الوحدة الأرثوذكسيّة

 

ريمون رزق


لا بدّ أوّلاً أن نتوقّف عند مفهوم كلّ من العبارتَين: "الكنيسة المحلّيّة" و"الكنيسة الجامعة"، والمضمون المُعطى لكلّ منهما في التقليد والرؤية الأرثوذكسيّين،ـ قبل عرض الواقع الذي نعيش عليه اليوم والبُعد وربّما يجب أن نقول الهاوية القائمة بين الرؤية والواقع وأسبابها وسبل معالجتها لصون الوحدة الأرثوذكسيّة وجعل الكنيسة أكثر التصاقًا بلاهوتها وأكثر وعيًا لرسالتها من أجل خلاص الإنسان والعالم.

الكنيسة

لا يوجد تحديد للكنيسة عند الآباء. إنّها سرّ ولا يمكن للمرء أن يحيط بالسرّ إلّا تلميحًا على صعيد العقل والتعبير. السرّ يُعاش ويُكتَشَف بالممارسة، كما يقول أحد كبار اللّاهوتيّين الأرثوذكس في القرن العشرين،ـ الأب سرج بولغاكوف في كتابه عن الأرثوذكسيّة[1].

يقول لاهوتي آخر، Vladimir Lossky، أيضًا : "الكنيسة هي جسد المسيح ولكنّها أيضًا هيكل الروح القدس". وكما يقول الأب بوريس بوبرينسكي، عميد معهد القدّيس سرجيوس اللاهوتي السابق في باريس: "إنّها جسد المسيح المنتظِر دومًا حلول الروح القدس والداعي أبدًا لهذا المجيء، كما أنّها هيكل الروح القدس في علاقة دائمة مع المسيح"[2].

عدم وجود تحديد دقيق للكنيسة عند الآباء يأتي من كون أنّه "لا يُحدّد ما هو ساطع الوضوح. الكنيسة هي واقع يُعاش وليس أمرًا يُدرَس ويُحلَّل... لا تُفهم الكنيسة إلّا بالاختبار، بالنعمة، بالاشتراك في حياتها"[3]. لذلك أفضل جواب يُعطى لمَن يسأل عن ماهّة الكنيسة هو القول العتيد: "تعال وانظر" (يوحنّا 1: 46).

كان هذا الجواب بسيطًا بعض الشيء أيّام الرسل وفي الكنيسة الأولى التي كانت بامتياز كنيسة محلّيّة. فما هي الكنيسة المحلّيّة؟

الكنيسة المحلّيّة

* في الكتاب المقدّس: "الكنيسة"[4] لها معنَيَين: معنى جماعة المؤمنين المحلّيّة. لذلك يتكلّم الرسول عن الكنائس (بالجمع) للدلالة عليهم، وكانت الجماعة الواحدة في كل بلد تُدعى "كنيسة" (أع 9: 31؛ 15: 41؛ رو 16: 4؛ 1 كو 7: 17؛ 1 تس 2: 14). وهذه الكنيسة منظورة وغير منظورة. تتألف الكنيسة غير المنظورة من كل الذين اتّحدوا حقًا بالمسيح ، أحياء وأمواتًا، والذين زارهم الروح القدس ولا يعرفوا المسيح (1 كو 1: 2؛ 12: 12، 13، 27، 28؛ كو 1: 24؛ 1 بط 2: 9، 10). أما الكنيسة المنظورة فتتألف من جميع الذين يعترفون أنّهم متّحدون بالمسيح بوحدة الحياة.

والمعنى الثاني هو أنّ "الكنيسة" هي هذه الحياة بالذات كجوهر مساريّ واحد.

ولم تُستعمل عبارة الكنيسة أبدًا في العهد الجديد للدلالة على البناء الذي يجتمع فيه المسيحيون للعبادة، كما نفعل لإي أيّامنا. ولا استّملت للدلالة على الإكليروس، كما نفعل أيضًا.

* في العهد الرسوليّ والكنيسة الأولى حتى القرون الثلاثة الأولى: من الواضح أنّ الكنيسة توجد في اجتماع الإخوة حول الأسقف عند إقامة سرّ الشكر[5]. وهناك إيمان راسخ أنّه في الإفخارستيّا لا يوجد جزء من الكنيسة بل الكنيسة نفسها في كلّيّتها، جسد المسيح الكامل[6].

