مقدّمة الناشر: "حوار مع البطريرك أثيناغوراس"

 ريمون رزق  - آذار 2017

 

لم تكن ولادة النسخة العربيّة من كتاب «حوار مع البطريرك أثيناغوراس» لأوليڤييه كليمان بالأمر اليسير، إذ مضت ثلاثة عقود ونيّف بين تاريخ النصّ الذي عرّبه المرحوم الأستاذ ديمتري كوتيّا السنة 1985، وصدور الكتاب الفعليّ السنة 2018.

صدر الكتاب السنة 1969 باللغة الفرنسيّة، في طبعة أولى لاقت رواجًا لافتًا ليس في الأوساط المسيحيّة الفرنسيّة فحسب، إنّما في العالم المسيحيّ بأسره الذي كان يعتبر البطريرك أثيناغوراس قامة نبويّة شامخة وشخصيّة عالميّة بارزة. لأجل ذلك صار إلى إصدار طبعة فرنسيّة ثانية السنة 1976، وعدد من الترجمات إلى لغات أخرى.

وقد أُعطيت لبعض منّا، في لبنان، مطالعة الكتاب منذ أن نُشر أوّل مرّة، أي في السنة 1970. وكنّا قبل ذلك عرفنا المثلّث الرحمة البطريرك أثيناغوراس لدى زيارته لبنان السنة 1959، حيث اجتمع، في مقرّ مطرانيّة بيروت، بطلاّب جامعيّين أرثوذكسيّين وببعض أعضاء حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة. وكان لي الحظّ أن أكون واحدًا منهم، ولن أنسى أبدًا حرارة استقباله، والدفء الذي اعتراني عندما ضمّني إلى صدره الرحب. كان كلامه النبويّ في المحبّة والمصالحة النابع من العمق الإنجيليّ، وجهوده من أجل توطيد العلاقات بين الكنائس الأرثوذكسيّة الشقيقة، ودعوته إلى تخطّي نزاعات التاريخ وخصوماته بهدف السعي المخلص نحو وحدة المسيحيّين، التي صلّى يسوع من أجلها «لكي يؤمن العالم»، شرارات أشعلت حماستنا الفتيّة وألهبت فؤادنا.

من أجل ذلك كلّه، أُعجبنا كثيرًا بمضمون كتاب أوليڤييه كليمان وبجودته، إذ سمح لنا بتعرّف أفضل إلى شخصيّة البطريرك وفكره، وأدخلنا عبر حياته، في عالم الكنيسة الأرثوذكسيّة الحيّ، بتجلّياته وصعوباته، مؤكّدًا أنّه، رغم الصعوبات ورغم ضعفاتنا، تبقى الأرثوذكسيّة، قبل كلّ شيء، «مدرسة حياة» يتوق العالم إلى سماع صوتها ليعطي معنى لمدنيّة العالم المعاصر الصائرة إلى العبثيّة.

أذكر أنّنا تداولنا آنذاك، داخل أسرة «منشورات النور» الناشئة، في إمكانيّة تعريب الكتاب ووضعه في متناول القارئ العربيّ، لكن لم تكن إمكانيّاتنا المادّيّة لتسمح في ذلك الوقت بتنفيذ هذا الحلم. إلاّ أنّ الرغبة لم تخبُ. ففي السنة 2014، أُدرج الكتاب في برنامج «تعاونيّة النور الأرثوذكسيّة للنشر والتوزيع م. م.»، وارتبطنا مع الدكتورة ريم الأطرش، أستاذة الترجمة في الجامعة السوريّة، للقيام بهذه المهمّة. فكانت ترسل لي كلّ فصل للمراجعة. وهكذا تمكّنّا خلال أشهر قليلة من تعريب فصول الكتاب العشرين الأولى... عندها، أعلمني أحد الأخوة أنّ الكتاب قد نقله إلى العربيّة فعلاً منذ سنوات الأستاذ المرحوم ديمتري كوتيّا. عندها طلبت آسفًا من الدكتورة الأطرش التوقّف عن العمل، وقمت بتنقيح نسخة الأستاذ كوتيّا. كما قمت بإضافة الحواشي تسهيلاً لفهم بعض العبارات والأعلام، فكانت بالفعل مسيرة طويلة وشاقّة.

