون قناعاتها الجوهريّة كديانة التجسّد عندما تعتبر الله ضدّ الإنسان وتعتبر الحداثة ضدّ الله. في الحقيقة "الله والإنسان لا يتعارضان بل يتّحدان في المسيح بغير انفصال أو التباس. الاتّحاد بين اللاهوت والناسوت هو مجال الروح القدس وحريّة الإنسان الخلّاقة"[41]. كان الفيلسوف واللاهوتيّ الكبير الروسيّ، سولوفييف، يؤكّد، منذ القرن التاسع عشر، أنّ الدهريّة هي "مرحلة ضروريّة لتطوّر الاتّحاد بين اللاهوت والناسوت"[42]. ويضيف: "يقول الكلمة المتجسّد للشرق: "لا تستطيع أن تجد الألوهة الكاملة التي تبحث عنها إلّا في وحدتها مع الإنسانيّة الحقّة... ويقول المسيح للغرب: إنّ الإنسان الذي تبحث عنه لا يمكن أن يكون إنسانًا فقط. فما الإنسان الكامل سوى تجلّي الله الكامل... يجب أن نقول، حين نتكلّم عن المسيح: "ها هو الإنسان"[43]. "ليست المواجهة المعتدلة والصبورة، التي تواجه بها المسيحيّة الثقافة والاقتصاد والسياسة والإشكالات الأخلاقيّة الجديدة، بالضرورة تنازلاً مؤسفًا أمام فكر العالم... كما أنّها ليست فقدان الحماسة أمام قدرة الله وكلمته. علينا أن نعرف كيف نجتنب مخاوف اللاهوتيّ الذي يخشى أن يحوّل عالم الأنتربولوجيا الرسالة إلى مجرّد تلفيقات، ومخاوف عالم الأنتربولوجيا الذي يشتمّ في ثقة اللاهوتيّ جهلاً غالبًا ما يوصمه بالتخريب"[44]. وكما أكّد غبطة البطريرك أغناطيوس الرابع في محاضرته عن "المسيحيّة وتلاقي الأديان والثقافات" التي ألقاها في السوربون العام 1983، يجب أن "نصغي بانتباه محبّ واحترام كلّيّ ثم نشكر الله على عطاياه الكثيرة – التي يسمّيها الآباء الرسوليّون "زيارات الكلمة" – فنفوّض أمرنا أخيرًا إلى الله في الصلاة ومحبّة الآخر إذا ما نشأ أي تعارض أو حواجز يبدو تجاوزها مستحيلاً لنا"[45]. الإصغاء والمحبّة والصلاة. اجتناب سياسة الحرم والنسبيّة والتلفيقيّة. علينا "محاولة تحسّس حضور المسيح حيث يبدو غائبًا أو حتّى مرفوضًا، وتحمّل مسؤوليّة هذا الرفض وجعله صليبنا"[46].

"إنّ مسيحيّة الاتّحاد بين اللاهوت والناسوت هي تلك المنفتحة على استكشاف الإلهيّات كلّها والإنسانيّات كلّها، بدون أي معيار آخر غير محبّة ما هو إلهيّ وإنسانيّ. في وجه المشارق التي يتلاشى فيها كلّ شيء في الإلهيّ، تُبرز هذه المسيحيّة الإنسان وحرّيّته. وإزاء الغرب الحديث الذي يعتقد أنّه يحرّر الإنسان حين ينفي الإلهيّ، تُبرز الله والمحبّة. يجب أن تذكر هذه المسيحيّة جميع الذين يعتقدون أنّه على الأب أن يقتل الابن أو على الابن أن يقتل الأب، بأنّ الروح القدس هو منبثق من الآب ويرتكز على الابن فيكون الابن مساويًا للآب"[47]. على هذه المسيحيّة أن تنفتح على الإستكشافات الإنسانيّة للحداثة، مع الحرص على منعها من الانغلاق وعبادة الذات، أي عبادة الموت"[48].

"عندما ننسحب من التاريخ نصبح مجرّد متلقّين بدل أن نكون صانعين. ليس بوسعنا إذًا تجاهل العلوم والتكنولوجيا التي تجتاح العالم. أن نستكين يعني أن نخون الله. أن نترك العالم للذين ليس لهم موقف من الإيمان (agnostiques) بدون أي تبكيت ضمير، هو أيضًا أمر منافٍ لشهادتنا"[49].

ما من شكّ في أنّ الكنيسة في أيّامنا هذه تعي "أنّها ضعيفة ممّا يجعلها شبيهة بالعالم من جهة قلقه... لم تعد الكنيسة تحسّ أنّها ذلك الزورق الثابت. لكن يجب ألّا يغفل عنها أنّ السيّد يسكن هذا الزورق ويستطيع أن يمشي على المياه ويهدّئها"[50].

الروح يهبّ حيث يشاء. "فقد يصدر الحقّ والخير والجمال عن غير المؤمنين على الرغم من مخاوف المسيحيّين وتحفّظاتهم. إلّا أنّ الإكتشافات والإنجازات الحديثة الهائلة قد فجّرت الثقافة التي هي في طريقها نحو الإفلاس نظرًا لجهلها مصادرها الروحيّة. لا يستطيع الفكر الحديث الإنفتاح على المسيحيّة بالقوّة – وهذا بالأصل مستحيل – بل بمضيِّه في بحثه حتّى النهاية. حبّذا لو أنّنا، على الأقل، نقدّم له بتواضع مسيحيّة التجلّي والقيامة التي حفظها الشرق المسيحيّ، العاجز حتّى اليوم عن أي خلق ثقافيّ، ولم ينمِّها، والتي يجب أن تحرّك اليوم وتفعِّل الأساس المشترك للطوائف المسيحيّة كلّها: على مسيحيّة الاتّحاد بين اللاهوت والناسوت هذه أن تستوعب إنجازات الإنسانيّة الحديثة كلّها وحكمة الشرق كلّها، بدون اي التباس"[51]. وكما يقول البطريرك أثيناغوراس، ما من خيار لدينا، يجب "أن نواجه عمليّة إنشاء الحضارة الكونيّة الشاقّة"[52].

إصلاح جذريّ وشامل

"لا يكمن الحلّ  في الموقف الدينيّ الذي يعتبر أنّ القطيعة الجذريّة عن الحداثة تحمي من العدميّة أو في الموقف الحديث الذي يعتبر أن القطيعة الجذريّة عن الدين تحمي من التعصّب. يجدر التذكير هنا بموقف ثالث: ذلك الذي لا يرى في الحداثة عدميّة وفي الدين تعصّبًا، بل يعتبر أنّنا نصبح عصريّين لأنّنا نعرف كيف نكون دينيّين ونصبح دينيّين لأنّنا نعرف كيف نكون عصريّين"[53]. على المسيحيّين اعتماد هذا الموقف لأنّه الوحيد الذي يترجم إيمانهم بتجسّد الله وبالاتّحاد بين اللاهوت والناسوت. إنّ هذا النمط من حضور المسيحيّين في العالم هو نمط "الشراكة النبويّة"[54] وهو في صفّ الإنجيل وروح التطويبات أكثر من ذلك الذي اعتمدته الكنيسة التاريخيّة المنتصرة والمهيمنة. "إنّ نواة الطاقة الروحيّة، التي أدّى تفجّرها إلى الحداثة، في طريقها إلى النفاد؛ فالوقت إذًا مناسب للمسيحيّين حتّى يُثيروا، بقوّة متواضعة، نوعًا من المعنى، نوعًا من النار ومن النور. إذا لم يفعلوا ذلك، إذا لم يعرفوا كيف يجدون لأنفسهم مكانًا في المجتمع الدهريّ يكونون قد أفسحوا المجال واسعًا للديانات المزيّفة"[55]. يشترط هذا النهج إصلاحًا جذريًّا لفكرنا وحياتنا، الشخصيّة والجماعيّة، وعودة بلا أيّة مساومة إلى الجذور الإنجيليّة، وهاجس التبشير في لغة يفهمها الإنسان المعاصر. "لا يفسح عصرنا أي مجال لمسيحيّة لا تتوق إلّا إلى عدم الزوال. ولكنّه يقدّم للمسيحيّة فرصًا فعليّة عندما تكون ديانة تبشير ومهتدين جدد، ديانة ترتكز على البشارة السارّة، وديناميّة هذه البشارة التي عرفت كيف تحافظ على حماسها الأوّل"[56]. "إنّنا نحيا في الصحراء" و"الصحراء تتسع رقعتها" كما قال نيتشه. ويجدر بنا في هذه الصحراء، بحسب قول النبيّ، "أن نعدّ طريق الربّ"[57]. "لبشارة الكنيسة أبعاد كونيّة. غايتها شمل العالم برمّته وتجديده، وتجلّيه كملكوت الله. تقتضي هذه البشارة تقريب العالم وجذبه وتقديسه وتجديده، بالإضافة إلى إضفاء مضمون جديد لأشكال قديمة للحياة، وتقبّل الثقافات المحلّيّة وطرق تعبيرها محوّلة إيّاها إلى أدوات خلاص"[58].

إذا أردنا أن نكون قادرين على الاستمرار في شهادتنا ونحن على عتبة القرن الحادي والعشرين المثقل بالتحدّيات لكن أيضًا بالوعود، لا نستطيع الاستغناء عن إصلاح جذريّ وشامل. يجدر بهذا الإصلاح أن يطال حياتنا الشخصيّة وحياة الكنيسة وأنماط العلاقة بين الكنيسة والعالم والوسائل التي على الشهادة الكنسيّة أن تعتمدها.

حياة المسيحيّين الخاصّة

"الأمر الجوهريّ هو أن يكون الشخص معمّدًا، يطرح خلفه الموت، فيصبح خلفه لا أمامه ولا فيه، فلا يعطيه بعد الآن، لا يورثه بل يعطي ويورث الحياة. فهو حيّ محيٍّ، حتّى، وبخاصّة، عندما يسحقه الصليب، حتّى وبخاصّة، عندما لا يعود يفهم فيلتجئ راكعًا أمام الصليب"[59]. "لا يمكن الإجابة على القائلين بالكلّيّة المزيّفة (pseudo – totalité) أو بالموت سوى بالدعوة إلى قداسة متجدّدة. فالقدّيسون هم الوحيدون الذين يعرفون كيف يستوعبون العنف ويحوّلونه، ويبشّرون بواسطة حبّهم الفاعل، أو فقط بواسطة حضورهم، بالتواصل الذي يهدم الحواجز ويؤدّي إلى خلاص الكلّ"[60]. من أجل السير على دروب القداسة، "يستحسن بنا أن نتجذّر في الموعظة على الجبل قبل التكلّم بإسهاب عن روحانيّة الشرق المسيحيّ"[61]، إذ "إنّه بالحبّ لا بالمعرفة يخلص الإنسان"[62]. ليس المطلوب هنا البحث عن وصفات لاهوتيّة بل علينا خلق تحسّس (sensibilité) جديد وعقليّة جديدة. علينا أن نجسّد الفكر الإنجيليّ في حياتنا اليوميّة. لذا ما من سبيل آخر سوى الإصغاء إلى ذلك الذي هو وحده "الطريق والحقّ والحياة". فيجدر بنا تاليًا البحث جدّيًّا عن المسيح في أماكن حضوره كلّها: في الصلاة الفرديّة والتوبة كانقلاب للذّات والنسك والذبيحة الإلهيّة والكتاب المقدّس واجتماع الإخوة والإنسان، كلّ إنسان يدعونا الربّ إلى خدمته وتحريره. المطلوب إقامة علاقة شخصيّة مع المسيح، أجرؤ وأقول علاقة "الندّ للندّ"، والعيش على الدوام برفقته، والتساؤل، بعيدًا عن الوصفات الجاهزة التي تقدّمها بعض الأوساط الكنسيّة، لكن بدون إهمالها بالضرورة، عمّا كان يسوع ليفعل في هذه الحالة أو تلك والطلب إليه أن يساعدنا على أن نتبع في كلّ تصرّفاتنا تعاليمه وثورته الإنجيليّة.

ليس العالم بحاجة إلى عقائديّين يطلقون الأحكام لكن إلى أناس يقتدون بالمسيح فيبرهنون بمسلكهم الحياتيّ، كما يقول كوستي بندلي في دراسته الرائعة "شهادة الجماعة الأفخارستيّة"، إنّ الحياة ليست أبدًا عبثيّة بل على العكس "تقدمة" و"خدمة ومشاركة" و"ورشة للملكوت الآتي"[63]. إنّي أدعوكم بشدّة إلى أن تقرأوا هذا النصّ المشعّ الذي يذكّرنا أنّ المسيحيّة لا تكون حقّة إذا لم تفضّل "الكينونة" على "الملكيّة" و"المظاهر"[64]، ولم تتسلّح بالزهد بالغريات الأرضيّة وروح المجانيّة والفرح والحنان لكلّ ما هو مخلوق وإرادة المشاركة.

أمام هذا المجتمع المتعطّش للتملّك، الإنسان المسيحيّ هو الذي يعرف أنّ كلّ ما لديه هو من الله وأنّه ليس سوى وكيل عليه، فعليه تاليًا الزهد بكلّ شيء وأن "يملك كأنّه لا يملك" (1 كورنثوس 7: 29 – 31).

أمام حضارة يمكن فيها "إمتصاص كلّ شيء واستيعابه والتقليل من شأنه وتسخيفه"[65]، الإنسان المسيحيّ هو الذي يدعو إلى ما يبدو للجميع عديم الفائدة (الله، الخدمة الليتورجيّة، القداسة، المجانيّة، الجمال) بَيْدَ أنّه ينير كلّ شيء ويعطي للتغييرات الكبيرة قوّة ومعنى. فهو الذي يشهد، من خلال حياته المعطاء، لإلهه الذي بذل نفسه بغير دافع المحبّة سوى المحبّة، والذي يهب حياته بدون مقابل ويرضى أن يصير وضيعًا وأن يتجرّد من كلّ شيء ليكون مصدرًا للخلاص.

أمام عالم يبحث عن نفسه، غالبًا بقلق وكآبة ومرارة، يجب على المسيحيّ أن يعرف كيف يستعيد ذلك "الفرح العظيم" الذي يتحدّث عنه إنجيل لوقا (2: 10 – 24: 52) والذي يدعونا المسيح إلى الثبات فيه. يجب علينا، بممارستنا لعمق الحياة الليتورجيّة، وردًّا على اتهام نيتشه "أنّ المسيحيّين هم بدون فرح"، أن نسترجع معنى العيد ونتعلّم كيف نعيش بلا انقطاع فرح القيامة المتجدّد في كلّ قدّاس إلهيّ، ونعكسه في نظرتنا وابتسامتنا ووجهنا فربّما نستطيع إقناع العالم أنّ المسيح حقًّا قام. علينا أن نكرّر هذه الجملة التي كتبها الأب ألكسندر شميمان في كتابه: من أجل حياة العالم: "لم تنتصر المسيحيّة في العالم إلّا لأنّها فرح؛ وقد خسرت العالم عندما فقدت الفرح، عندما لم تعد شاهدة لهذا الفرح"[66]. إلّا أنّه علينا أن نعرف أنّ هذا الفرح لن يثبت فينا ما لم نستعد عطشنا إلى الله وقناعتنا أنّه "صخرتنا" و"الكنز الذي لا يثمّن" وأنّه وحده الأمين وأنّه يدعونا باستمرار إلى أن نصبح، بواسطة روحه، شهودًا لابنه. لقد كتب مالرو: "إنّني أنتظر نبيًّا يستطيع أن يصرخ أنّ العدم ليس موجودًا"[67]. ماذا ننتظر إذًا نحن الذين نعرف أنّ المسيح قد قام وأنّ العدم ليس موجودًا، لنصرخ مع القدّيس سيرافيم ساروفسكي بلا انقطاع: "يا فرحي! لقد قام المسيح"!