هذه هي الكنيسة المحلّيّة أي كنيسة المدينة الواحدة. إنّها دائرة كاملة، جسد واحد ووحيد، جسد المسيح الذي يتجلّى في التاريخ في الإفخارستيّا الواحدة" [7]. أمّا مكوّنات هذه الكنيسة المحلّية بحسب ديداسكاليا الرسل، ورسائل أغناطيوس الأنطاكي،  ودفاعات يوستينوس الفيلسوف الشهيد والتقليد الرسولي، الذين وُضعوا قبل القرن الثالث، فهي:

·        الأسقف الذي يجوز له وحده ترأّس الإفخارستيّا

·        مجلس الشيوخ الذي يعاون الأسقف في الخدمة، وهو مجلس استشاري له يقوم بالتعليم. فقط في حالات خاصّة يمكن للشيخ أن يحلّ محلّ الأسقف في إقامة الإفخارستيّا وبتوكيل صريح منه. لا يوجد أي شيء في صلاة شرطونيّته الأولى يخوّله القيام بهذه المهمّة.

·        الشمامسة: معاونو الأسقف

·        المؤمنون

كان واضحًا للكنيسة الأولى أن "الأفخارستيّا الواحدة والوحيدة المقامة من الأسقف تجسّد وتعبّر عن وحدة كنيسة الله الواحدة في مكان معيّن"[8]

* في أواخر القرن الثالث: جعلت الإضطهادات أن شغر العديد من المراكز الأسقفيّة. وكذلك جعل تزايد عدد المسيحيّين من الصعوبة بمكان أن يجتمعوا كلّهم في مكان واحد.

لذلك أخذ الشيوخ يترأّسون القدّاس. ولكن أرادت الكنيسة أن تحافظ على وحدانيّة الاجتماع الإفخارستيّ المقام من الأسقثف بطريقة رمزيّة.

أوّلاً – بإرسال قسمًا من القربان المقدّس أثناء إفخارستيّة الأسقف إلى باقي الاجتماعات (Fermentum).

ثانيًا – ذكر الأسقف في كلّ قدّاس يقيمه الشيوخ.

ثالثًا – أن يُقام القدّاس على قطعة قماش (الأنتمينسي) موقّعة من قبل الأسقف.

الكنيسة المحلّية هي الكنيسة الواحدة الجامعة المقدّسة الرسوليّة

- هذه الكنيسة المجتمعة حول الأسقف في المكان الواحد هي جسد المسيح الواحد، إذًا هي الكنيسة الواحدة، الجامعة، المقدّسة، الرسوليّة. إنّها ليست جزءًا من الكنيسة – حيث لا ينطبق على الكنيسة منطق العدد كما على الثالوث، وحيث جسد المسيح لا يتجزّأ.

لا يوجد كنستَان الواحدة محلّية والأخرى عالميّة. الكنيسة المحلّية ليست شيئًا آخر عن "الكنيسة الجامعة المتواجدة في كلّ الكون"[9]. و"حيث يوجد الأسقف فهناك تكون الجماعة، كما أنّه حيث يوجد المسيح يسوع توجد الكنيسة الجامعة"[10]. و"الكرازة الجامعة أعطيت للكنيسة وليس للهرطقات"[11].

إذًا معنى "جامعة" هي أقرب ل"أرثوذكسيّة الإيمان" منها إلى "عالميّة". تُستعمل عبارة "كاثوليكيّة" (Katholicos) للتعبير على جامعيّة الكنيسة. وهي تأتي من عبارة (Katholon) التي تعني "وفقًا للكلّ" أو "حسب الكلّ" و"المجتمِع إلى واحد". الجامعيّة "صفة الجسم الذي فيه ملء الإيمان والقداسة"[12]. هذه الجامعيّة مبنيّة عند أغناطيوس الأنطاكي على 1- الإفخارستيا، 2- ومتعلّقة بالكنيسة المحلّيّة، 3- ويُعبَّر عنها الأسقف[13]. ويقول المطران زيزيولاس إنّ "الكنيسة هي جامعة لأنّها جسد المسيح"[14].

أوّل من أعطى للجامعيّة معنى جغرافيًّا هو أغسطين في دفاعه ضد الدوناتيّين الذين كانوا يشدّدون على حصريّة جغرافيّة (provincialisme géographique). ثم انتقل هذا المعنى إلى الشرق حيث أضيف إلى المعنى الأصلي على يد كيرولس الأورشليمي[15].