يكتسب كتاب أوليڤييه كليمان هذا أهمّيّة خاصّة في هذه الأيّام، حيث سعت الكنيسة الأرثوذكسيّة إلى تحقيق المجمع «الكبير المقدّس»، في جزيرة كريت، الذي أطلق فكرة انعقاده المثلّث الرحمة البطريرك أثيناغوراس في ستّينات القرن الماضي، والذي انعقد بغياب الكنيسة الأنطاكيّة وكنائس روسيا وجيورجيا وبلغاريا لأسباب مختلفة.

مَن يتسنّى له مطالعة كتاب الأستاذ جورج غندور حول «الطريق إلى المجمع الأرثوذكسيّ الكبير»، الصادر عن بطريركيّة أنطاكية وسائر المشرق للروم الأرثوذكس، السنة 2015، وكتابه بعنوان «لئلاّ تضيع الحقيقة»، الصادر العام 2017 عن الدار ذاتها، واللذين يصفان كلّ المراحل التي مرّ بها السعي إلى عقد هذا المجمع، يمكنه تقدير المخاض العسير الذي عاشته الكنائس الأرثوذكسيّة.

لكن، ويا للأسف، تجاهل هذا «المجمع» معظم التحدّيات الحقيقيّة التي تواجه المؤمن الأرثوذكسيّ اليوم، مكتفيًا بإدراج المواضيع التي شكّلت القاسم المشترك الأدنى بين الكنائس، ومرجئًا المواضيع الملحّة الأخرى إلى مجمع آخر لا نعرف تاريخ انعقاده. إذا اعتبرنا أنّه لزم للمجمع الحاليّ ما يزيد على خمسين عامًا كي يتّفق على موعد انعقاده، يمكننا تصوّر متى ستبحث الكنيسة الأرثوذكسيّة مجمعيًّا بقضايا الناس الحقيقيّة!

فقد اكتفى هذا «المجمع» بمعالجة أمور لا تخاطب الإنسان المعاصر، متخليًّا عن الصوت النبويّ الذي يجعله يستيقظ، ويكتشف محبّة الربّ، فيسترجع معنى حياته الذي فقده في مجتمع يغرق في الاستهلاك. ولم يعالج مشاكل الأرثوذكسيّة الراهنة، والانقسامات الحاصلة في جسمها، والتباعد بين كنائسها والتنافس بين رؤسائها على الأولويّة والصلاحيّات. والغريب الغريب عدم التطرّق إلى ضرورة النهضة في ممارسات الكنائس الأرثوذكسيّة، والبعد السحيق بين أقوالها اللاهوتيّة وهذه الممارسات. إذ لم يبحث بالنزعات الإكليريكانيّة التي تمزّق الكنيسة إلى فئتي الكهنة والعلمانيّين، والتي تسود في معظم الكنائس. ولم يأتِ على ذكر الإصلاحات الواجبة لمواجهة تحدّيات العالم الحاضر والثورة الضروريّة على المؤسّساتيّة التي تتفشّى في أكثر من كنيسة، ولم يتوقّف عند شهادة العلمانيّين ودورهم في الليتورجيا وخارجها، ولا عند دور المرأة، وغيرها من المواضيع المصيريّة.

أضف إلى ذلك أنّ النصوص المختصّة بالمواضيع المختارة التي توصّل إليها كثيرًا ما تستعمل لغة خشبيّة، وتعابير ما عاد يفقهها الإنسان المعاصر، إذ تفتقر إلى نفحة الروح.

من يقرأ هذا الكتاب يكتشف ما علّة هذه المواضيع وهذه اللغة. ينقصها بالفعل روح أثيناغوراس، وتطلّعاته النهضويّة النبويّة المتحرّرة من عقدة صنميّة التاريخ، والخشية المسيطرة على الكنائس التي تجعلها تهلع عند كلّ جديد، وتتعلّق بالماضي كأنّه وحده خشبة الخلاص. وكانت هذه المواقف المتخاذلة وهذه الاكتفائيّة تثير أسى أثيناغوراس العميق وغضبه.

