رسالة إلى الأمين العام - ملاحظات على تقرير لجنة الشؤون الكنسيّة

 

ريمون رزق- 2021



أخي رينيه (أنطون)

سلام بالرب الفادي.

إن تشخيص الداء في النقاط الأربع الأولى من تقرير اللجنة صائب. وأرى أن يُضاف إليه الأمور التالية:

 1- مواقف القيادة الحركيّة تجاه الرئاسة الروحيّة إذ تخلط بين الاحترام الواجب والطاعة العمياء وأحيانًا التزلّف.

2- مهما رفضنا الاقتناع، فإنّ واقع الجسم الحركة بنظر معظم الأعضاء هو جسم متقوقع و"مستقل عن الكنيسة"، وهذا واضح في التعامل مع الكهنة والأساقفة غير الحركيّين المعتبرين "هم" مقابل "نحن". مهما قلنا عكس ذلك، فإنّ الحركة "كنيسة ضمن الكنيسة".

3- غياب شبه كلّي في اجتماعات الفرق الحركيّة لهموم الكنيسة العمليّة (تصرّفات الرعاة المشينة، ظاهرة الطلاق، عدم المبادرة، التزلّف أمام السلطات المدنيّة وأحيانًا الوجهاء...).

4- عدم الاهتمام في إطلالتنا التبشيريّة على مَن لا يؤمّ الرعيّة، الذي مثّل أكثريّة شعبنا.، ورفض "توسيخ" هويّتنا بواسطة معاشرة الهيئات الذي يؤلّفونها وقول الحقّ في داخلها.

أمّا توصيات اللجنة بالحوار وتأليف لجان ولقاءات، فهي مهمّة وتصلح دومًا، لكنّها بما يختص بعلاج ضعف الشهادة الكنسيّة والهمّ النهضوي، فأخشى أنّها تمثّل حلًّا طويل الأمد، ربّما لا بدّ منه، لكن تدل الخبرة الحركيّة المكرّرة أنّه لن يؤدّي إلى خطوات عمليّة، وسيبقى بالعموميّات. هذا عطفًا على كونه يأخذ طابعًا إداريًّا، كأنّنا ننتظر الآراء التي ستدلي بها مجالس المراكز والفروع لمعرفة ما يجب أن تكون هذه الشهادة. مع تقديري لمجالس المراكز والفروع والجهود التي يبذلون للاهتمام "بالجسم" الحركي، فإنّ هذه المجالس ليست كلّها المكان الملائم لرسم خطة العلاقات الكنسيّة، وإلّا لكانت رسمتها وأدخلتها في صميم نشاطاتها وتطلّعاتها.

فأقترح الأمور "العمليّة" التالية:

استلهام "أنطاكية الجديدة" و"أنطاكية تتجدّد" وبعض النصوص التي كُتبت في البسنوات القليلة الماضية حول "الهويّة الحركية" و"تحديّات العالم الأرثوذكسي"، ووضع ورقة حول الشهادة الحركيّة النهضويّة، والطلب أن تُبحث في جميع الفرق الحركيّة مع تطويرها بالأمور العمليّة التي تلائم أوضاعها. وبالعودة إلى ما ذكرته اللجنة على ضرورة إلتزام الحياة الليتورجيّة، لا بدّ من التذكير في هذه الورقة أنّ الحركة تيّار مواهبيّ يحرّكه الروح في كنيسة المسيح، وهو متجذّر فيها. كلّ قطيع يتجذّر في المسيح يجذّره المسيح في جسده-الكنيسة، فلا يمكن أن يكون أبدًا إزاء الكنيسة. هو منها وموجود فيها لأنّه ملتصق برأس الجسد ويحيا به. يتمّ هذا الالتصاق خاصّة في القداس الإلهيّ حيث يمارس كلّ من أبناء الكنيسة مع إخوته جميعًا، كهنة وعلمانيّين، سرّ الكهنوت الملوكيّ الذي يُقيم الجماعة المصلّية شفيعة عن الكون والخلائق. ويساهم في إيجاد الكنيسة وإظهارها، عندما يجتمع الإخوة، بإمامة أسقفهم، أو الكاهن الذي ينوب عنه، حول الربّ يسوع الآتي إليهم جميعًا في سرّ الشكر. فيخوّل القدّاس الإلهيّ كلّ مَن يشترك فعليًّا فيه مسؤوليّة نقل البشارة السارّة إلى الكنيسة والعالم، والسهر أن تكون الكنيسة "عروسًا لا دنس فيها ولا وهن ولا شيء من ذلك.

