رحلة سياحيّة تحوّلت إلى حج

ريمون رزق

النور - العدد السادس 2011

 

قرّرنا أن نمضي، برفقة أخوة حركيّين، ما يقارب أسبوعين في زيارة معالم رومانيا السياحيّة. كان هدف سفرتنا الأساس زيارة الكنائس التي رسمت جدرانها من الخارج والداخل، في شمال رومانيا، ما يتطلّب سفراً برّيّاً طويلاً يناهز ألفي كيلومتر، ذهاباً من العاصمة بوخارست وإياباً إليها. لن أسترسل في وصف ما شهدناه على طول الطريق، سوى لتأكيد جمال طبيعة جبال الكربات الفائق، الذي يجعلك تسير أميالاً من دون ملل، مستمعاً بمناظر خلاّبة تمجّد الخالق. سأكتفي بالكلام على الأديرة والكنائس، تاركاً جانباً القصور الحديثة العهد نسبيّاً أو الطاعنة في القدم، والمدن التي تعود إلى القرن الوسيط والتي ما زالت مأهولة، وهي الأعتق بين مثيلاتها في العالم. وقد زرنا بعضاً منها باهتمام، لكنّها لم تغيّر شيئاً في مجرى حياتنا.

كنائس كورتيا دي أرغيش وديرها

انطلقنا، من بوخارست، واتّجهنا إلى شمال غربها، فوصلنا، ما يقارب مئتي كيلومتر، إلى مدينة تُدعى "كورتيا دي أرغيش"، حيث زرنا أوّلاً  كنيسة من القرن الرابع عشر، على اسم القدّيس نيقولاوس. بناؤها من النمط البيزنطيّ، استُعمل في تشييدها خليط من الحجارة واللبن القرميديّ. عند دخولنا الكنيسة، سحرتنا جدرانها الداخليّة المرسومة كلّيّاً بطريقة رائعة. وبعد الانتهاء من الزيارة، وكيف للمرء أن ينتهي من الجمال؟، زرنا الكنيسة القديمة لدير المدينة، وهي من أوائل القرن السادس عشر، ذات الطابع المعماريّ البزنطيّ أيضاً، لكنّه مميّز بزخرفات من الطراز العربيّ، منقوشة على جدرانها الخارجيّة.

دير هوريز

 هو دير كبير للراهبات تسكنه مئة راهبة. شُيِّدَ في أواخر القرن السابع عشر، صنفته بين روائع الإرث الإنساني منظمة الثقافة العالمية، الأونيسكو. خوفاً من اقتحامه في العهد العثمانيّ، أحيط بسورين حصينين. المباني ناصعة البياض والنظافة والأناقة. يعتبره شارل دييهل، أحد كبار الأخصائيين بالفنّ البيزنطيّ، من أجل أديرة رومانيا. ضيافة الراهبة المسؤولة عن الزوّار متأنّية ومحبّة. فرحت عندما علمت أننا أرثوذكسيّون من الشرق. ومع تأخرنا بعض الشيء عن مواعيد الزيارات، ولم تكن سوى الكنيسة الرئيسة مفتوحة، فُتحت لنا أبواب كنيسة أخرى وغرفة الطعام القديمة، وكلّها مرسومة الجدران. يوجد شبه أكيد في النمط العمرانيّ بين الكنيسة الرئيسة وكنيسة دير كورتيا دي أرغيش، ولكن بدون الزخرفة العربية التأثير. لم تتسنّ لنا رؤية راهبات الدير، لأنّهنّ كنّ يصلّين الغروب في كنيسة الراهبات المتكاثرين في هذه الأيام. وقد أعلنت الكنيسة الرومانية قداسة قسطنطين الذي شيّد هذا الدير مع أبنائه الأربعة الذين استشهدوا في اسطمبول في أوائل القرن السابع عشر.

دير كوزيا

 ثم اتّجهنا إلى دير كوزيا الذي يعود تشييد أجزاء منه إلى القرن الرابع عشر، وما تبقّى إلى القرون اللاحقة، حيث تعرّض الدير لخراب كبير، أثناء الحرب العالميّة الأولى والاحتلال الأجنبي لرومانيا. رمّم، وعاد إلى سابق عهده في أوائل القرن العشرين. الدير هو للرجال. رأينا بعض الرهبان في الكنيسة، في أثناء صلاة الغروب، منهم من هو طاعن في السنّ، وبعضهم الآخر من الشباب. لم تتسنّ لنا معرفة عدد الرهبان، لكن استناداً الى عدد من رأينا في الكنيسة، ربّما لا يتجاوز العشرين. تتألّف كنيسة الدير من ثلاثة أقسام منفصلة بعضها عن بعض، النارتكس، والصحن، فالهيكل، كما هو الحال في معظم الكنائس الرومانية. كل جدرانها مزيّنة بالرسوم. لفت انتباهنا بصورة خاصّة الأيقونوسطاس على شاكلة شجرة يسّى منطلقة من المسيح ومتفرّعة نحو الرسل والأنبياء والأحداث الخلاصيّة. أمّا منظر الكنيسة الخارجيّ، فيلفت النظر فيه البرج الدائريّ العالي الذي يتوسّطه. أمّا النمط المعماريّ، فهو خليط متجانس بين الصربيّ والبيزنطيّ، أُدخل عليه بعض العناصر المحلّية. تمثّل في الكنيسة بالنسبة إلى البناء الكنسيّ الرومانيّ، الفترة الفاصلة بين النمط البيزنطيّ الصرف والنمط الخاصّ المحلّيّ الذي أثّر، في ما بعد، في بناء الكثير من كنائس رومانيا. والجدير بالذكر أن الشماس بولس الحلبيّ، الذي رافق عمّه البطريرك، في القرن السابع عشر، في زيارة الكراسي الأرثوذكسية في المنطقة، يذكر دير كوزيا، في مذكراته.

 يومان في مدينة سيبيو وجوارها: الولوج داخل القسم غير الأرثوذكسيّ من رومانيا

 تعيش في هذه المقاطعة من رومانيا (طرانسيلفانيا) أقلّيّات كبيرة من المتحدّرين من أصل ألمانيّ ونمساويّ، أتوا إليها عندما رزحت تحت الاحتلالات الأجنبية المختلفة، ابتداء من القرون الوسطى. كان هؤلاء كلّهم من الكاثوليك، ولكن تحوّل معظمهم، في فترة الإصلاح الإنجيليّ، إلى لوثريين. خوفاً من الغزوات التركية، يشبه نمط كنائسهم القلاع المحصّنة. كلّ الكنائس التي زرناها هي من النمط القوطيّ، وبعضها مصنّف بين روائع الإنسانية. يوجد فيها جدرانيات وروافد مذبح، من القرنين الرابع عشر والخامس عشر، على كثير من الجمال، وعندما تسلّم اللوثريّون الكنيسة، طلوا كلّ هذه الجدرانيات بالكلس لطمس صور العذراء والقديسين الذين لا تعترف بهم البروتستانتية، كما فعل غالباً في الماضي، تعصباً، كل مَن حلّ مكان أناس لا يشاركهم في الإيمان أو الرأي. أنتجرّأ ونؤكد أن هذه الأيام السوداء قد مرّت بدون رجعة؟ لا أظنّ، لأنّ التعصّب الأعمى ما يزال يعمي البشر! أمّا اللوثريون، فنزعوا، منذ بضع سنوات، الطبقة الكلسيّة التي وضعها أجدادهم، معيدين الرسوم إلى سابق بهائها. إذاً، يكشف التخلّي عن التعصّب جمالات حرمنا منها بعضنا للآخر وعدم ملاقاته في معتقده ، حتى إن لم نكن نشاكه فيه!