أمام عالم محموم لا يستكين، على الإنسان المسيحيّ أن يعرف كيف "ينسحب في اللحظة"[68] (كيركوغرو). عليه أن يستعيد دعوته لأن يكون "حيوان تسبيح"، إنسان – مديح لا يخجل من شكر الله على جميع عطاياه. عليه أن يعرف كيف يكون في حضرة الله في كلّ وقت وفي كلّ مكان، وكيف يصمت ليسمع صوته الفائق الوصف فيبحث معه، في الصلاة، التي يصفها قول آبائي "بفنّ الفنون وعلم العلوم"، عن المعنى المفقود. قال دينيس دي روجمون، كاتب معاصر: "إذا لم تعودوا تصلّون فلا تلوموا الآلات"[69]. وبعبارة أخرى "إذا لم تعودوا تصلّون فلن تستطيع الآلات إعطاءكم وإعطاء نفسها أيّ معنى"[70]. في هذا العالم الذي يعاني أزمة روحيّة، ليس الوقت ملائمًا أبدًا لأنّ يستهتر المسيحيّون بأهمّيّة العلاقة الشخصيّة بين الله والإنسان في سرّ التقائهما. يجب علينا إذًا أن نتذكّر ونذكّر بما يطلبه منّا الرسول: "صلّوا بلا انقطاع" ونعود إلى تقليد كنيستنا الروحيّ، بخاصّة في ممارسة "صلاة اسم يسوع"، لنقتبس الطريقة والسبل إلى التدرّب على هذه الصلاة الدائمة. لقد منحنا الله فرصة أن يكون لنا من جديد في أنطاكية رهبان وراهبات يستطيعون توجيهنا على هذه الطريق التي، على غرار جميع الطرق المؤدّية إلى الأعلى، تتطلّب تدريبًا وجدّيّة وكثيرًا من التمييز، فيجب ألّا نجازف ونسلكها لوحدنا.

أمام عالم يوشك أن يفقد كلّ شعور بالذنب، عالم يُستَباح فيه كلّ شيء ويتوجّب اختيار كلّ شيء فيه باسم الحرّيّة، يجب ألّا نخجل من أن تدلّ حياتنا، المليئة بالتوبة والحزم والجهوزيّة والوداعة تجاه الآخرين، على إيماننا، الموضوعيّ والبعيد عن كلّ تواضع كاذب، بأنّنا أكبر الخطأة، ولكن أيضًا على وعينا أنّنا خطأة مغفور لهم. لذا تصبح الخطيئة بالنسبة إلينا تأخّرًا عن شكر الله وحمده قبل أن تكون عصيانًا للشريعة إذ إنّنا نعي أن "الإنسان لا يكون كبيرًا إلّا حين يكون راكعًا" ففي هذه الوضعيّة يكون أقرب إلى الله الذي أفرغ ذاته والذي يحبّنا بجنون ويدعونا إلى غسل أرجل الناس كما فعل هو. إنّنا "مغفور لنا غافرون لغيرنا"[71]. إنّ أفضل طريقة لنقابل حبّ الله الجنونيّ هي أن نجنّ حبًّا بالناس الذين اختار هو أن يسكن فيهم.

أمام عالم سادت فيه الفرديّة، وانحلّت فيه الروابط العائليّة، ويسمّر فيه الشباب والعجائز على صليب الوحدة، علينا أن نعرف كيف نحوّل مجموعاتنا الإفخارستيّة ومؤسّساتنا الكنسيّة إلى أماكن استقبال وشركة وخدمة حقّة، أماكن تختبر فيها وحدة البشريّة بغضّ النظر عن الاختلاف في الآراء، و"تباشر السلطة فيها بالتحوّل إلى خدمة والامتلاك إلى تقدمة وشركة، والتاريخ إلى بناء الملكوت"[72]، أماكن يعطى فيها – على الأقلّ خلال ممارسة الأسرار – تحقيق التقاء الزمن بالأبديّة فنذوق مسبقًا طعم الملكوت الآتي.

في عالم يحتدم فيه العنف، علينا القضاء على دوّامة الاعتداء والثأر والجهنّميّة "فنحبّ أعداءنا ونصلّي لأجل الذين يسيئون إلينا ونبارك لاعنينا ونقرض ونحن لا نرجو شيئًا".

من الطبيعيّ إذًا، كما يقول كوستي بندلي، أنّ "روح الخدمة ورفض السلطة يجب أن يطبعا سلوك المسيحيّين مهما كانت المسؤوليّة الملقاة على عاتقهم في المجتمع. فالمسيحيّون يعون أنّ "السلطة تفسد" وأنّ خطر الفساد يتفاقم بمقدار حجم هذه السلطة، لذا يسهرون على ممارسة هذه السلطة، لا بروح الهيمنة بل بروح الخدمة لهدف تحقيق الخير العام الحقيقيّ ومصلحة جميع من هم تحت مسؤوليّتهم. فهم يعتبرون أنّ أي تقدّم أو ازدهار لهؤلاء هو المعيار الحقيقيّ لنجاحهم هم"[73].

في عالم يُستَباح فيه كلّ شيء وتبدو الحرّيّة كأنّها أطلقت لنفسها العنان على صعيد الأخلاق والعلاقات الشخصيّة، لا بدّ لنا أن نعرف كيف نذكر، بواسطة الحزم في عيشنا واحترام الآخر وحرّيّته والانفتاح على اختلافه والاهتمام الدائم بالتحدّث مع الإنسان فيه و"الطاعة المتبادلة" (أفسس 5: 21)، "وتفتح الحبّ الذي يتخطّى الشهوة والجمال الذي يتخطّى المفيد"[74]، أنّ "الأمر مختلف بالنسبة إلينا" (لو 22: 26) وأنّ مقاييس القيم لدينا هي تلك التي يعدّدها بطرس الرسول حين يقول: "وأنتم باذلون كلّ اجتهاد قدّموا في إيمانكم فضيلة وفي الفضيلة معرفة وفي المعرفة تعفّفًا وفي التعفّف صبرًا وفي الصبر تقوى وفي التقوى مودّة أخويّة وفي المودّة الأخويّة محبّة" (2 بطرس 1: 5 – 7). ويتابع بولس الرسول: "فالبسوا كمختاري الله القدّيسين المحبوبين أحشاء رأفات ولطفًا وتواضعًا ووداعة وطول أناة محتملين بعضكم بعضًا إن كان لأحد على أحد شكوى كما غفر لكم المسيح هكذا أنتم أيضًا وعلى جميع هذه البسوا المحبّة التي هي رباط الكمال" (كولوسي 3: 12 – 14).

لو تصرّف المسيحيّون على هذا النحو لما كان العالم على الأرجح قد رفض الله. فإذا عرفنا اليوم كيف نحفظ هذه الوصايا حرفيًّا ونطبّقها مع جميع البشر، فربّما نستطيع مجدّدًا إبراز وجه سيّدنا الحقيقيّ للعالم ونجعله يكتشف الله المخبّأ فيه.

حياة الكنيسة الداخليّة

في مغامرة القداسة هذه التي استعرضنا منها بعض وجوه حياة الإنسان المسيحيّ الخاصّة وشهادته، يجب علينا أن نتذكّر أنّ الإنسان لا يمكنه النجاح وحده، إذ إن يسوع، بدون إغفال اللقاءات الشخصيّة، غالبًا ما يأتي إلينا في جسده حيث ينكشف لنا عندما نجتمع باسمه، عندما نكون في شركة مع بعضنا البعض. فكما يقول الأب ديميتريوس ستانيلواي، "يتغذّى الارتقاء الروحيّ للإنسان من الإفخارستيّا أي أيضًا من الجماعة الإفخارستيّة وهو يتمّم الانسجام بين الشخص والجماعة إذ إنّ هدفه الأخير هو محبّة الله والناس وبخاصّة باقي أعضاء الكنيسة"[75]. إنّ تقدّمي في الحياة الروحيّة هو رهن إذًا بشركتي مع أعضاء الكنيسة. لذا من الضروريّ بالنسبة إلينا، إزاء التحدّيات والمشاكل التي تعترضنا، أن نتحرّك من داخل الكنيسة حتّى يتخلّص وجهها المؤسّساتيّ من الشوائب المتراكمة أثناء انغماسها في شؤون الأرض، فتتقدّم بالمحبّة والحرّيّة المستعادتَين والمختبرتَين في جماعتها الإفخارستيّة وتصبح تجسيدًا مسبقًا للملكوت، بداية لتحقيقه. في الواقع يجدر بنا، كما يذكر ل. بوف، "التخلّص من الفكرة المثاليّة القائلة إنّ تغييرًا في الوعي يكفي لتغيير البنى داخل الكنيسة. إنّ الممارسات المرتكزة على النظريّات التي تقوم عليها الأفكار الجديدة تغيّر الواقع الكنسيّ أكثر من هذه الأفكار نفسها"[76].

عندما ننكبّ معًا على معالجة هذه المشكلة، وبدون تجاهل الإنجازات المهمّة التي ينعم بها الروح القدس هنا وهناك، فلنتحلَّ بالشجاعة والوعي الروحيّ ونعترف، بعيدًا عن التفاؤل الساذج الذي تغذّيه عادة أوساطنا الكنسيّة، أنّ كنيستنا اليوم قد ابتعدت في بعض ممارستها عن رؤياها اللاهوتيّة وأنّ الاستمرار في اتباع سياسة النعامة والادّعاء أنّ كلّ شيء على أفضل حال لا يعني أبدًا أنّنا أوفياء لأرثوذكسيّتنا.

يجب أن نقرّ بأنّ كنيستنا تواجه تجارب عديدة من شأنها التخفيف من قيمة شهادتها والحيلولة دون كون الليتورجيا – مركز الحياة الكنسيّة – "تفجّرًا عامًّا للكنيسة"[77]، مدرسة حقّة للشركة والمشاركة. إنّ أخطر تجربة على الإطلاق هي أنّ الإفخارستيّا في الوجدان الشعبيّ والممارسة لم تعد تعتبر أداة لتفعيل الكنيسة وشهادتها وخدمتها بل تحوّلت إلى فعل تقوى فرديّ، مناسبة لعلاقة عموديّة بين كلّ مؤمن وربّه، علاقة غير مجسّدة، كما تحوّلت إلى وقت للجنوح وأحيانًا إلى ملاذ وهروب من العالم. غالبًا ما ننسى أنّ الشعائر الحقّة لا تنفصل عن الحياتيّ وأن المشاركة في الإفخارستيّا يجب أن تكتمل بخدمة الإخوة.

من هنا الضرورة الملحّة إلى التفكير مليًّا بإنشاء تعليم دينيّ كمدخل للحياة الليتورجيّة وتهيئة للمشاركة في الطقوس وذلك على ضوء عناصر الليتورجيا الأساسيّة وحياة المسيحيّين الأوائل بعيدًا عن كلّ "صنميّة" أو حنين إلى الفردوس المفقود. علينا أن ندخل نوعًا جديدًا من "الموعوظيّة" كفترة لإعادة تأكيد وعود المعموديّة فيتعلّم المؤمنون، من جديد، كيفيّة عيش طقوسهم كتجسيد مسبق للملكوت وكإقامة مراسيم موت السيّد وقيامته، وكتقدمة كونيّة وتذكير بأنّ "المذبح هو أيضًا في كلّ مكان، في كلّ زاوية وفي كلّ ساحة"[78] وأن على كلّ مؤمن، يريد حقًّا المشاركة في الليتورجيا، أن يحمل العالم ويدخله معه ليعيده معه بعد القدّاس متجلّيًا بملاقاته القائم من بين الأموات.

إنّ الإسراع إذًا في تشكيل جماعة إفخارستيّة حيّة في كلّ رعيّة هو من الأولويّات لأنّ هذه الجماعة هي مختبر للمودّة الأخويّة والحرّيّة في الشركة واحترام المواهب والمشاركة وعيش الاتّحاد بين اللاهوت والناسوت، وهذه كلّها مواقف لا يمكن للمسيحيّين الاستغناء عنها إذا كانوا يريدون أن يحصلوا على فرصة محاورة العالم وحمله على إعادة اكتشاف معناه الذي يبدو أنّه فقده. يجب أن يقترن تشكيل جماعات كهذه بإصلاحات جوهريّة وبإعادة النظر في سلوكنا وممارستنا الكنسيّة، ويبدو لي من أهمّها:

- على صعيد إقامة الطقوس وممارسة الأسرار

إعادة النظر في التقاليد العديدة التي عتّمت، في حياتنا الليتورجيّة والكنسيّة، على التقليد الحقّ الذي لا يمكن أن يكون أصيلاً ما لم يكن مصدرًا للحياة، لأنّ السيّد، كما يذكّرنا ترتوليانس، لم يقل: "أنا التقليد بل أنا الحقّ"[79] والحياة. إنّنا أعضاء في كنيسة يسود فيها التيبيكون ويحاول الكثير من أعضائها مواجهة التساؤلات الكثيرة التي يثيرها هذا العالم بواسطة تشبّث أعمى بالحرف واحترام متصلّب للتقاليد كافّة بدون أي تمييز. لذا يلزمنا الكثير من الشجاعة والجرأة الروحيّة لإطلاق العنان لإبداع ليتورجيّ مرتبط بحياة روحيّة عميقة وبمعرفة جدّيّة للنصوص القديمة والحديثة، فنجدّد، بدون المسّ بالروح أو بالمعنى، نصوصًا كُتبت بين القرنَين الخامس والحادي عشر، بلغة ووفق تصنيفات فكريّة لم تعد بالضرورة لغتنا أو تصنيفاتنا. ليس المقصود هنا أبدًا التعرّض لمجموعة الطقوس البيزنطيّة الرائعة بل تشذيبها من الشوائب والمزايدات الكلاميّة المفعمة بالعواطف التي جاءت وليدة تقوى خاصّة دخلت متأخّرة. ولن نكون ناكرين معنى هذه الطقوس العميق إذا دعونا إلى إدخال طلبات وتضرّعات جديدة عليها تتعلّق بمشاكلنا المعاصرة، بما في ذلك شأن البيئة، وعملنا على ألّا تتحوّل الرموز والشعائر المعتمدة في هذه الطقوس للدلالة على الملكوت والدعوة إلى دخوله، إلى حاجز في وجه المؤمن. المشاكل متعدّدة وملحّة. فبالإضافة إلى مشكلة النصوص، لنعدّد بعضًا منها:

- من الضروريّ أن تُعاد تلاوة الأفاشين، التي أصبحت "سرّيّة" ابتداءً من القرن السادس، عند تفكّك الجماعة الإفخارستيّة الحيّة، على صوتٍ عالٍ لتذكير الجماعة كلّها بكهنوتها الملوكيّ وإعطائنا الفرصة لنتباهى من جديد، كما كان يتباهى القدّيس إيرونيموس في القرن الرابع، في وصفه الكاتدرائيّات الرومانيّة، بأنّ الـ"آمين" التي كان الشعب يردّدها كانت تدوّي كالرعد فيها"[80]

- كما أنّ التمسّك الأعمى بالتيبيكون، الشائع في الأوساط الأرثوذكسيّة والذي يعتبر بالنسبة إلى الكثيرين المعيار الوحيد للأرثوذكسيّة، يشكّل خطرًا آخر على وعي الليتورجيا كعمل جماعيّ، ترعاه طبعًا خبرة جميع الذين سبقونا على درب القداسة، ولكن يجب أن يبقى دائمًا منفتحًا على إيحاءات الروح. إذ ليست الإفخارستيّة، كما يشرح الأب بوريس بوبرينسكوي، فقط "سرّ الحضور الحقيقيّ للابن بواسطة الروح القدس بل أيضًا، وبالقدر ذاته، سرّ الحضور الحقيقيّ للروح بواسطة الابن"[81]. لماذا التشبّث إذًا، خارج الأديرة والكاتدرائيّات ربّما، بتيبيكون رهبانيّ لم يعد يتلاءم ونمط حياتنا؟ لماذا نحرم المؤمنين من فرصة إحياء الفصح كلّ يوم أحد وفي كلّ قدّاس إلهيّ ومواكبة أحداث السنة الطقسيّة إذ نحتفظ بالقراءات والطروباريّات، التي تربط كلّ يوم أحد بالدورة السنويّة، حصرًا لخدمتَيّ الغروب والسحر اللتَين نادرًا ما نشارك بهما خارج موسم الفصح؟ ألا يمكن إدخال هذه القراءات إلى القدّاس الإلهيّ حتّى تصبح بمتناول عدد أكبر من الناس؟ لماذا لا نحاول أيضًا معالجة التناقض الظاهر في طقوسنا إذ نقيم خدمة الغروب في الصباح وخدمة السحر في المساء، في حين أنّ علّة وجود هاتَين الخدمتَين وتركيبتهما والصلوات التي تُتلى خلالهما هي بالضبط تقديس فترة معيّنة من الزمن؟ في هذا الصدد، ومن أجل السماح لأكبر عدد ممكن من المؤمنين بالمشاركة في أحداث السنة الطقسيّة فيعيشون مختلف مراحل عمليّة الخلاص ويتمثّلون بحياة المخلّص، يجب إظهار حسّ رعائيّ حين تصادف أعياد رئيسيّة في غير أيّام العطلة، فنعمّم لإقامة القدّاس الإلهيّ عند المساء بعد صلاة الغروب.

- الجماليّة التي تؤدّي أحيانًا إلى "استبداديّة" المرتّلين والجوقات، فتحوّل طقوسنا إلى شبه عروض غنائيّة، تؤدّي بالمؤمنين إلى الخلط بين اللذّة الجماليّة و"النشوة المعتدلة التي يولّدها الفرح الذي لا يوصَف"، تلك التي تدعوهم إليها الخدمة الليتورجيّة، تساعدها على ذلك عناصر ماديّة – صوت بشريّ، كلمة، بخّور، أيقونات، فن... إلخ – تتعاون في ما بينها بانسجام تامّ وبدون أن يطغى أحدها على الآخر لترمز إلى جمال الملكوت. على الترتيل أن يحمل النصّ ليقرّبه من قلوب المؤمنين فيسهل عليهم فهمه. أمّا عندما يخطف الكلام خطفًا – كما يحدث غالبًا – لحساب اللحن، يتحوّل الترتيل إلى حاجز، وينطبق الأمر ذاته على المبالغة المفرطة في التبخير وفي الإكثار من الأيقونات (لا يغيب عنّا أبدًا أنّ اعتماد الأيقونسطاس هو أمر حديث نسبيًّا) وفي التفسيرات الرمزيّة للطقوس،... إلخ، بحجّة خلق جوّ معيّن، وإحياء "السماء على الأرض" بأيّ ثمن. تتحوّل الطقوس أحيانًا، في بعض الكاتدرائيّات الكبرى في العالم الأرثوذكسي، إلى عرض تسود فيه الشعائريّة. أهكذا يعبّر عن الروح القدس الآتي من أجل تجلّي العالم؟

- علينا أن نكتشف من جديد أو نستنبط ممارسات جديدة من شأنها تشجيع المؤمنين على التحضير سويّة للطقوس وذلك مثلاً بتقديم القرابين الفرديّة مع لائحة بأسماء الأحياء والأموات المُراد ذِكرهم (وهذه عادة شائعة في بعض أوساط العالم الأرثوذكسيّ إلّا أنّها مجهولة في أوساطنا) أو بإدخال صلوات عن نيّات خاصّة وجماعيّة وإفساح المجال أمام الأعضاء الشباب للتعبير عن هواجسهم وتساؤلاتهم، وهي ممارسات من أجل التحضير لليتورجيا ولكن أيضًا من أجل مشاركة أفضل. الليتورجيا هي اجتماع العائلة حول الآب. على أعضاء العائلة أن يكونوا قادرين على التعبير عن أنفسهم بـ"حرّيّة أبناء الله"، وبطريقة يبقى علينا اختراعها، ولكن دائمًا باحترام وورع، وبدون الإنجراف في تطرّف التفاعليّة (interactivisme) التي تغلب على بعض "الاختبارات" الطقسيّة في الغرب. يجب إحياء ممارسات قديمة (مثل قبلة السلام والمطانيّات التي بدأت تعود إلى الانتشار) أو ممارسات أخرى نستنبطها. فإن إشراك الجسد في الصلاة هو طريقة أخرى للتعبير عن إيماننا بالتجسّد.

- بغضّ النظر عن بعض الاستثناءات هنا وهناك، يبدو أنّ ممارسة سرّ الاعتراف قد بطلت أو تكاد. ربّما يساهم "الحلّ" الجماعيّ، الذي يمنح قبل المناولة في بعض الكنائس، في تجريد هذا السرّ من معناه الأصليّ كسرّ المصالحة مع الله والناس. يخشى كذلك أن يقبل العديد من الناس إلى المناولة بدون استعداد. لذا تبدو لنا الحاجة ملحّة إلى إنشاء تعليم دينيّ للكبار، خاصّة حول هذَين السرَّين (سرّ الاعتراف وسرّ الشكر) لنتجنّب بذلك تحوّل السرّ في أذهان الناس إلى عمل سحريّ من طرف واحد، لا يتطلّب منهم أي التزام شخصيّ، في حين أنّ الله يشاء بمحبّته اللامحدودة واحترامه لحرّيّتنا، أن يكون كلّ فعل في كنيسته تآزرًا بين قدرته وضعفنا. على هذا النحو، تظهر مشاكل رعائيّة خطرة نتيجة لأشكال الاقتناص الجديدة التي تمارَس في بعض الأوساط غير الأرثوذكسيّة، كتلك الداعية لـ"الضيافة الإفخارستيّة" التي تشجّع الأرثوذكسيّين، خلافًا لروح التوجيهات الصادرة عن الكنيسة الكاثوليكيّة على المناولة خارج كنيستهم والصدى الحسن الذي تلقاه هذه الدعوة في صفوف واسعة من الرأي العام الأرثوذكسيّ الذي يتّهم الرفض العقيديّ لهذه المناولة المشتركة بالتعصّب. ليس من السهل إيجاد الحلول المناسبة لهذه المشكلة بسبب التركيبة الإجتماعيّة السياسيّة السائدة في العديد من رعايانا. ولكن يجب أن نعي أنّ هذه الدعوات والممارسات تنخر في شعبنا فتقضي على حسّ الإنتماء إلى الكنيسة وتشجّع نوعًا من التلفيقيّة واللاعقائديّة التي لا يوازنها، على ما يبدو، تقارب حقيقيّ للقلوب.

- كما تبدو الحاجة ملحّة أيضًا إلى الاستفادة من إقامة الأسرار والطقوس المرتبطة بالولادة والزواج والمرض والموت التي، نظرًا للنظام الطائفيّ الراسخ وثبات العادات القديمة، لا يزال الأرثوذكسيّون، المؤمنون وغير المؤمنين، يمارسونها؛ (مع العلم أنّه يبدو أنّ بعض الأهل في بعض الأبرشيّات أصبحوا يستغنون عن معموديّة أولادهم)، لنحوّلها إلى مناسبة للتعليم الدينيّ وذلك بواسطة إشراك الأشخاص المعنيّين بتحضير هذه الخدم وتقديم ما يمكن من الشروحات، أثناء إقامة السرّ، عمّا يجري وعن الرموز التي فقدت معناها بالنسبة إلى الكثيرين، وبتشجيع الناس على عدم الربط بين حدث هو دينيّ بالدرجة الأولى والتجاوزات الشعبيّة (من أفراح وأحزان) التي لا تزال ترافقه. بهذا الصدد، علينا أن نحاول "ردّ الاعتبار لمسحة المرضى التي تحوّلت، في ذهن العديد من الأرثوذكسيّين المتأثّرين بالممارسات الغربيّة، إلى مجرّد "مسحة أخيرة" تُمنَح قبل الموت. "إنّ إقامة هذه الأسرار أو الطقوس التبريكيّة الأخرى تعتبر مناسبات لا تعوّض لنشر بشارة الله، بشارة الرجاء والسلام والفرح في الربّ المصلوب والقائم من بين الأموات. ففي هذه الأوقات بالذات، عندما يكون الإنسان فرحًا أو حزينًا، متألّمًا أو متعاطفًا، يمكن للحقائق المتعلّقة بالمسائل الجوهريّة أن توقظ العقول والقلوب وتحملها على محبّة الله. وأفضل شهادة في أوقات كهذه هي شهادة الكنيسة وحضورها الشخصيّ بواسطة محبّة أعضائها وعنايتهم، هؤلاء الأعضاء المنتمين إلى جماعة مسعفة متجدّدة بالإيمان والمحبّة والحريّة"[82].

- بات من الضروريّ أيضًا القضاء على العلاقة التي لا تزال قائمة بين الأسرار والمال في أبرشيّات عديدة. صحيح أنّ خادم المذبح يحتاج إلى المال كي يعيش لكن هناك العديد من الوسائل لتأمين معيشته لا ترتبط، بشكل مباشر، بإقامة الأسرار. يجب علينا انتزاع الفكرة السائدة في أذهان كثير من الناس الذين يعتبرون أنّ الأسرر تُشترى وتُباع وأنّ لكلّ خادم في الكنيسة ثمنه.

- على صعيد العلاقات بين أعضاء شعب الله من أجل عيش وحدة الروح الحقيقيّة في الطاعة المتبادلة:

لا جدوى من سياسة النعمامة. يجب كشف الجروح ومعالجتها لاجتناب التقرّح. تمرّ كنيستنا على ما يبدو، بأزمة على صعيد وحدتها، فالتيّارات تتشكّل والفتن تتكاثر والتحالفات تعقد وتنحلّ وشياطين اعتقدنا أنّها قُهِرَت إلى الأبد تعود وتثير الشقاقات بين الناس. كما أنّ الخلافات والغيرة والنزاعات على النفوذ والمرجعيّة تظهر على جميع الأصعدة: الأساقفة في ما بينهم، بين الأساقفة والكهنة، الكهنة في ما بينهم، بين الكهنة والرهبان، الرهبان في ما بينهم، بين الإكليريكيّين والعلمانيّين، والعلمانيّون في ما بينهم. وبدل أن يبذل هؤلاء جميعهم، هم الذين يعتبرون أنفسهم من الكنيسة أو حتّى، بالنسبة إلى البعض، الكنيسة نفسها، جهودهم كلّها لضمّ الأعضاء الذين لا يعرفونهم، وهم يشكّلون ما يقارب أو يزيد عن 80٪ من الجماعة، إلى المسيح، نراهم يتصارعون من أجل "السيطرة" على أقلّيّة لا تزال ترتاد الكنائس، غافلين ما قاله السيّد للرسل الذين كانوا يشتكون أنّ غيرهم قادر على "طرد الشياطين".

أعلم أنّ هذا الوضع، وما يرافقه من نميمة وحسد وصراع على السلطة يحملنا على الاعتقاد أنّ الكنيسة على وشك فقدان المحبّة، وتاليًا علّة وجودها، يثير اشمئزاز عدد كبير من هؤلاء "الصغار الذين يعيشون على الإيمان". لقد كتب القدّيس باسيليوس الكبير إلى نظرائه يصف حالة مماثلة "انزوى فيها المسيحيّون في كنائس منفصلة يرتاب فيها كلّ إنسان بقريبه"[83] وقال – وكأنّه يتوجّه اليوم إلى كلّ واحد منّا، إكليريكيّين وعلمانيّين – هذه الجملة التي يجب أن تهزّنا: "أحرى بنا أن نزول وتعيش الكنائس في وئام متبادل على أن نعاين كيف تلحق صراعاتنا السخيفة والحقيرة الأذيّة بشعب الله"[84]. هل بإمكاننا تبنّي صرخته فنصرخ بدورنا في وجه الفضيحة؟ ألا يجدر بنا التفكير جدّيًّا بالدعوة إلى أصوام، عامّة أو خاصّة، وصلوات دائمة من أجل أن يغفر لنا الله ويمدّنا بالقوّة لننبعث فنحيا مجدّدًا ككنيسة؟

"يجب أن تكون البنى الكنسيّة بنى مشاركة وخدمة وحسب. إذ ليس هدفها الرئيس إقامة نظام بالمعنى القانونيّ للكلمة، أو حتّى وحدة من النوع المؤسّساتيّ، بل خلق انسجام في المحبّة الأخويّة وتاليًا وحدة شراكيّة كبذل متبادل للذات على مثال البذل المتبادل بين أقانيم الثالوث"[85]. "ليكونوا واحدًا كما أنّنا واحد" "فإنّكم إنّما دُعيتم للحرّيّة أيّها الإخوة... وبالمحبّة اخدموا بعضكم بعضًا" (غلاطية، 5: 13). علينا، في هذا السياق، السهر على أن نبقى مطيعين، مع إعادة المعنى الكنسيّ الحقيقيّ للطاعة، إذ يبدو لي أنّنا نعيش حاليًّا أزمة في فهمنا الشائع للطاعة. "ليس هدف الطاعة في الكنيسة أبدًا الحفاظ على النظام بواسطة القضاء على المحبّة الأخويّة أو على شخصيّة "الصغار"، ولا رفع الأمر وإذلال المطيع، بل أن تصبح حياة الفريقَين هبة للذات، من خلال خدمة متبادلة محرّرة وفي مسؤوليّة مشتركة لبناء الكنيسة التي تتألّق فيها حياة المسيح"[86]. لقد قال أحد آباء الصحراء: "طاعة مقابل طاعة" "فمن يطيع الله، يطيعه الله". في الحياة المسيحيّة، على من يجب طاعته أن يكون قدوة تُحتَذى في الطاعة. قد قال الأب بيمن عند إجابته عن سؤال أحد الرهبان الذي أوكلت إليه مهمّة رئاسة إخوته: "كُن لهم قدوة، لا مشترعًا"[87].

