الموقف المسيحيّ من العقل والعلم والثقافة

 ريمون رزق

النور - العدد الثالث 2016


يوجد تباين في المواقف في تاريخ الكنيسة بين الذين انفتحوا على العلم والمعرفة العقلانيّة ولم يجدوا في سعيهم هذا تعارضًا مع إخلاصهم ليسوع وتعاليمه. من أوّل هؤلاء يوستينوس الفيلسوف الشهيد (+165) الذي مدّ جسورًا باتّجاه الفلسفة الهيلّينيّة، واعتبرها تشكّل مدخلًا للإيمان المسيحيّ. تكلّم على "اللوغوس سبيرماتيكوس"، أي أنّ الكلمة أعطى بذارًا من نفسه في الثقافات جميعًا، وأنّ كلّ ما هو محقّ في الفلسفات ناتج منه. يقول: "ينير المسيح، كلمة الله، منذ البدء، العقول البشريّة. فأخصبت بذور منه، واهتدت إلى بعض الحقائق. فكلّ ما قاله الفلاسفة والمشرّعون، وما اكتشفوه من جَمال، إنّما بلغوه بفضل تأثير الكلمة الجزئيّ. وبما أنّهم لم يعرفوا الكلمة بكماله، أخطأوا أحيانًا، وناقضوا بعضهم بعضًا. فكلّ ما قيل من حقّ، في كلّ زمان، وفي الإنسانيّة جمعاء، هو ملكنا نحن المسيحيّين... فإذا اعترض معترض بقوله إنّ كلّ مَن سبق المسيح هو غير مسؤول عن أفعاله، أجبنا أنّ الذين عاشوا بحسب الكلمة، هم مسيحيّون، حتّى ولو اعتُبروا ملحدين... عملة الخير محبوبون من الله، وسيخلّصهم المسيح في يوم القيامة"[1]. يدفعنا موقف يوستينوس إلى الانفتاح على ثقافات العالم ومواجهتها باحترام ووعي، والسعي إلى الحوار معها علّها "تتنصّر" وتجتذب مثقّفي هذا العالم إلى المسيح.

وقد سار إقليمس الإسكندريّ (140-216)، والمعلّم الكبير أوريجانس (185-254)، ولاحقًا باسيليوس الكبير، وصولًا إلى ذيونيسيوس الآريوباجيّ في مطلع القرن السادس  على خطى يوستينوس .

ينصح أوريجانس بالإقبال إلى الفلسفة والعلوم بقدر ما يمكنها أن تساعد فهم الرسالة الإنجيليّة. يقول لأحدهم: "أرجوك أن تأخذ من الفلسفة اليونانيّة ما يمكن جعله عموميًّا، أو يمهّد لفهم النصرانيّة. ومن الهندسة وعلم الفلك ما يعينك على تفسير الأسفار المقدّسة. واجعل من الفلسفة أَمَةً خادمةً للنصرانيّة"[2].

أمّا باسيليوس الكبير، فيشرح كيف يمكن الاستفادة من الأدب الهلّينيّ. يقول: "علينا أن نتعامل من كلّ قلبنا مع الشعراء والمؤرّخين والخطباء وجميع هؤلاء الرجال الذين يمكننا أن نكتسب فائدة منهم لراحة نفسنا... إن أردنا أن يسلم رأينا في الصلاح، سنطلب من هذه العلوم الخارجيّة تهيئة أولى تمكّننا من الاستماع إلى التعاليم المقدّسة المتعلّقة بالأسرار"[3].

 وبنى ذيونيسيوس الآريوباجي المنحول منظومته الفكريّة، التي أثّرت كثيرًا في مجرى الفكر المسيحيّ شرقًا وغربًا، على الفلسفة الأفلاطونيّة الجديدة، وعمّدها بفكر المسيح. أمّا آباء كبار، أمثال مكسيموس المعترف وغريغوريوس بالاماس، فقد استعملوا العبارات المنطقيّة السائدة في أيّامهم لدحض ما ترنو إليه، وإبراز روحانيّتهم. فواجه غريغوريوس بالاماس بصلابة التيّار الإنسانويّ الذي أتى بيزنطية من الغرب، بعد عصر النهضة.