أديرة مولدوفيتا، سوسيفيتا، بوتنا، فورونيتس وهومور نبذة عن تاريخها

بعد هذا الفاصل "الغربيّ"، وصلنا إلى منطقة البوكوفينا، من مقاطعة مولدافيا، التي كانت سبب سفرتنا الأوّل لمشاهدة أديرتها والكنائس ذات الجدرانيّات الخارجيّة، التي صنّفت بعضها ضمن الإرث الإنساني منظمة الأونيسكو. زرنا على مدى يومين متتاليين خمسة أديرة، أربعة منها للراهبات (مولدوفيتا، سوسيفيتا، فورونيتس وهومور) وواحد للرهبان (دير بوتنا، الذي لا يحتوي علىة جدرانيّات خارجية). سأكتفي بالإشارة إلى الصور المرفقة التي تعبرّ، أكثر من الكلام، عن جمال العمارة والجدرانيّات.

شُيِّدَت هذه الأديرة بين القرن الخامس عشر والسادس عشر، وأدّت دوراً بارزاً في تشجيع الفن والثقافة، إلى مساهمتها الأكيدة في تعميق الحياة الروحية والوطنية للشعب الأرثوذكسيّ الرومانيّ. وكذلك ساهمت في توطيد إيمانه أيام الحملات المتكرّرة من بلدان أوروبا الغربيّة، التي سعت مراراً لجعله يغيّر مذهبه. وفي أواخر القرن الثامن عشر، أقفلت معظم أديرة مولدافيا الشماليّة، على يد المحتلّين النمساويّين، فشرّد رهبانها، وحوربوا، وبقيت الأديرة مهجورة، يستعمل كنائسها فقط أبناء الرعايا الصغيرة التي تكوّنت في قربها. ودام هذا الوضع المأساويّ مدّة قرنين، إلى أوائل القرن العشرين، حتى تأسيس الدولة الرومانية الحديثة. فهمّت، حتى خلال الفترة الشيوعية، إلى ترميم كنائس هذه الأديرة المعبّرة عن الفن الروماني القديم.

وفي أواخر القرن العشرين، قرّر مجمع الكنيسة الرومانية المقدس، إعادة الحياة الرهبانية إليها، محوّلاً الأربعة التي ذكرنا آنفاً من أديرة للرجال إلى أديرة للنساء، كما هو وضعها الآن. وعندها فقط تمّ الترميم حقّاً، إذ أعاد هذه الأديرة ليس فقط إلى بهائها العمرانيّ والفنّي، بل أيضاً إلى حياتها الروحية الأصيلة، المتمحورة حول صلاة يسوع والروحانية الهدوئية.

التأثير الهدوئي

طبعت الروحانية الهدوئية حياة الكنيسة الرومانية ابتداء من النهضة التي تزعّهما القدّيسان غريغوريوس بالاماس وغريغوريوس السينائيّ في جبل آثوس وبيزنطية، والتي نُقِلَت إلى رومانية بواسطة الرهبان والأدباء الذين تركوا القسطنطينية بعد سقوطها، والتجأوا إلى رومانيا. وقد أثّروا في العديد من الرهبان والنسّاك الرومان الذين ملأوا الأديرة والمناسك في جبال البلاد، وأوّلها كان في مولدوفيتا ونييامنتس.

أبو الرهبنة الرومانية: القديس نيكوديموس

أما الذي نظّم الحياة الجماعية في هذه الأديرة، فكان القديس نيكوديموس والذي نعرف سيرته لاسيّما في ما كتبه الشمّاس بولس الحلبيّ الذي رافق البطريرك مكاريوس الأنطاكي إلى هذه البلاد في السنة 1657. ترهّب في جبل آثوس، ربما في دير خيلانداري الصربيّ، وبعد سنين طويلة عاد إلى بلده حيث أسّس ديرين، أوّلاً في صربيا، ثمّ أديرة أخرى في رومانيا، ونظّم الحياة الجماعيّة فيها على النمط الآثوسي الهدوئي. ثمّ عاش في مغارة، ولم يكن يأتي إلى الدير سوى السبت والأحد للاشتراك في الصلوات. ومات في السنة 1406، أعلنت الكنيسة الرومانية قداسته في السنة 1955.

انتشار هذه الروحانية وتأثيرها في الكنيسة الرومانية

ترسّخت هذه النهضة بواسطة الرهبان الرومان الذين عاشوا في جبل آثوس، أو في الأديرة الرومانية، ومن أشهرهم الشيخ باسيليوس (1692-1767) الذي قبل في الرهبنة تلميذه القديس باييسيوس فيلتشكوفسكي في السنة 1750. أما هذا الأخير، فبعد حياة طويلة في جبل آثوس، عاد إلى رومانيا حيث أعاد تنظيم حياة الأديرة، وتنشيطها، كما نقل إلى السلافونية، مع تلاميذ له من دير نييامنتس، في أواخر القرن الثامن عشر، مجموعة الفيلوكاليا للنصوص العائدة إلى الروحانية الهدوئية، فانتشرت في سائر البلدان السلافية، وساهمت في نهضة روحية عارمة فيها. تتلمذ على يد القديس باييسيوس كبار الشيوخ الرومانيين، أمثال الشيخ يوسف الناسك (+1828)، والراهب إيرينارك الذي بنى الكنيسة الأرثوذكسية على جبل ثابور والذي مات في السنة 1959، ويوحنا المولدافي الذي يروى أنه أخبر أحد رهبان دير سيهستريا، في السنة 1925، أنه رأى ذات ليلة نوراً عيجباً في قلايته، مصحوباً بصوت يأمره بأن يأخذ القرابين المقدسة ويذهب الى مغارة تُدعى مغارة المنسك. وبعد إلحاح الصوت وقوله إن الناسك يوحنّا ينتظارك، قام وصعد الى المنسك. وعند دخوله المغارة، سمع صوتاً خافتاً يقول: "لا تخف، ادخل وناولني، لأني مزمع على فراق هذا العالم". وعند سؤاله منذ متى يعيش في هذا المكان، أجابه: "منذ خمسين سنة". فناوله وترك. وعند عودته إلى المغارة بعد ثلاثة أيام، وجد السرير والكتب، ولكن جثمان الراهب يوحنا كان قد اختفى، ولم يجده أحد بعدها. وانتقل بعض تلاميذ القديس باييسيوس، أمثال الشيخ جاورجيوس (+1806) إلى دير تشيرنيكا، بالقرب من مدينة بوخارست، والذي ترهّب فيه الأب أندريه (سكريما)، وبعد تراجع الحياة الرهبانية بين الحربين العالميّتين الأولى والثانية، وانحصار الروحانية الهدوئية في بعض المناسك الجبلية، عند بعض العلمانيين و"السيّاح"، أمثال جاورجيوس (+1916) الذي عاش حياة تشبه حياة السائح الروسي، شهدت الكنيسة الرومانية انطلاقة جديدة بعد الحرب الثانية، على يد كبار الروحانيين، نذكر منهم اثنين: الشيخ يوانيس مورويّ والأب ديميتريوس (ستانيلوويه)، الذي وضع ترجمة حديثة للفيلوكاليا في عشرة أجزاء، مع تعليقات قيّمة. فأطلقت مجدّداً النهضة الهدوئية التي طالت شعراء وأدباء ورجال العلم، إضافة إلى الشعب العاديّ. أما الشيخ يوانيس، فبعد أن عاش في جبل آثوس، وفي دير نييامنتس، انتخب رئيساً لدير سيهاستريا شبه المهدوم والمهجور. فأحياه، وجعل منه ديراً جماعياً زاهراً، مربياً عدداً كبيراً من تلاميذ أكملوا سعيه بعد مماته. رافق كل هذا السعي، النظام الجديد للرهبنة الذي أقرّه البطريرك يوستينيانوس في 1950، حيث فرض العلم والمعرفة على كل الرهبان وتمرّسهم في الحياة الهدوئية، من جهة، والتزامهم العمل الاجتماعي، أو الفكريّ، إضافة إلى العمل اليدوي.ولا بدّ لي من أن أتذكّر أنّني وجدت هذه المجموعة معروضة للبيع في مكاتب عامة، ما يدل على أنها مرغوبة، أي يرغب فيها الناس غير المتخصّصين أو أبناء الإيمان الذين يمكنهم إيجادها في مكتبات الكنيسة العديدة. حمل هذه النهضة عدد من الأديرة، وبخاصة إضافة إلى دير تشيرنيكا، دير أنتيم في بوخارست ذاتها، على يد آباء روحيين كبار، أمثال الآباء دانيال، وبينيديكت، وصوفيان (الذي كتب جدرانيات كنيسة دير القديس جاورجيوس الحرف)، وغيرهم. روى لنا الأب أندريه (سكريما)، الذي كان راهباً في دير تشيرنيكا، أنه اشترك، في الخمسينيات من القرن الماضي، وفي خضمّ الحكم الشيوعي، الى اجتماعات في دير أنتيم، بين كبار الرهبان وعلماء الطاقة النوويّة وشعراء وأدباء، في ندوات تحت اسم العلّيقة الملتهبة، يتعمّقون سويّة سويّة في هذا النمط الروحي. ووضع بعض المشاركين في هذه الندوات نصوصاً ليتورجية جديدة وقصائد وأعمالاً موسيقية، كلّها تمحورت حول صلاة يسوع والروحانية الهدوئية. وكانت هذه الاجتماعات أحد الأسباب التي جعلت الحكم يطلق حملة اضطهاد واسعة على الكنيسة وبخاصّة الرهبنات. وأرسل كبار الروحيين الى السجون حيث مكثوا سنين طويلة. ولم تعرف الكنيسة الرومانية الراحة والحرية إلاّ بعد سقوط الحكم الشيوعي.

