بعض التأمّلات في السلطة والطاعة في الكنيسة

ريمون رزق

النور- العدد الخامس 2010


في ضرورة إصلاح العلاقات بين أعضاء شعب الله الواحد

كلّنا إخوة.

في زمن الرسل، اعتبر هؤلاء أنفسهم أخوة لجميع المؤمنين بيسوع المسيح، وذلك دون المسّ بتاتًا بسلطتهم الرسوليّة. وكانوا يشركون الجميع في خدمتهم، ويطلعونهم على قراراتهم، كما تثبت مقدّمة الرسالة الموجّهة إلى "الأخوة"، على أثر مجمع أورشليم: "من إخوتكم الرسل والشيوخ... إلى كلّ الأخوة المهتدين من الوثنيّة" (أعمال 15: 23).

الخلافة الرسوليّة

الأساقفة وجماعاتهم الإفخارستيّة هم ورثة الرسل والجماعات الرسوليّة. كما يقول المتروبوليت جان (زيزيولاس): "الأسقف المرسوم يمنح الرسوليّة لجماعته وفي الوقت ذاته، يكتسبها منها".

في أغلب الأحيان، نستشهد بأغناطيوس الأنطاكيّ وغيره من الشهود القدماء، لنؤكّد المكانة السامية التي يحتلّها الأسقف في الكنيسة، "الكنيسة هي حيث يكون الأسقف". لكن، يجب على هذا التأكيد أن يقرن بقول آخر لقبريانوس القرطاجيّ: "إنّ الأسقف هو في الكنيسة". ومن الضرورة بمكان المحافظة على التوازنن بين هذَين التأكيدَين للإبقاء على صفة الشركة في الكنيسة. "إذا كان أحد ضدّ الأسقف، فهو خارج الكنيسة"، يقول أيضًا قبريانوس، الذي يعترف أيضًا أنّه الأوّل، ولكن أوّل بين الإخوة، الذين دعاهم الربّ نفسه إلى حرّيّة أبناء الله. لا يمكن أن يكون الأسقف فوق الكنيسة، وإلّا فهو يضع نفسه خارجها وتاليًا يفقد كلّ موهبة.

المواهب

في العهد الجديد، يرد ذكر مواهب أعضاء الجماعة المسيحيّة، ومن ضمنها مواهب الأسقف أكثر من مرّة (1 كورنثوس 12: 28 و29؛ رومية 12: 6؛ أفسس 4: 11؛ بطرس 4: 10 و11).

تقسم هذه المواهب إلى فئتَين: المواهب الوظائفيّة ومواهب الخدمة. تخصّ الأولى الرسل والأنبياء والمبشّرين والرعاة. أمّا الثانية، فتشمل الخدمة والتعليم والإرشاد، والرحمة وكلمة الحكمة والمعرفة، وموهبة الشفاء واجتراح المعجزات، والتكلّم بالألسنة وتمييز الأرواح. هذه المواهب كلّها عطيّة مجّانيّة من الروح واستخدامها يجب أن يطوَّع لصالح جسد المسيح الذي نحن جميعًا أعضاء فيه (1 كورنثوس 12: 27).

تُمنح بعض هذه المواهب، بشكل خاصّ، لبعض أعضاء الكنيسة، مثل أن يكون الإنسان رسولاً أو راعيًا، ويحظى هؤلاء بنعمة خاصّة تمنح في الكهنوت. مواهب الرسل توقّفت برقاد الرسل. المواهب الخاصّة بالرعاة هي أن يكونوا مدبّري الكنيسة بواسطة الروح القدس، وأن يتحقّقوا من أصالة المواهب الأخرى وملاحظاتها وتنشيطها واختبار الأرواح (1 يوحنّا 4: 1)، وأن يوصوا بالإيمان ويعلّموه (1 تيموثاوس 4: 11)، وبالأخصّ أن يترأّسوا الإفخارستيّا وكلّ الأسرار وأن يسهروا على وحدة الكنيسة. وهذه المواهب يجب أن تمارس دائمًا بمحبّة الأخوة واحترامهم، عبر حياة ناصعة بلا لوم. في الرسالة إلى تيموثاوس، يقول القدّيس بولس: "فعلى الأسقف ألّا يناله لوم وأن يكون زوج امرأة واحدة، وأن يكون قنوعًا رزينًا مهذّبًا مضيافًا أهلاً للتعليم". حذّر القدّيس بطرس، من جهته، الراعي من تجربة التسلّط على الذين هم في رعيّته، من أعضاء شعب الله (1 بطرس 5: 3). لهذا السبب، استحلف يسوع تلاميذه ألّا يدعوا أحدًا رئيسًا أو أبًا أو سيّدًا أو معلّمًا، لأنّهم جميعًا أخوة و"لأنّ لكم أبًا واحدًا هو الآب السماويّ" (متّى 23: 8 – 10). ربّما من المفيد التساؤل لماذا الكنيسة التاريخيّة خانت أمر الربّ هذا معرّضة المدبّرين فيها إلى التجارب التي يتعرّض لها أسياد هذا الدهر ورؤساؤه. ما العمل إذا كان الأسقف لا تتوفّر فيه المعايير التي يعتبرها الرسول حتميّة وضروريّة إلّا تذكيره بها باحترام وتواضع، والصلاة الحارّة لكي يقوّمه الربّ ويساعد كنيسته. وما العمل إذا كان بعض المؤمنين لا يعيشون وفق الروح القدس، إلّا الإفراط في محبّتهم والسهر أكثر فأكثر على تبشيرهم. كلّ المواهب ضروريّة وتكمّل بعضها بعضًا. كلّ فرديّة مناقضة للكنيسة، التي هي في جوهرها حياة شركة وتواصل بين الأفراد. لا يمكن أيّ عضو في الكنيسة، مهما كانت مكانته، أن يقول لعضو آخر "لا حاجة بي إليك" (1 كورنثوس 12: 21)، إذ لا غنى عن أحد. الجميع ضروريّون من دون أن يكونوا حتمًا متشابهين. لاهوت الشركة في الكنيسة يقصي كلّ تركيبة هرميّة فيها وعنها.

