الكنيسة والطائفة

 ريمون رزق

النور - العدد الخامس 2018

 

منذ أن نشأت حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة كتب أعضاؤها الكثير في النظام الطائفيّ القائم في لبنان، وعلاقــة الطائفـــة بالكنيسة. بعد المطران جورج (خضر) الذي لم يترك شأنًا من شؤون الكنيسة والبشر لم يتعرّض إليه، أهمّ مَن كتب في هذه المواضيع كان المرحوم كوستي بندلي.

المطران جورج (خضر)

يقول جورج خضر إنّ "الطائفيّة من حيث هي مزج بين الشأن الروحيّ والشأن المدنيّ هي بدعة دينيّة في المنظار المسيحيّ...  فضلاً عن أنّها تخلّف عن الركب الحضاريّ". ويتابع في المقالة ذاتها[1]، قائلاً: "يرى الإنسان المؤمن نفسه مشدودًا إلى إيمان يعتنقه بإخلاص، وإلى كيان سياسيّ لطائفته يعتبره منافيًا لهذا الإيمان، ومعطّلاً للمسيرة البشريّة المتحفّزة إلى الحرّيّة. فالإيمان القادر على إنقاذ الإنسانيّة يدركه مرتبطًا بمؤسّسة مذهبيّة وضعها الاجتماعيّ التاريخيّ مكبِّل للقوى الإنسانيّة الخلاّقة". وتعرّض المطران للموضوع ذاته في مقالة أخرى[2] كتبها السنة 1968، مؤكّدًا رفضه "كلّ تطاول من الرجال الروحيّين على الزمنيّات"، وقائلاً بحزم "لا لكلّ شبح إنشاء دولة دينيّة"، إذ لا يجوز "الجمع بين السلطة الزمنيّة والسلطة الروحيّة في شخص واحد". وأمام واقع تدخّل الأساقفة في الوضع السياسيّ، يتساءل "ما هو هذا الإله الذي أترجمه معطيًا لوظيفة أو عاملاً في نجاح النوّاب؟".

لكنّه مع ذلك وعى، منذ منتصف أربعينات القرن الماضي، الهوّة الواسعة المتنامية بين الكنيسة الأرثوذكسيّة والطائفة الأرثوذكسيّة، فقال: "جعلوكِ (أي الأرثوذكسيّة) قوميّة أو قوميّات، فحدّدوك ورأوا أنّ واجبك الأوّل في التصدّر الاجتماعيّ والتسابق على المناصب... فاعتقدوا أنّ لا كيان لك ما لم تنالي أعلى ما تصبو إليه الجماعات في هذا الشرق من كبرياء وعظمة... الكلّ يتغنّى بأمجادنا التليدة وبغابر العصور حيث كانت مملكة الروم تسود الشرق. وأمّا الممالك فتتلاشى... لا يمكن معالجة الانحطاط في الطائفة إلاّ من الوجهة الروحيّة"[3].

وقد ترجم جورج (خضر) هذه الرؤيّة إلى واقع عندما أسّس في الثامنة عشرة من عمره، مع رفاق له، حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة في الكرسيّ الأنطاكيّ التي يلحظ أحد مبادئها، أنّ "الحركة تستنكر التعصّب الأعمى والطائفيّة السياسيّة". وفي شرح هذا المبدىء، كتب في ما بعد: "أصبحت الطائفة حلبة من خلايا الأمّة تتمتّع بامتيازات سياسيّة وتشريعيّة وقضائيّة، وتحوّلت إلى هيئة زمنيّة يُجبَر كلّ مَن وُلد فيها على ملازمتها، مؤمنًا كان أو غير مؤمن، بينما الكنيسة جسم حيّ ليس جزءًا من كلّ، ينتمي المرء إليه بحرّيّة ضميره. وعلى هذا القياس تكون الأمور الطائفيّة السياسيّة شيئًا والأمور الكنسيّة شيئًا آخر". ويضيف: "مَن يتمسّك بالأرثوذكسيّة لصفاتها الاجتماعيّة يُخطئ إليها، ويرتبك بالجسم الطائفيّ ولا يؤدّي بموقفه هذا خدمة إلى الكنيسة. ومَن يعتني بأمور الروح دون سواها لا يؤدّي خدمة إلى الطائفة من جهة تفوّقها العالميّ، ولكن له اليقين أنّه يعمل في سبيل ما لا تُقاس به سياسات الدنيا بأسرها"[4].

