توطئة

 

 ريمون رزق

أثار القرار التركي بتحويل "متحفي" كنيسة آيا صوفيا وكنيسة المخلّص في القعريّة، مجدّدًا إلى مسجدين، سخط المسيحيّين وثناء المسلمين، وأسف المثقّفين من الفئتين. إنّ هاتين الكنيستين، التي شُيّدت إحداها (آيا صوفيا) في القرن السادس وزُيّنت من القرن التاسع إلى الثالث عشر، والأخرى في القرن الخامس وعُدّلت في القرن السادس وأُعيد بناؤها في القرن الحادي عشر وزُيّنت في القرن الرابع عشر، تمثّلان قمتي الفنّ المعماري والتشكيلي البيزنطي في عهده الذهبي الأوّل وفي العهد الذهبي الذي عرفه قبل إطلاق نسمته الأخيرة قبيل سقوط القسطنطينيّة. وقد حوّلتا الكنيستان إلى مسجدين في المرحلة الأولى من احتلال المدينة من قبل العثمانيّين، وأصبحتا متحفين في 1931 لآيا صوفيا وفي 1951 لكنيسة المخلّص، تأكيدًا لنهضة أتا تورك. ليست هاتين الكنيستين الوحيدتين التي حوّلتا إلى مساجد. فإنّ معظم كنائس القسطنطينيّة القديمة هي الآن مساجد، ما عدا واحدة لا تزال تُستعمل للعبادة المسيحيّة (كنيسة المغول) وأخرى تُستعمل حتّى الآن قاعة للاحتفالات الموسيقيّة (كنيسة آيا إيريني)، وقسم من مسجد الفتحيّة (كنيسة الباماكاريستوس) الذي تحوّل مؤخّرًا إلى متحف. ويمكن تقسيم التي لا يزال بناؤها موجودًا إلى ثلاث فئات: ترجع الأولى إلى عهد يوستينيانوس الذي يشكّل مرحلة الفن البيزنطيّ الذهبيّة الثانية (الأولى هي في عهد قسطنطين الكبير)، والثانية في الفترة الممتدّة بين القرن الحادي عشر وأوائل القرن الثالث عشر، قبيل اقتحام الصليبيون للمدينة، والتي تُعتبر المرحلة الذهبية الثالبثة، وأخيرًا الفئة المتعلّقة بما يُسمّى النهضة الفنيّة في عهد الباليولوغوس والتي تمثّل المرحلة الذهبيّة الرابعة والأخيرة، إذا اثنثنينا الحقبات الذهبيّة لكلّ من الشعوب السلافيّة.

وإلى هذه الكنائس المحوّلة إلى مساجد، يوجد في اسطنبول أنقاد عدد من الكنائس البيزنطيّة الأخرى. يُعرَف أنّه كان في القسطنطينيّة، قبل سقوطها السنة 1453، نحو 485 كنيسة وما لا يقلّ عن ثلاثين ديرًا. سنتوقّف لاحقًا عند الكنائس الني لا تزال موجودة، أكانت تحوّلت إلى مساجد أو متاحف أو ما تزال تُستعمل كنائس (الفصول 1 إلى 4). وإذا أضفنا إليها الكنائس التي يُعرَف عنها من خلال الوثائق أو من خلال أنقادها (الفصل الخامس) ، والكنائس العشرين الحديثة نسبيًّا القائمة في إسطنبول، نبقى بعيدين كلّ البعد عن هذا العدد. لا بدّ أنّ بعض الكنائس هُدمت أو أُتلفت وضاع ذكرها، وبعضها لا يزال قابع تحت أبنية المدينة، أو ربّما دخلت كنائس أخرى في إطار جوامع اسطنبول ال2830 بدون أن يبقى دلائل على ذلك.