 

يقول البطريرك أثيناغوراس بين طيّات هذا الكتاب:

«ماذا فعلنا بالمسيحيّة؟ جعلناها دين الشريعة والاكتفاء بالذات!... المسيحيّة هي الحياة في المسيح والمسيح لا يتوقّف أبدًا عند الجحود والرفض، فنحن مَن حمّل الإنسان أحمالاً كثيرة. يسوع لم يقل قطّ: لا تعمل هذا، وينبغي ألاّ تفعل ذلك. لم تفرض المسيحيّة أيّ ممنوعات، إنّها حياة ونار، إبداع واستنارة. في الثقة يتغيّر القلب عندئذٍ، وشيئًا فشيئًا تتدفّق حياة الناهض من بين الأموات فينا» (الفصل الثالث عشر).

«ماذا فعلنا؟ ماذا فعلنا؟ تركنا المسيح. لقد طردناه بأحقادنا، وتكبّرنا، وباكتفائنا الفرّيسيّ شوّهنا روح الإنجيل، فرحل المسيح، رحل المسيح. أين هو الآن؟ أين؟ ذهب كسائح، كمجهول، بين الفقراء، والمذلولين، والمهانين في هذه الأرض؟ أين هو؟ أين؟» (الفصل الرابع عشر).

«خافت الكنائس من الإنجيل مع أنّه مبرّر وجودها. فانطلق المسيح إلى البشر، وأحيا تاريخهم، من دون الكنائس وأحيانًا ضدّها» (الفصل الرابع عشر).

«جعلنا من الكنيسة مؤسّسة ككلّ المؤسّسات. صرفنا كلّ جهودنا لنجعلها تقف على قدميها، والآن نجهد لكي تعمل. وهذا يتمّ، سواء أكان قليلاً أم كثيرًا، بل بالحريّ، بطريقة سيّئة أكثر من كونها جيّدة، ولكنّها تعمل. لكنّها تعمل كآلة. كآلة وليس كالحياة» (الفصل الرابع عشر).

نجد في الكتاب أيضًا كلامًا من البطريرك على بعض المواضيع التي كان ينوي إدراجها في جدول أعمال المجمع العتيد، والتي دخل معظمها في جدول الأعمال الموسّع الذي صدر عن مؤتمر رودوس الأوّل السنة 1961، الذي انعقد نتيجة إلحاح البطريرك وجهوده الأخويّة المضنية للحصول على موافقة الكنائس الشقيقة كلّها.

 

في وحدة المسيحيّين:

أراد البطريرك أن يطلق المجمع حركة صاخبة نحو فتح الحوار مع سائر الكنائس المسيحيّة بغية التقارب والتعاون، وإن أراد الله الوصول إلى الاتّحاد. وكان همّه يتّجه أوّلاً نحو الكنائس «الأرثوذكسيّة الشرقيّة» غير الخلقيدونيّة أي السريان والأقباط والحبشيّين والأرمن، فيقول في هذا الشأن:

«لا شيء يمنع الاتّحاد مع الكنائس غير الخلقيدونيّة خلال فترة وجيزة. حافظت هذه الكنائس على البنى والروحانيّة والتعليم الأساس الذي ساد في العصر الآبائيّ الكبير. وحياتها الليتورجيّة وعاداتها هي أقرب غالبًا إلى الممارسة الرسوليّة من طقوسنا البيزنطيّة الراهنة. ويمثّل بقاؤها طيلة أكثر من خمسة عشر قرنًا في عالم عدائيّ، معزولة عن جذع المسيحيّة الرئيس، أفضل شهادة على أصالة إيمانها» (الفصل الثلاثون).

«الاتّفاق معهم ليس صعبًا وليست ثمّة مشكلة من ناحية البنى الكنسيّة، إذ نتّبع التسلسل الرسوليّ ذاته، ونشترك في فهم واحد للكنيسة على أنّها سرّ الناهض من بين الأموات، وشركة كنائس شقيقة ضمن الكنيسة الكونيّة. وقد حقّق الحوار مع هذه الكنائس القديمة تقدّمًا عظيمًا في السنوات الأخيرة، في تكتّم وشبه صمت. علينا الآن تحريك الجمود التاريخيّ كي نصل إلى المبتغى» (الفصل الثلاثون).