الروحانية الرومانية

أعطى مزيج هذه الروحانية، التي وصلت إلى أعماق الشعب الروماني، بعبقرية الشعب الخاصة، نفساً روحياً خاصّاً، يجمع محبّة عميقة للحياة الليتورجية وأعياد الكنيسة التي طبعت كلّ الحياة العاديّة، مع خدمة البشر. يجعل هذا المزيج المتوازن بين التأمّل والعمل التطبيقي، الذي قلّما نجده في العالم الأرثوذكسيّ، من الكنيسة الرومانيّة، اللاتينيّة العرق، حالة خاصّة ومميّزة في العالم الأرثوذكسيّ.

المبنى الداخليّ للكنيسة الرئيسة والجدرانيات الداخلية والخارجية

يُقسّم بعامّة داخل الكنيسة الرئيسة إلى خمسة أجزاء، تفصلها جدران صلبة. تتبع معظم الكنائس هذا النمط الداخليّ، المقسّم إلى exonarthex وهو القسم الغربي من الكنيسة المزيّن عادة بالجدرانيات عن يوم الدينونة، فالnarthex الذي تشير جدرانيّاته إلى القدّيس صاحب الكنيسة، فالpronaos الذي يحتوي غالباً قبور بعض القدّيسين أو الأمراء الذين أنفقوا على بناء الكنيسة، فالnaos أي صحن الكنيسة، فالهيكل.

أما الجدرانيات الخارجية، فظهرت في القرن السادس عشر، كما ظهر في هذا العصر كنّة خارجيّة أمام باب الكنيسة وسقف بشكل خيمة يمتدّ إلى خارج الجدران ربّما لوقاية الجدرانيّات الخارجية. ما يزال معظم هذه الجدرانيات يتلألأ بالألوان الزاهية، يختلف لونها الأساس من دير إلى آخر (الأزرق في دير فورونيتس، الأخضر في دير هومور، الأحمر في مولدوفيتا، والأصفر في سوسيفيتا)، بينما تبقى مواضيعها غالباً متشابهة. لا تُعرف حتّى الآن الطريقة التي رُسمت بها هذه الجدرانيّات، والتي مكّنت معظمها من البقاء إلى أيامنا، رغم رداءة الطقس. أما المواضيع المرسومة، فتشمل كلّها، إلى بعض الاختلافات البسيطة بين الأمكنة، يوم الدينونة، والمديح، وشجرة يسّى، وأحداث حياة صاحب الكنيسة، وسيرة والدة الإله، وسلّم الفضائل ورحلة النفوس بعد الموت، وغيرها من الأحداث الإنجيلية والأعياد السيدية. واللافت أنك تجد في بعضها رسوماً لسقوط القسطنطينية الذي حدث بضع سنين قبل رسم هذه الجدرانيات الخارجية، والذي أحدث، ولا شك، صدمة كبيرة لدى الشعب الروماني. وتبرز في هذه الجدرانيات، إلى جانب المواضيع الدينية، مظاهر من حياة الشعب آنذاك، تُعطيها رونقاً خاصّاً سنكتفي بهذا القدر، متوسّعين شرحاً مفصّلاً عن جدرانيّات دير فورونيتس، الذي تفوّق الكلّ جمالاً.

 دير فورونيتس

أسّسه الراهب الناسك القديس دانيال، المولود في أوائل القرن الخامس عشر، في السنة 1488، بعد أن عاش عشرين سنة في عزلة تامّة. مات في السنة 1496، وحفظ رفاته داخل الكنيسة الرئيسة. وأدى الدير حتّى القرن الثامن عشر دوراً  كبيراً، في الدفاع عن الكنيسة الأرثوذكسية والشعور الوطني للشعب الروماني. كانت لديه مدرسة شهيرة للمخطوطات ورسم المنمنمات عليها، كما اشتهر بالترجمات من اليونانية والسلافونية الى اللغة الرومانية. أما جدرانياته الخارجية المميزة بلون أزرق خاص به، يُدعى "أزرق فورونيتس"، فتحتوي على المواضيع التالية، تجد على الواجهة الغربية رسم يوم الدينونة. فترى على يسار الثالوث القدّوس الممثل بقديم الأيام والرب الديّان العادل والروح القدس بهيئة حمامة، المنتصبين على العرش في وسط اللوحة، نهراً من نار ملتهبة فاقعة الاحمرار، يمثّل جهنّم، ويسعى الشياطين لأغراق النفوس، من أساقفة ورهبان وملوك وعاميّين، فيه. أمّا على اليمين، فترى بطرس وبولس واقفين مقابل باب الفردوس الذي تُقبل إليه النّفوس المختارة. أما على واجهة الكنيسة الشرقية، فترى رسم الهييراخية السماوية والأرضية، المؤَلَّفة من قدّيسي العهدين القديم والجديد، الممثّلين صلاة الكنيسة، والمتجين شرقاً من حيث يأتي الخلاص. أما في الواجهة الجنوبية، فترى شجرة يسّى التي تحتوي إلى سلالة الربّ، حكماء وفلاسفة وشعراء الإغريق، أمثال أريسطو، وأفلاطون، وصقراط، وفيثاغوراس، وغيرهم، الذين ساهموا، ولو بطريقة مبهمة غير كاملة، في الإعلان عن الكلمة والحقيقة. وتحتوي كذلك على سيرة القدّيس نيقولاوس والقديس يوحنا الجديد، الذي سقط شهيداً على أيدي التتر، والذي ذاع صيته آنذاك للدلالة على ضرورة الصمود أمام الفتح التركيّ. أمّا الواجهة الشماليّة، فتحتوي على خلق العالم والإنسان، وسقوطه، وحربه مع القوّات الشيطانية، كما تحتوي على صور المديح لوالدة الإله.