كلّ كنيسة يصمت فيها صوت الأنبياء تصبح مؤسّسة قد يسيطر عليها النظام الخارجيّ، إلّا أنّ كنيسة كهذه تفقد نكهتها، لأنّ الروح لن يعود يهبّ فيها أين يشاء ومتى يشاء.

وكذلك الأمر بالنسبة إلى كنيسة يصمت فيها صوت المعلّمين واللاهوتيّين، فتغدو كنيسة ينقصها همّ التفتيش عن الحقيقة، وتصير مؤسّسة تنقل ربّما العقيدة من دون تحريف أو تأويل، ولكن تصبح بعيدة من مشاكل الناس الحقيقيّة وتمسي أسيرة نظام لاهوتيّ مقنّن.

السلطة في الكنيسة: هي ليسوع وفي سبيل البشارة

كلّ سلطة في الكنيسة تأتيها من الربّ. ويسوع، الذي حاز سلطته من الآب، تشاركها بعد قيامته مع تلاميذه (يوحنّا 20: 22 – 23)، وهؤلاء، من بعده، مع خلفائهم وكلّ الكنيسة.

وبموجب التفويض الذي منحه يسوع لتلاميذه (متّى 28: 18 – 20)، فإنّ ممارسة السلطة عند الرسل وخلفائهم منوطة بنشر الإنجيل والتعليم وتقديس المؤمنين عبر الأسرار ورعايتهم (لوقا 10: 16).

السلطة في الكنيسة هي ليسوع المسيح وحده (أفسس 1: 22، 5: 23). السلطة، التي أسبغها يسوع على تلاميذه، كانت، قبل كلّ شيء، سلطة للبشارة والتعليم وشفاء المرضى (لوقا 9: 1 – 2، 10: 1). المسيح القائم فوّضهم بهذه السلطة لنشر الإنجيل في العالم بأسره (متّى 28: 18 – 20). ويعتبر بولس الرسول التبشير بكلمة الله، بقوّة الروح القدس، سمة أساسيّة لسلطته الرسوليّة (1 كورنثوس 1: 17؛ 2: 4 – 5). في بشارة يسوع المسيح المصلوب، الـ"نعم" الإلهيّة إلى البشريّة أصبحت حقيقة واقعة يُدعى الجميع لقبولها بالآمين. تاليًا، ممارسة السلطة في الكنيسة، وفي الطليعة سلطة الأساقفة، لها، أساسًا، بُعد بشاريّ، وتمارس لصالح أولئك الذين هم خارج الكنيسة، بهدف أن يعلن الإنجيل "بعمل القوّة وبالروح القدس وباليقين التامّ" (1 تسالونيكي 1: 5). تجعل هذه السلطة الكنيسة كلّها قادرة، بفعل الروح القدس فيها، على تجسيد الإنجيل، وعلى أن تصبح الخادمة للسيّد والمبشّرة به بنفحة نبويّة.

السلطة في الكنيسة هي خدمة المحبّة من أجل الوحدة

السلطة في الكنيسة ترمي إلى توحيد كلّ الجنس البشريّ في يسوع المسيح (أفسس 1: 10؛ يوحنّا 11: 52)، وتحريره من العبوديّة وكلّ ظلم. ليست السلطة امتيازًا يقتصر على من يحوزها. إنّها هبة من الروح القدس، في خدمة كلّ الجماعة، ولا تمارس، البتّة، خارجها. وتتضمّن ممارستها مشاركة حتميّة لكلّ الجماعة. إنّها خدمة المحبّة، ولا توجد في الكنيسة بمعزل عن المحبّة بين من يمارسها ومن هو خاضع لها. إنّها سلطة من دون تسلّط أو هيمنة، من دون أيّ ضغط مادّيّ أو معنويّ. إنّها مختلفة جذريًّا عن سلطة حكّام الأمم وعظماء هذا العالم (لوقا 22: 25 – 27). ترتبط كلّ سلطة في الكنيسة، إذًا، بالوحدة وبالخدمة والشركة. الرعاية، بالنسبة إلى المسيحيّين هي مجرّد خدمة وتعبير عن المحبّة. بهذه  الطريقة، وبها فقط، تتمّ ممارسة السلطة الكنسيّة وفعاليّتها الروحيّة، عبر القبول الحرّ وتعاون الجميع تعاونًا طوعيًّا.

أساسًا، الطاعة عند المسيحيّ الحقيقيّ، هي طاعة المسيح الذي أطاع حتّى الموت على الصليب. والطاعة المسيحيّة لا تُفهم، إذًا، إلّا في إطار منطق الجماعة والشركة. ليطيع المرء حقًّا، عليه أن يكون في شركة مع المسيح المطيع، مطيعًا بمن يمارس، السلطة حصرًا ما أوكله إليه يسوع. والحال أنّ يسوع طلب إلى أبيه أن يكون تلاميذه واحدًا "ليؤمن العالم بأنّك أنت أرسلتني وأنّك أحببتهم كما أحببتني" (يوحنّا 17: 23). عندما لا يتّفق المسيحيّون في ما بينهم، يكون التبشير عرضة للخطر والتشويه. إذا كانوا "واحدًا" في الإيمان من دون أن يطبّقوا ذلك في الحياة، فهم لا يتمّمون مشيئة الله التي تكمن في مصالحة الجميع مع الآب عبر الابن (كولوسي 1: 20).

وما دامت الكنيسة ليست الجماعة المتصالحة التي يريدها الله، فهي لا تستطيع أن تبشّر حقًّا بالإنجيل، ولا أن تعلن، بشكل مقنع، مخطط الله في جمع شمل أبناء الله المشتّتين في الوحدة بيسوع الربّ والمخلّص (يوحنّا 11: 52). مسؤوليّة من يتولّى السلطة في الكنيسة تكمن في السعي إلى وحدة كلّ الكنيسة في الإيمان والحياة، وفي امتصاص كلّ صراع واجتثاث كلّ خلاف في مهده، عبر الإنصات والحوار، وممارسة التواضع غير متناسين أنّ المعلّم غسل أرجل تلاميذه.