المرحوم كوستي بندلي

أمّا كوستي بندلي، فلاحظ "الردّة الطائفيّة" التي شهدها لبنان بعد مأساة الحرب الأهليّة التي "تتميّز بالعودة إلى التراث الدينيّ والمجاهرة بالتمسّك الشديد به. فإذا بالتديّن يصبح للطائفيّة حليفًا بالغ الأهمّيّة والقوّة، بعد أن كان مرشّحًا ليكون نقيضًا للطائفيّة وسبيلاً لتجاوزها"[5]. ويذهب إلى أنّ "تأكيد الذات الفئويّ الانكماشيّ" الذي تشجّعه هذه الردّة، "من شأنه أن يخلّد ويؤجّج عوامل التفرقة والانقسام والتناحر والتقاتل في بلدنا".

ينطلق بندلي من الموقف المبدئيّ أنّ الطائفة هي "الوجه الاجتماعيّ للكنيسة"، وأنّه لا تكون الطائفة "مسيحيّة" "إلاّ بقدر تعبيرها عن حياة دينيّة هي في جوهرها سعيّ الجماعة إلى الله وطاعتها له ومحبّتها له، المترجمة بحبّ أعضائها الفاعل بعضهم لبعض ولكلّ إنسان من دون استثناء، إذ تفقد الطائفة كلّ صفة مسيحيّة إذا استقلّت عن الحياة الكنسيّة التي يُفرض فيها أن تعبّر عنها"[6]. ثمّ ينظر إلى الواقع المعاش حيث أضحت الكنيسة، بنظر كثيرين، تكتّلاً طائفيًّا، "اجتماعيًّا في الأساس يقوم تجاه تكتّلات أخرى، ولا يميّزه عن الهيئات الاجتماعيّة كافّة سوى شعائر فُصلت عن مضمونها، ولغة أُفرغت من معناها".

النظام الملّي العثمانيّ

لا بدّ من عودة إلى الماضي لفهم الظاهرة الطائفيّة. ينبع النظام الطائفيّ في الأصل من المفهوم الإسلاميّ لأهل الذمّة، الذي طوّرته الأمبراطوريّة العثمانيّة بجعلها كلّ أمّة من الخاضعين لها تدير شؤونها الداخليّة بواسطة زعمائها. أمّا أهمّ "الملل" التي خضعت لهذا النظام فكانت ملّة الروم، أي كلّ الأرثوذكسيّين إيمانًا الساكنين في بلاد الشرق والبلقان، أي اليونانيّين والعرب والصرب والبلغار والجيورجيّين والألبانيّين والرومان (الفلاخ). وجُعل بطريرك القسطنطينيّة المرجع الدينيّ والمدنيّ لكلّ الأرثوذكسيّين، أو "الملّة باشا". وكان معظم رؤساء تلك الكنائس يونانيّي الأصل، فحرصت البطريركيّة المسكونيّة (اليونانيّة) على أن تؤمّن وصول يونانيّين من عائلات الفنار النبيلة إلى المناصب في البلاد الأرثوذكسيّة، وتعمل على فقدان الصرب والمكيدونيّين والبلغار استقلالهم الكنسيّ.

أثّر هذا النظام سلبًا في الكنيسة، إذ تخلّت في معظم الأحيان عن دورها الروحيّ واللاهوتيّ الجامع لتهتمّ بالشؤون المادّيّة والسياسيّة. وقد صعب عليها التخلّي، بعد سقوط الأمبراطوريّة العثمانيّة، عن هذه العقليّة الخالطة بين الدين والدولة، ولا تزال كثير من الكنائس الأرثوذكسيّة تعاني اليوم هذا الداء.

كما سبّبت الهيمنة اليونانيّة الطويلة على الكنائس غير اليونانيّة، انتفاضة مبنيّة على شعورها بالوطنيّة، فاستبدلت برئاسات محلّيّة اليونانيّين. كما أعلنت كنائس البلقان استقلالها الكنسيّ بالتساوي مع استقلالها الوطنيّ، ما خلق نزاعات مع القسطنطينيّة لم تُحلّ بسهولة. لكن ما يجدر ذكره أنّ تلك الكنائس تخلّصت من النظام الملّيّ للوقوع في نظام "وطنيّ" أو عرقيّ، سبّب تماهي الدينيّ بالعرقيّ والهويّة الوطنيّة بالهويّة الكنسيّة، مجرّدًا الكنيسة من رسالتها العالميّة ومسؤوليّتها تجاه الكون.

لم يقع الكرسيّ الأنطاكيّ في فخّ العرقيّة (هرطقة "الفيليثيّة")، بسبب امتداده عبر أوطان مختلفة (لبنان، سورية، العراق، الجزيرة العربيّة وبلاد الانتشار). لكنّه لم ينجُ من عواقب النظام الملّيّ، إذ لا يزال بعض مطارنته يتجاوزون مسؤوليّاتهم الروحيّة ويتدخّلون في الشؤون السياسيّة، ما يخالف مفهوم الإنجيل من السلطة الزمنيّة والسياسة.