أمّا جدرانيّات الكنيسة داخليّاً، فتحتوي، في الexonarthex الرزنامة الكنسية مع 365 قدّيساً وعيداً، يضاف إليها القديس دانيال الناسك، مؤسّس الدير. أمّا في الpronaos، فنجد سيرة القديس جاورجيوس، صاحب الكنيسة، ويوجد في القبّة رسم والدة الإله المتضرّعة يحوط بها القديسون قوزما، ودميانوس، ثيوفانّس، ويوحنا الدمشقيّ. أمّا في الnaos الذي تدخل إليه من باب قليل الارتفاع يجبرك على الانحناء، فتجد المسيح الضابط الكل في أعلى القبة، وعلى الجدران من فوق إلى أسفل، الملائكة، والأنبياء والرسل، ثمّ إلى الشمال والجنوب، أحداث من حياة السيد. وفي الأسفل القديسون المحاربون، الذين يمثلون الكنيسة المجاهدة، على الأرض، والذين يجد فيهم الشعب الخائف من احتلالات الأعداء معيناً ومحارباً عنه. أمّا الأيقونسطاس، فهو من الخشب المحفور وأيقوناته قديمة.

 

المتاحف في هذه الأديرة

 تحتوي كل هذه الأديرة على متاحف تحفظ فيها الأشياء الثمين، من مخطوطات، وأوان كنسية قديمة، وأيقونات، ووثائق تاريخية، ونسخ عن أوّل كتب طُبعت في رومانيا، ومعلومات عن أبرز الرهبان الذين عاشوا في الدير.

الشعور العامّ

تعطيك هذه الأديرة شعوراً بالراحة النفسية الناتجة من جهة، من تصرّف رهبانها الوديع والمرحّب، وتقواهم الظاهرة، وأكاد أقول الملموسة في الكنيسة، إذ لا وقوف ولا جلوس لهم، بل ركوع دائم وسجدات متتالية. ومن جهة أخرى، من جمال المباني والجدرانيات الداعي إلى تسبيح الخالق الذي سمح به. عندما تزور كنائسها وبخاصّة كنيسة دير فورونيتس، وتقف متعجّباً في داخلها أو خارجها، يكتنفك شعور وكأنّك تحلم، لأنّك لم تتخيّل على الإطلاق جمالاً كهذا على الأرض. إنّها من أروع الكنائس في العالم المسيحيّ بعامّة. وقد دعاها بعضهم الchapelle sixtine  للشرق أو الSainte، ولكن برأيي، هي أجمل منهما.

عدد الرهبان أو الراهبات وعملهم

عدد الرهبان أو الراهبات يتفاوت من دير إلى آخر، بين العشرين والمئة. في الأديرة المرسومة خارجياً والتي تسكنها الراهبات، تراهنّ يشرحن للزوّار الكثر معاني المواضيع المرسومة، بلغات مختلفة، جاعلين من هذا العمل تبشيراً حقيقيّاً. وكذلك الأمر بالنسبة إلى الراهبات اللواتي يهتمّنّ بمبيع الكتب والأيقونات. لا تترك الابتسامة وجههنّ. أمّا الراهبات اللواتي لا تعتنين بالزوّار، فيعملن داخل الدير ي تنظيفه الذي يلفت النظر بنقاوته وترتيبه، وفي رسم الأيقونات، أو الخياطة، أو التأليف، أو الاهتمام بالمزارع، والدواجن، ومنتوجات الدير، كما هي الحال في سائر الأديرة.

رهبان دير بوتنا

يشتهر دير بوتنا للرجال بصرامة حياة رهبانه النسكيّة. يقبل إليه الكثيرون للاعتراف لدى بعض آبائه الروحيّين. ورويت لنا سيرة أحد رهبانه الذي عاش في أوائل القرن العشرين، الأب جراسيموس. دخل الدير منذ صباه، وعاش حياة نسكيّة قاسية، إلى أن أصبح، بعد فترة غير طويلة، راهباً متمرّساً، ومعرّفاً لا مثيل له. كان يصوم حتّى المساء، في كلّ أيّام الأسبوع، ما عدا أيّام الأعياد. يقرأ المزامير باستمرار ويمارس صلاة يسوع. كان يبكي عند القيام بخدمة القدّاس الإلهي. أمّا كمعرّف، فكان رؤوفاً، يذهب بعيداً في مساعدة المؤمنين على سلوك طريق الخلاص. بكى من أجل كثيرين، كما أنّه شفى أعداداً من المرضى. وحظي من المسيح على موهبة شفاء الأوجاع البشرية، فصار طبيباً للنفوس والأجساد. لم يكن يحتفظ بشيء له، بل كان يوزّع كلّ شيء على المحتاجين، ببشاشة وفرح، مقرناً عطاءه بالبركة. يحتفظ الدير برفاته المقدّس، الذي يأتي الكثيرون للتبرّك به.

 

دير نييامنتس

بعد هذه الجولة في بعض أديرة بوكوفينا، توجّهنا جنوباً لزيارة أديرة منطقة نييامنتس، مبتدئين بدير نييامنتس القديم. هو دير للرجال أدّى دوراً بارزاً في تاريخ رومانيا والبلاد السلافيّة الأرثوذكسية الروحيّ. شُيّد في القرن الرابع عشر، ويشتهر بمكتبته التي تحتوي على ما يقارب عشرين ألف مجلّد، منها مخطوطات قيّمة. كنيسة "الجامعة" التي في وسط الدير على اسم الصعود من القرن الخامس عشر، كما توجد ثلاث كنائس أخرى للقديس جاورجيوس، والبشارة، ورقاد السيدة. تمثّل الكنيسة الوسطية الكبرى قمّة من الفنّ الكنسيّ الرومانيّ، إذ تحتوي على كلّ عناصر هذا الفنّ في تلاحم تامّ. لا توجد جدرانيّات خارجيّة، بل بعض الجدرانيّات الداخليّة تعود إلى القرن الأول لتأسيس الكنيسة. ومع أنّ الدير يحتوي على أربع كنائس، رأينا في وسطه، إلى جانب الكنيسة الرئيسة منصّة كبيرة، وعند سؤالنا قيل لنا إنّها نُصبَت لإقامة القداس الإلهيّ في الخارج، لكثرة عدد الوفود الذين أمّوا الدير منذ بضعة أيام من كل أنحاء رومانيا احتفالاً بعيد الدير. وتجدر الإشارة إلى أنّ الرومان ما زالوا يزورون الأديرة بكثرة، ويحجّون إلى مقابرها للتبرّك برفات كبار الروحانيّين الذين عاشوا فيها أو القدّيسين المحفوظ رفاتهم في كنائسها.