تُدعى الكنيسة جامعة لأنّها 1) موجودة على سطح الأرض كلّها، 2) لأنّها تعلّم بطريقة شاملة وبدون نقصان العقائد التي ينبغي أن تُعلن للبشر، في ما يخصّ الأمور المنظورة وغير المنظورة، السماويّة والأرضيّة، 3) ولأنّها تقيم العبادة الصحيحة وتدعو إليها كلّ البشر، حاكمين ومحكومين، علماء وجهلة، 4) ولأنّها أخيرًا تعالج وتشفي بطريقة شاملة كاملة كلّ أنواع الخطايا، الجسديّ منها والمتعلّق بالروح، كما أنّها تملك كلّ أنواع الفضائل، بالأعمال والأقوال، والمواهب الروحيّة على أشكالها.

إذًا الجامعيّة الحقيقيّة هي جامعيّة الحياة الداخليّة التي هي صفة من صفات الكنيسة الخاصّة. أمّا الجامعيّة الخارجيّة فليست إلّا المظهر الخارجيّ[16]. "الكنيسة كانت جامعة في العلّية حيث كان الرسل مجتمعين يوم العنصرة"[17]. ويقول القدّيس مكسيموس المعترف: "حتّى لو أنّ العالم بأسره يشارك القدسات مع ذوي المشيئة الواحدة فأنا لوحدي لن أفعل". مكسيموس وحده كان يعبّر عن جامعيّة الكنيسة مقابل مجموعة عدديّة منتشرة في العالم تخلّت عنها.

 الجامعيّة معطاة ولكنّها أيضًا في صيرورة

كما كلّ شيء في الحياة الكنسيّة، الجامعيّة هي إذًا معطاة ولكن يجب أن تُحقّق أيضًا. نقول في الأنافورا الإفخارستيّة إنّنا متذكّرين كلّ ما فعله الربّ من أجلنا، ونذكر أيَضًا مجيئه الثاني المجيد، الذي سوف يتحقّق.  كما أنّه لا يكفي أن نكون معمَّدين لكي نصبح مسيحيّين كاملين، لذلك لا يكفي أن نجتمع في الليتورجيا لكي نصبح ملء الكنيسة. إنّنا بنعمة الله نسعى لنصير الكنيسة، وإن لم نكن قد أصبحناها بعد لن نقوم بهذا السعي[18].

شركة المواهب

في هذه الكنيسة أعضاء شعب الله كافة (أي الأسقف، الكهنة والعلمانيّين) هم أمّة مقدّسة وكهنوت ملوكي.

الجماعة الكنسيّة هي جماعة كهنوتيّة: " أمين" الشعب هو مساهمة كلّيّة بالعمل الأسراري الذي يترأسه الإكليروس.

هذه الجماعة هي أمّة مقدّسة: يقول الكاهن في القدّاس: "القدسات للقدّيسين"، ويعني بالقدّيسين كلّ أعضاء شعب الله الذين دعوا "قدّيسين" في العهد الجديد. هم خطأة بل خطأة يُغفر لهم بالتصاقهم بالقدّيس بامتياز الذي هو المسيح. كلّهم إذًا بعلاقة وثيقة بالمقدّسات. في الألفيّة الأولى كان يُعطى الجسد الإلهي في أيدي المؤمنين وكانوا يشربون الدم الإلهي مباشرة من الكأس. كان لا يوجد أيّ فاصل مصطنع بينهم وكلّ شيء مقدّس، كما حدث لاحقًا إذ أصبحت "القدسات" من "اختصاص" الإكليروس وحده.

العلمانيّون أعضاء في شعب الله

يوجد الآن إلتباس في مفهوم عبارة "العلمانيّين". فتُفهم أنّهم "أهل العالم" الذي ترجمتها اليونانيّة هي Kosmikoi. بينما العلماني في الكنيسة هو (laicos)، أي عضو في شعب الله (laos tou theou).

الجماعة هي أيضًا أمّة أنبياء: الكنيسة التي ينخفض فيها الصوت النبوي تصبح مجرّد مؤسّسة، وتفقد هويتها الحقيقيّة. يقول بولس الرسول: "أمّا الأنبـياءُ، فلْيتكَلّمْ مِنهُم اَثنانِ أو ثلاثةٌ، وليَحكُمِ الآخَرونَ" (1 كورنثوس 14: 29). ليس الكل يتكلّم في الاجتماع بل الكلّ يحكم.

كلّ شيء بين أعضاء هذه الجماعة مشترك مع احترام المواهب الخاصّة: (أعمال 2: 44، 4: 32)

- القدّيس بطرس (أعمال 1: 15-16) يتوجّه إلى جماعة الأخوة لانتخاب الرسول الثاني عشر، مكان يهوذا.