الإنجيل والسياسة

نشأت المسيحيّة في عالم رومانيّ يتميّز بنظام سياسيّ ودينيّ موحّد. أوّل مَن فصل بين الصعيدين كان المسيح. بالنسبة إليه، على السلطة السياسيّة المحافظة على سبب وجودها، أي مسؤوليّة الشؤون الأرضيّة، لكن عليها أن تخسر كلّ تأثير على ضمائر الناس واعتقاداتهم الدينيّة. ميّز المسيح الجماعة الدينيّة عن الجماعة السياسيّة. فالكنيسة واحدة في كلّ المسكونة، وتتخطّى الحدود السياسيّة. وعلى قادتها ألاّ يتعاطوا السياسة ولا أساليبها في القيام برسالتهم. يخضعون للسلطة السياسيّة لأنّ كلّ سلطان "يأتي من الله"، ويصلّون من أجلها لكي تؤمّن السلام والأمان والعدالة للناس. لكنّهم لا يتدخّلون بشأنها إلاّ لتوضيح عند الحاجة متطلّبات كلمة الله الساهرة على مصير الناس: "أعطوا لقيصر ما لقيصر، ولله ما لله". فيكون إذًا للمسيحيّ مرجعيّتان، السياسيّة لكونه مواطنًا، والدينيّة لكونه عضوًا في شعب الله. بهذا يطيع الربّ نفسه الذي أراد هذه الازدواجيّة. فلا تماهٍ إذًا بين السياسيّ والدينيّ، وتاليًا بين الطائفة والكنيسة.

سعى المسيحيّون الأوائل إلى تطبيق هذا النظام. وتشهد مثلاً الرسالة إلى ذيوغنيطوس، التي كُتبت في القرن الثاني، على أنّ المسيحيّين "لا يختلفون عن سواهم من أبناء البشر في الوطن أو اللغة أو طريقة العيش. فالواقع هو أنّهم لا يقطنون مدنًا لهم دون سواهم، ولا يتكلّمون لغة غريبة خاصّة بهم. يحترمون العادات المحلّيّة بكلّ ما يختصّ بالملبس أو الطعام أو طريقة العيش، ولكنّ أسلوب معيشتهم الملائكيّة يكاد لا يُصدّق. يسكنون المدن كأنّهم غرباء عنها. يتمّمون كلّ واجباتهم كسائر المواطنين، ويتحمّلون كلّ شيء كمسافرين. هم في العالم، ولكنّهم لا يعيشون بمقتضاه. يقضون أيّامهم على الأرض، ولكنّهم مواطنو السماء. يطيعون القوانين المرعيّة، ولكنّهم يتقيّدون بأكثر منها في حياتهم الخاصّة"[7].

لكنّ هذه الحالة لم تدم. اعتبرتهم السلطة الرومانيّة ثوّارًا فاضطهدتهم. فصمدوا ووقع كثيرون من بينهم شهداء. 

الكنيسة والسياسة

وعندما أصبحت الأمبراطوريّة مسيحيّة، وعظمت "المؤسّسة" الكنسيّة، تعرّض كثير من رؤسائها لتجربة خلط الدين بالسلطة المدنيّة، وتبنّوا عادات الأباطرة وجلسائهم. ودخلت المسيحيّة آنذاك أعداد من الناس كبيرة،  ليس اقتناعًا بل لأنّ "الشعوب على دين ملوكها". يشبه هؤلاء "أرثوذكسيّي الهويّة"، الذين لم يختاروا اليوم بملء إرادتهم الانضمام إلى الكنيسة بل فُرضت عليهم عضويّتها.

على كلّ حال اختلط مذ ذاك في الكنيسة القمح والزؤان. ما دفع الروح القدس إلى التدخّل. فأوحى لكثيرين أن يتركوا العالم ليستعيدوا حياة الشركة والأخوّة التي كانوا عاشوا عليها قبل "سِلم الكنيسة"، فألّفوا جماعات رهبانيّة تصلّي من أجل هذا العالم الذي تركته، وتعطي للناس مثالاً حيًّا على المحبّة والأخوّة المسيحيّتين المعاشتين في جوّ من الاتّضاع وانكسار القلب. وأوحى الروح من جهة ثانية بروز عدد كبير من الأساقفة حسب قلب الله، الذين جاهدوا لجعل رعيّتهم تتمثّل بالمسيح وتسلك بموجب تعاليمه، واعية أنّها في العالم ولكن ليست منه. وقد تلمذوا هؤلاء الأساقفة الرعاة وآباء الكنيسة كثيرين من العلمانيّين الذين أصرّوا على أن يلتزموا المسيح وحده في حياتهم في العالم. كبار الرهبان والآباء والعلمانيّون هؤلاء كانوا خشبة الخلاص لكنيسة القرن الرابع التي خضعت لأوّل مرّة لتجربتي السلطة والتجبّر. أمّا الكنيسة الرسميّة، أم المؤسّسة في الكنيسة، فتحالفت غالبًا مع السلطات الزمنيّة، وتخلّقت أحيانًا بأخلاقها، ساعية إلى أن تتسلّط عليها في بعض المناسبات، بينما خضعت لها في أغلب الأحيان.