تبدو كنيستنا وكأنّها تخشى أن تحيا كلّيًّا في الروح الذي يهبّ فيها. كانت الكنيسة الأولى تعتبر الروح القدس حياتها الحقيقيّة، أمّا اليوم فينظر إليه على أنّه "إقرار وضمانة: ضمانة للسلطة عندما شدّد عليها كمبدأ مكوّن للكنيسة، وضمانة للحرّيّة الفرديّة عندما شدّد عليها في وجه هذه السلطة. فلا عجب إذًا إن كنّا قد نسينا الروح القدس، ليس فقط كينبوع للحريّة التي هي الكنيسة، بل أيضًا كمضمونها وفي الوقت ذاته كهبة الحرّيّة واكتمالها، أو بتعبير أصحّ كالحرّيّة ذاتها[88].

علينا أن ندرك أنّ صلاة السيّد: "ليكونوا واحدًا فيؤمن العالم" تعني، بالدرجة الأولى، أعضاء الكنيسة، كنيسة أنطاكية المقدّسة التي تبدو وحدتها اليوم، المعيشة في المحبّة وقبول الآخر وروح المجمعيّة، شرطًا أساسيًّا حتّى يكون هناك وقع لشهادتنا وتاليًا مساهمة منّا لعودة الإيمان. "على الكنيسة أن تتبنّى المجمعيّة كنهج دائم لها إذ إنّها انعكاس حياة الثالوث فيها. صحيح أنّ هذه المجمعيّة تتجلّى، قبل كلّ شيء، في الخبرة الإفخارستيّة والليتورجيّة التي هي خبرة مشتركة لمصالحة الناس مع الله ومع بعضهم البعض، وصلب للأنانيّة الشخصيّة والجماعيّة من أجل استقبال حياة القائم من بين الأموات، وأخوّة في المسيح ومن أجل المسيح تتجلّى في خدمة الآخرين وأخيرًا هي خبرة القداسة في كنيسة الخطأة"[89]. إلّا أنّ مشاركتنا في الحياة الليتورجيّة يشوبها النفاق إذ لم تعش هذه المجمعيّة أيضًا كممارسة دائمة لمسؤوليّة شعب الله المشتركة على أصعدة حياة الكنيسة جميعها وإدارتها، وإذا لم تظهر من خلال طبيعة العلاقات بين أعضاء الكنيسة ومن خلال اشتراكهم جميعًا في تسوية قضاياهم عبر مجلس الرعيّة ومجلس الأبرشيّة أو المؤتمر الأنطاكيّ والمجمع المقدّس. تقع مسؤوليّة إطلاق هذا النهج أوّلاً على عاتق المجمع المقدّس وكلّ أسقف إذ هو "الواحد الذي يصبح فيه الجمع (الكثرة) المتّحد "إلهيًّا"[90]، إلّا أنّني أعتقد أنّ حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة تستطيع أيضًا تقديم مساهمة متواضعة في هذا المضمار إذ إنّها تشكّل قاعدة نادرة الوجود في كرسينا الأنطاكيّ، تجمع، في جوّ من الأخوّة والمحبّة، بين عدد كبير من أعضاء شعب الله عبر الحدود القانونيّة للأبرشيّات التي غالبًا ما تفرّق في الممارسة بين الشعب الذي يفترض بها توحيده.

علينا بكلّ بساطة أن نعيش لاهوتنا فلا ننسج بعد الآن لاهوتًا يناسب وضعنا ومصالحنا وأهواءنا. يساعدنا لاهوتنا، المعبَّر عنه في القانون الأساسيّ للكرسي الأنطاكيّ الذي وضع السنة 1973، على اجتناب الوقوع في تجربة الإكليروسيّة المستبدّة أو تجربة فوضويّة العلمانيّين المدّعية الديمقراطيّة، التي تعتبر أنّه من حقّ كلّ معمّد أن يفرض مشيئته على الكنيسة حتّى لو لم يحفظ وعود معموديّته ولم يجدّدها، أو لم يرد أن يتبع مسيرة الاهتداء إلى المسيح التي لا تنتهي أبدًا. ونذكّر هنا بكلمات القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفمّ الذي يقول إنّه علينا جميعًا "أن نرعى الكنيسة كلّها كجسدنا المشترك"[91]، وكلماته للعلمانيّ: "أنت أيضًا، توّجت ملكًا ورسمت كاهنًا وجعلت نبيًّا في جرن المعموديّة"[92]. يجب ألّا يغيب عن بالنا أبدًا أنّ لاهوت الكهنوت الأرثوذكسيّ لا يفصل – إذا كان هناك من فصل عند الله – بين الإكليريكيّين والعلمانيّين، بل بين الإكليريكيّين والعلمانيّين الملتزمين بالتوبة الإنجيليّة والذين يؤلّفون "شعب الله" من جهة وأولئك – من إكليريكيّين وعلمانيّين على حدّ سواء – الذين لا يرتبطون بالكنيسة إلّا لاعتبارات جماليّة أو اجتماعيّة سياسيّة أو تبعًا لمصلحتهم الشخصيّة أو الجماعيّة. إنّ كنيسة المسيح تفتح بلا شكّ ذراعَيها وقلبها لاحتضان المعمّدين جميعهم (واحتضان كلّ إنسان في هذا العالم من خلالهم) كما تدعو المؤمنين كافّة، وبالإصرار عينه، إلى تأكيد انتمائهم لشعب الله بمشاركتهم الفعّالة في الحياة الليتورجيّة وفي الأسرار الكنسيّة واقتدائهم بالإنجيل في حياتهم اليوميّة. الطريق إذًا مفتوح والنهج مرسوم أمام الراغبين في أن يكونوا في عداد "شعب الله، حافظ الإيمان"[93] فيشاركون تاليًا في اتخاذ القرارات المتعلّقة بحياة الكنيسة الداخليّة.

علينا العمل على تعميم روح المجمعيّة على جميع مستويات الحياة الكنسيّة. بالإضافة إلى ضرورة تشكيل المجالس في أقرب مهلة، وذلك وفق روح قانون 1973 لا نصّه فقط، علينا أن نحمل كلّ العاملين من أجل النهضة في الكنيسة على الالتقاء وقبول اختلاف مواهبها. علينا أن نتعلّم كيف نفكّر ونخطّط ونرسم سويّة حدود "المشروع الأنطاكيّ" للألف الثالث المقبل. يجدر بنا اختراع وسائل جديدة لتطهير العلاقات. علينا أن نرتضي غسل أرجل بعضنا البعض. علينا الاقتناع بضرورة دعوة جميع المؤمنين إلى اتخاذ مكانهم وتحمّل مسؤوليّاتهم ضمن العائلة، بدون أيّة حصريّة، إنّما في نظام واحترام "لأوّلين بين متساوين"، وذلك على مختلف مستويات الحياة الكنسيّة. على جميع الذين يعتبرون أنفسهم "فعَلة الساعة الأولى" إذ لم يغادروا أبدًا المنزل الأبويّ، الاقتناع سريعًا بوجوب تقبّل مساهمة "فَعَلة الساعة الحادية عشرة" بفرح حتّى لو اعتبروهم "أبناء ضالّين".

على الأسقف كشف جميع أشكال الخدمة وتشجيعها ومساعدتها والعمل على تفعيلها. تحتاج الكنيسة في عملها التبشيريّ إلى مساهمات جميع أبنائها بدون أي استثناء: الرجال والنساء والشباب والأولاد؛ الطلّاب، الجامعيّين والعمّال؛ الإكليريكيّين والعلمانيّين، وطبعًا الرهبان والراهبات الذين يشاركون فعليًّا بواسطة الصلاة والنسك في شهادة الكنيسة.

- على صعيد التكريس وإعداد الكهنة:

علينا أن نشجّع أكثر فأكثر ما اتفق على تسميته "الدعوات" مع فهم صحيح لمعنى هذه العبارة في التقليد الأرثوذكسيّ. في الواقع، يتلقّى كل معمّد دعوته عند مسحه بالميرون وختمه بموهبة الروح القدس و"تكريسه" لله. فدعوته إذًا هي تجسيد هذا التكريس في الخدمة التي يدعوه إليها الله وشعبه بحسب المواهب المعطاة له. لا يمكن للجماعات الإفخارستيّة الحقّة أن تتكوّن وتستمرّ إلّا إذا حوت بين أعضائها نواة تعي هذا التكريس وتعمل على تحقيقه في ذاتها وفي الآخرين.

إنّنا بحاجة ملحّة إلى هؤلاء الأرثوذكسيّين "المكرّسين" المستعدّين دومًا والجاهزين للخدمة حين تدعوهم الكنيسة.

إنّنا بحاجة إلى علمانيّين مكرّسين وملتزمين كلّيًّا. فالعلمانيّون في كنيستنا ليسوا، كما يعتقد أنصار الإكليروسيّة الغربيّة التي بدأ الغرب نفسه برفضها، أعضاء من الدرجة الثانية في الكنيسة لأنّ الله يجعلهم مسؤولين ويدعوهم إلى المشاركة بتناغم تام مع الأسقف في معالجة قضايا الكنيسة.

لكن بالإضافة إلى العلمانيّين الملتزمين، نحن بحاجة ماسّة، وحتّى أكثر إلحاحًا، إلى كهنة ورهبان على حسب قلب الله. يجب أن يعي الحركيّون هذه الحاجة فلا تغيب عن بالهم أبدًا. علينا أن نعي أنّ الكاهن التقيّ والمثقّف، والمتزوّج عادة بحسب تقاليدنا العريقة الحكيمة، هو المحرّك الأساس لكلّ جماعة إفخارستيّة وأنّ الكنيسة أيضًا تعيش على صلوات الرهبان. إزاء هذا الإلحاح، يفترض بنا مقاومة التحفّظات التي تظهر هنا وهناك بين الشباب، بسبب بعض الممارسات العلائقيّة والاعتبارات المادّيّة، فمن أراد تكريس نفسه إنّما يكرّسها لله لا لإنسان، فالله الذي يؤمّن قوت طيور السماء ولا يعطي ابنه حجرًا حين يسأله خبزًا، لا بدّ أن يعلّم الإنسان كيف يفعل الشيء ذاته مع إخوانه، بخاصّة في الكنيسة التي يفترض أن يكون موضوع المشاركة على لائحة أولويّاتها.

علينا أن نسهر على تثبيت هؤلاء الكهنة والرعاة في الحياة الليتورجيّة وروح الإنجيل والفكر الآبائيّ وضرورة الاهتداء الدائم وحياة القداسة، كما علينا أيضًا إيقاظ محبّة عظيمة للبشر وإحساس عميق ببؤس العالم في قلوبهم، ومدّهم بالأدوات، الفكريّة والعلميّة، وباللغة التي تمكّنهم من نقل كلمة الحياة إلى العالم. فيجب إذًا إعادة النظر في الطرائق المتوفّرة لإعداد الكهنة لجعلها أكثر فعاليّة ونقرّبها، في الوقت ذاته، من أبديّة الكنيسة ومن واقع العالم. كما أصبح محتّمًا علينا أن نتخلّى عن الطريق الإعتياديّة فنجدّد تعليمنا الدينيّ التقليديّ، وبدل أن نقدّم للناس معلومات عن الله، علينا أن نقول لهم، في لغة يفهمونها، إنّ الله يحبّهم، وإنّه صار إنسانًا ليصيروا هم آلهة، وإنّ كنيسته لا تفكّر أبدًا بضمّهم تحت وصايتها، بل هي تمنحهم فرصة الوصول إلى "حريّة أبناء الله" وتساعدهم على إعادة اكتشاف معنى الكائنات والأشياء، وتعلّمهم تهجئة اسم الله من جديد في الجمال والثقافة. علينا أيضًا أن نعيد النظر في الطرائق المتّبعة في كثير من الأوساط، وليس فقط الشعبيّة منها، لتفسير الكتاب المقدّس التي تميل، خلافًا للنمط المتَّبَع من معظم الآباء، إلى التفسير الحرفيّ الصرفيّ وإلى إبراز الخارق على حساب الحقيقة التي تنكشف من خلال إشارات ورموز لم تعد تعني أيّ شيء بالنسبة إلى شريحة كبيرة من جماعتنا تأثّرت بالدهريّة. كيف نتوصّل، بدون الوقوع في تطرّف بعض المقاربات الدارجة في الغرب المسيحيّ، ومع الأخذ بعين الاعتبار ما هو قيّم من الاكتشافات العلميّة، إلى "الحفاظ على السرّ ونقله في الوقت نفسه"؟[94] كيف نوفّق، بدون الوقوع في نزاعات جديدة بين "القديم والحديث"، بين مساهمات أبنائنا الذين تدرّبوا على البحث العلميّ ومساهمات أولئك الذين يريدون الاكتفاء بمدرسة الصلاة والآباء، فنقرّب خطاب كنيستنا إلى عقول أكبر عدد ممكن من الناس مع الحفاظ على أمانة خلّاقة لما ورثناه عمّا "سلّم مرّة واحدة للقدّيسين".

- على صعيد الليتورجيا خارج حدود الهيكل:

على أعضاء الكنيسة، إذا أرادوا حقًّا أن تحيي (actualizer) جماعتهم الإفخارستيّة الكنيسة، أن يقتنعوا أنّ الليتورجيا تستمرّ خارج حدود الهيكل بالمشاركة في سرّ الآخر. أليس هذا ما نطلبه حين نتضرّع في ختام القدّاس: "احفظنا في قداستك حتّى نتعلّم النهار كلّه عدلك". إلّا أنّ عدل الله هو الذي دفعه إلى حبّ العالم لدرجة أنّه بذل ابنه الوحيد من أجل أن يرث هذا العالم الحياة. علينا إذًا ألّا نخدع بعضنا البعض ونريح ضمائرنا بتطمينات كاذبة: لا تتحقّق الحياة الجماعيّة وسرّ الآخر من خلال، فقط، موائد المحبّة والتبرّعات التي نادرًا ما نقيمها في رعايانا. مطلوب منّا أكثر من ذلك؛ فإنّ فرح اللقاء الإفخارستيّ الحقيقيّ لا يمكن أن ينسينا الأخ الذي علينا إشراكه في هذا الفرح.