يجب، إذًا، أن تعاش السلطة، وتمارس في مناخ من الحوار الدائم والإصغاء والانتباه المحبّ، بين أعضاء شعب الله. الإنصات فضيلة أساسيّة عند الذين مُنحوا موهبة السلطة. يساعد المرء الآخرين أكثر أحيانًا بفعل الإصغاء والصمت اليقظ بدل كثرة الكلام واللجوء إلى التأنيب وفرض شرائع جافّة وضاغطة لا تشجّع البتّة على الطاعة.

مجمعيّة كلّ الكنيسة

كلّ إنسان معمّد مدعوّ إلى الخدمة في الرعيّة حسب الموهبة المعطاة له من الروح القدس (1 كورنثوس 12: 4 – 27). هكذا، عبر الشركة، التي تفترض أن يكون كلّ الأعضاء بعضهم في خدمة بعض، تبدو الكنيسة المحلّيّة، أي الأبرشيّة، مجمعيّة في هيكليّتها. ولا تتجلّى هذه المجمعيّة فقط في علاقات التضامن والتكافل المتبادل والتكامل بين الكهنة (الذين يقع كليهما أحيانًا في تجربة انتمائهم إلى جسم خاصّ في الكنيسة)، ولكن في المشاركة الحيّة للعلمانيّين والرهبان (الذين يقع كليهما أيضًا في تجربة مماثلة لتجربة الإكليروس، ولو معاكسة) في أشكال متعدّدة من الخدمة والبشارة في الكنيسة. كتب الأب س. بولغاكوف في مؤلّفه عن الأرثوذكسيّة: "ليس العلمانيّون، بتاتًا، عنصرًا سلبيًّا في الإدارة الكنسيّة، واجبه الوحيد طاعة الرئاسة الروحيّة، وليس فراغًا من جهة المواهب على الرئاسة الروحيّة أن تملأه. إنّ رتبة العلمانيّة رتبة كنسيّة مقدّسة يكتسب حاملها صفة المسيحيّ".

من بين أشكال الخدمة التي شغلها العلمانيّون، في مراحل مختلفة من تاريخ الكنيسة الأرثوذكسيّة، النبوءة والتعليم يحتلّان مكانة مميّزة، إذ أنّ أهمّ لاهوتيّي الكنيسة الأرثوذكسيّة كانوا أحيانًا من العلمانيّين، وكثيرًا ما ناب الروحيّون عن الأساقفة في فترات كان هؤلاء يشكون ضعفًا وهوانًا. وبهذا التفاعل بين المواهب، بقيت وحدة الكنيسة الرسوليّة متماسكة وسليمة.

كلّ المسيحيّين يشتركون معًا في عمل يسوع المسيح

من المؤكّد أنّ طاعة الله لدى الأسقف وكلّ أعضاء الكنيسة، الملتزمين الإيمان الواحد والمحبّة الواحدة، تعلو على كلّ ولاء وانتماء (أعمال 4: 19). كان واضحًا، في المسيحيّة الأولى، أنّ كلّ المعمّدين كانوا يؤلّفون الكنيسة، وأنّ كلّ الجماعة المسيحيّة هي مقدّسة وتشكّل "شعبًا مختارًا، وكهنوتًا ملوكيًّا، وأمّة مقدّسة مقتناة من الله" (1 بطرس 2: 9 – 10). إذًا، يتشارك الأسقف والشعب، بطرائق مختلفة طبعًا، ولكن فعليّة، في خدمة يسوع المسيح المثلّثة الأبعاد. فهي نبويّة لضمان الإيمان الرسوليّ وتسليمه الصحيح، وكهنوتيّة لإقامة الخدم الليتورجيّة والأسرار، وملوكيّة للسهر على وحدة الكنيسة وعلى إدارتها.

في هذ الإطار من المشاركة في المسؤوليّات، على كلّ أعضاء شعب الله أن يطيعوا بعضهم بعضًا، في الإيمان والمحبّة واحترام حرّيّة كلّ واحد منهم.

الطاعة، إذًا، سرّ يكشفه الروح القدس، ويجب أن يعاش كسرّ في حياة الكنيسة. الطاعة واجبة للأسقف عندما يعلن الإيمان أو يذكّر به، لا ضرورة عندما يعرب عن آراء شخصيّة أو يعيق حرّيّة أبناء الله.

أيّة طاعة في الكنيسة؟

ممارسة الطاعة، كما حدّدت أعلاه، أمر غاية في الأهمّيّة في الكنيسة، وإذا فهمت على حقيقتها تكون من مكوّناتها الأساسيّة. إلّا أنّه يجب أن تكون طاعة مستنيرة، طاعة الأبناء، طاعة في الإيمان. يكمن الواجب الأوّل للأسقف في نقل هذا الإيمان إلى أبنائه ورعايته فيهم. عندما يحصل ضعف فرديّ أو حتّى جماعيّ عند المسؤولين عن الإيمان في الكنيسة، فانتقادهم بمحبّة واحترام ليس قطعًا علامة انحراف أو خروج عن الطاعة، بل على العكس يكون علامة خلاص للكنيسة وأبنائها جميعًا. عندما يتّضح أنّ التعليم أو السلوك مخالف للتقليد والممارسة الكنسيّة، فإنّ عدم قبول هذا التعليم واجب أيًّا يكن عضو الكنيسة الذي يبشّر به. وعندما يتّضح أنّ المسؤول يستعمل وسائل سلطة هذا العالم، ويتخلّى عن المحبّة الإنجيليّة تجاه أعضاء الكنيسة، فالطاعة تعود غير واجبة له. على طاعة المؤمنين أن تكون دومًا مستنيرة، وموجّهة عبر البشر إلى يسوع المسيح وحده. في مثل هذه الحالات من الخلل، لا بدّ من التنبيه، باحترام، وإذا اقتضى الأمر، أو في حال الخطر على الكنيسة، لا بدّ من المقاومة، ولكن دائمًا بوسائل لا ينكرها الربّ.