- وكذلك عند اختيار الشمامسة السبعة (أعمال 6: 3-6) دعى الرسل جماعة التلاميذ، ويقول النصّ: "طاب هذا الاقتراح لكلّ الجماعة، فانتخبوا... ثم بعد أن صلّى الرسل وضعوا الأيدي". إذًا الكلّ يشترك في المناقشة والموافقة على اقتراحات الرسل. أمّا الرسل فيضعون وحدهم الأيدي.

- يشدّد أغناطيوس الأنطاكي على تلك المشاركة، ويقول: "فلا أحد يفعل بدون الأسقف أيّ شيء يخصّ الكنيسة"[19].

- ويوسّع قبريانوس هذا الكلام بقوله: "وقد وضعت لنفسي قانونًا منذ بدء أسقفيّتي ألّا أقرّر شيئًا بدون رأي الشيوخ وموافقة الشعب"[20]. يوجد تناغم بين كلّ أعضاء شعب الله برئاسة الأسقف الذي هو "الأوّل بين إخوة متساوين".

كذلك كان للشعب رأي في اختيار أسقفه. يقول التقليد الرسولي إنّه "يُرسم أسقفًا الذي يختاره كلّ الشعب"[21].

- وكان العلمانيّون يشتركون في البدء في التعليم. ليس المعلّم (didascale) بالضرورة من الكهنة (أعمال، غلاطية 5: 1، 1تسالونيكي 5: 12، عبرانيّين 3: 14، 1 بطرس 4: 10-11، 1 كورنثوس 14: 26، كولوسي 3: 16). وبقيت هذه العادة سارية المفعول حتّى المجمع المسكوني السادس حيث منعها القانون 64 لأسباب نظاميّة لا تنفي موهبة التعليم عن الشعب (راجع كتاب الأرثوذكسيّة لبولغاكوف).

- فالشهادة نحو العالم للجميع وبصورة خاصّة للشعب العلماني.

- كلام أغناطيوس الأنطاكي يأتي بتلخيص واضح: "لا يتبجّح أحد بمركزه لأنّ أكملكم (to holon) يكمن في الإيمان والمحبّة ولا شيء يعلو عنها"[22].

الإعتراف المتبادل بين الكنائس المحلّية

كلّ واحدة من الكنائس المحلّية كنيسة المسيح في مكان ما. وإذًا لا بدّ للكنائس أن تعترف بعضها ببعض إذ يعرّف المسيح على ذاته في كلّ منها وفي جميعها.

هذا الاعتراف المتبادل مبنيّ على أنّ كلّ منها جامعة أي محافظة على الإيمان الأرثوذكسي والقداسة والشهادة.

إذًا هذا الاعتراف المتبادل من طبيعة الكنيسة. يُعبَّر عنه بالقول إنّ كلّ كنيسة محلّية لا يمكنها أن تكون جامعة حقيقة بمعزل عن باقي الكنائس المحلّية في جسد المسيح الواحد. من هنا ضرورة المؤسّسة المجمعيّة التي تُظهر هذه الوحدة المشتركة بين الكنائس المحلّية. يقول المطران زيزيولاس "إنّ مطابقة الكنيسة المحلّية مع باقي الكنائس تظهر عبر الزمن بواسطة الخلافة الرسوليّة وعبر المدى بواسطة المجمعيّة".

تجدر الإشارة أن الخلافة الرسوليّة ليست خلافة أشخاص بل خلافة جماعات لأنّ الأسقف ليس أسقفًا إلّا في ومع الجماعة الإفخارستيّة التي يرأسها. لذلك يُرسم كلّ أسقف من قبل ثلاث أساقفة تعبيرًا عن هذه الوحدة وشهادة لرسوليّة الجماعة التي يُرسم أسقفًا عليها. ولكن لا يوجد أسقفًا عالميًّا لأنّه لا توجد كنيسة عالميّة، بل مجموعة كنائس محلّيّة. إذًا لا حاجة لمركز دائم للوحدة (مثل في كنيسة روما مثلًا) للتعبير عن "الوحدة المشتركة" للكنائس، بل علاقة ودّ بواسطة رسائل، مجامع محلّية والمجمع المسكونيّ لحلّ المشاكل المشتركة. ولكن يبقى شعب الله بكلّ عناصره هو الذي "يسهر على الإيمان"، كما قال البطاركة الشرقيّون في رسالتهم الجوابيّة إلى بابا روما في القرن التاسع عشر.

إبتدأ من القرن الرابع: عمّت الرعايا وأصبح الأسقف في كثير من الأحيان "مديرًا" إداريّا، إذ أوكل للكهنة القيام بما كان دوره الأساسي أي ترأّس اجتماع الكنيسة الواحد في الإفخارستيّا، وأصبح هذا العمل "كعمل ثانويّ" بالنسبة له كما يقول زيزيولاس[23].