على أعضاء الجماعة الإفخارستيّة أن يشتركوا في كلّ شيء. يجب أن تكون هذه المشاركة على مثال ما كان يفعله المسيحيّون الأوّلون الذين كانوا "يواظبون على تعليم الرسل والشركة الأخويّة وكسر الخبز والصلوات... وكان عندهم كلّ شيء مشتركًا" (أعمال 2: 42، 44). فهي إذًا لا تشمل فقط الاشتراك في كسر الخبز والصلوات، أي ما يعادل اليوم الإفخارستيّا، بل أيضًا "تعليم الرسل"، أي ما يعادل الوعظ واجتماعات التعليم الدينيّ والخلوات والدراسات الإنجيليّة أو الآبائيّة، و"الشركة الأخويّة" أي حياة مشتركة يجتمع فيها المؤمنون خارج حدود الكنيسة ليتشاركوا أفراحهم ومشاكلهم كأخوة، وأخيرًا "الاشتراك في كلّ شيء". إنّ هذا المفهوم الأخير جليّ وواضح في أعمال الرسل (4: 23، 2: 45): "ولم يكن أحد يقول إنّ شيئًا من أمواله له بل كان عندهم كلّ شيء مشتركًا... والأملاك والمقتنيات كانوا يبيعونها ويقسّمونها بين الجميع كما يكون لكل واحد احتياج". وقد ورد في أحد كتب القرن الثاني التي تمدح المسيحيّين: "إذا ما وجد بينهم إنسان فقير أو محتاج ولم يتوفّر لديهم الضروريّ من القوت، صاموا يومَين أو ثلاثة ليؤمّنوا له الطعام الضروريّ". ماذا نقول بعد حتّى نلمس لمس اليد هشاشة التزامنا إزاء واجبنا كمسيحيّين في المشاركة والمساعدة. كيف نعيش فعليًّا المحبّة والأخوّة في وسط الجماعة الإفخارستيّة وننقلها مثالاً حيًّا للعالم إذا كنّا نخشى هذا النمط من الحياة؟ علينا أن نسترجع أقوال آبائنا الكبار لندعو أعضاء جماعتنا إلى العطاء المتبادل فنذكّرهم أن الخبز الذي تخبّئه هو ملك الجائع"[95] وأنّ "عدم مساعدة الآخر هو نكران لمائدة الربّ"[96]. دعونا لا نتسرّع ونتّهم هذا الكلام بالمثاليّة أو بالأوتوبيا. فعدد من الجماعات الروحيّة المعاصرة في الكنيسة الكاثوليكيّة (الفوكولاري، والجماعات القاعديّة، وبعض الحركات الكارزماتيّة، ...إلخ) يشتركون في كلّ شيء ويستخدمون صندوقًا واحدًا. المثاليّ هو أن ننتظر من جميع أعضاء الرعيّة الالتزام بمثل هذا النهج. لكن ما الذي منع مجموعة صغيرة من الرعيّة أو من حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة أن تحيي مثال الجماعة المسيحيّة الأولى، ليس فقط بالكلام أو بالتمنّيات، وليس فقط بالدعوة إلى حياة القداسة، الشخصيّة أو الجماعيّة، أو بعيش الأخوّة، إنّما بهذه المشاركة الكاملة.

- على صعيد التبشير والشهادة:

من الطبيعيّ أن تصبح جماعة إفخارستيّة من هذا النوع تبشيريّة؛ إذ يكتشف أعضاؤها كم أنّ السيّد طيّب وأنّهم، هم أنفسهم، "مخلصون" و"أحياء" فتصبح علّة وجودهم مشاركة غيرهم بهذه الخبرة.

يبدأ هذا التبشير بدعوة المعمّدين جميعهم إلى مسيرة الاهتداء الشخصيّ إلى المسيح المخلّص وبدعوة الكنيسة إلى التجدّد، ويكتمل بشهادة تتوجّه إلى البشر كافّة.

هداية الأرثوذكسيّين مجدّدًا إلى المسيح

كما سبق وأشرنا، يجهل الكثير من المعمّدين الدعوة والخيار اللذين حُدِّدا لهم بمعموديّتهم. كما أنّ تأثير الفرق، والنسبة المرتفعة التي نلحظها إذا ما أحصينا أولادنا المسجّلين في مدارس علمانيّة أو تابعة لطوائف غير أرثوذكسيّة، وتفكّك العائلة التي يفترض بها أن تكون كنيسة صغيرة، والدهريّة التي تجتاح عالمنا، كلّ هذا أدّى بالكثيرين ممّن يدّعون أنّهم أرثوذكسيّون إلى أن يتحوّلوا إلى أرثوذكسيّين بالإسم فقط.

إنّ رعايانا كبيرة لدرجة، وكهنتنا قلائل لدرجة أنّه لم يعد بإمكاننا الاكتفاء بالعظات ومدارس الأحد وبعض النشاطات الرعائيّة والاتصالات التي يقوم بها الكهنة بأعضاء الرعيّة، إذ إنّ جميع هذه النشاطات التقليديّة لا تطال سوى نسبة ضئيلة من أعضاء جماعتنا. لذا من الضروريّ أن نستخدم الطرائق المعاصرة لنعيد أكبر عدد ممكن من الناس إلى الأخوّة في الكنيسة. علينا أن نستنبط وسائل جديدة، نوصل من خلالها "البشارة السارّة" إلى الناس حيث هم، في منازلهم ومدارسهم ومراكز عملهم وأماكن ترفيههم. علينا أن نشكّل مجموعة تأمّل وتفكير يتعاون فيها لاهوتيّون ورعاة وعلماء اجتماع ومربّون وعلماء نفس ومحاورون، مؤمنون وملتزمون، وإكليريكيّون ورهبان وعلمانيّون على رسم حدود هذا التبشير "الداخليّ".

على هذه المجموعة أن تبرز، قبل كلّ شيء، إلحاحيّة الوضع إذ إنّ أجيالاً بأكملها تلامس المسيح في ملّة كنيسته بدون أن تتمكّن من التعرّف إليه. علينا أن نفهم أنّنا كلّنا مسؤولون وأنّ السيّد سيسأل كلّ واحد منّا: "ماذا فعلت بأخيك"؟ وأنّها لفضيحة أن تكون جميع القوى المحرّكة في الكنيسة عاجزة عن التجنّد للمباشرة بورشة  التبشير والعمل فيها.

على هذه المجموعة أيضًا أن تعيد النظر في تعليمنا الدينيّ فتجعله أكثر تعبيرًا ووضوحًا، وتخلّصه من الطابع المدرسيّ الذي غالبًا ما يخنقه، فتفتحه لإلهام الروح الذي لا بدّ أن يمحوره حول شخص يسوع المسيح ومحبّة الآب. فإنّ مهمّة التعليم الدينيّ ليست أساسًا نقل عقائد أو تاريخ، بل حياة وسلوك.

علينا تطوير مؤسّساتنا الثقافيّة (جامعة، ومدارس ...إلخ) وتوعيتها حتّى تنشر فكرًا وتربية تغذّيهما الرؤية الأرثوذكسيّة. وعلينا أيضًا تشجيع شبابنا على اختيار مهنة التعليم كدعوة تبشيريّة إذ إنّ مثل حياتهم والتزامهم المعاش هو أكبر مدرسة بالنسبة إلى تلاميذهم.

علينا أن نكون مبدعين لنشكّل فرقة في كلّ جامعة أو مدرسة غير أرثوذكسيّة أو علمانيّة ونتعلّم كيف نتوجّه إلى طلّابها وتلامذتها بلغة وفكر مألوفَين لديهم.

علينا تنظيم حملات تبشيريّة، فنطرق أبواب الناس، ونضاعف السهرات الإنجيليّة في البيوت والسهرانيّات في الكنيسة، ونرسل بانتظام نشرات الكنيسة وكاسيتات تراتيل ونقاشات حول مواضيع حياتيّة أو، بكلّ بساطة، إعلام ذكيّ، إلى الأرثوذكسيّين كافّة. لأجل هذا، ألم يحن الوقت للتفكير جدّيًّا في الاستفادة من الإمكانات الهائلة التي تزوّدنا بها المعلوماتيّة؟ على الناس أن يشعروا أنّ الكنيسة تأتي إليهم كخادمة وأنّها قريبة من همومهم وحاجاتهم وأنّها تحت تصرّفهم دائمًا حتّى لو لم يطلبوا ذلك منها.

يجب أن نبذل مجهودًا خاصًّا لحلّ المشاكل المتعلّقة بالعائلة المسيحيّة، من التحضير للزواج إلى تربية الأولاد وحياة الصلاة في العائلة والعلاقات بين الآباء والأبناء. فيجب أن تتخطّى هذه العلاقات تجربتَين: الاستبداديّة التقليديّة من جهة، ومن جهة أخرى، الإهمال واللامبالاة الشائعَين لدى بعض الآباء المرتبكين إزاء التطوّر السريع للأحداث، وذلك من أجل التأكيد على شركة أشخاص أحرار ومحبّين.

على هذا النحو، يجب ألّا يغيب عن بالنا أنّ التبشير يتمّ أيضًا من خلال الخدمات الاجتماعيّة والطبّيّة. من هنا الحاجة إلى تطوير المؤسّسات العاملة في هذا المجال ودعمها، وإلى العمل بشكل خاص من أجل أن تستعيد الكنيسة دورها ككنيسة الفقراء، وذلك طبعًا بدون استبعاد الأغنياء، بل، على العكس، بحملهم على اكتشاف إخوتهم واختبار الغنى الفائق الذي ينتج عن العطاء والشركة والخدمة.

علينا أخيرًا، وبصورة خاصّة، اللجوء إلى الكتابة والصوت والصورة، أي إلى النشر والاستعمال المنهجيّ لوسائل الإعلام المكتوب والمسموع والمرئيّ. إنّها أولويّة ملحّة. على صعيد النشر، وبالإضافة إلى تزويد القارئ العربيّ بالنصوص الروحيّة الأساسيّة وكتابات الآباء والتفسير الكتابيّ الشرقيّ وأفضل ما كتبه إخواننا الغربيّون، علينا أن نبذل جهدًا كبيرًا من أجل التنويع في المواضيع والتحدّث عن أشياء هذا العالم وعن مشاكله على ضوء الإنجيل وعكس نور الإنجيل من خلال الرواية والقصّة والمعالجات الأدبيّة والفنّ والثقافة. يشقّ الجمال أكثر فأكثر، في أيّامنا هذه، طرقًا إلى الله، فهل نحن ننقل حقًّا الجمال الذي يسكن أيقوناتنا وأناشيدنا وليتورجيّتنا؟

يجب أن تكون كنيستنا حاضرة في البرامج الإذاعيّة والتلفزيونيّة، فهي ما زالت غائبة عنها في حين أنّ تيّارات أخرى، ذات توجّهات مختلفة، تؤثّر في أبنائنا وكبارنا، فتبعدهم عن قيمنا. استطاعت كنيستنا تأمين التمويل الضروريّ، فبنت، بنجاح ومهارة لا يغيبان عن بال أحد، وفي وقت قياسيّ، جامعة؛ كما تضمّ كنيستنا بين أعضائها عددًا هائلاً من الخبراء في عالم الصحافة والإعلام المرئيّ والمسموع، أفتعجز كنيسة كهذه عن إعداد برامج إذاعيّة وتلفزيونيّة خاصّة دائمة، لا تنحصر فقط في مواسم الأعياد؟ أنكون إذًا عميانًا فلا نتحسّس الضرورات الملحّة؟

إصلاح البنى داخل الكنيسة

يستلزم التبشير الداخليّ في الكنيسة إعادة النظر في بعض البنى الحاليّة من أجل تصغير حجم الرعايا والأبرشيّات حتّى يتسنّى لأكبر عدد ممكن من الأرثوذكسيّين، الذين يعيشون في المنطقة ذاتها، الإلتقاء والتعرّف كإخوة في خدمة إفخارستيّة واحدة، واعتبار راعيهم، الكاهن أو الأسقف، أبًا محبًّا، جاهزًا دومًا وقريبًا. يقتضي حجم هذه المهمّة تعاونًا ناشطًا بين مختلف الأبرشيّات من أجل الاستفادة من مواهب الكلّ وإمكاناتهم واجتناب تبعثر الأشخاص والطاقات. كما يقتضي أيضًا تنسيقًا على مستوى كنيسة أنطاكية بأجمعها.

ويستلزم هذا التبشير أيضًا تمييزًا قاطعًا بين الملّة والكنيسة حتى نجتنب الالتباس، وتشجيعًا لنموّ وعي كنسيّ بدون إنكار انتمائنا الاجتماعيّ وأهمّيّة تاريخنا. فقد دانت كنيستنا، في القرن التاسع عشر، التيّارات الفكريّة التي خلطت بين الدين والعرق، واتّهمتها بالهرطقة. ألم يحن الوقت اليوم لكي نظهر تيقّظًا مماثلاً إزاء وباء الطائفيّة الذي يدفع بمؤسّساتنا الكنسيّة إلى طريق الدهريّة والطمأنينة الكاذبة، إذ يجعلها تتورّط في مشاكل هذا العالم وفي تحايلات الحكم والذين يتفرّدون به أو يوالونه، فتصبح مقيّدة عاجزة عن تأدية دورها النبويّ كضمير هذا العالم.

لقاء باقي المسيحيّين

كما يستلزم هذا التبشير مجهودًا متواصلاً لسدّ الهوّة التي حفرتها خطايانا والمصائب على مرّ التاريخ بين كنيستنا الأرثوذكسيّة وسائر المسيحيّين من جهة، والأرثوذكسيّين في ما بينهم من جهة أخرى، بالإضافة إلى باقي أعضاء الكنيسة الأنطاكيّة. يجب أن ينعكس هذا الهمّ في تعليمنا الدينيّ الذي لا بدّ أن يتطهّر من كلّ موقف هجوميّ، فيظهر، في فكر سلاميّ، حريص، في الوقت ذاته، على الحقيقة والمحبّة، نقاط التقائنا واختلافنا على حدّ سواء. أمّا في ما يختصّ بالسريان الأرثوذكسيّين، الأقباط والأرمن، فعلينا أن نترجم عمليًّا التوجيهات الرعائيّة التي أطلقها غبطة البطريرك وآباء المجمع المقدّس منذ سنوات قليلة، حتّى تتجسّد وحدة الإيمان المستعادة في وحدة القلوب وقبول الآخر كمصدر غنى وفي تجاوز مشاعر الكراهية والحذر وآفّة الجهل المتبادل التي تراكمت على مرّ قرون طويلة من الصراعات الأخويّة التي لم تؤدِّ إلى شيء سوى إلى شرذمة المسيحيّة في الشرق وتشويه شهادتنا. علينا مساعدة أعضاء كنيستنا على وعي حجم التحدّي وضرورة التوغّل، بجرأة كبرى، في لقاء إخوتنا الذين عثرنا عليهم من جديد، حتّى نعيش بشكل أفضل، ومن خلال هذا اللقاء، جذورنا السريانيّة والقبطيّة المتداخلة في تقاليدنا اليونانيّة والعربيّة.