الطاعة الحقّ

ليست الطاعة الحقّ، إذًا، طاعة المتملّقين والمتزلّفين الذين نراهم دائمًا يحوطون بالرئاسات، والذين لا يأنفون من استعمال لغة مزدوجة، فيُسمعون الرؤساء ما يحبّون أن يسمعوه، غير متردّدين في انتقادهم إلى أبعد حدّ، عندما يديرون لهم ظهورهم. ليس الطاعة الحقّ أيضًا طاعة الذين يسعون دومًا إلى المساومات لتجنّب كلّ اختلاف وكلّ صدام. الذين يمارسون هذا النوع من الطاعة ليسوا بأبناء ولا يحسبون أنفسهم حقًّا أبناء، كما لا يشعرون بالنعمة العاملة فيهم، ولا يدركون أنّ الروح القدس يقطن فيهم. تفترض الطاعة الحقّ الصدق الذي تحرّكه محبّة الكلّ والاهتمام بالكلّ بمن فيهم من نطيع. الطاعة الحقيقيّة تستدلّ على الشموليّة والكلّيّة، وليست في الحفاظ على وحدة مزيّفة ترفض الجدال الحقّ.

هل النقد جائز؟

مع الحرص الدائم على الحفاظ على المحبّة الإنجيليّة، لا يكون الانتقاد في الكنيسة، الصادر عن شخص أو مجموعة مقتنعة بإخلاص بأنّها تنتقد بغية الوصول إلى مشيئة الله، تعبيرًا عن نقص في الطاعة، بل تعبير عن المحبّة المسؤولة تجاه الكنيسة ضمن أمانة تامّة للسيّد. الانتقاد بمحبّة والحسّ بالمسؤوليّة لا يعني ضعف المحبّة تجاه الذين ننتقد، لكنّه على العكس ينمّ عن محبّة مضاعفة، بالضبط كما هي الحال بالنسبة إلى محبّة الابن لأهله التي لا تمنعه من ملاحظة أخطائهم ونواقصهم، وإذا اقتضت الحاجة إلى لفت انتباههم إليها، فيكون ذلك دومًا برقّة وحنان. الابن، الذي يرفض المواجهة خوفًا أو تخاذلاً، ينمّ على تصرّف صبيانيّ ونقص في النضج الروحيّ وانعدام الموضوعيّة الهادئة. من يحبّ ينتقد، ويستمرّ في محبّة الشخص المنتقَد. فهو ينتقد بدافع المحبّة. ومن ضمنها السكوت إزاء المشاكل الحقيقيّة يثقله التساهل والمساومات، ولا يدلّ على طاعة ناضجة، ويكون أحيانًا علامة عدم مبالاة أو انعدامًا في الحسّ بالمسؤوليّة. مساءلة المؤسّسة الكنسيّة هي مساءلة الذات. هي دعوة الجميع إلى التوبة والانتقال من قبول أعمى غير مبالٍ إلى سلوك أنضج وأوعى. التوجّه بالنقد إلى المؤسّسة في الكنيسة، كما لكلّ سلطة باحترام ومحبّة هو الطريق الأمثل لتثبيت عضويّتنا في الكنيسة ومحبّتنا لها ومن خلالها، هو ترسيخ خدمتنا للبشر، لكلّ البشر.

حدود السلطة ومخاطرها

إذًا، يجب ألّا تمارس سلطة الأسقف إلّا بالمحبّة الإنجيليّة وضمن روح الشركة. على ممارس السلطة أن يحترم ضمير الآخر دائمًا، لأنّ الله حريص على الحرّيّة الإنسانيّة. لذلك لا بدّ من سلوك يجب اتّباعه في ممارسة السلطة من قبل من أعطي هذه الخدمة. هذا السلوك ليس إلّا سلوك يسوع المسيح ومناقبيّته، ويتطلّب الالتزام بمقتديات الشورى والخير العامّ واحترام الكلّ. إذا اعتبر الأسقف نفسه "فوق" الكنيسة، تصبح ممارسته للسلطة شديدة الخطورة عليه وعلى الكنيسة. عندئذ تتّخذ السلطة نمطًا بيروقراطيًّا، وقد يقع الأسقف بتجربة أيّ مدير أو رئيس شركة زمنيّ، وتاليًا، يكون خاضعًا لمنطق القوّة والتسويات. إنّ سلطة أيّ إنسان يجب أن تقف عند حرّيّة الآخرين. في محيط الكنيسة القائم على مجّانيّة النعمة، كلّ إنسان يزعم أنّه يحكم وحده بأمر الله ولا يخضع إلى أيّ نوع من المراقبة الأخويّة لا بدّ، بخاصّة إن لم يسعَ دومًا إلى تطهير الذات والقداسة، من أن تتعاظم سلطته بإفراط إلى درجة تعريض الكنيسة إلى الخطر وموهبته الإلهيّة إلى الزوال. وإذا تصرّف بتسلّط، إذا لم يأخذ برأي الكهنة والعلمانيّين قبل أن يتّخذ القرارات المصيريّة، وإذا عمل من تلقاء نفسه من دون أن يأخذ في الاعتبار حاجات رعيّته وتطلّعاتها، فتصبح ممارسته للسلطة غير متوافقة والمواهب المعطاة له. مسؤوليّة الكنيسة أن تشهد أمام كلّ العالم أنّ السلطة، الممارسة فيها بشكل صحيح، هي هبة من الله تسعى إلى المصالحة بين البشر وإلى السلام للبشريّة. يمكن كلّ سلطة أن تمارس بطغيان مدمّر. وقد يحدث هذا كثيرًا في المجتمعات الإنسانيّة، وقد يحدث أحيانًا حتّى في الكنيسة عندما تستعمل السلطة بدون تمييز.