فتزامن إذًا داخل الكنيسة على استمرار القدّيسين أو الذين يسعون إلى القداسة والذين يتحالفون مع الفكر الدنيويّ، ويدعون  المادّيّات والسياسة تطغي على الروحيّات . وهكذا كانت حال الكنيسة المسيحيّة عبر العصور. فكانت دومًا الكنيسة "المقدّسة" كنيسة خطأة.

الطريقان

اعتقد بعض المسيحيّين بضرورة العمل على فرض نظام مجتمعيّ وسياسيّ مسيحيّ، بتحالفه مع السلطات الزمنيّة واستعمال أساليبها. ولنا في التاريخ المسيحيّ أمثلة على ذلك لا تُحصى. أمّا آخرون فاقتنعوا بأنّ المسيحيّة لم تأتي بنظام كونيّ جديد، بل، كما قال لكتانسيوس، الكاتب اللاتينيّ المسيحيّ (†325) الذي دُعي "الشيشارون المسيحيّ": "أعطت للعالم نعمة إنسانيّة مكّنته من المحبّة والتعاضد والدفاع عن المستضعفين"[8]. يهزّ إنجيل المسيح الناس الذين يأخذونه على محمل الجدّ، ويقلب المقاييس التي ترتكز عليها حياتهم، كما قلب الربّ موائد الباعة في الهيكل. ويدفعهم إلى التغيير الجذريّ والعمل الدؤوب لتحويل أوّلاً نفوسهم ثمّ مَن حولهم، وبواسطتهم يُحوّل المجتمع والعالم. يتمّ ذلك بالمحبّة والشهادة المقنِعة، بعيدًا عن كلّ إكراه. لغى يسوع كلّ فاصل بين القول والفعل، الإيمان والأعمال، وهكذا علّم تلاميذه، على حدّ قول يعقوب أخي الربّ، أنّ "الدين الطاهر الزكيّ عند الله هو افتقاد اليتامى والأرامل في ضيقهم وصيانة الإنسان نفسه بغير دنس في العالم" (يعقوب 1: 27).

الكنيسة والطائفة تحديدًا

في العبارات التي تُستعمل في أيّامنا، يمكن وصف الطريق الأوّل بالطريق "الطائفيّ" وأبناء الطائفة الذين يلتزمون الفكر الإنجيليّ، ويلتفّون حول الأسقف أو الكاهن في سرّ الشكر، هؤلاء يشكّلون الكنيسة التي تريد العمل على خلاص الجميع والعالم. هؤلاء يسلكون الطريق الثاني.

الطائفة كيان إنسانيّ سوسيولوجيّ تُعرَف حدوده، يتصرّف مبدئيًّا بموجب القوانين الاجتماعيّة الراهنة. عليه السهر على مصالح المنتمين إليه، التي تكون غالبًا متضاربة. أمّا الكنيسة، فلا تُحدّ، و"ليست مؤسّسة، بل هي الحياة الجديدة بالمسيح وفيه والتي يُحرّكها الروح القدس"، كما يقول الأب سيرج بولغاكوڤ في مطلع كتابه حول الأرثوذكسيّة[9]. يدخلها المرء بالعماد، مبديًّا إرادته تبنّي الحياة في المسيح. كان المريد في المسيحيّة الأولى، وبقي طيلة عصور طويلة، يخضع لفترة تدريب وتأهيل، ليس فقط على التعاليم المسيحيّة على العيش المسيحيّ. وفي بعض الأحيان كانت تمتدّ فترة "الموعوظيّة" هذه إلى سنوات ثلاث.

هذا كان في البدء. أمّا الآن، حيث عمّت معموديّة الأطفال، فعلى العرّابَين مبدئيًّا أن "يضمنا" إيمان الصبيّ المعمَّد، ليصل إلى سنّ الوعيّ فيلتزم وعود المعموديّة التي تعهدا بها عنه، أو ينكرها. لا بدّ من التزام ما تفرضه المعموديّة من إيمان بالثالوث القدّوس ومن إرادة تمثّل بالمسيح في الحياة الحاضرة، لكي يصبح المرء عضوًا حقيقيًّا في الكنيسة، مؤكّدًا عضويّته باشتراكه مع المؤمنين في "عشاء الرب" المكوِّن الكنيسة وعاملاً كما فعل سيّده على غسل أرجل الناس. 