القدّيس باييسّي فيليشكوفسكي

رأينا داخل الكنيسة ضريح القدّيس باييسّي فيليشكوفسكي الروسيّ (1722-1794) الذي عاش في هذا الدير، آتياً من جبل آثوس، ناقلاً إليه التقليد الهدوئيّ، وتلاوة صلاة يسوع، والعمل والنسك. وقام، مع بعض معاونيه، بترجمة مجموعة الفيلوكاليا من اليونانيّة إلى اللغة السلافونيّة. وانتشرت من دير نييامنتس إلى روسيّا وسائر البلدان السلافية، حيث انتشرت انتشاراً عظيماً، مؤدّية دوراً كبيراً في تنمية الحياة الروحيّة ليس فقط لدى الرهبان بل عند العديد من الأوساط. وتذكر روايات سائح روسيّ، المنشورة في تعاونية النور، كيف أنّ السائح المتواضع الأصل كان يحمل الفيلوكاليا المترجمة في دير نييامنتس، ويقرأها في تجواله.

الراهب المجهول

أمّا الضريح الثاني الذي استرعى انتباهنا وملأنا خشوعاً، فكان "لراهب مجهول" تهفّ منه رائحة طيب ذكيّ. وعند سؤالنا عن هوّيته، قيل لنا إنّ رفاته وُجد مؤخراً في باحة الدير خلال القيام بأعمال الترميم، وكان لم يعرف الزوال، بل ينطلق منه أريج، فاعتبر قدّيساً وأُدْخل جثمانه إلى الكنيسة لمزيد من البركة.

سيرة بعض الآباء الروحيّين الكبار الذين عاشوا في هذا الدير في القرن الماضي

كان الأب يوسف ( كراسيوم) من كبار آباء هذا الدير الروحيّين. تزوّج وكان شابّاً. وبعد فترة قرّر الالتحاق بالدير في السنة 1913، وأصبح راهباً بعد سنوات التهيئة. ثمّ اعتزل في الغابات المحيطة بالدير، وعاش مدّة ثماني سنوات هناك في دير صغير، في الصلاة والصوم والصمت والسجود والسهر الدائم وفي محاربة الأفكار والجوع والنعس والشياطين، فوهبه الربّ موهبة الصلاة الدائمة والتمييز الروحيّ وقدرة على طرد الأرواح الشريرة. فأتى إليه المرضى من كلّ أنحاء مولدافيا طالبين الشفاء. فطلب منه رئيس دير نييامنتس الرجوع إلى الدير والعيش بين الجماعة. ثمّ رسمه كاهناً ومعرّفاً، طالباً منه الاهتمام بالمرضى والصلاة من أجلهم. فأصبح المقام الذي هيّأ فيه مصحّاً حقيقيّاً، يؤمّه كلّ أنواع المرضى، وبخاصّة المجانين. وكان الأب يوسف يتجوّل دوماً بينهم، معرّفاً، مبدياً النصائح، شافياً، مناولاً، أو تالياً صلوات القديس باسيليوس الكبير لدحض الشياطين. وبعد إطعامهم وخلودهم إلى النوم، كان يعود إلى قلاّيته ويصلّي صلاة يسوع، ويتلو المزامير، ولا ينام قبل الساعة الثالثة فجراً. لم يكن تناول طعاماً سوى مرّة واحدة، عند المساء، أمّا في أيام الصوم، فكان يصوم طيلة ثلاثة أيّام، ليل نها، في الأسبوع الواحد، ملازماً خدمة نصف الليل يوميّاً والقدّاس الإلهيّ. كان وجهه حزيناً دوماً، وعيناه مغرورقتين بالدموع. كان صارماً مع المعترفين لديه الذين لا يقلعون عن أخطائهم، ومسامحاً، حنوناً، مع محبّي الله. كان عدد أبنائه الروحيّين كبيراً جداً. وشفى مرضى كثيرين، كما أخرج الأرواح الشريرة. وتوفّاه الله في السنة 1944 عن عمر يناهز الثمانين. لم يكن لاهوتيّاً قديراً، ولكنّ نصائحه كلّيّة الحكمة وصلاته مستجابة. يُقال إنّ أحد المسيحيّين الشيديد الاضطراب طلب إليه مرّة أن يُقيم قدّاساً إلهيّاً لكي يقاصص الربّ أحد جيرانه الذي صنع له أذيّة، فقال الأب يوسف إنّه لا يجوز طلب إدانة إنسان آخر، بل يجوز فقط الابتهال من أجل توبته وخلاصه. وعندما أجابه أنّه لا يستطيع المغفرة له، دعاه الأب يوسف لقضاء الليلة معه في الصلاة من أجل عدوّه. وعند الصباح، سأله كيف أمضى ليلته. فأجابه: كانت ليلة مقلقة، لأنّ الأرواح جرّبتني  وأخافتني. كنت أرى وجهي وصدري ويديّ ملطّخة بالدماء. فقال الأب يوسف: هذا هو دم الانتقام الذي يملأ قلبك ضدّ أخيك. فقال: لقد سامحت جاري. فقال له يوسف: حسناً فعلت، يا بنيّ، دعنا الآن نصلّي من أجله. وعندما عاد المرء إلى بيته، رأى جاره يسرع إليه طالباً المغفرة. وهكذا تصالحا.

الراهب أيوب

ما يزال ذكره إلى الآن مَن عرفه من الشيوخ، رهبان وعلمانيّون وحجّاج، قائلين إنّهم لم يعرفوا قطّ إنساناً أكثر تقوى منه. ترهّب في السنة 1907، وكان في الثلاثين، ويعمل صيدليّاً ماهراً يعرف بالأعشاب الطبّيّة والمراهم وسائر الأدوية. وبعد تمرّسه في الحياة الروحيّة مزج معلوماته الطبّيّة بحياته الجديدة، فأصبح متمكّناً من شفاء النفس والجسد. عمل طيلة حياته كصيدليّ الدير، وكانت قلاّيته بقرب المصحّ. كان يقوم بألف مطّانيّة في كلّ يوم، مصلّيّاً ليل نهار وقارئاً المزامير. وكان يتلو صلاة يسوع باستمرار، ويبكي طويلاً. كان ينام ساعتين أو ثلاث يساعات على أكبر تعديل، مستلقياً على خشبة بدون مخدّة ولا غطاء. كان يطبّب كلّ مَن يأتي إليه مجّاناً ما عدا الأغنياء، موزّعاً ما يعطونه على المساكين. كان قاسياً على نفسه وعلى الأغنياء البخلاء، ورحيماً مع الفقراء. مات في السنة 1941، قائلاً: يا إخوتي فليكن كلٌّ منّا مستعدّاً على الدوام. من كان غير مستعدّ للموت، يموت موتاً رديئاً، في نفس مضطربة. يبكي، يصرخ، ويخاف، ولا معين. أمّا الذي يستعدّ للموت الذي رافق ذكره كلّ حياته، فيفرح وتكون آخرته هنيئة ومليئة رجاء. قال له أحد الرهبان: على العلمانيّين فقط، وليس الرهبان، أن يتصدّقوا. فأجابه: حتماً يمكن للرهبان الحقيقيّين أن يمتنعوا عن الصدقة. ولكن مَن منّا راهب حقيقيّ؟ هذا لا يمتلك شيئاً، هو غريب عن المادّة كلّيّاً، ليس له سوى لباس واحد، قديم ومرقّع. إذا كان له، مع هذا، شيئاً قليلاً يمتلكه ولا يتصدّق به، فلن ينجو من العقاب. يمكننا الهرب بعيداً عن أعين النّاس، ولكن ليس عن نظر المسيح. أبدى تكريماً خاصّاً لوالدة الإله. فاشترى ذات مرّة أيقونة لها، دفع فيها ثمناً باهظاً. وإذ بأحد العلمانيّين يطلب إليه أن يبيعها له، فطلب منه ثمناً لهال ماية ليي فقط، وسلّمها له بكلّ طيبة خاطر. فسأله أحد تلاميذه لماذا لم يطلب الثمن الذي دفعه، فقال: لو طلبت السعر كاملاً، لكنت أخضعت نفسي لمحبّة المال، ولو أعيطيتها بدون مقابل، لكنت وقعت في معصية المجد الباطل. سعيي أن أتغلّب على معصيَتَيْ: محبّة الفضّة وعزّة النفس.