تشجّعنا هذه المواقف على عدم انزوائنا في أبراجنا العاجيّة، والدخول في حوار جدّيّ مع الثقافة الحديثة، والسعي إلى استنباط "المسيح الدفين فيها"، على حدّ قول المطران جورج (خضر).

مقابل تلك المواقف، تقف تيّارات متزايدة موقفًا شديد التحفّظ تجاه كلّ فكر لا يرتكز كلّيًّا على الإعلان الإلهيّ. أمام مجتمع فقد كلّ  معاييره القديمة، والتجأ إلى دهريّة "قتلت" الله وأعلت مكانه الإنسان، يكتفي البعض باللعنة خوفًا من كلّ فكر غريب ورفض كلّ حوار معه. يشعرون بنوع من الرعب أمام قدرة الآلة وتحدّيات الحداثة، وعبثيّة بعض الفلسفات، واستقلاليّة العِلم، معتبرين إيّاها وجهًا من وجوه المسيح الدجّال. فيتقوقعون على ذاتهم، لاعنين العالم وما فيه، ولاجئين إلى حرف التراث بمواقف لا تخلو من التكبّر وبغضاء الغير، معطين أحيانًا للتراث مرتبة صنميّة.

يذهب البعض إلى رفض كلّيّ لمكانة العقل في المسيرة الإنسانيّة، قائلين إنّ الله لا يُعرَف إلاّ بالقلب، وليس بالعقل.  إنّ هؤلاء يتجاهلون، في قولهم هذا، التعليم الأرثوذكسيّ القويم، الذي نما بخاصّة في الأديرة، والذي شدّد على ضرورة "إنزال العقل إلى القلب"، أيّ ضرورة الركون إليهما معًا.

على الموقف المسيحيّ الأصيل أن يبتعد عن الانزلاق الكلّيّ أمام كلّ جديد وعن الأصوليّة في آن، لأنّ المسيحيّة تخون قناعاتها العميقة كديانة التجسّد إن اعتبرت أنّ الله هو ضدّ الإنسان، وأنّ الإنسان وحداثته هما حتمًا  ضدّ الله. يقول أوليفييه كليمان: "إنّ الله والإنسان لا يتعارضان، بل يتّحدان في المسيح، بغير انفصال أو التباس. الاتّحاد بين اللاهوت والناسوت هو مجال الروح القدس وحرّيّة الإنسان المبدعة". ويقول أيضًا: "إنّ نواة الطاقة الروحيّة التي أدّى تفجيرها إلى بروز الحداثة هي في طريقها إلى النفاذ. ويبدو في الأفق "موت الإنسان" بعد "موت الله". فالوقت إذًا مناسب للمسيحيّين أن يُثيروا بقوّة متواضعة شيئًا من معنى الوجود، شيئًا من توهّج النار والنور. إذا لم يفعلوا، إذا لم يفلحوا في إيجاد دور لأنفسهم في مجتمع الدهريّة، يكونون قد أفسحوا المجال واسعًا للديانات الأخرى التي تقتحم الآن العالم"[4].

على المسيحيّ، إن كان يريد أن يبشّر، أن يواكب كلّ تطوّرات العالم الحديث بدون خوف، واستعمال كلّ إمكانيّاته، بما فيها العقليّة، لإيجاد أجوبة على تساؤلات العالم المصيريّة. عليه للفلاح بهذا العمل أن يعرف فكر العالم الحديث، ويتوجّه إليه بعبارات يفهمها، بدون أن يتنازل بحرف واحد عمّا "سُلّم مرّة واحدة للقدّيسين".

 



[1] الدفاع الأوّل 44.

[2] راجع "البِري أركون" و"ضدّ سِلسيوس".

[3] الخطاب إلى الشباب.

[4] راجع أوليفييه كلِمان، الناسك في المدينمة، ريمون رزق، تعاونيّة النور الأرثوذكسيّة.

المشاركات الشائعة