 

وكان همّه المسكونيّ الآخر الأساس الحوار مع كنيسة روما، إذ هو مَن أطلق «حوار المحبّة» وأصرّ على أن يُطلِق المجمع «حوار الحقيقة»، أي الحوار اللاهوتيّ حول أمور الخلاف، بخاصّة قضيّة أولويّة البابا وعصمته وقضيّة زيادة «والابن» على دستور الإيمان.

 

في الإصلاح الليتورجيّ:

لم يقتصر همّ البطريرك، كما اتُّهمه كثيرًا، على هموم البعد بين المسيحيّين، لكنّه أراد أن يطلق المجمع العتيد حركة نهضويّة داخل الكنيسة الأرثوذكسيّة، تبدأ بخاصّة في الليتورجيا. ويقول في هذا السياق:

«على المجمع الأرثوذكسيّ العامّ أن يقترح نهضة واسعة للعبادة، هي نهضة علينا أن نحضّرها منذ الآن. ستصبح الليتورجيا عملاً نشارك فيه جميعنا، دراما الموت والحبّ التي على الجميع تحسّسها بشغف» (الفصل العشرون).

«الأمر يتعلّق في إعادة إيجاد فنّ شامل نسخّر له كلّ قوى عصرنا الخلاّقة، هو فنّ يسمح للجميع بالمشاركة بكلّ كيانهم في الفرح الفصحيّ الذي يتجدّد في كلّ أحد... على المجمع الكبير أن يشجّع هذا الجهد العظيم عبر خلق مراكز دراسات تختصّ بالحياة الليتورجيّة، والموسيقى والهندسة المعماريّة والرسوم المقدّسة. ليست القضيّة قضيّة تنقيب أثريّ أو سعيًا وراء مزيد من المعرفة، بل تكمن في استعادة التقليد الحيّ، وربط فنّانين كبار بهذه المهمّة، قادرين على الجمع بين التأمّل والإبداع، أناس متأصّلين في الإيمان لدرجة أنّ الجمال يتدفّق منهم وكأنّه فيض» (الفصل العشرون).

«على المجمع أن يحلّ مشكلة اللغات الليتورجيّة التي أضحت قديمة اليوم، ومن ثمّ تحديد الدور المناط بكلّ مَن يقيم الخدم والجوقة والشعب» (الفصل العشرون).

«من الضرورة بمكان السماح للشعب بأن يسمع قانون الإفخارستيّا، وعلى الأخصّ إفشين استدعاء الروح القدس وتأكيده عبر «الأمين» التي يردّدها. هذه الصلوات التي كُتبت لتُقرأ علنًا، لا بل لتكون موضوع حوار، تمّ إخفاؤها في العهد القسطنطينيّ، خوفًا من أن يسمعها جميع مَن يدخل الكنيسة، ولم يتلقّ بعد التدريب الدينيّ الكافي، فيجدّف عليها. أمّا اليوم حيث عاد إلى الظهور بشكل مأساويّ أحيانًا، التوتّر بين الكنيسة والعالم، فعلى المؤمنين أن يستعيدوا كامل كرامتهم كمساهمين حقيقيّين في الخدمة الليتورجيّة» (الفصل العشرون).

«لن يكون صعبًا على المجمع العودة إلى التقليد الحقيقيّ حول (استعادة المؤمنين كامل كرامتهم كمساهمين حقيقيّين في الخدمة الليتورجيّة) وذلك بإنشاء مراكز دراسات ليتورجيّة تحدّد أصل نشوء طقوسنا ومعناها، وهي التي أُدخل عليها الكثير عبر الممارسة الرهبانيّة. ولكن من دون أن «نشحّل» كيفما اتّفق، يجب التركيز على الجوهريّ» (الفصل العشرون).