الارشمندريت يواكيم

التحق بالدير، وكان عمره يناهز الخمسين. تنسّك مدّة عشرين سنة حتى 1904. كان يصوم كل يوم ويقرأ المزامير. وعند الانتهاء من فرضه، كان يقوم بتنظيف المكان الذي يقوم فيه، ولا يأكل حتى المساء. كان دوماً واقفاً في أثناء الخدم مردّداً في ذهنه صلاة يسوع. وكان يقوم بمئات المطّانيّات في قلاّيته. كان يتكلّم قليلاً جدّاً، بل كان يصلّي باكياً. وقد وهبه الله نعمة الصلاة النقيّة الدائمة وموهبة طرد الأرواح الدنسة. شفى الكثيرين جسدياً ونفسياً. رُسم كاهناً وتابع إرشاداته لعديد من التلاميذ والأبناء الروحيّين. مات في السنة 1948 طاعناً بالسنّ. وكان يقول لكلّ مَن يأتي إليه طالباً الشفاء له أو لأحد أقربائه: لا تبك، بل حافظ على الإيمان، سنصوم لمدّة ثلاثة أيام من أجل المريض، فسيشفيه الله. وحصل أنّ الشفاء كان يحصل دوماً بعد صوم صارم لثلاثة أيام.

الراهب جراسيموس

التحق بالدير في السنة 1907، وكان يبلغ الثلاثين من العمر. مارس، بانتباه وتأنٍّ، ركائز الحياة الرهبانيّة الثلاث: الحياة في الكنيسة، والحياة في القلاّية، والطاعة. ولكنّ ميزته الأساسية كانت محبّته الإلهية. مواظباً على صلاة يسوع، لم يتخلّف قطّ عن الخدم، دائماً في طليعة مَن يصل إلى الكنيسة، وآخر راهب يتركها. كان شديد التواضع، يقوم بالأعمال المنوطة به بكل هدوء وجدية، ساعياً ألاّ يُغْضِب أحداً. وبخاصّة الله. كان يزور الذخائر الموجودة في كنائس مولدافيا مرّة في السنة، ثمّ يعود فينزوي في قلاّيته. مات خمسين سنة بعد ترهّبه في السنة 1957. عندما كان يكون ذاهباً إلى الكنيسة، ويسأله سائل: لماذا تُسرع هكذا يا أبتي؟، كان يجيب: أعذرني، أنا ذاهب إلى الكنيسة. وإذا سئل السؤال عينه عند عودته من الكنيسة، فأجاب: أعذروني، يا أخوتي، أنا أعود إلى قلاّيتي. وكان يقول للإخوة: ألا تعرفون أن والدة الإله القديسة هي رئيسة هذا الدير؟ كلّ راهب يمتنع عن الطاعة، مصلّياً ومحبّاً، يطردها من الدير. قال بلطف ذات مرة لقندلفت كان يتكلّم أمام الهيكل: أرجو ألاّ تتكلّم أمام الهيكل، لأنّ الربّ يرانا، ووالدته تسمعنا. إرحمني، أنا الخاطئ المسكين. كان يزور القبور في سبت النور وليلة القيامة، ناقلاً للأموات فرح القيامة. يروي بعض الشيوخ أنّهم سمعوه وهو يصرخ: المسيح قام، يا إخوتي! وسمعوا أيضاً صوتاً يتصاعد من بين جمع المائتين، قائلاً: حقّاً قام، أيّها الأب جراسيموس! كان ذات مرّو يتنزّه في الحقل، فبكى. سأله أحدهم: لماذا تبكي؟ فأجاب: ألم تسمع العصفور في هذه الشجرة الذي يغرّد بطريقة عذبة عجيبة؟ قبل شهر على وفاته، عاد لا يستطيع أن يستلقي على فراشه، وكان يجلس على حافّة السرير، كما لو أنّه يهمّ للذهاب إلى الكنيسة، معطفه على كتفيه والصليب في يده، وكان يصلّي هكذا. وعندما طلب إليه بعض الآباء أن يستلقي وينام، قال أعذروني، لكن لن أستطيع أن أنام لأنّي في انتظار الذي سوف يأتي ليأخذني". والجدير بالذكر أن كلّ هؤلاء الآباء وغيرهم هم الآن في مقبرة الدير التي تستقبل جموعاً من الحجّاج يأتون للتبرّك بهم.

دير سيهاستريا

لن أتوسّع في وصف الدير، سوى الإشارة إلى أناقة كنيسته القديمة وجمالها، واتّساع كنيسته الجديد. لا جدرانيّات خارجيّة، بل على كل ّ الجدران الداخليّة للكنيستين. الدير للرهبان وعددهم يناهز المئة. وتوجد في الغابات المحيطة بالدير مناسك عديدة يعيش فيها حتّى الآن نسّاك كبار. والجدير بالذكر أنّ الشيخ يوهانيس، الذي أطلق نهضة رهبانيّة عارمة في القرن الثامن عشر، كان راهباً في هذا الدير، وتنسّك في أحد مناسكه.

من بين آباء هذا الدير:

الناسك يوحنّا

عاش آخر عشر سنين من حياته في منسك بناه بيديه، على بعد كيلومترين من الدير، في السنة 1955. وكان قد تزوّج ورُزق أولاداً قبل ترهّبه، وعاش داخل الجماعة عشرات السنين. كان يصلّي باستمرار، مكثراً الأصوام والسجدات (ثلاث ماية مطّانيّة كبيرة وألف ومايتين سجدة). ينام نحو ثلاث ساعات فقط. احتوى فرضه اليوميّ على قراءة المزامير، وإقامة الخدم السبع، وعدداً من المدائح وصلوات أخرى. وبعد إتمام فرضه، كان يطالع الكتّاب والآباء، ويستقي مقاطع من أقوالهم وينقلها على وريقات يوزّعها على زوّاره. كان محبّاً كبيراً للطبيعة، يمضي ساعة أو ساعتين في النهار للتأمّل بها والاهتمام بحدقيته الصغيرة. وقبيل وفاته، سأله بعض رهبان الدير أن يقول لهم كلمة للخلاص. فأجاب باكياً: أغفروا لي، أيّها الآباء، لأنّي خاطئ مسكين. منذ دخولي الحياة الرهبانيّة، حافظت على نظامها، وعلى قانون التوبة الذي فرضته على نفسي ثمّ، قبّلهم قبلة السلام، وتناول، وفارق الحياة. وكان ذلك في السنة 1965.