أمّا بالنسبة إلى التلاقي مع الإخوة الذين انفصلوا عنّا على مرّ القرون، واختاروا، لأسباب مختلفة، الالتحاق بالكنيسة الغربيّة، فعلى جميع الذين يحبّون كنيسة المسيح أن يستمرّوا فيها على الرغم من الأساليب الخبيثة وخيبات الأمل الأخيرة ومواقف الاقتناص التي لا يزالون يمارسونها أحيانًا علينا. على الأرثوذكسيّة أن تتخلّص من الخوف ومن عقدة الاضطهاد. "فقد ولّى زمن العزلة، كلّ أنواع العزلة، حتّى الفكريّة منها"[97]. علينا إذًا تبنّي موقف منفتح ويقظ ومحبّ، فلا نواجه الاقتناص بمحاولة اقتناص مماثلة، فنحن لسنا حزبًا يحاول ضمّ المؤيّدين والأعضاء إلى صفوفه. مهمّتنا هي أن نشهد لحضور المسيح القائم من بين الأموات في الكنيسة. إلّا أنّ هذا لا يعني أبدًا أنّنا أنصار تلفيقيّة أو مسكونيّة عاطفيّة متسرّعة، كما لا يعني أبدًا الدعوة إلى التغاضي عن اختلافاتنا ولا إلى تخفيف المشكلة العقائديّة أو خطورة المناولة المشتركة أو تغليب غير طبيعيّ للمحبّة على الحقيقة. علينا اجتناب الخداع والتناقض بين القول والفعل وكلّ ما من شأنه أن يؤدّي إلى تلاشي الانتماء الكنسيّ أو إلى تجميع المسيحيّين كافّة، بأيّ ثمن، في روح صليبيّة. علينا بالأحرى، كما قال بطريركنا في باريس، أن نتعلّم كيف نكون إخوة في "روح الصليب أي الروح القدس"[98] فنصغي سويّة لهمسات الروح ونصلّي معًا ونعود معًا إلى جذورنا المشتركة ونكتسب من بعضنا البعض نمط حياة وشهادة إنجيليّ أصيل ونوحّد جهودنا من أجل خدمة البشر كافّة. فعندئذ تعطى لنا الوحدة، عندما نصبح جديرين بها، من قبل الذي صلّى لأجلها.

- شهادة الكنيسة إزاء الديانات الأخرى

كما يقول المطران جورج خضر، "إنّ التبشير الحقّ يستخفّ بالتبشير"[99]. علينا أن نعرف، حين نتوجّه إلى الديانات غير المسيحيّة، الإسلام واليهوديّة بشكل خاص، أنّ "مهمّتنا الوحيدة هي أن نقتفي أثر المسيح" و"نستخلص قيم المسيح" في هذه الأديان، ونبرز "المسيح كالرابط بينها ونبرز محبّته كامتداد لها"[100]، على رجاء أن نوقظ يومًا المسيح الذي فيها بواسطة شهادتنا الحياتيّة المغلّفة بالمحبّة والتواضع.

الإسلام

علينا، في لقائنا مع الإسلام، أن نتجاوز فكرة البقاء وننتقل إلى الشهادة والاهتمام بالصيرورة المشتركة. لا يجدر بنا على الإطلاق نكران تاريخنا كمسيحيّين في هذا الشرق بكلّ أفراحه وآلامه. يشير الإعلان الذي جرى مؤخّرًا لقداسة الكاهن الشهيد يوسف الدمشقيّ وآخرين كثيرين من "القدّيسين المنسيّين"[101] الذين استشهدوا فداء لإيمانهم، والذين يذكّرنا بهم الأب توما بيطار، إلى أنّ كنيستنا قرّرت ألّا تخشى بعد اليوم الحقيقة، إذ لا تعايش حقيقيًّا بدون الحقيقة. تدفعنا الأمانة التاريخيّة إلى الاعتراف بأنّ جوًّا من التعايش غالبًا ما كان يسود علاقتنا مع المسلمين، على الرغم من بعض الانحرافات التي يعود بعضها إلى التدخّلات والفكر الصليبيّ الذي يغذّيه الغرب المسيحيّ، وخلافًا لما يحاول تأكيده بعض المتحجّرين في انحيازهم وأفكارهم المسبقة وانتماءاتهم السياسيّة.

أملنا هو أن ينجح معهد الدراسات المسيحيّة الإسلاميّة في جامعة البلمند في إعادة إحياء الحوار الذي ارتسمت ملامحه في التجربة اللبنانيّة بين 1960 و1970 والذي بدا واعدًا، وفي إطلاق بحث جدّيّ عن الإسلام، يجب أن يتمّ هذا البحث – وحتمًا الحوار – على ثلاث جبهات:

- التشديد على كلّ ما يجمع بين الديانتَين على الصعيد الإنسانيّ والأخلاقيّ والإيمان بالله وبقيم المسيح التي يوردها القرآن.

- البحث اللاهوتيّ الذي من شأنه تفسير جوهر المسيحيّة في لغة عربيّة مفهومة، مع التشديد على إطلاقيّة المحبّة وعلى أنّ الله قد ارتضى الخضوع لمغامرة المحبّة بتجسّده، وعلى أنّه الله الذي يحبّ الإنسان حتّى اقتبال الصلب، وأنّه ينتظر ردّ الإنسان، وأنّ يسوع هو ردّ الله على مشكلة الشرّ إذ أخذها على عاتقه. كما من شأنه التطرّق إلى موضوعَيّ الاتّحاد بين اللاهوت والناسوت والتألّه وإلى الآفاق اللامحدودة التي يفتحانها أمام البشر.

- تأليف مجموعات تأمّل ودرس وضغط تشترك في النضال من أجل خير "وحقوق" المواطنين كافّة ومن أجل الدفاع عن المظلومين وقضايا العرب والعالم الثالث، ومكافحة الفساد والعنف والتعصّب وكلّ الانحرافات الناتجة عن الدهريّة، وتحقيق علمنة منفتحة وسلام عادل وأخلاقيّات جديدة من شأنها حمايتنا من التوتاليتاريّة السياسيّة أو التقنيّة. كما علينا إيجاد الحلول المناسبة للزيجات المختلطة المتزايدة بفعل الدهريّة أو، كما في بعض أبرشيّات لبنان وسوريا بفعل خلل في التوازن السكانيّ، إذ إنّ هذه الزيجات تفترض في أغلب الأحيان إعلان إسلام الشريك المسيحيّ.

اليهوديّة

يجب علينا ألّا نستمرّ في تجاهل اليهوديّة وفي التزام الصمت حيال الخلط القائم بين هذه الديانة من جهة والصهيونيّة من جهة أخرى وحيال ما ينتج عن هذا الخلط من رفض للعهد القديم أو مبالغة في تبسيطه أو قراءة مبتورة لنصوصه لدى بعض فئات جماعتنا. كما لا يجدر بنا السكوت على الاستغلال المفرط للعهد القديم، بدون ربطه بالمسيح، الممارس في العديد من الأوساط المسيحيّة الغربيّة (وهي تشمل أيضًا بعضًا من الشتات (diaspora) الأرثوذكسيّ) التي يعميها شعور جماعيّ بالذنب من جرّاء معتقلات الـ"شوا" (Shoa)، تغذّيه بلا انقطاع حملات إعلاميّة ذكيّة، والتي يسيطر عليها إرهاب فكريّ يسارع في اتهام أي طيف نقد لليهوديّة أو لدولة إسرائيل بالمناهضة الساميّة. علينا قبل كلّ شيء أن نجهر بإدانتنا لكلّ شكل من أشكال مناهضة الساميّة مثلما ندين أيّ تمييز عنصريّ، مهما كان مصدره، حتّى ذلك الذي يبديه بعض الغربيّين والإسرائيليّين إزاء العرب أو المسلمين. علينا أيضًا تطهير طقوسنا من النصوص النادرة التي تحثّ على الكراهيّة والتمييز. وعلينا أخيرًا إعادة إحياء اللاهوت الآبائيّ بشأن "الشعب المختار" وكشف الانحرافات التي تظهر في لاهوت بعض الغربيّين الذين يقولون "بالمسيحيّة – اليهوديّة"، وذلك بدون إغفال سرّ إسرائيل كما يظهر في الرسالة إلى أهل رومية.

علينا أيضًا أن نحاول العمل ضمن نطاق الأرثوذكسيّة العالميّة لنصبح طرفًا فعّالاً في الحوار اليهوديّ – المسيحيّ وفي المناقشات حول مدلول أورشليم ووضعها، إذ قد ندعى، نحن مسيحيّي الشرق، إلى المساهمة في تنظيم لقاء وإقامة حوار عميق بين الإسلام واليهوديّة يوم يجتمع أبناء إبراهيم كلّهم.

شهادة الكنيسة في مجتمع دهريّ

لكن بالإضافة إلى التبشير "الداخليّ" الذي يصعب رسم حدوده وبالإضافة إلى الحوار مع المسيحيّين كافّة والديانات الأخرى، يمتدّ التبشير الكنسيّ إلى نطاق أوسع هو المجتمع الدهريّ الذي، كما سبق وأشرنا، يشمل قسمًا كبيرًا من المعمّدين.

يجب أن تمرّ شهادة كنيستنا في هذا المجال، إذا أرادت أن تكون فعّالة، بتحوّلات ضروريّة ومؤلمة على نطاق لغة الأوساط الكنسيّة ومواقفها ومعياراتها الفكريّة. فعلى الكنيسة، قبل كلّ شيء، أن تتخلّى عن لهجتها الأبويّة المتعجرفة التي توحي أنّها عالمة بكلّ شيء وأنّها تملك الإجابة عن كلّ شيء وأنّها تبغي السيطرة على كلّ شيء وفرض حقيقتها بواسطة وصفات أخلاقيّة وممنوعات. يغمر الأصوليّين الحنين إلى هذا النوع من الحضور المسيحيّ. على الكنيسة أن تقتنع أنّ موقعها في المجتمع يجب ألّا يكون أبدًا موقع المهيمن إنّما بدون أن تكتفي بالدور الهامشيّ الذي تحصرها به الحداثة. عليها إذًا أن تستقلّ عن مراكز الحكم والمال، فلا تدخل في اللعبة السياسيّة حتّى تبقى قادرة على نقدها بكلّ حرّيّة. إلّا أنّ هذا الموقف لا يخلو من الخطر، إذ قد يؤدّي إلى الاستشهاد وقد يكون مصدر إلهام في الوقت ذاته. يفعل الإيمان المسيحيّ دوره في المجتمع بتشجيع المجانيّة وبترسيخ مجموعة من القيم الحياتيّة وبطرح عدد من المسائل الجوهريّة، مدينًا العنف والقمع والظلم، ومضفيًا بعض الإنسانيّة على النظام الأرضيّ، ومحاولاً تعريف العالم إلى المسيح وحصد الله المشتّت والمخبّأ فيه.

ترسيخ قيم حياتيّة واقتراح أخلاقيّات جديدة لزمننا

"لقد عايش هذا القرن خبرة مذهلة في العديد من البلدان الأرثوذكسيّة في الشرق. فلا الحملات الإعلاميّة ولا المعتقلات ولا مستشفيات الطبّ النفسيّ استطاعت أن تصغّر الإنسان. فهناك دائمًا أناس رفضوا الاستسلام مبدين، فضلاً عن الكرامة، طيبة مجرّدة عن كلّ شيء"[102]. كما أنّ هناك أناسًا يقاومون في أيّامنا هذه "مجتمع الاستهلاك والنجاح والمال وتقديس المتعة (hédonisme)، فيقابلونها بالصمت والانسحاب والصداقة والخدمة المجانيّة والاتصال بالطبيعة"[103]. كما أنّ عودة ازدهار الرهبنة في أماكن عديدة مثال آخر على هذه الطاقة العظيمة وهذا التصميم الذي في الإنسان. يبدو لنا إذًا أنّ الإنسان لا يُقهَر. ماذا يمكن أن يكون سرّ هذه القوّة سوى أنّه مخلوق على صورة الله؟ "لذا علينا التأكيد على فرادة الإنسان هذه، فندعو المجتمع إلى التأمّل في لغز الإنسان وفي احترام حرّيّته وفي سرّ قدرته على المحبّة والحنان والرأفة وفي معنى النسك وسرّ الجمال ولا حتميّة سلطان الموت والخلاص في الشركة والخلاص كشركة ومعنى العيد والمجانيّة"[104]. علينا أيضًا المباشرة بإعطاء إجابات، حتّى لو لم تكن كاملة، عن التساؤلات المعاصرة بواسطة التشديد على قدسيّة الحياة وهبتها، مع الفصل دائمًا بين الخطيئة والخاطئ وبوضع أُسس لأخلاقيّات تناسب زمننا الحاضر.

في المجال الأخلاقيّ، علينا قبل كلّ شيء اجتناب الإجابات الجاهزة والممنوعات غير المبرَّرة والأحكام غير الموافقة، ومن ثمّ محاولة اقتراح معنى وتوجّهات ترتكز على المبادئ والقيم الحياتيّة التي عدّدناها سابقًا، على شرط أن يتمّ تجسيدها في "الكنائس التي في بيتنا" وجماعاتنا الإفخارستيّة. في الواقع، طالما أنّ "الجماعة الكنسيّة لم تقتنع بأنّ كلّ طفل يعمّد وكلّ إنسان يتزوّج وكلّ مريض وكلّ منازع وكلّ مائت إنّما يتعمّد ويتزوّج ويمرض وينازع ويموت في كنفها، وأنّها هي المسؤولة عنه أمام الله، سنظلّ نعيش في عالم مشوّه يبدو فيه الإجهاض والقتل بدافع الشفقة الحلّ الوحيد لمشاكل نعيشها في عزلة. وطالما بقينا عاجزين عن مشاركة إخوتنا في المسيح آلامهم الجسديّة والمعنويّة بواسطة التعاون والصلاة، ستبقى الليتورجيا مجرّد لحظة جميلة نتذوّقها لنعود، حين تنقضي، إلى عزلتنا"[105]، فلا يبقى لدينا ما نقترحه على من لا يشاركنا إيماننا. لذا علينا أن نكون جازمين في رفضنا للاجهاض والقتل بدافع الشفقة وطرائق الموت الهنيء الأخرى والاختبارات المتوحّشة في علم الوراثة.

يؤكّد هذا الرفض القاطع للاجهاض، كحلٍّ مُرضٍ أو حتى "طبيعيّ"، الطابع الثابت لوجود الشخص منذ تكوينه، فالجنين "تكوّن أو لم يتكوّن"[106]، هو، بحسب القدّيس باسيليوس الكبير، إنسان لم ننتجه نحن بل ائتُمِنّا عليه. فهو ذات فريدة في شركة مع الأم والأب اللذَين ائتُمنا عليها. أن نتعرّض إلى حياتها يعني إذًا أنّنا نعتدي على سرّ الشخص الإنسانيّ. من هنا الضرورة إلى موقف رعائيّ يرتكز على ما يفرضه الإنجيل من وجود شخص مسؤول وحرّ ضمن الجماعة، ولكن يعني أيضًا بالنموّ الروحيّ للأشخاص المعنيّين.