 

يبيّن البحث في كنائس القسطنطينيّة المعروفة أسمائها أنّ قلّة عزيزة من بينها كانت باسم كبار آباء الكنيسة، فواحدة فقط باسم غريغوريوس اللاهوتيّ، وواحدة أيضًا باسم الذهبيّ الفم، ولم يكن يوجد لباسيليوس الكبير سوى مصلّى صغير في القصر الإمبراطوريّ، وذلك لأنّ أحد الأباطرة حمل هذا الاسم. لا يوجد مثلًا أيّة كنيسة باسم أثناسيوس الكبير. أمّا والدة الإله فتحظى بأكبرعدد من الكنائس إذ كان يوجد في القسطنطينيّة أكثر من 118 كنيسة ومصلّى أو دير موضوعين تحت حمايتها. لم يتعدّاها المسيح نفسه إذ كان له فقط 24 كنيسة إضافة إلى آيا صوفيا. وكان يوجد ستّ كنائس باسم الثالوث القدّوس، وواحد وأربعين باسم الملائكة، يحظى رئيس الملائكة ميخائيل وحده بأربعة وعشرين من بينها. أضف إلى ذلك أنّ أربع كنائس كانت باسم مجموعة الرسل. أمّا يوحنّا الرسول فله ثمانية، وبولس خمسة، وأندراوس ثمانية، وتوما كنيستين، وبطرس ثلاثة لوحده ويشارك بولس بخمسة أخرى. أمّا يوحنّا السابق فكان له 34 كنيسة، يتبعه القدّيس نيقولاوس بثلاثة وعشرين، والقدّيسين الجنود أربعة وثلاثين (16 للثيودوروسين، وعشرة لكلّ من ديمتريوس وجاورجيوس). وكان للشهداء الأربعين ثمانية كنائس، والقدّيسة حنّة ستّة، والقدّيس قسطنطين ثمانية. أمّا القدّيسون الآخرون فأهمّهم استفانوس (10)، وأنستازيّا (4)، وبربارة (4)، وقوزماس وداميانوس (6) وبندليمون (8)، وخريستوفورس (6)، وتريفون (6)، وأوفاميّا (5)، وبروكوبيوس (4)، وتكلا (3 أو 4)، وماماس (3)، وكالينيكوس (3) وثيرسوس (4). وكان لكلّ من القدّيسين أكاسيوس وألِكسندروس وكيروس وأغناطيوس ويعقوب الفاريسيّ وميناس وفوقاس وبوليوكتوس وأنثيموس واقليموس وخريستينا وأغاثونيكوس كنيستان. و لم يكن لغيرهم كثيرين سوى كنيسة واحدة. تُرى، أين ذهبت كلّ هذه الكنائس؟ يمكن أن يكشف التنقيب الاثريّ بعضها، لكنّ معظمها غرق في نسيان التاريخ.

 


Constantinople] Cartes et images

خريطة كنائس وأديرة القسطنطينيّة قبل سقوطها

 

 

 

سنحاول التوقّف فيما يلي عند أكبر عدد ممكن من هذه الكنائس وتصنيفها تحت الأقسام التالية:الكنائس التي كانت متاحف وحوّلت مجدّدًا إلى مساجد (الفصل الأوّل)، والكنائس التي لا تزال متاحف (الفصل الثاني)، والكنائس المحوّلة قديمًا إلى مساجد وتمثّل الأغالبيّة (الفصل الثالث)، والكنائس التي ما زالت كنائس أو القائمة في موقع كنائس قديمة (الفصل الرابع)، والكنائس التي لا يوجد منها سوى أنقاد أو المذكورة في الوثائق (الفصل الخامس). وصفنا لكلّ هذه الكنائس سيسمح بمعرفة تفاصيل عمارتها، وما عدا بعضها حيث لا تزال توجد بعض فسيفسائها، لن نتمكّن من لمس عظمة زينتها كما ووصفها المؤرخون وبعض الشهود العيان، وكما لمسها بإعجاب موفدو الأمير فلاديمير الروسي، لأنّ معظم هذه الزينة (من ذخائر، وأيقونات، وأدوات كنسيّة مرصّعة بالذهب والفضّة والحجارة الكريمة واللؤلؤ وغيرها) سُرقت أو بيعت من قبل بعض الملوك البيزنطيّين، ولا يمكن مشاهدة بعضها إلّا في كاتدرائيّات أوروبّا الغربيّة وفي معظم متاحب العالم الكبيرة. لذلك وضعنا في الفصل السادس صورًا لبعض هذه الأعمال الفنيّة. ربّما تُثير رؤيتها فينا مشاعر العجّب التي انتابت أعضاء الوفد البيزنطيّ إلى مجمع فلورنسا "الوحدويّ" السنة 1439، عندما شاهدوا في كاتدرائيّة القدّيس مرقس في البندقيّة، "مجموعة من الأشياء الثمينة المرصّعة بالحجارة الكريمة الفائقة الجمال،... وأيقونات إلهيّة لافتة للنظر بكثرة حجارتها الكريمة وجمال اللؤلؤ الذي يزيّنها وروعة فنّ كتابتها"[1] التي كان قد سلبها الصليبيّون . فامتلؤا فخرًا لكونها صُنعت في القسطنطينيّة وحزنًا وأسى لأنّه لم يتسنّى لهم مشاهدة مثيلاتها في بلادهم. وقيل لهم "إنّ هذه الأيقونات كانت على إيقونوسطاس الكنيسة العظمى آيا صوفيا".