الأرشمندريت يوانَيكيي مورويّ، رئيس الدير

أراد أن يلتحق بالرهبنة منذ صباه، ولكنّ أهله أجبروه على الزواج. لكنّه، ترك البلاد بعد بضع سنين من زواجه، والتحق بدير صغير في الجوار، وجاهد فيه مدّة سنة، ذهب بعدها إلى أورشليم، ثم جبل آثوس، حيث قرر أن يعود إلى رومانيا. كان راهباً عاديّاً مطيعاً في دير نييامنتس من 1900 إلى 1909. رسم بعدها كاهناً وعيّن رئيساً لدير سيهاستريا، حيث اشتهر كمعرّف ومدبّر قدير. مارس الزهد في حياته، وكان قاسياً على نفسه، وصارماً مع أبنائه الروحيّين. وهبه الله موهبة اقتراف العجائب، والغلبة على الشياطين. مات في السنة 1944، بعد أن جعل من دير سيهاستريا مثالاً اهتدت به أديرة كثيرة. ذات مرّة، انقطعت الماء عن ينبوع الدير. فقال للرهبان: قطع الله عنّا الماء من أجل خطايانا. فلنبتهل إليه بواسطة الصوم والصلاة ليترحّم علينا. لن نأكل شيئاً لثلاثة أيام. فليقرأ كلّ واحد منّا كتاب المزامير بكامله في كلّ يوم، وحتّى يعيد الله الماء إلينا. وبعد ثلاثة أيام، عادت المياه فعلاً. وعندما يطلب منه الإخوة أن يقول لهم كلمة، كان يقول: اتّقوا الله. حافظوا على نقاوة ذهنكم، ولا تنسوا أبداً صلاة يسوع. وكان يضيف أحياناً: مهما حصل لكم، ومهما فعلتم، ثابروا على القدّاس الإلهيّ وشريعة الكنيسة.

الراهب غالكثيون إلياس

دخل الدير باكراً في حياته. لم يكن له معرفة واسعة، بل إيمان عظيم. كان يبكي دوماً في الكنيسة، ويركع. اختصرت خدمته طيلة السنين الطويلة التي قضاها في الدير على حراسة الخراف، ما أكسبه تواضعاً وإلفة مع الله والطبيعة المحيطة. تصادق مع النعاج والعصافير والجبال وورود الحقول. كان يصلّي صلاة يسوع باستمرار، ولا يأكل قبل المساء بعد إتمام عمله. ثمّ كان يعود نحو الغابة، ويلجأ فيها إلى الصلاة حتّى الفجر. رزح في أواخر حياته، وأعيد إلى الدير، حيث مات بهدوء تامّ في السنة 1946، يوم عيد ميلاده. سأله أحد الإخوة ماذا يفعل ليبقى وجهه فرحاً بشوشاً ونفسه في سكون؟ أجابه: يا أخي، تفوق الأخوّة والمحبّة بكثير كلّ غنى. سألة آخر لماذا لا يقتني ثياباً لائقة، كسائر الآباء؟، فأجابه أنّه لا يليق بالراهب  عند تنقّله أن يقتني أكثر ممّا يلبسه. التقى مرّة ناسكاً محبّاً لله من كلّ قلبه، فسأله إلياس: متى تكون الآخرة؟ فأجابه الناسك: عندما تزول كلّ صلة وصل بين البشر.

الراهب باييسيوس نيتشيتنكو

قضى أربعين سنة في الدير عاملاً كطبّاخ. لم يتذمّر قطّ، ولم يطلب تبديل عمله. يحافظ على الصمت، يصلّي صلاة يسوع في داخله، ويبكي. جلب له تواضعه وطاعته للجميع موهبة الدموع والصلاة النقيّة. كان يبكي دوماً، لكنّ وجهه يبقى صافياً والابتسامة لم تفارق شفتيه. كان وديعاً وبريئاً كطفل للمسيح، يحبّ إخوته بطريقة عجيبة، وكذلك العصافير والزهور وكلّ الخليقة، يصلّي ويبكي من أجلهم جميعاً، كان بريئاً إلى حدّ أنه لم يكن يعرف أنّه يوجد في العالم أشرار وخطأة. كان يحبّ الجميع سواسيّة، ويعتبر نفسه أدناهم. لم يسع إلى تعليم أحد. كان يشهد بحياته، المثل الحيّ لمحبّة المسيح، ويردّد دوماً: أغفروا لي، يا أخوة، أنا الخاطئ الفقير. مات في السنة 1970.

الشيخ كلييوباس

كان في طليعة مَن خلف الشيخ يوانيس في دير سيهاستريا. عاش سنين طويلة في النسك التامّ. كان ناسكاً ضمن الجماعة، لكنّه كان يعطي من نفسه بدون حساب لإرشاد الرهبان والمؤمنين الوافدين إليه. كان يعتبر أن انفتاحه على العالم ضرورة لخدمة البشر. يُلخّص قانونه الشخصيّ بأن يخدم أكبر عدد من الآخرين، بدون تحديد للوقت. كان يتكلّم باستمرار، ويكتب، ويدافع عن الإيمان الأرثوذكسيّ، ويرشد، ويشجّع ويعطي الناس التعزية والرجاء. كان معرّفاً يقبل إليه الألوف، فيرسم لهم طريق الحياة ويدعوهم إلى سلوكه، لينالوا الخلاص. مات في السنة 1998. ما يزال الشعب الرومانيّ يأتي إلى دير سيهاستريا لزيارة ضريحه والتبرّك به. وكان، بلا شكّ، من كبار الآباء الروحيّين والشيوخ الأرثوذكسيّين في القرن العشرين.

 دير أغابيا

 كان آخر دير كبير زرناه قبل العودة إلى بوخارست. هو للراهبات، ويضمّ ما يزيد عن خمسماية راهبة، بعضهنّ (ثلاثة ماية تقريباً) يعشن حياة جماعيّة عادية، وبعضهن (نحو مايتين) يعشن في قرية رهبانيّة ملاصقة للدير، مؤَلَّفة من بيوت منفصلة يسع كلّ منها من 8 إلى 10 راهبات، يتبعنم نمطاً رهبانيّاً شبه مستقلّ. شُيِّدَ الدير في القرن السابع عشر، ورمّم في القرن التاسع عشر. كان أوّلاً للرجال، فخُصّص للنساء منذ نحو قرن. هو ربّما أكبر دير للنساء في العالم الأرثوذكسيّ. المباني كثيرة الأناقة والبياض. التأم فيه أوّل اجتماع عالميّ حول المرأة الأرثوذكسيّة في 1976. تسنّى لنا أن نشاهد عمل بعض الراهبات، اللواتي يعملن، إضافة إلى المزارع ومنتجات الدير، في نسيج السجّاد، ورسم الأيقونات، والترجمة، والكتابة، والتطريز...

ما زال الناس يذكرون الأمّ الراهبة الناسكة إيزيدورا التي تركت في السنة 1900 دير أغابيا للعيش في منطقة صخور عالية وعرة، حيث عاشت منعزلة تماماً إحدى وأربعين سنة، في قلاية صغيرة من خشب السنديان. كانت تصلّي صلاة يسوع بدون انقطاع، تطالع المزامير باستمرار وتصنع آلاف المطّانيّات كلّ يوم. كانت تأكل عند المساء القليل ممّا تجده في الغابة. ثم تعود فتصلّي حتّى منتصف الليل، وبدء صلاة السحر. كانت تدقّ ناقوساً عند حلول وقت الخدم الطقسيّة، ويُسمع صوته في الدير، فيستيقظ الرهبان للصلاة، ويرشد المارّة. كانوا يقولون: قوموا، استيقظوا، يا اخوة، إذ نسمع دعوة الأم إيزيدورا إلى الصلاة. تتلمذ عليها كثير من الرهبان والراهبات والعلمانيّيني، الذين كانوا يزورونها، طالبين الإرشاد الروحيّ. ماتت في السنة 1937.