تشير ممارسة السلطة عند يسوع إلى طريقة أخرى. والكنيسة مدعوّة إلى ممارسة السلطة على منوال يسوع وفي الخضوع لروحه القدّوس (لوقا 22: 24 – 27؛ يوحنّا 13: 14 – 15؛ فيليبّي 2: 1 – 11). وقد منحها الروح القدس مواهب عديدة لكي تقوم بذلك (1 كورنثوس 12: 4 – 11؛ أفسس 4: 11 – 12). فلا نطفئنّ الروح.

نزعة إكليريكيّة مفرطة: هل نحن نتبع التقليد الأرثوذكسيّ؟

يدرج أكثر فأكثر، في هذه الأيّام، في بعض الأوساط الكنسيّة الأنطاكيّة، التشجيع على طاعة للأسقف عمياء، وإلى اعتبار أيّة محاولة للنقاش خروجًا عن الطاعة. موقف كهذا لا يقزّم الكهنة والرهبان والعلمانيّين فحسب، إلّا أنّه يشيّع رؤية للكنيسة غريبة عن تقليد الكنيسة الأرثوذكسيّة الحقيقيّ. في الواقع، الشرخ بين المعلّمين والمتعلّمين، بين المقدّس والمدنّس، بين المشرطن وغير المشرطن، بين العارف والجاهل، بين الإكليروس والعامّة، هو نتاج المدرسة السكولاستيكيّة اللاتينيّة. بدات كنيسة الغرب، منذ المجمع الفاتيكانيّ الثاني، بتعديل نظرتها إلى هذه الأمور، في اتّجاه المزيد من المشاركة والشورى. وتقول أكثر فأكثر بحقّ العلمانيّين بالمشاركة في العمل الكنسيّ، فاتحةً لهم المجال واسعًا للمشاركة في البشارة والرعاية. هل يجوز لنا مقابل هذا التطوّر الإيجابيّ، أن نشيّع رؤية غريبة تمامًا عن تقليدنا؟ كلّ نزعة إكليريكيّة، تشجّع الطبقات في الكنيسة، تتنافى مع نداء السيّد. المساواة بين الجميع، وأنّهم كلّهم إخوة، وكونهم كلّهم يشتركون في كهنوت الكنيسة الملوكيّ، ولهم موهبة النبوّة، يحقّ لهم، بموجب المواهب المعطاة لهم، أن يساهموا في الشهادة والتبشير وفي خدمة الكنيسة. وحتّى خدمة الأسرار التي تبرز فيها موهبة الأسقف والكاهن بامتياز، لا تقام بدون "آمين" الشعب. إذًا، ما عدا إقامة الأسرار هذه، لا شيء يجب أن يكون ممنوعًا عليهم، إذا تصرّفوا بنظام وترتيب من أجل خير الجميع ومجد الله وذلك نتيجة ما أعطاهم الله نفسه من مواهب، عند معموديّتهم وختمهم بالميرون المقدّس. يقول القدّيس بولس بوضوح إنّ المواهب متعدّدة، ولا يحتكرها، قطّ، واحد من أعضاء شعب الله، حتّى لو اعتلى منصبًا مهمًّا وسط هذا الشعب. إنّ خبرة الكنيسة الأولى جازمة بالنسبة إلى إشراك الجميع في نقل البشارة السارّة. كلّ المؤمنين، وليس الأساقفة فقط، مسؤولون عن الإيمان الذي أُعلن عند معموديّتهم. إنّ تعليم الكنيسة الثابت هو أنّ شعب الله، الذي يوجد الأسقف في كنفه، لا يمكن أن يكون على خطأ في ما يتعلّق بالإيمان (يوحنّا 16: 13)، وذلك بسبب مسحة القدّوس (1 يوحنّا 2: 20 و27).

كلّ الكنيسة معلّمة

في الواقع، كلّ كنيسة تعلّم الكنيسة، وقدرة الاختبار والشهادة فيها (1 تسالونيكي 5: 19 – 20) معطاة للجميع. على الأسقف أن يسهر على سلامة نقل الكلمة بدون أن يحصره به وبالكهنة. رغم ابتعاد الممارسة الأرثوذكسيّة المعاصرة، عن الرؤية الشركويّة التي يتغنّى بها لاهوتنا، فالبطاركة الأرثوذكس، عند استجابتهم لرسالة بابا روما، التي تدعوهم إلى المشاركة في المجمع الفاتيكانيّ الأوّل، أكّدوا، بصوت نبويّ، أنّ كلّ شعب الله، وليس فقط جزءًا منه، هو الحافظ للحقيقة والإيمان الرسوليّ والمدافع عنهما. هذا التقليد الكبير، الذي عبره يتجلّى الإيمان في ملء الكنيسة، والمشاركة الأكيدة والفاعلة للجميع في عملها، لا يمكن إبداله بفرض طاعة آليّة لنظام كنسيّ يسعى أحيانًا إلى بعثرة وحدة أبناء الله. ومن أولى واجبات المؤمن، الحافظ الإيمان، أن يناهض أيّ اعوجاج بكلّ الوسائل المتاحة التي يمنحه إيّاها التزامه بيسوع وبكنيسته.

كما سبق وقلنا، هذا الواجب يسمو على كلّ الاعتبارات المسلكيّة والتنظيميّة، مع التسليم بأهمّيّة هذه الاعتبارات وضرورتها، ليكون كلّ شيء بلياقة وترتيب. ولكنّها تبقى مع ذلك من صنع البشر، في حين أنّ الدفاع عن كمال الكنيسة هو من الله. تقع مسؤوليّة الدفاع عن الحقيقة على كلّ فرد في الكنيسة، أأسقفًا كان أم علمانيًّا، مع أنّ واجب الأسقف بخاصّة، أن يسهر على كلّ ما يجري في إطار الرعيّة ويعمل دائمًا من أجل وحدة الجميع ومحبّتهم. هكذا ليست وحدة الكنيسة انتظامًا وتشابهًا تامًّا بين أعضائها، بل تكامل عضويّ في ما بينهم، رغم اختلافاتهم.