«يجب أن يترافق تجديد الخدم بتجديد الوعظ. لا وعظ تقويّ، يردّد الكلمات التي ينتظرها الجميع كيلا يستمعوا إليها، ولا وعظ يحوّل الكنيسة إلى كنيس يهوديّ، تضاعَف فيه القواعد، ويكثر الكلام على ما هو ممنوع أو مسموح، بل وعظ إنجيليّ، وإعلان انقلاب القيم الأخلاقيّة والتقويّة بالفكر الإنجيليّ، بشارة بالإله الذي صار صديقًا لنا، بحيث تحلّ فينا الثقة بدلاً من القلق، فنصبح قادرين على قدر بسيط من المحبّة الحقيقيّة» (الفصل العشرون).

«علينا أن نحتفل بالعماد بمهابة، في وسط الجماعة الكنسيّة. هو ليس حفلةً عائليّة صغيرة، بل ولادة إنسان في الأبديّة» (الفصل العشرون).

 

في الكتاب المقدّس والتقليد الشريف:

ولحظ جدول الأعمال الذي أقرّه مؤتمر رودوس الأوّل بإلهام من البطريرك أثيناغوراس «أنّ الكتاب المقدّس هو التعبير الأساس للإعلان الإلهيّ، وأنّه يجب التمييز بين التقليد الشريف (كقبول حيّ للحقيقة في الروح القدس)، والتقاليد الكنسيّة ذات الأهمّيّة المتفاوتة... وتمنّى استعمالاً أكثر اتّساعًا وأفضل توزيعًا للكتاب المقدّس في العبادة. كما تمنّى توزيعًا أفضل للفقرات الإنجيليّة واستعادة القراءات من العهد القديم، التي كانت تُتلى في الكنيسة القديمة، والتي اختُصرت بسبب كثرة الترتيل. وأخيرًا طرحت مسألة العودة إلى مشاركة أوسع للعلمانيّين في الحياة الليتورجيّة وفي حياة الكنيسة كلّها» (الفصل الثاني والثلاثون).

 

في زواج الكهنة:

قال أثيناغوراس: «إنّي مقتنع بأنّ على الكاهن أن يكون قادرًا على الزواج بعد رسامته. إنّه من العبث أن يضطرّ الإنسان إلى البحث عن امرأة بتسرّع وبطريقة شبه آليّة، عندما توضّح دعوته الكهنوتيّة. مع ذلك، لا يتزوّج الإنسان من أجل الزواج، بل يتزوّج بشخص آخر التقاه وهذا اللقاء لا يمكن تحديده مسبقًا، لأنّ الحبّ يجمع هذا الإنسان بشريكه عبر شعور شخصيّ يختبره. كلّ شيء يجب أن يجري بسلام ونضوج... أودّ عرض هذه القضيّة على المجمع المقدّس كي تسجّل على جدول أعمال المجمع الأرثوذكسيّ العامّ المنتظر» (الفصل الرابع عشر).

 

في المواضيع الأخرى

أمّا العناوين العريضة للمواضيع الأخرى التي اعتمدها مؤتمر رودوس الأوّل فتتلخّص بالشكل الآتي: الإدارة والانضباط الكنسيّان والإصلاح الواجب في المحاكم الروحيّة والأسقفيّة، والحياة الرهبانيّة وتنشئة الإكليروس والقيافة الكهنوتيّة وموانع الزواج ومسألة التقويم الكنسيّ، والعلاقات بين الكنائس الأرثوذكسيّة، وعلاقات الكنيسة الأرثوذكسيّة بالعالم المسيحيّ، ونشر بشارة الإنجيل والحضارة الأرثوذكسيّة في العالم، والكنيسة والأديان الأخرى، ومشاكل رعائيّة: الكنيسة والشباب، الزواج والعائلة وغيرها.

لكن ويا للأسف اكتفى ما سُمّي «بالمجمع الكبير المقدّس» الذي اجتمع في كريت السنة 2016 ببحث ستّة فقط من هذه المواضيع، وتجنّب الدخول في المواضيع الحياتيّة والرعائيّة التي تخصّ حياة المؤمنين وتقويم البنى الكنسيّة.