 دير تشيرنيكا

 يبعد دير تشيرنيكا، خمسة عشر كيلومتراً عن بوخارست، وقصدناه لزيارة ضريح الأب أندريه (سكريما)، وغيره من الآباء الروحيّين الكبار.

شُيّد الدير في أوائل القرن السابع عشر، ثمّ أُهمل إلى أن أعاد ترميمه الشيخ جاورجيوس وحوّله ما يزيد عن مئة راهب. وكان الشيخ جاورجيوس من تلاميذ الشيخ باييسي في دير نييامنتس الذي تركه، بعد أخذ بركة باييسي في السنة 1781، بغية الذهاب إلى جبل آثوس. لكنّ متروبوليت بوخارست، غريغوريوس، الذي التقى به قبيل رحيله إلى الجبل، أقنعه بالبقاء في رومانيا والسعي لإعادة الحياة الرهبانيّة الأصيلة إلى بعض أديرة منطقة بوخارست. فأطاعه. مات في السنة 1806. في كنيسة الدير، سجدنا أمام رفاته الذي ما يزال مكرّماً ودُفن خلف باب الpronaos حيث سجدنا أمام نعشه الذي ما يزال الرومان يكرّمونه بتقوى تلفت النظر. واستمرّ دير تشيرنيكا، بعد وفاته، يؤدّي دوراً بارزاً في حياة الكنيسة الرومانية الروحية. وكتب عنه الأب العلاّمة ديمتري (ستانيلويه): "يجمع بطريقة عجيبة الصلاة والنسك الشديد من جهة، والطاعة المطلقة ضمن الجماعة، والاهتمام بالفقراء، ومن جهة أخرى القيام بمهام مؤسّسي الكنائس (أي الاتّصال بالعالم بهدف تبشيره)".

مثّل هذه الروحانية بامتياز القدّيس كالنيكوس الذي دخل الدير في العشرين من العمر، ثمّ أصبح كاهناً في السنة 1813، فرئيساً للدير في 1818، ونهو لم يبلغ الثلاثين. ازداد عدد الرهبان في أيّامه إلى ثلاث ماية وخمسين. فبنى لهم كنيسة جديدة والعدد اللازم من القلالي، والمشاغل حيث كانوا يصنعون الملابس وأشياء أخرى لخدمة الجماعة. رسم أسقفاً في السنة 1850 على أسقفيّة مهمولة لعدد من السنين، فأحياها، وأعاد فتح مدرسة الكهنة فيها، وبنى لها كاتدرائية، ومباني أخرى، ومطبعة، وديراً على النمط الآثوسي. وعدداً من كائس الراعايا. كان شفوقاً إلى حدّ التخلّي عن ملابسه الخاصّة، ويطلب مع بكاء المساعدة لإعانة "إخوة المسيح" كما كان يدعو الفقراء. وبعد سبع عشرة سنة من تسقيفه، عاد إلى ديره، حيث عاش كراهب عاديّ. ومات في السنة 1867، وأُعلنت قداسته في السنة 1955، ووُضع رفاته في كنيسة الدير حيث تبرّكنا به. وكان أعلن عن مماته قبل ثلاثة عشر يوماً من حصوله، قائلاً لأحد الرهبان: وداعاً، سنلتقي بفرح في العالم الآخر.

ومن المفرح القول إنّ دير تشيرنيكا ما يزال يقوم في رومانيا الحالية بالدور الذي قام به في القرون السالفة. ويأتي إليه الحجّاج للقاء شيوخه والتبرّك من رفات قدّيسيه وكبار الآباء المدفونين في مقبرته.

وقضينا بعضاً من الوقت في مقبرة الدير حيث صلّينا أمام ضريح الأب أنديه (سكريما) والأب (ستانيلويه)، والارشمندريت (بينيديكت)، وغيرهم من كبار اللاهوتيين والآباء الروحيين الرومان.

ملاحظات أخيرة

كما قلت في العنوان، تحوّلت سفرتنا الى حجّ حقيقيّ، ولعلّكم فهمتم لماذا. يمكن قول المزيد عن هذه الرحلة، ولكن لكل شيء نهاية. لا بدّ لي، من ذكر بعض الأمور التي شاهدناها في رومانيا، والتي تدلّ على أن الكنيسة الرومانية هي كنيسة حية، تخاطب العصر، مع بقائها على التقليد الأرثوذكسي الأصيل. ومنها تقوى الشعب العجيبة. رأينا، في بعض الأماكن التي تعرض منتجات محلّيّة فولكلوريّة، نساء يطالعن المزامير بين بيعة وأخرى! رأينا شباباً بأعداد كبيرة يؤمّون كلّ الكنائس التي دخلناها! رأينا الكنائس الكبيرة الحجم تغصّ بالناس في القدّاس الإلهيّ! لاحظنا في كلّ كنيسة مقرّاً تُباع فيه الكتب الطقسيّة والروحية والأيقونات! دخلنا في كل مدينة، إلى مكتبات أرثوذكسية (على مقربة من مركز المطرانيّات أو الكنائس الكبيرة في المدينة الواحدة) تُباع فيها كتب لاهوتية وتفسيرية وروحية من وضع كتّاب رومان، وترجمات لأهمّ ما نُشر في العالم الأرثوذكسي في السنين الأخيرة، إلى جانب الأيقونات والأواني الكنسيّة! ذكرت سابقاً أن الفيلوكاليا لا تباع فقط في هذه المكتبات، بل أيضاً في المكتبات العامّة! لدى بطريركية رومانية شركة للسفريات، تهتمّ بتنظيم الحجّ الداخلي للرومان إلى أديرة رومانيا وأمكنتها المقدّسة، وأيضاً الحجّ الخارجيّ إلى الأماكن المقدّسة الأرثوذكسية في العالم! لكون الرومان لاتينيّي العرق، فلا تجد عندهم عجرفة بعض الشعوب الأرثوذكسيّة الأخرى. وربّما نساعدهم على ذلك خبرتهم التاريخية مع أديان أخرى، اختلطوا بها عبر تاريخهم الطويل، وما زالوا، مع أنّ الأرثوذكسيّين يشكّلون أكثرية سكّان رومانيا المطلقة (ما يقارب 95%). ولاحظنا، أيضاً، أنّ فولكلورهم الشعبيّ متأثّر، بعامّة، بالرموز والعادات المسيحية، من صلبان بأشكال متنوّعة، وغيرها من الرموز. أختم بالإشارة إلى أنّ البطريرك الحاليّ دانيال يتفاعل تفاعلاً حيويّاً مع الشباب والعالم، منتبهاً إلى تغيّراته، وساعياً إلى أن تكون الكنيسة حاضرة، وخادمة، في خضمّ هذه المتغيّرات. شعوري أن لهذه الكنيسة دوراً تؤدّيه في نهضة العالم الأرثوذكسيّ، وأنه يجب على الكرسيّ الأنطاكيّ تطوير العلاقة معها ومع شبابها، لخيرنا المشىترك.

 

المشاركات الشائعة