وضعنا الراهن

لا يقوم العرّابون غالبًا بمسؤوليّاتهم، إذ لا تُسند إليهم هذه المسؤوليّة لالتزامهم المسيحيّ بل لاعتبارات اجتماعيّة وعائليّة. ونلاحظ أنّ عددًا يتكاثر من أبناء الطائفة لا يُقدمون على تعميد أولادهم، إذ يغوص مجتمعنا أكثر فأكثر في مدنيّة الدهرنة وآثارها الملتبسة، بخاصّة تجاه الدين. تدلّ أكثر الإحصائيّات– وهي غالبًا تخمينات لا ترتكز على العِلم– على أنّ نسبة الممارسين بين الأرثوذكسيّين لا تتعدّى العشرة بالمئة في مناسبات الأعياد الكبرى، وأنّها تتدنّى بشكل ملحوظ بالنسبة إلى الممارسة الأسبوعيّة والتقدّم إلى المناولة.

وتتوزّع الأكثريّة غير الممارسة أرثوذكسيًّا بين قلّة تمارس في كنائس أخرى، ومَن لا يمارس إطلاقًا، لا بل له موقف من الدين يتراوح بين اللامبالاة الكاملة والإلحاد. لكن مع ذلك تعتبر هذه الأكثريّة من أبناء الطائفة من حقّها الطبيعيّ التدخّل في شؤون الكنيسة التي لا تريد التزام حياتها. ينتج ذلك من التركيبة الطائفيّة الراهنة في البلاد، ومن النظرة الثيوقراطيّة في الإسلام الي توهم أنّ القطيعة غير ممكنة بين الدين والمجتمع وتاليًا بين الكنيسة والطائفة.

موقف الكنيسة والطائفة الواحدة تجاه الأخرى

تتأرجح مواقف كلّ من الكنيسة والطائفة الواخدة إزاء الأخرى بين التباعد والانتقاد أو اللعنة من جهة، والانسجام والتعاون من جهة أخرى. بدون أن يعبّر عن ذلك مجاهرة أو حتّى تلميحًا، يمكن أن يعتبر البعض موقف المطران (خضر) المذكور أعلاه تجاه الطائفة متّسمًا بشيء من "أرستوقراطيّة الصلاة" ومتعاليًا، إذ يعتبر أنّ الكنيسة والطائفة هما دومًا في حالة صراع، مع أنّه لم يقصد قطّ ذلك في كتاباته الكثيرة، ولم يتجاهل قطّ طاقات الطائفة وإمكانيّاتها، لكنّه وقف ضدّ تدخّلها في أمور الكنيسة الداخليّة، كما نهى الكنيسة عن تعاطي الأمور السياسيّة. مع ذلك يجعل مثل هذا الموقف بعض أهل الطائفة غير الممارسين دينيًّا يشعرون أنّهم "مقصَون" عن اهتمام الكنيسة أو أنّهم أعضاء فيها من الدرجة الثانية. وفي تحليل المظاهر "الدينيّة" التي أتّخذتها الطائفيّة بعد الحرب اللبنانيّة، يعتبر كوستي بندلي من جهة ثانية أنّ تدخّل الطائفة في أمور الكنيسة تزييف للدين لا بدّ من محاربته.

يشجّع هذا الوضع موقفُ بعض أعضاء الرئاسة الكنسيّة الملتبس، إذ لم يتخلّوا كلّيًّا بعد عن مفهوم الملّة العثمانيّ الذي كان يخوّلهم الاهتمام بشؤون العباد ليس فقط الروحيّة بل الزمنيّة. ولا يزالون يحنّون إلى "سنوات المجد الخوالي" التي كانت الكنيسة تتحكّم فيها بهذه الشؤون، كما يعجزون عن التخلّص من العقليّة واللغة اللتين ورثتهما الكنيسة عن نهج المجتمعات "البطريركيّة". وهم ربّما غير مقتنعين تمامًا بأنّ سبب وجودهم، كما لكلّ مسيحيّ مؤمن ملتزم، ليس التدخّل بشؤون العالم أو مراقبة فوقيّة لأخلاقه، أو الإشراف على تشريعاته، بل تذكيره بتواضع وبالمثال الحيّ بمعنى القيَم التي تحترم الإنسان والإنسانيّة. عندما تنزوي "الكنيسة" في منطق حماية المنتمين إلى "طائفتها" فقط، أو حماية أيّ شخص أو فئة أخرى بمعزل عن الآخرين، تتحوّل، شاءت أم أبت، بوعيّ أو بدون وعيّ، إلى "فئة"، ناسية أنّها مدعوّة إلى أن تكون للجميع، حامية العدالة والصغار، إذا كانت تريد البقاء أمينة لرسالة المسيح. وإلاّ فلا تعود كنيسة إذ تنحصر في حدود الملّة. وهكذا تتحوّل بنى الكنيسة من بنى روحانيّة مواهبيّة إلى بنى سياسيّة.