جامعيّة الكنيسة والمجمع المقدّس

يعبّر عن جامعيّة الكنيسة المجمع الكنسيّ الذي يشارك فيه ممثّلون عن كلّ أعضاء شعب الله. هكذا كان في البدء، ومجمع أورشليم وغيره من المجامع قبل القرن الثالث، يؤكّدون هذه الحقيقة. الممارسة الحاليّة تغيّرت، مع أنّ عددًا من الكنائس الأرثوذكسيّة، مثل كنيسة روسيا، عاد إلى الممارسة القديمة، إذ إنّ المجمع العامّ للكنيسة يتمثّل فيه أيضًا الكهنة والرهبان والعلمانيّون. مجمعنا الأنطاكيّ يضمّ المطارنة فقط، وهذا مشروع وجيّد، لأنّ المطران لا ينطق باسم الكنيسة، بل عليه أن يحملها في قلبه، وتاليًا يمثّلها في المجمع. يؤكّد هذا المفهوم المطران جان (زيزيولاس) قائلاً إنّ: "كلّ أسقف يشارك في المجمع عبر جماعته وليس بصفته الشخصيّة فقط. فإنّ الخلافة الرسوليّة هي خلافة جماعات رسوليّة عبر قادتها، الأساقفة".

على الأسقف أن يحمل، إذًا، فعليًّا في قلبه أعضاء كنيسته من كهنة ورهبان وعلمانيّين، وأن يعمل على إشراكهم في كلّ حياة الكنيسة، آخذًا بالاعتبار آراءهم، إذا كانت تتوافق مع متطلّبات الفكر الإنجيليّ، ناقلاً إيّاها إلى أخوته الأساقفة في المجمع.

لسوء الحظ، هذا لا يحدث في أغلب الأحيان، إذ لا يحمل المرء في قلبه من يتجاهله على أرض الواقع. وبما أنّ اللاهوت ليس رؤية نظريّة، بل انعكاس لخبرة الحياة في الروح القدس، من الضروريّ تقويم هذا الانحراف في المواصلة لكي يستقيم عمل الكنيسة.

إنّ مشاركة شعب الله في حياة الكنيسة وفي إدارتها ليست منّة من المسؤولين في الكنيسة. فالربّ نفسه هو الذي يدعوهم إلى تحمّل هذه المسؤوليّات. عندما لا يشارك الكهنة والرهبان والعلمانيّون في المجمع، على المطارنة أن يعبّروا عن وجهات نظرهم ومشاكلهم ومشاكل العالم حيث يمثّلون واجهة الكنيسة والخطّ الأوّل للبشارة. وعند العودة من المجمع، على الأسقف أن يطلع رعيّته على كلّ ما جرى فيه، لكونهم أعضاء ناضجين ومسؤولين في الكنيسة وعنها. المطران يحمل إلى المجمع صوت جماعته وإلّا فهو يتصرّف كملك لا يعطي سوى رأيه الشخصيّ ولا يقدّم حسابًا لأحد.

على كلّ حال، فإنّ اللاهوت الأرثوذكسيّ واضح تمامًا: مهما كانت قرارات المجمع، لا تكتسب صفة القانون المطلق والإلزاميّ، ولا تدخل في حياة الكنيسة، طالما أنّ شعب الله لم يتقبّلها.

المجامع هي أدوات لإظهار كمال الكنيسة وجامعيّتها مع أنّها تتحوّل، أحيانًا، إلى تركيبة إداريّة، لا تخلو من ذهنيّة المساومات، وعلاقات القوّة التي تسود هذا الدهر. لنتحلّى، إذًا، بالشجاعة والوعي الروحيّ، ولنتجاوز التفاؤل الدائم السائد في الأوساط الكنسيّة، لنعترف بأنّ كنيستنا اليوم بعيدة، في بعض الممارسات، عن رؤيتها اللاهوتيّة.

لا يكون الإخلاص للأرثوذكسيّة باعتماد سياسة النعامة والادّعاء أنّ كلّ شيء يسير على ما يرام. لا نخجلنّ من مواجهة الحقيقة لأنّها، هي وحدها، التي تحرّرنا. قال غبطة البطريرك الأنطاكيّ أغناطيوس الرابع، في مقابلة أجريت معه العام 1984: "هوّة مأساويّة تفصل بين رؤيتنا اللاهوتيّة وممارساتنا الرعويّة، نحن نأسر الروح في كنيسة الروح القدس". لا تحتاج الكنيسة إلى مشرّعين، بل إلى أنبياء ورعاة مستعدّين لبذل حياتهم في سبيل رعيّتهم. جامعيّة الكنيسة هي تعبير عن أناس يسعون سويّة إلى الحقيقة المعاشة في محبّتهم المتبادلة والملهمة من جرّاء استدعائهم المتواصل لحلول الروح القدس الذي يجعلهم يعون حقيقة وحدتهم الكيانيّة في الكنيسة.