رافق هذا التحوّل لدى الجماعة ضيعان لماهيّة الإفخارستيّا الحقيقيّة ولحياة الشركة والشورى، فأصبح غالبًا أعضاء الرعيّة الواحدة غير متعارفين، غير عائشين سويّة وبالتالي أقلّ محبّة ووعيًا لمسؤوليّاتهم الخاصّة. من هنا أن الذين أرادوا أن يبقوا على حياة الشركة السابقة توجّهوا نحو الأديرة حيث حافظوا على الحياة الجماعيّة فكانت نشأة الرهبنة، أو تكتّلوا ضمن الرعايا كما يقول باسيليوس الكبير، وأصبحوا خميرة للجماعة كلّها.

الرعيّة

يوجد آراء متضاربة بين اللاهوتيّين الأرثوذكسيّين على مدى استفادة الرعيّة من خصائص الكنيسة المحلّية. ولكن يرى زيزيولاس أنّ الرعيّة لا يمكن اعتبارها كنيسة محلّية كاملة.

إنّ الرعيّة هي جزء من وحدة أكبر هي الكنيسة بقدر ما تكون بشركة كاملة مع الأسقف وباقي الرعايا في وحدة إيمان ومحبّة: إنّها مظهر الكل المحلّي فتكون الرعايا كأوتار الدائرة الواحدة. إنّها الكل لأنّها تقيم سرّ المسيح كاملاً وتحقّق الخلاص شرط أن تبقى متّحدة مع رعايا الآخرى ومع الأسقف. ذلك يتطلّب مجمعيّة الكهنة حول الأسقف. في هذه "المجمعيّة" يتحقّق المبدأَن الأساسيَّان الذان يجسّدان الكنيسة: "حيث يوجد الأسقف هناك الكنيسة"، و"حيث تُقام الإفخارستيّة هناك توجد الكنيسة".

لا يختصر نشاط الكنيسة إذًا على الخدم الطقسيّة إذ تصبح عندها غيتو ليتورجيًا والمطلوب أن تكون شركة محبّة وشهادة منفتحة على العالم ومشاكله وشاهدة (وإذا لزم الأمر مستعدّة للشهادة). "الجماعة المسيحيّة التي تريد أن تكون فقط مجتمعة فيما بينها تخون دعوة الكنيسة الأساسيّة. لأنّ الربّ يرسلنا نحو العالم كطلائع ملكوت الله"[24].

يقول الأب شميمان: "على عكس الكنيسة الأولى التي كانت تجد ملء حياتها ومواهبها في وحدة الأسقف والإكليروس والشعب، لا تتمتّع الرعيّة بهذا الملء. ليس فقط من الناحية الإداريّة، بل أيضًا من الناحية المساريّة والروحيّة. الرعيّة هي  جزء من وحدة أكبر، ولا يمكنها عيش كلّ ملء الكنيسنة إلّا بواسطة وحدتها مع باقي الأجزاء وبقية الرعايا"[25]. ويتابع قائلًا: "الكنيسة هي دائمًا أوسع من الرعيّة، ليس فقط عدديًا، بل أيضًا نوعيًا ووجوديًا. لا تُصبح الرعيّة الكنيسة ولا تشارك في ملئها إلّا بقدر تتجاوزها كرعيّة "إنغلاقها على ذاتها"[26].

الكنيسة المحلّية إذًا بالأساس الكنيسة الأسقفيّة، أي الأبرشيّة. ولكن يوجد مفهوم ثانٍ للعبارة إذ تصف أيضًا مجموعة كنائس محلّية أسقفيّة التي ارتأت لأسباب عديدة ومختلفة أن يكون لها رئيسًا واحدًا (رئيس أساقفة، بطريرك،...). فتُدعى كنيسة مستقلّة أو بطريركيّة. من هنا الواقع الأرثوذكسي الحالي: البطريركيّات والكنائس المستقلّة: القسطنطينيّة، الإسكندريّة، أنطاكية، أورشليم، صربيا، روسيا، بلغاريا، رومانيا، اليونان، سينا، ألبانيا، تشيكوسلوفاكيا، بولونيا، فانلاندا، اليابان، الصين. وكل الوجود الأرثوذكسي خارج تلك الكنائس، يُعتبر في حالة "الشتات"، يرعاه عددًا من الأساقفة الأرثوذكسيّين في المدينة الواحدة ما يشكّل حالة هرطوقيّة بامتياز. تعالجها مجالس تضم الأساقفة التابعين للكنائس المحلّية، انتظارًا لتكوين كنائس محليّة جديدة (أوروبا، شمال أميركا، إلخ...) الذي لا يبدو واردًا في ضمير الكنائس الأم.