 

قلّما يشاهد زائر اسطنبول شيبئًا من هذه الجمالات أو يعرف بوجودها. كما أنّه يكتفي عامّة بزيارة آيا صوفيا وأحيانًا كنيسة المخلّص في خورا وربّما متحف جامع الفتحيّة، ولا يعرف شيئًا عن باقي الكنائس التي حّوّلت إلى مساجد.

 

قد سعيت مرّة زيارتها جميعًا. لم تكن المهمّة سهلة إذ يصعب إيجاد مواقعها في شوارع وأزقة المدينة. وقد سُمح لي بدخول بعض المساجد، ومُنعت من أخرى واكتفيت بمشاهدتها من الخارج. لكن انتبابني خلال مغامرتي هذه شعور غريب من الأسى والفخر في آن، وقد ترقرقت عينيّ أحيانًا بالبكاء. أمام مشهد هذه الكنائس الجريحة، يكتشف الزائر أنّها لا تزال تُشعّ النور، رغم كونها مهجورة أو مهدّمة أو مستعملة من أتباع ديانة أخرى. يكثر عدد مثل هذه الكنائس في شرقنا المسيحي الجريح. فلا بدّ من حسرة على ما أصاب تاريخنا من ويلات، لكن حسرة ممزوجة بفرح غريب بسبب النور المنبثق منها الذي ما زلنا نعيش عليه.

 



منظر للقسطنطينيّة مع أهم كنائسها

 

إنّ العظمة التي تمتّعت بعا القسطنطينيّة، "المدينة"، قلّما عرفتها مدن خرى في عزّها. بعد حرب الأيقونات وانتصار الأرثوذكسيّة، قبيل منتصف القرن التاسع، بسطت القسطنطينيّة سلطانها على كلّ الشرق في الوقت الذي كانت تتهاوى عظمة باقي العواصم والمدن الكبرى. كانت بغداد تواجه الصعاب والتقهقر، وطيسفون لم يعد لهل مكانة تُذكر، والاسكندرية تحت النير الإسلامي، وأنطاكية التي استعاداها بيزنطية كانت مفلسة. أمّا الغرب فكان لا يزال يعاني من البربريّة. وكانت روسيا في بدء مسيرتها، تبحث على مثال تتقيّد به. لذلك بُهر ممثّلو أميرها فلاديمير بجمال الخدمة الإلهيّة في كنيسة آيا صوفيا، واعتبروا أنّهم شاهدوا "السماء على الأرض" واقتنعت أمتهم، بعد البلغار وقبل الصرب، باعتناق المسيحيّة الأرثوذكسيّة. وطوّروا فنًّا خاصًّا بهم بالاستناد إلى الفنّ البيزنطي.

 

في اليوم الثامن والعشرين من أيّار 1453، بعد أن أمضى الأمبراطور قسطنطين الحادي عشر باليولوغوس الليل كلّه في الصلاة في آيا صوفيا، هُزم من قبل السلطان العثماني بعد حصار دام عدّة أسابيع. فدخل جيشه المدينة وقتلوا مًن قتلوه، ونهبوا ما نهبوه وهدّموا ما هدّموه. ما كانوا واعين أنّها بفعلتهم هذه قضوا على مدنيّة مميّزة طبعت عصرها بثقافتها وفنذها، ولا تزال تُلهم قرونًا بعد سقوطها تطوّر الفنّ العالمي.

 

 

 


 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 



[1]  

المشاركات الشائعة