هيئات الشورى

كلّ قضايا الكنيسة يجب أن تُنجز بالشورى. ولكي تتحقّق هذه الشورى، لا بدّ من إيجاد بنية لها. نحن نعرف أنّ الشركة على صورة الثالوث القدّوس تتمّ بامتياز في القدّاس الإلهيّ، حيث يكوّن المؤمنون، المجتمعون حول أسقفهم، في أوان السرّ، الكنيسة بالذات. ولكن نعلم أيضًا أنّ الشركة المعاشة خلال القدّاس، يجب أن تستمرّ خارج جدران الهيكل، في المشاركة الأخويّة، حيثما كان ذلك ممكنًا، وبخاصّة في هيئات الشورى التي تنصّ عليها القوانين الأنطاكيّة، على مختلف الأصعدة في حياة الكنيسة. على هذه الهيئات أن تؤمن حسب نصّ القوانين وروحها، مشاركة فعليّة من قبل كهنة ورهبان وعلمانيّين، ممثّلي القوى الحيّة في الأبرشيّة، مع كلّ "أوّل بين متساوين"، على مستوى الرعيّة أو الأبرشيّة أو البطريركيّة. كونها مكوّنة من أعضاء مسحوا بالروح، وتاليًا مكرّسين، يجب ألّا يهتمّوا فقط بمتابعة القضايا المادّيّة في الرعيّة، ولكن عليها الاضطلاع بكلّ ما ينوط بالحياة في الكنيسة. وكما يقول القدّيس يوحنّا الذهبيّ الفم: "عليهم أن يهتمّوا بكلّ الكنيسة كجسم مشترك". يساهم شعب الله، بحرّيّة أبناء الله، عبر هذه المؤسّسات، في تثمير مواهبهم لمنفعة كلّ الكنيسة. فيتعلّمون كيف يفكّرون سويّة ويخطّطون ويرسمون معًا معالم العمل في الكنيسة، إزاء تحدّيات العالم والحداثة، وتاليًا المشاركة معًا في كلّ أبرشيّة، مع الأسقف وبرئاسته في إدارة الكنيسة. يحظى، داخل هذه المؤسّسات، أعضاء الكنيسة الذين لا يشاركون في المجمع المقدّس بفرصة نقل آرائهم إلى أسقفهم، حول المشاكل المطروحة على طاولة المجمع المقدّس، لينقلها بدوره إلى الأساقفة الآخرين. عبر هذه المؤسّسات يتمكّن أعضاء شعب الله أيضًا عند شغور السدّة الأسقفيّة من إبداء الرأي في اختيار أسقفهم الجديد حسب الممارسة الراسخة في الكنيسة منذ القدم.

مخاطر الخمول

وتجدر الإشارة إلى أنّ هذه الهيئات لا وجود لها في معظم الأبرشيّات، وفي بعضها يجري تعيين أعضائها من قبل الأسقف وحده ضاربًا عرض الحائط بتمثيل مختلف تيّارات الشعب، وفي غياب هذه الهيئات، يأخذ الأسقف على عاتقه مسؤوليّة كلّ قضايا الكنيسة، مستشيرًا من أراد، وإذا أراد، ما يناقض مبدأ الشورى والشركة بين أعضاء الكنيسة. هذا الغياب يعرّض الأسقف لتجربة ممارسة السلطة بمفرده مع كلّ مخاطر هذه الممارسة، كما يضعف هذا الغياب عند المؤمنين الشعور بأنّهم أعضاء مسؤولون في الكنيسة، فيتعوّدون الانزواء والخمول وعدم الاكتراث. كثر يصلون إلى حدّ اليأس من عدم التطابق بين القول اللاهوتيّ والواقع الكنسيّ.

علينا أن ندرك أنّ صلاة الربّ: "ليكونوا واحدًا ليؤمن العالم بأنّك أرسلتني..." (يوحنّا 17: 21) تخصّ كلّ أعضاء كنيستنا الأنطاكيّة المقدّسة

المجمعيّة والشورى ضرورة

لا يمكن للكنيسة أن تقاوم الشرّير، وتبقى أمينة لرسالتها إلّا بإيجاد جوّ من التناغم بين أبنائها، وفق معايير النمط الإنجيليّ. علينا أن ندرك أنّ صلاة الربّ: "ليكونوا واحدًا ليؤمن العالم بأنّك أرسلتني..." (يوحنّا 17: 21) تخصّ كلّ أعضاء كنيستنا الأنطاكيّة المقدّسة، التي تشكّل وحدتها المعاشة بمحبّة الآخر وقبوله بروح الشورى، شرطًا واجبًا لفاعليّة شهادتنا ولعودة العالم إلى الإيمان. "على الروح المجمعيّة أن تكوّن "حالة دائمة" في الكنيسة لأنّها انعكاس لحياة الثالوث فيها، واختبار القداسة في كنيسة الخطأة"، كما كتب غبطة بطريرك رومانيا الحاليّ دانيال. ولكي تعاش هذه الخبرة، لا بدّ من أن تطبّق المشاركة، ليس فقط من خلال الاشتراك في القدّاس الإلهيّ، بل كممارسة عاديّة للشركة في المسؤوليّة الواحدة بين أعضاء شعب الله. على هذه الممارسة أن تتمّ على كلّ مستويات حياة الكنيسة وإدارتها، وأن تظهر في طبيعة العلاقات ونمطها بين أعضاء شعب الله، وفي حلّ قضاياهم كلّها في جوّ من المشاركة. لا حيلة لمن يريد من أعضاء الكنيسة أن يكون أمينًا لدعوة السيّد، إلّا أن يقبل إخوته وأن يعيش معهم في احترام كامل لمواهبهم، وبخاصّة مواهب الأوّل بينهم، أي أسقفهم.

تشجيع المواهب وتجنيدها لخدمة الكنيسة

واجب الأسقف أن يشجّع هذا النمط العلائقيّ وأن يسهر على احترام الكلّ أنظمة الكنيسة. تكمن إحدى مواهبه الخاصّة في ملاحظة المواهب التي يبثّها الروح بين المؤمنين وأن يشجّعها. واجبه أن يساعد كلّ أشكال الخدمة في الرعيّة وينشّطها، من أجل الشهادة والتبشير. الكنيسة بحاجة إلى عمل كلّ أبنائها من دون أيّ استثناء، رجالاً ونساءً وشبابًا وكهولاً، إكليريكيّين وعلمانيّين، من دون إغفال الرهبان والراهبات الذين بفضل صلاتهم ونسكهم يشاركون بفاعليّة في شهادة الكنيسة. عليه إيجاد الفرص لكلّ هؤلاء لكي يتمحوروا حوله، فيفتخروا بمواهبه وهو بمواهبهم. فيفرح كلّ واحد بنشاط الآخر ويساهم بما أعطي من مواهب لكي تكون كلّ خدمة من أجل الخير العامّ وفي تشييد جسد المسيح، الذين هم كلّهم ورغم عدم استحقاقهم أعضاء فيه.