هوة واسعة بين الرؤيا الأرثوذكسيّة والواقع على الأرض

-                    لا بدّ من الملاحظة أنّه لا تكون المحافظة على جامعيّة الكنيسة بالمحافظة على حرف الإيمان بدون تعاون ومحبّة وشهادة. واقع العالم الأرثوذكسي الحالي، وتباعد كنائسه عن بعضها البعض واقع هرطوقي. لا يكفي الإيمان القويم إذا لم يترجم واقع حياة وتعاون ونهضة وشهادة.

- تقع معظم الكنائس الأرثوذكسيّة في هرطقة "العرقيّة" التي أبسلها مجمع الفسطنطينيّة، في السنة 1872. ومعظم رؤساء هذه الكنائس مرتببطون ارتباطًا وثيقًا بسلطات أوطانهم، ما يعيق دور كنيستهم أن تكون ضمير العالم.

- حاليًا أوّلية القسطنطينيّة أصبحت مجرّد لفظيّة في حالات الأنشقاقيّة الحاليّة ودخول الكنائس في لعبة السياسات العالميّة ومصارعة الكتل العالميّة.

- التعاون بيم الكنائس شبه معدوم. فشل "مجمع كريت" علامة بليغة على حالة التباعد التي تعيشها كنائسنا. - تعيش معظمها حالة أصوليّة وجمود، وتنظر بحذر لكلّ سعي للعودة إلى الجذور، فتسجن بتحرّجها حريّة الروح.

- تخاف من العصرنة وكلّ ما يأتي من الغرب، وبدل مواجهة مشاكلهما بجرأة وإبداع تميل إلى الأصوليّة والإنغلاق على الذات، وتستبدل المحبّة الواجبة بعقائديّة متشدّدة.

- تستدعي القوانين ليس لإنقاذ البشر بل لقصاصهم وقمعهم.

- تعيش ضياعًا شبه كلّيًا لمعنى الإفخارستيّة كمكوّنة للكنيسة وعيشها ويعتبرها كثيرون عملًا تقويًا فرديًا غير منفتحًا على الشهادة والحياة الشكريّة. لذلك يجب إسترجاع أقسامًا من الليتوجيا الأولى سقطت عبر الأجيال (قبلة السلام بين كلّ الحضور، المناولة بالطريقة التقليديّة أي بدون ملعقة، التوبة العلنيّة كعائلة واحدة، الخلط بين الجمال والفهم،...).

- تفتقد روح الشورى والمجمعيّة الحقيقيّة بين الأسقف وكهنته وبينهم والشعب وبين الأساقفة فيما بينهم وبين الكنائس في العالم.

- أمّا أخطر ظواهر "إنحطاط" تلك الكنائس فهو مشكلة فقدان التوق نحو الملكوت. كنائسنا استوطنت العالم الأرضي وتكاد تنسى السماء والآخرة. الرعيّة في اليونانية هي paroikia التي تعني محل إقامة الparokoi، أيّ الأجانب المقيمين في مكان معيّن دون أن يعتبروا أنّهم أهل الأرض، كما تقول الرسالة إلى ذيوغنوطوس التي وُضعت في أواخر القرن الثاني: "المسيحيّون يقطنون كلّ في وطنهم ولكن كأنّهم أجانب مقيمين. إنّهم يتمّمون كلّ واجباتهم المدنيّة ويدفعون كلّ الضرائب كأجانب. كلّ أرض غريبة هي وطنهم وكلّ وطن هي أرض غريبة بالنسبة إليهم... إنّهم في الجسد ولكنّهم لا يعيشون حسب الجسد. إنّهم يمضون حياتهم على الأرض لكنّهم مواطني السماء".

- إنعدام التبشير ما عدا بعض المبادرات تقوم بها كنيستا الإسكندريّة واليونان.

- تتغذّى النزعة الإكليريكيّة من موقف بعض الكهنة والمطارنة ولكن أيضًا العديد من العلمانيّين الذين يعتقدون أنّ الكاهن هو كلّ شيء في الجماعة، وهو محورها وأنّ كلّ شيء يجب أن يمرّ به وأن لا شيء يمكن أن يحصل بدونه.