كما أنّه لا يمكن تقبّل الاختبارات في علم الوراثة إلّا إذا كانت في خدمة المحبّة أي إذا كانت تساعد الزوجَين وتبقى بينهما. أمّا تلك التي تعزل أو تجرّد الإنسان من شخصيّته (تأجير الأرحام أو تقنيّات أخرى) فمشكوك بأمرها.

أمّا بالنسبة إلى العلاقات الجنسيّة قبل الزواج، فعلينا أن نتحلّى بالشجاعة لنسبح عكس التيّار، معلّمين أنّ الحبّ يشترط هبة كلّيّة للذّات أي إلتزامًا مدى الحياة ومسؤوليّة متبادلة يتجسّدان بالزواج، وأنّه علينا اجتناب العلاقات الثنائيّة التي تجزّئ الإنسان وتحوّل العلاقة الشخصيّة، وإن غلّفتها العاطفة، إلى مجرّد لمس أجساد، صحيح أنّ الحب قد يولّد الرغبة، إنّما على الشباب أن يتعلّموا العفّة احترامًا للآخر ولشركتهم الحقيقيّة معه.

يجب أن نعتمد هذا الاحترام للشخص وللشركة بين الأشخاص منطلقًا لمعالجة أي موضوع آخر في مجال الأخلاق.

نزع الهالة التي تحيط بالدولة وجعل النظام الأرضيّ أكثر إنسانيّة

يجب أن نكرّس أنفسنا، مع جميع المواطنين ومع كلّ نفس طيّبة تبدي استعدادًا للمساهمة، وبدون أيّة حصريّة، للعمل على جعل النظام الأرضيّ أكثر إنسانيّة فنجسّد بذلك أهميّة الإنجيل الاجتماعيّة. صحيح أنّه لا يجدر بالكنيسة، كجماعة، أن تتبنّى خيارات اجتماعيّة – اقتصاديّة أو سياسيّة منحازة. كما يجب "ألّا تحاول السيطرة على الدولة؛ عليها أن تزيل الهالة التي تحيط بالدولة فتجبرها على التقيّد بمتطلّبات وظيفتها وحسب، فلا تتخطّى حدودها، تلك التي يرسمها المجتمع المدنيّ من جهة، بحيث يكمن دور الدولة فيه على السهر على الأمن وتخفيف كلّ مظهر من مظاهر العنف مع ضمان حريّة الاجتماع، والحدود التي ترسمها المرجعيّات الأخلاقيّة والروحيّة من جهة أخرى، فتحترمها الدولة مع ضمان حريّة المعتقَد"[107]. على المسيحيّين، في هذا الصدد، أن يعملوا تدريجيًّا على "إنشاء علمنة حقّة، أي تعدّدية حقّة"[108]، تفسح المجال أمام الكنائس ومختلف الجماعات المسلمة وأيضًا المجتمع المدني بتأدية دورها، لا كبدائل للدولة بل كشركاء مسؤولين، فيعلَّم إرثها الثقافيّ في المدارس ويؤخَذ برأيها لحلّ المشاكل الأخلاقيّة الكبرى ويعترف بوظيفتها التربويّة والاجتماعيّة.

على الكنيسة التذكير دومًا، من خلال حياتها وكلمتها، بضرورة العدالة والمحبّة والكرامة و"حقوق" الإنسان والمصالحة والسلام. عليها أن تسترجع فكر كبار آبائنا وتجسّد الفكر الإنجيليّ الذي يدين بقسوة، كما يذكر بردايف، "الغنى الفاحش والاستغلال والفساد الاجتماعي أكثر ممّا يدين الانقلاب الجنسيّ"[109]، لكن طبعًا من دون التقليل من حجم مخاطر هذا الأخير. على الكنيسة إذًا أن تذكّر دومًا بكلّ هذه المقتضيات، إنّما على المسيحيّين أن يتوغّلوا بلا تردّد في أعماق العالم حيث يعمل الناس ويناضلون ويتألّمون ويتقاتلون، من أجل تأمين حياة أكثر إنسانيّة ورفض الاستعباد الذي تمارسه بعض وجوه مجتمع الاستهلاك وتجديد العلاقات بين البشر والحياة السياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة والفنّية.

مع العلم أنّ ما من نظام اجتماعي كامل ودائم وأنّ كلّ نظام هو تحت حكم الله، إذا لم يتمكّن من إصلاح نفسه بنفسه ليكون أكثر عدالة، على المسيحيّين، كلّ بحسب طاقته، أن يشاركوا في تحريك الناس وتغيير البنى ومقاومة كلّ استغلال. قد تتّخذ هذه المقاومة أشكالاً عديدة، فالإنجيل لا يقدّم وصفة اجتماعيّة بل نهج حياة للإنسان. لا يملك المسيحيّون إذًا أُسسًا سياسيّة واحدة يقترحونها أو حتّى "أبعادًا" شاملة، إذا كانت الأبعاد تعني تقليص النهج الإنجيليّ إلى مجرّد قيم محرّكة. فالمسيحيّ يعيش، مع الآخرين، إيمانه في ممارسته الحياة السياسيّة. فهو يأخذ هذه الحياة على عاتقه ويحاول تغييرها، ليس أساسًا في بنيتها الخاصّة، بخاصّة في علاقتها مع الإنسان. للمسيحيّ إذًا خيارات كثيرة على الصعيد السياسيّ. فالتعدّدية السياسيّة ممكنة بين المسيحيّين، بل حتّى مستحبّة، ضمن الإيمان الواحد، شرط أن يكون نهج التحرّك، كلّ تحرّك، إنجيليًّا، مرتكزًا، كما يقول أوليفييه كليمان، على "المحبّة الفاعلة والخلّاقة والمقدامة، بلا أمل في النجاح الشامل والثابت في التاريخ ... لكن منتعشة بالرؤية الشاملة للإنسان في المسيح، للإنسان الذي يحتاج إلى الخبز بالإضافة إلى المسؤوليّة والصداقة والجمال والأبديّة"[110].

"إنّ الطريقة التي يتكلّم بها الإنسان عن الأمور الأرضيّة، لا تلك التي يتكلّم بها عن الله، هي التي تسمح لنا أن نميّز إذا ما ذاقت نفسه يومًا لهيب الله"[111]. "على المسيحيّين أن يصبحوا خادمين، فقراء ومسالمين، لله المصلوب، مصدر حريّة الإنسان، فيتخلّوا عن السلطة والعنف. عليهم أن يحفظوا إيمان الآخرين ويحفظوا أيضًا غير المؤمنين الذي يخلقون، بتواضع كبير في بعض الأحيان، جمالاً وطيبة. عليهم أن يكونوا ملائكة حارسة للإنسان المنفتح الذي يعيش في ظلّ ثقافة منفتحة. مع التشديد على أنّ المسيح قد غلب الموت والجحيم من أجل الكلّ، وأنّ كلّ إنسان فريد إذ إنّه يحمل في داخله الإنسانيّة كلّها"[112].

يجب أن ينطبق هذا الأمر أيضًا على كنيستنا وعلى جماعتنا كلّها. على هذه الجماعة أن تظلّ حاضرة حضورًا كنسيًّا في بلدنا الذي تتناهشه الكراهيّة والمصالح والفساد وتحاصره المجاعة والظلم لتبشّر، ضمن فسيفساء الطوائف، بضرورة التعايش ورفض الكذب وبحقّ الجميع بالعدالة. عليها أن تكون جماعة صانعة للسلام، جسرًا، فتبذل جميع التضحيات وتجازف بكلّ شيء: الجسر تدوسه الأقدام وتعبر فوقه، لكن يستحيل بدونه أي لقاء بين القاطنين في الضفاف المتقابلة. علينا إذًا أن نشارك باستمرار في صنع تاريخنا فنتمّم واجباتنا الوطنيّة مع الاحتفاظ بدورنا كشهود للرفق الإنجيليّ. إنّها الطريق الوحيدة للمستقبل. ليست مستحيلة. قد تتطلّب تضحيات كثيرة إلّا أنّها الوحيدة التي تستطيع المساهمة حقًّا في إعادة البناء، وبخاصّة في إعادة الإنسانيّة المفقودة إلى بلدنا.

حصد الله في ثقافة هذا القرن وفنّه وتنصيرهما

كيف لا نندهش عندما نرى الجموع تهجر الكنائس في حين أنّها تتسارع إلى المعارض الفنيّة الكبيرة و"كأنّها تنتظر من الجمال تبرير الحياة وكشف المعنى المفقود. علينا أن نتحسّس هذا التوق إلى الخلق الذي تجسّده النزعة الإنسانيّة الحديثة عبر الفن والثقافة، لا لنرفضه بل لنحتضنه وننقذه في اتحاد اللاهوت والناسوت"[113].

"يقدّم الفنّ إشارات تستبق التجلّي الأخير. فهو يُشعر النفس بالله الحيّ الذي يوجد ويقيم التعدّد في الوقت ذاته، إذ يهزّ كيانها كلّه. إنّ الجمال الذي يتّحد فيه الإلهيّ والإنسانيّ، السماء والأرض، هو وجه الله في الإنسان، أي المسيح الذي به نستطيع رؤية وجه الآخر في الله. تكشف محبّة الآخر عن جماله الداخليّ وتحيي فيه نداء الله وصورته"[114].

يجب ألّا نكتفي باكتشاف الله المخبّأ في الجمال، المشوّه أحيانًا، الذي تجسّده فنون هذا القرن، إنّما أن نشهد نحن أيضًا بواسطة الجمال، جمال ليتورجيّتنا وبخاصّة جمال الأيقونات، "تلك الوجوه التي لم يعد جمالها جمال إغراء أو امتلاك بل جمال شركة تحرّر بواسطة الموت من القلق وأصبح حجاب المحبّة الممزّق"[115]. لقد كتب تارتوفسكي معلّقًا على الظهور المشعّ لأيقونة الثالوث في نهاية فيلمه الذي يصوّر حياة أندريه روبليف: "ها هو الثالوث أخيرًا، كبيرًا، مسكونًا بفرح مرتعش تتدفّق منه الأخوّة بين البشر"[116].

علينا أن نتنبّه أيضًا لفكر النقد الكائن في الحداثة الذي تعبّر عنه ثقافتها لنفهمها بشكل أفضل، فننيرها أو حتّى نوجّهها بواسطة معرفة غير تلك التي للمقاربة العقلانيّة، وبواسطة إشراق الحياة الليتورجيّة والروحيّة التي تكتمل بمحبّة خلّاقة. "وإلّا استحالت علينا ترجمة الإنجيل بدون خيانته، واستحال علينا تكييف الحقيقة، التي كشفت في سياق يهوديّ – هللينيّ، لعقول لم تعد تمتّ بأيّة صلة إلى هذه الثقافة القديمة، عقول تعجز عن فهم الرموز الليتورجيّة والمنطق الآبائيّ"[117]. "لم تدخل العنصرة موهبة التكلّم بالألسنة فحسب، بل أوحت أيضًا بموهبة ترجمتها"[118]. من الضروريّ إذًا أن نفهم ثقافة هذا العصر إذا ما أردنا أن ننقل عبرها بشارة الإنجيل. لكن يجدر بنا أن نحرص "خلال تشرّبنا لثقافة الآخرين، ألا نقع في التلفيقيّة ولا نمزج بعض العناصر الغربيّة ببشارتنا الإنجيليّة حتّى لا تتحوّل هذه الأخيرة إلى اصطفائيّة دينيّة"[119].

علينا في مقابتنا للفنّ والثقافة والمعاصرين، وبدون التخلّي عن هويّتنا المشعّة، أن نحرص على "كشف الجوهر الروحيّ للكائنات والأشياء لا بغية امتلاكها بل تقديمها إلى الله كهبة من جهة الخليقة"[120] (القدّيس مكسيموس المعترف)، وذلك "بعد "تسميتها" أي دمغها بعبقريّتنا الخلّاقة"[121].

يشكّل العدد الهائل من شهداء الكنيسة المعاصرين، و"الشهادة البيضاء"[122] التي للرهبان ولكلّ الذين يعيشون "رهبنة داخليّة"[123] في العالم، نواة طاقة كنسيّة من شأنها تغيير مسار التاريخ إذا عرفت كيف تغذّي المنطق المعاصر بدل أن تحيد عنه.

إنقاذ الخليقة

علينا ألّا ننسى أنّ الكنيسة – وتاليًا المسيحيّين الذين يؤلّفونها – يتحمّلون أيضًا مسؤوليّة كونيّة. نحن جماعة كهنة تحمل العالم في تقدمتنا. "التي لك، ممّا لك، نقدّمها لك، على كلّ شيء ومن جهة كلّ شيء".

كما يقول أوليفييه كليمان، "تقضي هذه المسؤوليّة، أوّلاً وأساسًا، بإبقاء الحياة الأرضيّة، بالصلاة، مفتوحة على السماء. فالاستحالات الأسراريّة والتبريكات الكنسيّة وصلوات الرهبان تعمّ العالم شيئًا فشيئًا وتغمره بالنور. عند المجيء الثاني تنكشف كلّ الحقائق. قبل إعادة زرع الأشجار في الأراضي القاحلة، علينا العمل داخل مجتمعاتنا لنزرعها "بالمتقشّفين" و"الشفّافين"... بأناس يكونون، كالأشجار متجذّرين بآن معًا في الأرض وفي السماء"[124].

تمتدّ هذه المسؤوليّة إلى سائر ميادين العلم. لكن عليها أن تهتمّ بشكل خاص بعلم البيئة وبحماية الطبيعة والمحيط البشريّ، فكلّها من مخلوقات الله. تحثّنا الصلوات، وصلاة اسم يسوع بشكل خاص، التي تسمح "بتأمّل الطبيعة"، على إنشاء علاقة إفخارستيّة مع الأرض كما يذكّر أوليفييه كليمان. لقد أكّد بطريركنا، في كتابه "إنقاذ الخليقة"، "على ضرورة مقاربة، ليس فقط أخلاقيّة بل أيضًا روحيّة وأسراريّة وليتورجيّة لمشكلة البيئة". "إزاء الاعتداءات التي مارستها الحداثة ضد الطبيعة، نشهد اليوم محاولات لإبرام ميثاق إفخارستي جديد بين الإنسانيّة، التي أصبحت على كثير من التقنيّة، والأرض التي تبقى دائمًا بمثابة أمٍّ لنا، على الرغم من تحرّرنا من هيمنتها التي امتدّت على آلاف السنين. من هذه المحاولات: تقنيّات وقاية التربة، وردّ الاعتبار لدور المياه، تلك الطاقة الشاملة لحياة الكون، ولدور الشجر. يتبلور على هذا الكوكب، الذي تمّ كشفه أخيرًا، الصراع بين الاستغلال المعقم؟؟ والاحترام، أو حتّى المحبّة". علينا، كما يقول غبطة البطريرك أغناطيوس، توسيع قلب الإنسان بواسطة روحانيّة تدمج الكونيّ بصداقة البشر. "يجب ألّا يبقى موضوع الطاقات الإلهيّة سرّ النسك الرهبانيّ، بل عليه أن يحرّك، بطريقة خلّاقة، حضورنا في العمل المشترك بين البشر"[125].