هل تغني الإفخارستيّا عن العمل النهضويّ؟

إزاء هذه التساؤلات، يقال، أحيانًا، إنّ كلّ شيء يلقى حلاًّ ونتخطّاه عبر مشاركتنا الواحدة في القدّاس. هذا صحيح طبعًا، لأنّ القدّاس يظهر الشركة الثالوثيّة ويفعّلها في الوحدة العضويّة لأعضاء شعب الله، الواضعين مواهبهم وخدمتهم الضروريّة في تنوّعهم وفي اختلافهم، لبناء الكلّ في جسد المسيح الكنسيّ الواحد (1 كورنثوس 12: 4 – 31). الجميع مدعوّون إلى الالتزام والمسؤوليّة، كلّ بطريقة مختلفة ولكن فعليّة، في إتمام كلّ ما يلزم لإبراز خدمة المسيح والروح القدس في الكنيسة. ينتظر من الخبرة الإفخارستيّة أن تجعل من الأوساط الكنسيّة مطارح محبّة فاعلة، فرحة، متمحورة حول الشورى والمشاركة. هذا لا يتحقّق إلّا جزئيًّا بسبب خطايانا. فعلينا أن نسعى دومًا وإلى أبعد مدىً ممكن، أن يقول من ينظر إلينا من خارج الكنيسة: "أنظروا كم يتحابّون، كيف يطيعون بعضهم بعضًا، كيف يحترمون بعضهم بعضًا، ويتشاورون بتناغم مواهبهم، كيف يتشاركون في كلّ شيء، على صورة الله الذين هم مدعوّون أن يكونوا أيقونة له".

واحسرتاه! يجب أن نعترف، بتواضع وبدموع، بأنّ الكنيسة، التي أحيانًا كثيرة تستأثرها مشاكل التنظيمات الداخليّة أو الخلافات الشخصيّة والدفاع الجدليّ، لا تفعّل دائمًا، في ملئها، محبّة المسيح للبشر وتاليًا محبّة البشر بعضهم لبعض. يجب ألّا نقبل هذا الوضع على أنّه لعنة أو قدر. المسيح مات من أجلنا، ولا نستطيع أن نسمح بأن نترك جسده عرضة لضعفات البشر.

لا بدّ من نهضة لجماعاتنا الإفخارستيّة ومؤسّساتنا الكنسيّة

تجاه عالم تتملّكه الفردانيّة، حيث الشباب والكبار مصلوبون على صليب العزلة، ينبغي لنا أن نتعلّم كيف نجعل من جماعاتنا الإفخارستيّة ومؤسّساتنا الكنسيّة أماكن استقبال ومشاركة وخدمة وشركة، أماكن تُختبر فيها وحدة البشريّة، يقبل الآخر كما هو، وتتحوّل "السلطة إلى خدمة والتاريخ إلى ورشة الملكوت" القول لكوستي بندلي.

إصلاح العلاقات بين أعضاء شعب الله

العمل على إصلاح العلاقات داخل الكنيسة ليس ترفًا، بل ضرورة. ومن دون الوقوع في تفاؤل مفرط، لكوننا نعلم أنّ الكنيسة لن تكون نقيّة وبلا عيب إلّا عند المجيء الثاني، علينا ألّا نكلّ من العمل على إصلاح العلاقات بين أعضاء شعب الله كافّة، ليصيروا فعلاً واحدًا كما أراد السيّد. هذا شرط واجب ليؤمن العالم، إذ كيف يمكنه أن يتعرّف إلى يسوع كرسول للمحبّة وللسلام، إذا كان تلاميذه لا يشهدون، عبر علاقاتهم في ما بينهم ومع الآخرين، لهذا النمط من الحياة التي رسّخها الربّ بتعليمه وحياته وموته وقيامته. عمل النهضة في الكنيسة عمل دائم ويستمرّ، لأنّ الإنسان فيها ضعيف وخاضع لتجارب الشرّير. الطريقة المثلى للبدء بتحسين العلاقات واستعجال عمل النهضة في الكنيسة تكمن في أن يتجنّد الجميع وكلّ واحد من أبنائها، أساقفة، كهنة، رهبان وعلمانيّين، في ضبط نفسه ولجم أهوائه والانفتاح على الآخر ومحاولة جدّيّة وحثيثة لتطبيق وصايا آبائنا في الحياة الروحيّة، والذي أودّ ذكر بعضًا منها، وهي للقدّيس إسحق السريانيّ، كأفضل خاتمة لهذه التأمّلات، علّها ترشدنا إلى الصراط المستقيم:

- لا تؤنّب أحدًا على خطيئة فعلها، لكن اعتبر أنّك مسؤول عن كلّ شيء وأنّك أنت من اقترف الخطأ

- تجنّب التسلّط كما تهرب من أسد جامح، ولا تدخل في مناقشات لا مع أطفال الكنيسة ولا مع الغرباء

- لا تسعَ لتعرف من هو مستحقّ ومن هو غير مستحقّ، ولكن اعلم أنّ كلّ البشر في عينيك متساوون في الحقّ

- متى يعلم الإنسان أنّ قلبه بلغ الطهارة؟ عندما يعتبر أنّ كلّ الناس صالحون وأن ما من أحد دنسًا وغير طاهر، عندها يكون حقًّا نقيّ القلب"

أيضًا فلنتأمّل في هذه الصلاة للقدّيس إسحق نفسه: "يا ربّ، إن كنّا عاجزين على إذلال ذواتنا، فلا تكفّ أنت عن إذلالنا".

المشاركات الشائعة