 نجد مقابل هذا "الانغماس" الأسقفيّ في شؤون الطائفة، أنّ معظم المؤسّسات الكنسيّة (جامعات، مدارس، مستشفيات، أوقاف...) أضحت مؤسّسات محض "طائفيّة" تخلو الممارسة فيها غالبًا من أيّ مضمون "مسيحيّ"، سوى بعض التعليم الدينيّ حيث وجد، مع كونها تجاهر باسم الكنيسة التي تنتمي إليها. تكون هذه المؤسّسات، إن نجحت، مؤسّسات شبيهة بأيّ مؤسّسة مماثلة لا تدّعي الانتماء إلى تيّار روحيّ أو إيمانيّ معيّن، متناسية بذلك أنّ هدف وجود أيّ مؤسّسة كنسيّة يكمن في الشهادة والخدمة، وفي ضرورة السهر على حسن الإدارة والدراية الاقتصاديّة والجودة العلميّة، أنّ عليها أن تكون "غير شِكل"، أي أن تنقل، إن كانت مسيحيّة، وجه يسوع الذي لا يميّز بين البشر، إذ ما عاد يوجد عنده "لا يونانيّ ولا أمميّ ولا رجل ولا امرأة". فعلى المؤسّسات التي تحمل اسمه أن تبشّر بفكره، ليس بالكلام أو الوعظ، بل بالمحبّة والعناية الأخويّة واستقامة الأخلاق وحسن التعامل واستفقاد الفقراء.

ونلاحظ أنّ المفهوم الطائفيّ يشوِّه أيضًا التعامل داخل الأوساط الكنسيّة. ما يزيد خطورة انغماس المطارنة في الشأن الطائفيّ، انغماس غير المؤمن وأحيانًا الملحد في شؤون الكنيسة، لمجرّد أنّه وُلد "أرثوذكسيًّا". واعتباره أنّه يحقّ له أن يكون عرّابًا في المعموديّة، ويتزوّج كنسيًّا[10] وله حقّ الإشراف على الأوقاف والتدخّل في انتخاب المطارنة وتعيين الكهنة، وما إليه. هذا من جهة الحياة الكنسيّة الداخليّة.

أمّا من جهة تمثيل الكنيسة تجاه الآخرين، فنرى هذا الملحد أو غير المكترث بالشؤون الروحيّة "يشغل وظيفة في الدولة أو يتبوّأ منصبًا باسم الكنيسة. فتكون النتيجة أنّ شؤون (أبناء) الكنيسة توضع بين أيدي جماعة لا تعترف بالله ولا بكنيسته"[11]. وما يزيد هذا الواقع مراراة أنّ الرئاسة الروحيّة تعطي غالبًا هؤلاء، بدافع مناصبهم الرسميّة و"وجاهتهم"، اهتمامًا أكبر من الذي تعطيه للمؤمنين العاديّين أو البسطاء. زد على ذلك ما هو أكثر شناعة، وهو تسخير الأسرار الكنسيّة وإفراغ الشعائر من معانيها، فنرى غير المسيحيّين يشاركون في الخِدم الإلهيّة و"الأبواب مغلقة"، والتلفاز يقتحم سرّيّة الأسرار، في لحظات الاستحالة الحاسمة، بينما يحجب الكهنة عن العباد الكلمات المرافقة لها، بحجّة أنّها "صلوات سرّيّة".

مع ذلك كلّه، يتكاثر انتقاد أهل الطائفة ما يعتبرونه تقصير الكنيسة في أمور الطائفة. وقد نتج من ذلك شعور متبادل بالبُعد، وظهور تجمّعات من أبناء الطائفة للدفاع عن حقوقها التي يعتبرون أنّ الكنيسة قد أهملتها. تضمّ هذه التجمّعات علمانيّين بمعزل عن الإكليريكيّين الذين تعتبرهم هذه التجمّعات من "أصل البلى". المفهوم الذي يواجه "العلمانيّين" بال"إكليروس"، معتبرًا أنّ على الأوّلين الاهتمام بالمادّيّات، إذًا بالطائفة، والآخرين بالروحيّات، أي بالكنيسة، يخالف أبسط قواعد الإيمان الأرثوذكسيّ الذي يعتبر أنّه بعد التجسّد الإلهيّ، اقتحم "الروحيّ" "المادّيّ"، وأضحى كلّ عضو في شعب الله مسؤولًا عن كلّ شؤون الشعب. مع ذلك ورغم هذا البُعد، لم نرَ علانية أيّ مبادرة "كنسيّة" للتحاور مع هؤلاء، أو السعي إلى بحث تساؤلاتهم. ما يزيد الأمر تصعيدًا وتعقّدًا.