إلى قضيّة المجمع الأرثوذكسيّ العامّ ومواضيعه، تستوقف القارئ في كتابنا هذا شخصيّة البطريرك أثيناغوراس. علّم أثيناغوراس أنّ لا مسيحيّة بدون محبّة، وأنّ مَن يحبّ لا يخاف، بل يضع كلّ ثقته وكلّ رجائه في المسيح الذي يحبّ. يقول مثلاً:

«أنا أنتمي إلى كلّ الشعوب... فتوحيد البشريّة هو في آنٍ التعبير والبحث عن وحدتنا الكاملة في المسيح، حيث نكون كلّنا أعضاء بعضنا لبعض. أنا أنتمي إلى كلّ الكنائس لأنّه لا توجد سوى كنيسة واحدة هي كنيسة المسيح. وليس ثمّة لاهوت سوى لاهوت البشارة بالمسيح القائم والذي يقيمنا ويعطينا القدرة على أن نحبّ. عمّا قليل سيصل الناس إلى القمر ولكنّهم يجهلون معنى الحياة. نحن المسيحيّين علينا ألاّ نهاب شيئًا. فنحن لا نطلب شيئًا أو نفرضه. علينا فقط أن نشهد بأنّ للحياة معنى وأنّها عظيمة تنفتح على الأبديّة لأنّ الله موجود، الله موجود، وهذا المجهول هو صديقنا» (الفصل الأوّل).

«عندما يتعقّد الوضع تمامًا، لا يبقى سوى الارتماء في أحضان رأفة الله. عندئذ ينتفي الخوف ولا يبقى سوى الثقة» (الفصل الثاني عشر).

«نحن نتكلّم ونتكلّم من دون أن نقرن الأقوال بالأفعال. لذلك فقد الشباب كلّ ثقتهم بنا. فهم لا يثقون بما نقول» (الفصل الثالث عشر).

«المخلّص الذي ولد في بيت لحم ليس إلهـًا بعيدًا أو لا اسم له. إنّه الله معنا، الذي أحصى حتّى شعر رأسنا. إنّه يقود، بحالة سرّيّة، حياة كلّ منّا، والتاريخ أيضًا ليقيم شركة كاملة معنا» (الفصل الثالث عشر).

«أكثر ما يفتقر إليه رجال الكنيسة هو روح المسيح، والتواضع، وإنكار الذات، وقبول الآخر المجرّد من المصلحة والقدرة على رؤية الأفضل فيه. نحن نخاف، ونريد التمسّك بما هو بالٍ، لأنّنا تعوّدناه. نسعى إلى أن نكون دومًا على حقّ ضدّ الآخرين ونخفي، تحت تعابير التواضع المقولبة، روح كبرياء وتسلّط. نحن نلعب على هامش الحياة» (الفصل الرابع عشر).

«لا شيء أهمّ، عند رئيس في الكنيسة، من معرفة كيفيّة الاستماع إلى صوت الشعب السرّيّ. فالشعب المتّحد بالإيمان والمحبّة، هو الذي يحفظ الحقيقة. في الكنيسة، الخدمة الكهنوتيّة هي خدمة المحبّة والوحدة والسلام. يستمدّ الرئيس قوّته من إحساسه بمسؤوليّته. إنّه يحيي شركة الجميع. سلطته مرتبطة بمقدرته على عيش الانقلاب الإنجيليّ للقيم: «مَن أراد أن يكون فيكم أوّلاً فليصر أخيرًا وخادمًا للكلّ» (الفصل الرابع عشر).

«فليتحمّل العلمانيّون مسؤوليّاتهم! فليس دوري أن أفرض عليهم القواعد. وكيف يكون ذلك ممكنًا؟ تعيش كنائسنا الأرثوذكسيّة في ظروف مختلفة جدًّا، فبعضها في الشرق والأخرى في الغرب، والبقيّة أيضًا في العالم الثالث. يقوم عملي على تذكير الناس بمعنى الحياة، وبمساعدتهم على أن يصبحوا أشخاصًا مسؤولين» (الفصل الرابع عشر).

«أن أذكّر بمعنى الحبّ، هذا هو دوري. أن أساعد الإنسان ليهتمّ بالآخر وبالحياة، حتّى يصبح شخصًا قادرًا على الاحترام. وأنا لا يمكنني إلاّ أن أحترم الشخص. فالخدر الزوجيّ مقدّس، بالنسبة إليّ لن أدخله. إن وجد حبّ صادق بين امرأة ورجل فحبّهما مقدّس في كلّيّته» (الفصل الرابع عشر).