- بدل "القدسات للقدّيسين"، الواقع أنّ "القدسات للمقدّسين أو المكرّسين" (أي الكهنة) وأن المادّيات للعلمانيّين. القوانين حتى لو طبّقت تحصر دور العلمانيّين بالشأن المادّي الإداري بينما النعمة المعطاة لهم في سرّ الميرون تجعلهم مسؤولين أيضًا على الكل. وكما يقول الذهبيّ الفم متوجّهًا إلى العلمانيّين: "الكنيسة بيتنا جميعًا وأنتم تسبقونا عندما ندخل إليه". من جرّاء بعده عن الرعيّة وعدم معرفته لكلّ أعضائها، أصبح الأسقف "سيّدًا" أكثر من "أب".

- الكنيسة تظهر اليوم وكأنها مؤسّسة ذات مراكز ودرجات وليس جماعة مؤمنين مجتمعين حول المسيح، لهم قلب واحد ونفس واحدة كما كانت الحال في أورشليم أوّلًا.

- الخلط القائم في بلادنا بين الكنيسة والطائفة ( في غالبيّة البلدان الأرثوذكسيّة بين العرق والكنيسة) يميّع أكثر فأكثر الانتماء الكنسيّ الحقيقيّ.

- إنعدام التعاون والتعاضد الفعليّ بين الكنائس ("همّ الكنائس" الذي يقول عنه بولس الرسول) ينقص من جامعيّة الكنيسة المحلّية. تطغي عندنا الحقيقة على المحبّة بينما يجب أن تكونا مجتمعتان دومًا.

- غالبًا ما نمارس مسيحيّة "الأبواب المغلقة" بينما المطلوب أن نغيّر العالم ونجعله يتجلّى بمعرفة القائم من بين الأموات.

الوحدة الأرثوذكسيّة

·        هي وحدة محبّة وإيمان: "لنحبّ بعضنا بعضًا لكي نعترف بفم واحد مقرّين" بإيماننا الواحد. كما تلاحظون المحبّة تأتي أوّلً أو تسمح وحدها الإعلان عن وحدة الإيمان. وتخوّلنا هذه الوحدة بالإيمان التي وصلنا إليها بالمحبّة، الإشتراك في القدسات. وهذا الاشتراك يجعل منّا مرسلين إلى العالم لإعلان محبّة الله له، المترجمة من خلال محبّتنا بعضنا لبعض.

·        يجب أن تحقَّق هذه الوحدة على جميع مستويات حياة الكنيسة:

أوّلاً في الرعيّة:

-        يجب اختراع نمط رعائيّ جديد لأنّ الحالة الحاليّة لا تُطاق للأسباب التي ذكرنا ولضرورة الحياة المشتركة والشهادة المشتركة. وهذا لا يتمّ إلّا إذا كانت الرعيّة صغيرة متراصّة متعارفة. أقترح المطران جورج (خضر) إيجاد رعايا "البناية"، رعايا صغيرة يعرف أعضؤها بعضهم بعضًا ويتكاتفون.

-        مقابل الميوعة الحاليّة لا شيء غير القداسة مقبول، لا شيء أقلّ منها.

-        يلزمنا نهضة ليتورجيّة ليس فقط لتغيير بعض الكلمات بل أساسًا لإعادة فهم المعنى الأصليّ لليتورجيا كعمل جماعيّ وإعادة عيش المواهب الملوكيّة والكهنوتيّة والنبويّة لشعب الله.

-        تشجيع همّ التبشير ليس فقط تجاه الذين يأتون إلى الكنيسة بل الباقين الذين يشكّلون الأكثريّة ويعيش معظمهم حياة تتجاهل الله ومتطلّباته.

-        يجب تشجيع الشفافيّة في ما يحدث في الكنيسة وتؤخذ رأي الشعب المؤمن فيه.

-        يجب الدخول في علاقة شخصيّة مع كهنتها ومجلسها والعاملين فيها.

ثانيًا في الكنيسة المحلّية:

-        إستعادة أبوّة الأسقف

-        تأمين التعاون بين الرعايا

-        مشاركة الجميع بحمل هموم الكنيسة

-        الكهنة إخوة مستشارو الأسقف وليس موظّفين خاضعين لرئيس

-        إعادة النظر في جغرافية الأبرشيّات لتصغير بعضها وإلغاء البعض الآخر

-        تأليف  مجلس الأبرشيّة ودعوة مؤتمر الأبرشيّة السنوي.