نبّه بندلي، في مقالات كتبها في ستّينات القرن الماضي، إلى تفاقم الانحرافات. وقد وصلنا إلى ما تنبّأ به. إذ مَن يقابل ما كانت عليه أوضاعنا في منتصف القرن الماضي وما نحن عليه اليوم، لا يمكنه سوى أن يلاحظ كم زاد تسخير الله وكنيسته والأرثوذكسيّة لخدمة مصالح ذاتيّة أو جماعيّة. وما أكثر "المغتصبين" اليوم حقّ النطق باسم الأرثوذكسيّة والمنتقدين أحوال القائمين عليها. وما أعمق الهوّة التي، رغم المظاهر، تفصلهم عن رئاستها الشرعيّة، هذه الرئاسة التي لم تحسن دائمًا التواصل معهم والانفتاح عليهم، وغالبًا ما تكلّم الناس بلغة عادوا لا يفهمونها. فتتكلّم لكن لا أحد يسمع، وإن سمع لا يفهم! وما تكاثر عدد الجمعيّات المنعوتة بالأرثوذكسيّة سوى علامة انقطاع هذا التواصل السليم، وشعور الناس بفراغ يتّسع باطّراد لا بدّ من ملئه.

يشكّل هذا الوضع تراجعًا في علاقة الكنيسة بالطائفة الأرثوذكسيّة، التي كانت تمثّلها لدى الرعاية الكنسيّة مجالس "ملّيّة" قضى عليها التفرّد الأسقفيّ. وكانت هذا المجالس، العلمانيّة بغالبيّة أعضائها، تعالج بالاشتراك مع الأسقف، اهتمامات الجماعة. وكانت هذه المجالس، التي أعادت فأكّدت ضرورتها على كلّ أصعدة الحياة الكنسيّة، أنظمة الكرسيّ الأنطاكيّ للسنة 1973، مطارح تشجّح الحوار والتواصل، وتؤمّن تاليًا نوعًا من القيادة الجماعيّة برئاسة الأسقف، حيث تتجنّد طاقات الطائفة لخدمة أهداف الكنيسة.

ومن مظاهر هذا التقهقر أيضًا، انغماس الطائفة الأرثوذكسيّة في نسيج لبنان الحزبيّ الذي يزداد تفاقمًا، وكانت الطائفة التي طالما تغنّت بأنّها "الطائفة غير الطائفيّة"، وتتعدّى الأحزاب لتبني جسورًا بينها. والدليل على ذلك مثلاً، تكاثر عدد المرشّحين الأرثوذكسيّين في الانتخابات المقبلة، في مختلف اللوائح الحزبيّة، بدون أن يكون لأحد منهم خاصيّته "الأرثوذكسيّة"، أو أن يتزعّم اللائحة حتّى في المناطق ذات الأكثريّة السكّانيّة الأرثوذكسيّة.

لو أُعطي كوستي بندلي العمر ليرى إلى أين آلت أمورنا لكان جدّد تساؤله: "فأين الله من هذا كلّه؟ الله الذي وُجدت الطائفة في الأساس لخدمته، يغيب ويحتجب وراء مصالح الطائفة وأفرادها. الله الذي تنادي الطائفة به أصلاً ومرجعًا يضحّى به على مذبح الطائفيّة"[12].

من هنا إلى أين؟

الأوضاع ما عادت تُحتمَل، ولا بدّ من انتفاضة ما. من أين ستأتي؟ حتمًا من الروح القدس، لكن هل يجد مَن هو مستعدّ لأن يكون مطواعًا في يديه؟ لا يحقّ لي أن أتكلّم في هذا الصدد إلاّ في ما يخصّني أوّلاً، أي الأوساط الكنسيّة. تتطلّب الأوضاع من جميع أبناء الكنيسة فحص ضمير صادق للتخلّي عن الخصومات و"إلقاء الأسلحة" لاستعادة صفاء العلاقة في ما بينهم والاستعداد للخروج من ذواتهم لملاقاة الآخر، أينما وُجد. وتتطلّب على صعيد الأنظمة إعادة تأليف المجالس "الملّيّة" على مختلف صعد الحياة الكنسيّة سريعًا لتجسيد المشاركة بين أبناء الكنيسة، أكهنة كانوا أم علمانيّين، وإعادة إيجاد "المجلس الأنطاكيّ الاقتصاديّ العامّ" لتنمية موارد الكنيسة واستثمار أوقافها بهدف تسهيل مساعدة أبناء الطائفة وكلّ محتاج على كلّ صعيد، وتشجيع التعاضد بين الأبرشيّات.