نحضر بذلك تجلّي الكون. فإنّنا سنجد في هذا الالتزام "صليبنا، إذ تنصب القوى الشريرة، وبعض القوى السياسيّة والاقتصاديّة التي تستخدمها، لنا الفخاخ. لذا، علينا أن نعرف كيف نطرد الأرواح الشريرة منها؛ فبقدر ما يبتعد الإنسان عن الطبيعة، بقدر ما توشك حريّته المنحرفة أن تتجاهل الطبيعة، أو تحتقرها أو حتّى تشوّهها. وعلينا أيضًا أن نعرف كيف نعبد؛ فبقدر ما يتفحّص عقلنا السماء والأرض، بقدر ما نكتشف أنّهما مملوءتان بمجد الله، ونشعر أنّ هذا الاستكشاف العظيم، الذي يطال الذرّة والنجوم، لا يهدف سوى إلى إشراق النور الذي يراه القدّيسون ينساب من الإفخارستيّا، حتّى يصل إلى أقصى حدود العالم"[126].

الخاتمة

لقد شيّد الأثينيّون هيكلاً وعبدوا الله المجهول فجاء الرسول بولس وعرّفهم إليه. أمّا اليوم، فيرفض الناس تشييد الهياكل لله، إلّا أنّ الله يختبئ في أعماق قلقهم، في توقهم إلى الحريّة، في تساؤلاتهم حول معنى وجودهم وحول الحبّ والجمال والمجانيّة. فهل نستمرّ في إطلاق الأحكام ولعن مجتمعنا أم سننطلق يومًا في مهمّة اكتشاف الله في الحداثة التي تربكنا، وفي تعليم معاصرينا، عبر حياتنا أوّلاً، وربّما على حسابها، وبواسطة كلمة متواضعة أخويّة مفهومة، أنّ لله اسمًا ووجهًا، اسم يسوع المسيح ووجهه. هل سنتعلّم يومًا كيف ننسحب وندع هذا الله – الإنسان نفسه يخاطب كلّ إنسان، في وضعه الخاص، في آلامه، وفرحه، ليكتشف هذا الإنسان أنّه على صورته ومثاله وأنّه محبوب؟ هل سنعرف يومًا كيف نجمع بين ذكاء العالم الغربيّ وقلبنا الشرقيّ فيتجلّى العقل في المحبّة؟ هل سنمتلئ يومًا بالقناعة الراسخة بأنّ "الحياة تتدفّق كاملةً من داخلنا نحن، وأنّنا في داخل الحياة"[127]، فنؤكّد أن لا موت في هذا العالم وأنّ السيّد يأتي للقائنا؟ وأنّ كلّ شيء تاليًا قد أصبح ممكنًا وأنّه يجب أن "تبقى أرواحنا في الجحيم لكن بدون أن نيأس"[128] إذ إنّ المسيح معنا دائمًا في الأتون. مهما بدا العالم وكأنّه قد تخلّى عن الله، فالله لا يتخلّى عنه أبدًا. فلنصلِّ مع القدّيس اسحق السريانيّ، الذي لم يتوقّف أبدًا عن الصلاة من أجل الكون كلّه: "يا رب، لقد تخلّيت عنك، لا تتخلَّ عنّي. لقد ابتعدت عنك، تعال وابحث عنّي"[129].

"بسبب هذا أحني ركبتي لدى ربّنا يسوع المسيح... لكي يعطيكم أن تتأيّدوا بالقوّة بروحه في الإنسان الباطن ليحلّ المسيح بالإيمان في قلوبكم وأنتم متأصّلون ومتأسّسون في المحبّة حتّى تستطيعوا أن تدركوا مع جميع القدّيسين ما هو العرض والطول والعمق والعلوّ وتعرفوا محبّة المسيح الفائقة المعرفة لكي تمتلئوا إلى كلّ ملء الله. والقادر أن يفعل فوق كلّ شيء أكثر جدًّا ممّا نطلب أن نفتكر بحسب القوّة التي تعمل فينا، له المجد... إلى جميع أجيال دهر الدهور" (أفسس 3: 14 – 21).



[1] Oliver Clément (O.C), Témoigner dans une société sécularisée, in Contacts n0. 144, 1988, p. 277.

[2] O.C; op. Cité, p. 277. إن

[3] O.C; op. Cité, p. 278.

[4] O.C; op. Cité, p. 278.

[5] O.C; op. Cité, p. 280.

[6] O.C; Christianisme et Science, le rôle de l’Orthodoxie, Université de Balamand, Faculté des Lettres et des Sciences Humaines, 1990, p. 7.

[7] O.C; Témoigner …, p. 7.

[8] O.C; op. cité, p.9.

[9] St. Grégoire de Nysse, cité par Oliver Clément, Quelques réflexions sur la “science et la science des sciences”, Contacts n. 50, 1965, p. 89.

[10] O.C; Quelques réflexions sur la science et la “science des sciences”, Contacts n. 50, 1965, pp. 91 - 92.

[11] O Clément.

[12] O.C; Christianisme et …, p.15.

[13] O.C; Tenter d’être chrétiens aujourd’hui, in Contacts, n. 139, 1987, p. 216.

[14] Costy Bendaly, Le Témoignage de la Communauté Eucharistique, in Contacts, n. 137, 1987, p. 33.

[15] O.C; le sens de la terre, Notes de Cosmologie Eucharistique, in Contacts, Nos. 59/60, 1967, p. 301.

[16] Costy Benday, op. cité, p. 36.

[17] O.C; Témoigner …, p. 281.

[18] O.C; Tenter …, pp. 216 - 217.

[19] O.C; Etre chrétien orthodoxe aujourd’hui, Supplément au SOP N. 119, 1987, p. 6.

[20] Mgr. Georges Khodre (G. Kh.), Eglise et Monde, Le Messager Orthodoxe, n⸰ 48, 1969, p. 14.

[21] O.C; Tenter …, pp. 212.

[22] O.C; Tenter …,  208.

[23] O.C; Témoigner …, p. 281.

[24] Ibidem, p. 281.

[25] Ibidem, p. 282.

[26] G. Kh; Eglise et …, p. 14.

[27] Nicolas Lossky, Témoignage dans une société sécularisée, Contacts n⸰ 136, 1986, p. 264.

[28] B. Vergely, Le 21ème siècle sera religieux ou ne sera pas, Contacts n⸰ 158, 1992, p. 112.

[29] G. Kh; Eglise et …, p. 14.

[30] N. Berdiaev, le problème sociologique et métaphysique de la Technique, Contacts n⸰ 55, 1966, p. 153.

[31] G. Kh; Eglise et …, p. 16.

[32] G. Kh; Eglise et …, p. 16.

[33] O.C; Tenter …, p. 213.

[34] G. Kh; Eglise et …, p. 26.

[35] Ibidem, p. 27.

[36] G. Kh; Technologie et Justice Sociale, in Messager Orthodoxe, 1970, p. 38.

[37] Patriarche Ignace IV Hazim, Le Christianisme et la Rencontre des Religions et des Cultures, in Supplément au SOP n⸰ 79, 1984, p. 15.

[38] O.C; Le sens de la terre, p. 300.

[39] Nikos Nissiotis, Le sens théologique de la révolution technologique et sociale, Contacts, Nos, 59/60, pp. 236 – 237, 240.

[40] G. Kh; Mission et Développement dans la théologie orthodoxe, in Contacts, N. 85, 1974, p. 72.

[41] O.C; Témoigner …, p. 293.

[42] La Grande Controverse …, IV 26-27, cité par O.C. in Vladimir Soloviev, Théologien de la Modernité, Contacts, n⸰ 169, 1995, p. 41.

[43] Ibidem.

[44] Rapport de la Conférence de Genève sur l’Eglise et la société, COE, 1966.

[45] Patriarche Ignace IV Hazim, Op. cité, p. 13.

[46] O. Clément.

[47] Patriarche Ignace IV Hazim, Op. cité, p. 15.

[48] Patriarche Ignace IV Hazim, Op. cité, p. 16.

[49] G. Kh; Problèmes de coopération pastorale entre les Eglises d’Orient, SOP, Document n⸰ 159A, 1991, p. 8.

[50] G. Kh; Eglise et…, p. 17.

[51] O. Clément.

[52] Cité par O.C; Tenter …, p. 216.

[53] B. Vergely, le 21ème siècle …, p. 112.

[54] O.C; Témoigner …, p. 282.

[55] O.C, Tenter …, pp. 227 – 228.

[56] Serge Averintsev, théologien, philosophe et poète russe contemporain, Penser après l’athéisme, in SOP, n⸰ 192, 1994, p. 29.

[57] Ibidem, pp. 30 – 31.

[58] Rapport de la consultation inter – Orthodoxe sur la Mission, Neapolis, 1984.

[59] O.C; Le pouvoir de la foi, SOP, Supplément n⸰ 120 – C, 1987, p. 12.

[60] J. Bosc, O. Clément, M – J le Guillou, la crise de Mai, essai de discernement spirituel, Contacts Nos. 62/63, 1968, pp. 236 – 237.

[61] G. Kh; Eglise et …, p. 24.

[62] G. Kh; Mission et Développement, p. 73.

[63] Costi Bendaly, op. cité, p. 31.

[64] Ibidem, p. 32.

[65] Simone Weil, dans l’Enracinement, cité par Olivier Clément, Témoigner…, p. 4.

[66] Père Alexandre Schmemann, Pour la vie du monde, Editions Desclée, 1969, p. 26.

[67] Cité par P. A. Schmemann, op. cité, p. 26.

[68] S. Kierkegaard, cite par N. Berdiaev, le problème sociologique et métaphysique de la Technique, op. cité, p. 171.

[69] O.C, Le sens …, p. 301.

[70] Denis de Rougement, l’aventure occidentale de l’homme, cite par O. Clément, le sens de la terre, op. cité, p. 301

[71] O.C; Quel visage pour l’Orthodoxie en France aujourd’hui?, in SOP n. 122, 1987, p. 22.

[72] O.C; Tenter …, p. 217.

[73] Costi Bendaly, po. cité, p. 45.

[74] O.C; Tenter …, p. 209.

[75] Père D. Staniloae, Liturgie de la communauté et liturgie intérieure, in Contacts, n. 120, 1928, p. 311.

[76] L. Boff, Eglise, charisme et pouvoir, Editions Lieu Commun, 1985, p. 80.

[77] J. Zizioulas (Mgr. Jean de Pergame).

[78] St. Jean Chrysostome.

[79] Tertullien.

[80] Commentaires sur Galates 1, 2.

[81] Père B. Bobrinskoy, Communion du Saint – Esprit, Editions Bellefontaines, 1995. Ce thème est repris en divers endroits du livre.

[82] Père J.C Roberti.

[83] St. Basile le grand, letter 191.

[84] St. Basile le grand, letter 204, 7.

[85] D. I. Giobotea (Métropolite de Moldavie), l’église Mystère de communion et de liberté dans un monde marqué par le pêché et la finitude, SOP, Supplément n⸰ 103 – D, 1985, p. 18.

[86] Ibidem, p. 21.

[87] P. G. 65, 363, cite par D. I. Ciobotea, op. cite, p. 21.

[88] P. A, Schmemann, Church world Mission, St. Vladimir’s Seminary Press, Crestwood, 1979, p. 187

[89] P. D. Ciobotea (Métropolite de Moldavie), La participation des baptisés au processus

 Préconciliaire, SOP, Supplément n. 127, 1988, p. 1.

[90] J. Zizioulas (Mgr, Jean de Pergame), L’Etre Ecclésial, Labor et Fides, 1981, p. 120.

[91] St. Jean Chrysostome.

[92] St. Jean Chrysostome.

[93] Encyclique des Partriarches Orientaux, 1848.

[94] G. Kh; Eglise et…, p. 25

[95] St. Basile le grand.

[96] St. Irenee de Lyon, Fragments, cité par A. Hamman in le Point théologique, n. 17, 1976, p. 99.

[97] O. Clément.

[98] Patriarche Ignace IV Hazim, Homélie, Bienheureux les Pacificateurs, in Contacts, n. 152, 1990, p. 248.

[99] G. Kh, Christianisme dans un monde pluraliste, l’économie du Saint Esprit, Irenikon, 1971, p. 202.

[100] Ibidem, p. 202.

[101] Editions An Nour, Beyrouth, 1994.

[102] O.C; Témoigner …, pp. 289 – 290.

[103] Ibidem, p. 290.

[104] O. Clémet.

[105] Père J.C. Roberti, La mort douce, in SOP n⸰ 123, 1987, p. 13. St. Basile le grand, cité par P. Jean Breck, la procréation et le commencement de la vie humaine, SOP, n⸰ 193, 1994, p. 34.

[106] O.C; Témoigner …, p. 286.

[107] O.C; Ibidem.

[108] Cité par P. Evdokimov, Eglise et société, Contacts Nos, 59/60, 1967, p. 222.

[109] O.C, Dyonisios et le Ressuscité, essai de réponse chrétienne à l’athéisme contemporain, in Evangile et Révolution, Ed. du Centurion, 1968, p. 114.

[110] Simone Weil, cité par G. Kh; Témoins du Christ, texte ronéotypé, 1967, p. 7.

[111] O.C. Anachroniques, Desclée de Brouwer, Paris, 1990, p. 57 – 58.

[112] O. Clément.

[113] O. Clément.

[114] O.C; Témoigner, p. 4.

[115] Cité par O.C; Témoigner …, p. 293.

[116] G. Kh; Témoins du Christ, p. 9.

[117] Ibidem, p. 9.

[118] Ibidem, p. 9.

[119] Ibidem, p. 9 – 10.

[120] O.C; Tenter …, p. 231.

[121] O.C; Témoigner …, p. 295.

[122] Paul Evdokimov, Les âges de la vie spirituelle, DDB, 1964, p. 121.

[123] O.C; Christianisme et …, p. 18.

[124] Ibidem, p. 19.

[125] Ibidem, p. 20.

[126] St. Syméon le Nouveau Théologien.

[127] Parole divine entendue par St. Silouane l’Athonite, cité par Archimandrite Sophrony, in Staretz Silouane, Editions Présence, 1973, p. 43.

[128] St. Isaac Le Syrien, Discours Ascétiques, 2ème Traité, in Œuvres Spirituelles, DDB, 1981, p. 68.

[129] St. Isaac Le Syrien, Discours Ascétiques, 2ème Traité, in Œuvres Spirituelles, DDB, 1981, p. 68.

المشاركات الشائعة