«المحبّة تغذّي الصلاة، والصلاة تغذّي المحبّة. بتشفّعك ورفعك للشكر، تسمح لدم الكأس بأن يروي الكون. يقول الرسول: «اشكروا في كلّ شيء». انذهلوا لأنّ الله موجود. حينها ستكتشفون أنّ كلّ شيء حيّ. تصبح الصلاة كيانًا، كيان مَن انقطع عن الانغلاق على نفسه لكي ينفتح على ما هو شاسع وبسيط. أنقياء القلوب يعاينون الله، والودعاء يرثون الأرض» (الفصل السادس عشر).

«أن نكون أحرارًا، أحرارًا في ذواتنا، أن نكون ما نحن. يا للفرح! الشرط هو أن نموت عن الكذب، عن كلّ الأكاذيب الشخصيّة التافهة التي تضطرب وتبرّر ذاتها، كي نولد ثانية في الربّ، ونعرف أنّنا مقبولون لديه، ومسامحون منه وقابلون منه حياة بلا حدود، حيث لن نعود منفصلين عن أيّ شيء، وتتفتّح قوانا في هبوب الروح العظيم!» (الفصل السادس عشر).

«تكون تنشئة مسيحيّين مسؤولين، في إقناعهم بتبنّي متطلّبات العدالة، ليس كوثن ولكن كتعبير عن المحبّة. «طوبى للجائعين والعطاش إلى البرّ...»» (الفصل الثامن عشر).

«علينا تغيير النهج. أكرّر القول إنّي لا أتنكّر للصعوبات. لكنّي أسعى إلى إصلاح الجوّ الروحيّ. تسمح لنا إعادة المحبّة بعرض المشاكل من منظار مختلف كلّيًّا. علينا التعبير عن الحقيقة التي نتمسّك بها، لأنّها تحمي لانهائيّة الحياة في المسيح، ونعظّمها ليس ضدّ الآخر ولإرغامه على الاعتراف بانكساره بل لاقتسامها معه، وأيضًا من أجل ذاتها وجمالها، كاحتفال ندعو أخوتنا إلى الاشتراك فيه. علينا أيضًا أن نكون مستعدّين للإصغاء. بالنسبة إلى المسيحيّين. لا تعارض الحقيقة الحياة والمحبّة بل تعبّر عن ملئهما» (الفصل الحادي والعشرون).

«الذين يتّهمونني بأنّي أضحّي بالأرثوذكسيّة في سبيل هوَس بالمحبّة أعمى يفهمون الحقيقة بكثير من الهزالة. يجعلون منها نظامًا يمتلكونه ويطمئنهم، في حين أنّها تمجيد حيّ للإله الحيّ. لكنّنا لا نمتلك الله إذ هو الذي يختطفنا، ويملأنا بحضوره بمقدار تواضعنا ومحبّتنا. لا يمكن تمجيد الله الذي هو محبّة، إلاّ بالمحبّة. إلاّ بالعطاء والمشاركة، وبذل الذات إن تطلّب الأمر ذلك. هذا الإله الذي من أجل خلاصنا بذل نفسه حتّى الموت، موت الصليب» (الفصل الحادي والعشرون).

«لا يثق بالحقيقة كلّ من يتّهمني بالتخلّي عن الحقيقة في سبيل المحبّة. إنّهم يغلقون على الحقيقة، ويحبسونها كامرأة زانية. أقول إنّه يجب عدم الخوف على الحقيقة إن كانت فعلاً حقيقة، بل يجب إعطاؤها، ومشاركتها، وإبراز الملء الساكن فيها، وتقبّل كلّ حياة ومحبّة فيها، في اختبارنا أخوتنا. وإذا ثبتنا في هذا الموقف ستفرض الحقيقة جلاءها» (الفصل الحادي والعشرون).

«لدينا مقياس أكيد هو الحياة في المسيح. فلنتساءل أمام تعبير جزئيّ عن الحقيقة، بأيّ مقدار تنقل الحياة في المسيح، وعلى العكس بأيّ مقدار تعرّضها للخطر» (الفصل الحادي والعشرون).