وتتطلّب أيضًا النظر الجدّيّ في إعادة رسم جغرافية الأبرشيّات الأنطاكيّة في عمليّة واحدة وشاملة، لتصغير حجمها ليتسنّى لأكبر عدد ممكن من الأرثوذكسيّين اعتبار راعيهم أبًا محبوبًا يعرفوه شخصيًّا، ويكون هو جاهزًا دومًا لخدمتهم وقريبًا منهم يعرف همومهم ويتفاعل معها.

 وتتطلّب الاستمرار في التمييز القاطع بين الملّة والكنيسة لتجنّب أيّ التباس بينهما وتشجيع الوعي الكنسيّ بدون إنكار الانتماء الاجتماعيّ وأهمّيّة التاريخ. ما يجعل من الضرورة أن يُصار إلى ندوات مشتركة بين أهل الطائفة والكنيسة لبحث صريح للمعضلات وإيجاد الحلول بالتحاور.

وفي الأوضاع المأساويّة التي تشهدنا منطقتنا، نحن بحاجة، كما فعل المجمع المقدّس الأرثوذكسيّ في بدء الحرب اللبنانيّة، السنة 1975، فتوجّه إلى أبنائه بكلمات نبويّة تحاكي أوضاعهم ومآسي الحرب، إلى مثل هذا التخاطب، لتسمية المشاكل بأسمائها، وهي تفاقم المفهوم الطائفيّ وتضاؤل الحسّ الكنسيّ، والعنف، والهجرة، والفقر، والقلق على المصير، وأمور العائلة المتعلّقة بالإجهاض والطلاق والتفكّك، وغيرها من القضايا التي تمزّق نسيجنا الاجتماعيّ.

على الكنيسة أن تعتبر الطائفة أوّل حلقة من مطارح تبشيرها، وتبني معها الجسور، لتنصّرها وتجنّد طاقاتها من جهة وتنيرها بالنور الذي لا يغرب من جهة أخرى. وأن تتعاون معها لمقاومة مجتمع الاستهلاك ومقابلته بالمحبّة والخدمة المجّانيّة والحنان والرأفة والاعتدال في العيش وضبط النفس، هذه القِيَم المستقاة من تراثنا النسكيّ، تساعد على تسليط الفكر الإنجيليّ على معضلات العصر الأخلاقيّة الناتجة من استعمال غوغائيّ للعلم والتقدّم التقنيّ، مذكّرة بقدسيّة الحياة وبفرادة الإنسان الذي يجد ذاته في التواصل.

وعلى الكنيسة أن تشجّع أبناءها أن يكونوا قدوة في سلوكهم الشخصيّة وأن يعملوا مع ذوي النيّات الحسنة على تنقية أنظمتنا السياسيّة والفساد المتفشّي فيها وتشجيع التعايش السليم والاهتمام بالمحتاجين وتقويم أوضاعهم وتنمية دور المجتمع المدنيّ وتأمين حياة أكثر إنسانيّة وعدالة للجميع. وتقنعهم بأنّ "الطريقة التي يتكلّم بها الإنسان على الأمور الأرضيّة، لا تلك التي يتكلّم بها على الله، هي التي تسمح التمييز إذا ما ذاقت نفسه يومًا لهيب الله"[13]

وأخيرًا وليس آخرًا على الكنيسة أن تظهر، بواسطة صفاء تعامل أعضائها ورئاساتها في ما بينهم ومحبّتهم لبعضهم البعض، وانفتاح جماعاتها الإفخارستيّة على الآخر، إذًا ليس بالكلام الحلو بل على أرض الواقع، أنّها فعلاً "ضمير العالم" (والطائفة)، وأنّها تستحقّ أن تقول لأبناء الطائفة "تعالوا وانظروا" كم يجمعنا إيماننا بالربّ يسوع، علّهم عندها يقتنعون.

 



[1]  حديث الأحد، لبنان والعالم، 15 أيّار 1977، منشورات النور، 1985، ص. 123-125.

[2]  المرجع عينه، الحديث عن الطائفيّة، ص. 151-153.

[3]  مجلّة النور السنة 1946.

[4]  مجلّة النور 1950.

[5]  موقف إيمانيّ من الطائفيّة، مقدّمة، تعاونيّة النور الأرثوذكسيّة للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 1983، الطبعة الثانية 2005، ص. 24-25.

[6]  المرجع عينه، ص. 38-39.

[7]  الرسالة، 5.

[8]  المؤسّسات 6: 10.

[9]  منشورات لاج دومّ، 1980، ص. 7.

[10]  لا خيار له في البلاد التي لا تعترف بالزواج المدنيّ.

[11]  القول للبطريرك أغناطيوس الرابع (هزيم)، مجلّة النور، السنة 23، العدد 3، ص. 105.

[12]  المرجع عينه، ص. 56.

[13]  أوليڤييه كليمان، "أناكرونيك"، منشورات  DDB ، 1990، ص. 57-58.

 

 

 

المشاركات الشائعة