سلام يسوع وسلام العالم

 

ريمون رزق

النور- العدد الثامن 2015


سلام العالم

يرغب الإنسان السلام من أعماق كيانه، لكنّه غالبًا ما يجهل طبيعة الخير الذي يسعى وراءه والسبل المؤدّية إليه. يقول "بدّي السترة"، أي أريد أن أعيش، أنا وعائلتي، في جوّ راحة، بعيدًّا عن المشاكل والنزاعات، لكي أنعم بحياة هنيئة، مع ذاتي ومحيطي والمجتمع. لكنّ المجتمع يضغط عليّ ويمنعني كثرًا من الأحيان من التمتّع براحة الفكر والعيش، ويُشغل بالي ويجعلني أشعر بقلق على المستقبل والمصير. فأين سلام العالم الذي يقتحمني دومًا ويُدخل صراعاته غالبًا الدمويّة إلى داخل بيتي، ولا يريد أن يتركني وشأني.

مفهوم السلام في العهد القديم

إن عدنا إلى الكتاب المقدّس في عهده العتيق، نجد أنّ عبارة سلام (شالوم) تقضي أن يكون الإنسان في انسجام مع الطبيعة ومع نفسه ومع الله. أنّ أحظى بالسلام وأكون بصحّة جيّدة أمران متوازيان. من هنا نقول "سلام عليك" لأنّ الحصول على السلام أجدى بكثير من أن يكون نهارنا سعيدًا. وأخيرًا السلام هو ما يتعارض مع الشرّ: "لا سلام للمنافقين" يقول الرب (أشعيا 48: 22). فالسلام مرتبط إذًا بالبرّ والعدل: "لصاحب السلام عاقبة تبقى" (مزمور 36: 37). فالسلام هو مجموع الخيرات الذي يمكن للإنسان أن ينعم بها، إن كان بارًّا: أن يكون له أرضًا تعطيه طعامه، أن يأكل حسب حاجته، أن يقيم في مكان آمن، أن ينام بدون خوف، أن يتغلّب على أعدائه وأن يتناسل. ويحصل على كلّ ذلك، اقتناعًا منه "أنّ الله معه"، ومع قومه فيصرخ "الله معنا". ويعني أنّه ليس مع الآخرين. ندّعي أنّ الله معنا، لكن لا نسير في سبله، راجينا السلام كثمر البرّ الإلهيّ، بل عبر عهود واتّفاقيّات سياسيّة. هذا كان مفهوم التوق إلى السلام في البدايات. والغريب الغريب أنّ هذا المفهوم لا يزال يسود في عالم اليوم الذي يشدّد أكثر من أيّ وقت مضى على دهريّة قتلت الله أو بالأحرى غيّبته أمام ازدياد قدرة الإنسان الفائقة، سيّد الكون الحقيقيّ، الذي يبحث قبل كلّ شيء عن عزّته وراحته وتكاثر ممتلكاته، ويعتقد أنّه يجد بذلك سلامه. وها نحن غالبًا ما نتجاهل صرخات أنبياء العهد القديم الذين غيّروا جذريًّا المفهوم القديم، فأخذوا يحلمون بمجيء"رئيس السلام" الذي يكون سلامه "بلا انقضاء" (أشعيا 9: 6-7). لكنّهم فهموا أن مثل هذا السلام لن يحلّ في هذا العالم، ولذلك تكلّموا عليه بمفاهيم آخرويّة. وها نحن غالبًا ما نتجاهل الثورة التي أتى بها يسوع الناصريّ والتي قلبت المفاهيم القديمة كلّيًّا، وأطلقت مدنيّة نراها تتقهقر أمام أعيننا.

فما هو سلام يسوع، ولماذا يتقهقر اليوم؟

يقول أوليفييه كليمان "إنّ كلّ شيء ينطلق من يسوع ويعود إليه. فضح يسوع تجربة إيجاد أعداء نلقي عليهم قلقنا. وبدلًا من ذلك، طلب منّا أن نحبّ أعداءنا. ورفض كلّ ملكيّة بحسب العالم، وطلب من أتباعه أن يحوّلوا كلّ سلطة إلى خدمة، وأعلن نفسه جرحًا وخميرة في التاريخ. وأطلق مفهوم الشخص الإنسانيّ الذي لا يُختزَل، ومفهوم مشاركة الجميع في إنسانيّة واحدة. وأعطانا مثل السامريّين، أي "الهراطقة"، للاهتداء بهم... وجعلنا نشعر أنّ الآخر موجود، ويجب احترامه، ومنعنا من إدانته".

يشدّد يسوع أنّ التزام هذا النمط من الحياة، والعيش الدائم الواعي في حضرة الله، هو الذي يحقّق السلام الذي هو هبة من الله، ويحلّ في حضوره، لأنّه المصدر الوحيد للسلام الحقيقيّ. ترادف عبارة "سلام المسيح" في العهد الجديد الحياة الأقوى من الموت التي تهبنا القيامة. حقّق يسوع الإعلان الإنجيليّ أن يكون "على الأرض سلام" في شخصه. فإنّه بردمه البعد بين المخلوق وغير المخلوق، وغلبته على الخطيئة والموت والجحيم، جمع بين الله والإنسانيّة. وقد "حقّق السلام بدم صليبه" (كولوسي 1: 20).

المشاركات الشائعة