ثالثًا بين الكنائس المحلّية ضمن الكنيسة المستقلّة الواحدة:

-        عيش المجمعيّة الحقيقيّة بين الأساقفة

-        التعاون بين الأبرشيّات

-        ضرورة دعوة المؤتمر الأنطاكي

0        ضرورة إيجاد لجنة تنفيذيّة تعمل مع البطريرك

رابعًا بين الكنائس الأرثوذكسيّة:

-        العمل على معالجة الإنشقاقات الحاليّة

-        اجتماعات دوريّة لرؤساء الكنائس

-        إنشاء لجان مشتركة دائمة

-        إعادة تنشيط سيندسموس

-        السعي الحسيس لإنشاء كنائس مستقلّة في بلاد الشتات

خامسًا السعي لعيش هذه الوحدة مع باقي المسيحيّين  لكي يؤمن العالم. ويستدعي ذلك الإنفتاح على الآخر، والدخول في حوار بناء معه والسعي لنسيان أخطاء الماضي، ومشاركته في الخدمة المجّانيّة. ويستدعي أيضًا إعادة إحياء حركة التقارب مع الكنائس الميافيزيّة لشهادة المشتركة والوصول إلى شركة في القدسات كاملة.

خاتمة

- مشكلتنا الكبرى شعور مسؤولين الدائم أنّ كلّ شيء على ما يرام، ما يعيق كل نهضة وإبداع. خوفًا من المدنيّة الحديثة، نرفض كلّ تغيير أصبح ضروريًا، في صلواتنا وفي رعايتنا، ونبكي من كون الشباب والمثقّفين يتركون الكنيسة، غير واعين أنّ تأخرنا في الإصلاح يُبعدهم.

- لا بدّ من الاتّكال على الروح، وجعله يمسح غبار خطايانا المتراكمة على كنوزنا.

- كيف يمكن أن نقبل أوضاع هرطوقيّة في ممارساتنا اليوميّة، ونقف بالمرصاد على أيّ رأي لاهوتي جديد ناعتين إيّاه بالهرطقة؟

- قال البطريرك أغناطيوس الرابع في مقابلة أُجريَت معه سنة 1985[27] أنّه يوجد انفصام رهيب بين واقع الكنيسة

وبين النظريّات... وأنّه علينا أن نأخذ الروح القدس على محمل الجدّ وأن نكفّ عن حبسه لكي يفعل فينا اليوم وإلى الأبد".

- اليوم اليوم وليس غدًا. الذي يحب يحترق شوقًا. تعال أيّها الربّ يسوع تعال!...



[1] L’Orthodoxie, L’Age d’Homme, p. 10.

[2] Le Christ et l’Esprit, fondement de l’Eglise et des ministères, SOP ;, 101B, Septembre-Octobre 1985/

[3] بولغاكوف، المرجع عينه، ص. 4.

[4] "عندما تجتمعون" (1 كورنثوس 14: 26)، أي عندما تصبحون "الكنيسة".

[5]يقول شهداء إفريقيا الشماليّة الذين سقطوا في عهد ديوكلسيانوس: " لا يمكننا العيش بدون الإفخارستيّة. ألا تعلمون أنّ المسيحيّين يقيمون الليتورجيا وأنّ الليتورجيا تقيمهم وأنّ الواحدة لا يمكن أن تكون دون الإخوة الآخرين".

[6]J. Zizioulas, L’Eucharistie, l’Evêque et l’Eglise dans les 3 premiers siècles, p. 242.

[7] المرجع عينه، ص. 236.

[8] المرجع عينه، ص.

[9] استشهاد بوليكربوس، 8، 1.

[10] أغناطيوس الأنطاكي، الرسالة إلى أهل إزميرن 2، 8.

[11] اقليمس الإسكندري، الستروماتا، 7، 17.

[12] جورج فلوروفسكي، جسد المسيح الحيّ.

[13] الرسالة إلى أهل إزمير، 8، 1-2.

[14] المرجع عينه.

[15] المواعظ التعليميّة، 18، 23.

[16] فلوروفسكي، المرجع عينه، ص. 26.

[17] المرجع عينه.

[18] ألأب سيريل أرغنتيس، Ce que nous pouvons être et ce que nous sommes. Plénitude et devenir de l’Eglise, SZOP 132, Novembre 1982.

[19] الرسالة إلى أهل إزمير 8، 1.

[20] الرسالة 14، 4.

[21] التقليد الرسولي، 2.

[22] في رسالته إلى أهل إزمير 6: 1.

[23] المرجع عينه، ص. 243.

[24] A. Bloom, L’Eglise communauté euchqristiaue ; SOP 111, septembre 1986, p. 26.

[25] Schmemann, L’Eucharistie sqcrement du Royqumem p. 99.

[26] المرجع عينه، ص. 101.

[27] SOP no 94.

المشاركات الشائعة