يمكننا ذكر المزيد من هذه الأقوال، لكن الأفضل ترك القارئ يكتشفها خلال مطالعته الكتاب. من الأكيد أنّنا قلّما نسمع رئيس كنيسة أو أسقفًا يتكلّم بمثل هذه الجرأة والبساطة والتواضع والشفافيّة التي تجرح القلوب وتروي ظمأها.

نطلب إلى الله أن يمنّ علينا بأمثاله، إذ نحن بأمسّ الحاجة إلى مثل هؤلاء ليبدّوا المحبّة على الناموس، ويذكّروا بأنّ وجه يسوع الدامي والمنير في آن هو وحده مبتغى المسيحيّين، وأنّهم يجدونه ليس فقط في الكتاب المقدّس والأسرار، إنّما في وجه كلّ إنسان يتجنّدون لخدمته بمحبّة يسوع. وبذلك تغدو جماعاتهم الإفخارستيّة مشعّة وخادمة، تدعو الناس إلى لقيا المخلّص.

 

أيّها القارئ العزيز،

ستجد في هذا الكتاب ما يمكن أن يقوم به إنسان فرد إن كرّس نفسه كلّيًّا للربّ، وأحبّ جميع أخوته، مهما كانت انتماءاتهم. إنّه يحرّك الجبال فعلاً. وهذا ما فعله البطريرك أثيناغوراس، إذ تمكّن بثباته وطول أناته أن يجمع الكنائس الأرثوذكسيّة بعد قرون من الابتعاد، وجعلها تتّفق على الانفتاح على الكنائس الأخرى، رغم جروح الماضي الكثيرة، والانفتاح على العالم الحاضر، رغم الخوف من تحدّياته وثورته على كلّ تقليد. وفتح أبواب الكنيسة مشرّعة أمام عمل الروح القدس، رغم تعصّب الكثيرين وتحجّرهم.

هذا هو الروح الذي نجد أثره في كلّ صفحة من هذا الكتاب الذي بين أيديكم. إنّه يدوّن حوارًا جرى بين شخصين ملهَمين من الروح، فكاتبه، أوليڤييه كليمان[1] هو أيضًا رجل روحانيّ، أتى من الإلحاد إلى الأرثوذكسيّة في سنّ الرشد اقتناعًا، ورافق كلّ حركات النهضة في العالم الأرثوذكسيّ في القرن العشرين، فأصبح بكتاباته الكثيرة، وانفتاحه على مشاكل الإنسان المعاصر، صوت الأرثوذكسيّة المدوّي في الغرب المسيحيّ بأسره. قالت لي أرملته إنّها وجدته «إنسانًا آخر» عندما رجع من زيارته إسطنبول ولقاءاته مع البطريرك أثيناغوراس، إذ ساعده البطريرك، كما يقول في مقدّمة الكتاب «على «رمي سلاحي»... وتجرّدي من كلّ اعتراض أو خوف دفين، وهو الذي دلّني في تاريخ هذا العصر على طريق إبداع نبويّ».

ويجعلنا أوليڤييه كليمان نستفيد من ثقافته الموسوعيّة فيملأ الكتاب بالمعلومات الثمينة عن التاريخ الأرثوذكسيّ واللاهوت والفنّ، ويفتح لنا أبواب مدينة القسطنطينيّة، وجبل آثوس، وخالكي، وكنيستي آيا صوفيا في إسطنبول والمخلّص في كورا. كتابه لوحة عن كلّ ما حدث في العالم المسيحيّ في منتصف القرن الماضي، كما يشكّل مدخلاً إلى الفلسفة الدينيّة الروسيّة وإلى صلاة يسوع.

لكن قبل كلّ شيء يدعونا هذا الكتاب إلى ملاقاه رجلين «نبيّين» حظيا بنعمة كبيرة من الروح، عسى أن يقتنيها القارئ!

 



[1]  راجع "أوليفييه كليمان، ناسك في المدينة"، ريمون رزق، تعاونيّة النور الأرثوذكسيّة للنشر والتوزيع، 2014.

المشاركات الشائعة