إعادة إحياء "اللقاء الرعائي الأرثوذكسي"، للقيام بحملة هادفة إلى تطبيق الأنظمة المتعلّقة بالمجالس (خاصة مجالس الأبرشيّات والبطريركيّة).

تذكير غبطة البطريرك علنًا بما كان قد وضعه من خطة إصلاحيّة في رسالته الرعائيّة الأولى، والطلب منه الإبداء بالأسباب والصعوبات التي آلت إلى عدم تنفيذها.

رصد الانحرفات الموضوعية (ليس الشخصيّة) الممارسة في الأبرشيات (الطلاق، الإكليريكانيّة،... ) وإطلاق حملات في مجلّة النور وأساليب أخرى بغية تقويمها.

حثّ البطريرك والمجمع المقدّس لأخذ مبادرات شجاعة لردع الانشقاق الحاصل في الكنيسة الأرثوذكسيّة، وإعطاء مثالًا على التنازلات المرجوة بتنازل أنطاكية عن قطر (كما تنازلن في الماضي عن مقاطعات في فلسطين) لسبب إعادة الشركة الإفخارستيّة مع القدس. وتأليف لجنة من الحركيّين لبحث طرق مبدعة ونبويّة لتوصية المجمع باتّخاذها.

إرسال كتاب إلى منظمّة سيندسموس لحثّها على تجنيد منظمات الشباب الأرثوذكسي للعب دور فعّال في تقريب وجهات النظر بين الكنائس.

بما يخصّ التكريس الذي أتت اللجنة على ذكره أودّ نسخ ما كنت قد كتبته سابقًا في هذا المضمار، طالبًا بحثه بجدّية. قلت:

لا أعرف مدى وعي المؤمنين لدعوتهم لتكريس حياتهم كلّها ليسوع ولكنيسته. وأنّ هذا التكريس يخصّ الجميع، وليس فقط الإكليريكيّين. دعانا الله نفسه إليه عندما مسحنا في سرّ الميرون المقدّس. الكنيسة بحاجة دومًا إلى مزيد من الكهنة والرهبان (والمطارنة حسب قلبه). إن أحببناها حقًّا، علينا حثّ الناس وتهيئتهم بأجدى الأساليب ليتجنّدوا في هذا الحقل، وإلّا سيحرثه مَن يعتقدهم البعض "متزمّتين" ومتعلّقين بالحرف، وهم كثر. علينا العمل على تخطّي في أوساطنا الاعتراضات والسلبيّات التي سبق وذكرناها في هذا السياق، والعمل على إقناع شبابنا بهذا الالتزام الكلّيّ. كانت العادة في الكنيسة أن يُلاحظ الشعب المؤمن مَن اتّسم بشيء من الإلهام وقدسيّة التصرّف ويدعوه لرعايته. أيمكن أن يقوم الجسم الحركي ويُقدّم بعض أعضائه "قربانًا" لكنيسة الربّ؟

ويستحق التيّار النهضوي في كنيسة أنطاكية أن يكرِّس له بعض الشباب حياتهم. أعرف أنّ كثيرين يعطون من وقتهم الكثير الكثير. لكن أعتقد أنّنا بحاجة إلى أكثر. ألا تستحق النهضة أن يعطي بعض المقتنعين بها كلّ وقتهم، أو على الأقل قسمًا كبيرًا منه ليخدموا في مجالات مختلفة؟ إن كانت الجماعة الحركيّة جادّة ستؤمّن العيش الكريم لهؤلاء خلال فترات "تكريسهم".

أرى أنواعًا أربعة من هذا التكريس.

تلاحظ القيادة الحركيّة الإخوة المميّزين بالتزامهم وجدّيتهم ووضوح رؤيتهم واستقامة حياتهم ومعرفتهم ومثابرتهم على الشهادة وسعيهم الحسيس لاكتساب الحياة في المسيح، وحتمًا ميزاتهم القياديّة وموهبتهم الرعائيّة، وتشجّعهم على التكريس في الكهنوت الوظيفي أو الرهبنة، وتسعى لإقناعهم بحاجة الكنيسة الماسّة إلى مثل هؤلاء، وتدعوهم إلى الامتثال بالحركيّين الذين سبقوهم  في هذا الإلتزام، باحثة معهم العلاقة مع المطارنة والصعوبات التي يشكو منها كثيرون، وتساعدهم على تخطيها.

يُلاحظ الإخوة إثنين أو ثلاثة من الأعضاء المتميّزين بصفاء الرؤية وموهبة القيادة والخدمة، أكانوا كهنة أو علمانيّين، لا فرق. ويُدعون ليكون شغلهم الشاغل العمل النهضوي ونقل الرؤية والسهر على وحدة المسيرة في سائر أنحاء الكرسي الأنطاكي. يصبحون النواة الأساس في قيادة النهضة، لأنّ النهضة لا تُنقل بالنصوص بل بالتلمذة. عليهم أن يتجوّلوا في سائر أنحاء الكرسي، ليشدّدوا العزائم، ويقوّموا الشطط إن وُجد، ويسهروا على إطلاق المشاريع والتذكير بضرورة حمل صليب يسوع والانتفاضة على كلّ ما يخالف روحه القدّوس، وكلّ تباطؤ، تخاذل أو انحراف. قامت الحركة على مثل هؤلاء المكرّسين الذين أعطوا معظم أوقاتهم لنشر التيّار النهضوي وتوطيده. كانوا النواة التي اجتمع حولها كثيرون واكتسبوا، بالاحتكاك الشخصي المباشر بهم، فكرًا واحدًا وروحًا واحدة وأساليب عمل متجانسة... نحن بحاجة اليوم إلى أمثالهم.

أمّا النوع الثالث من التكريس "الحركي" فيمكن أن يتكوّن من شباب وشابات أنهوا دراستهم (الثانويّة أو الجامعيّة) وقرّروا، بملء إرادتهم، أن يكرّسوا، قبل ولوجهم دنيا العمل، سنة من عمرهم لخدمة المسيح في إطار الكنيسة، على أن يوضع لهم نظامًا تدريبيًّا مكثّفًا يقضي بأن يعيشوا فترة من الحياة المشتركة وينشطوا حيث يُطلَب منهم. ومن البديهي أن يتكفّل الأخوة الآخرون معيشتهم كلّيًّا. هذا النوع من التكريس شائع في الغرب.

من دون تقليل من أهميّة التقليد الرهباني الأرثوذكسي الذي يشدّد على الحياة المنعزلة، ومع التذكير أنّه وُجد في القسطنطينيّة العديد من الأديرة في المدينة، وأنّه يوجد الآن هذا النمط في عدد من البلدان الأرثوذكسيّة، لا بدّ من القول إنّ الكرسي الأنطاكي يفتقد إلى "أديرة" في المدن، يضمّون أناسًا يعملون في العالم، قرّروا أن يعيشوا معًا في مكان واحد، يتشاركون في الخيرات ويخصّصون كلّ أوقاتهم "الحرّة" للصلاة...

عادة تفعيل "مركز الدراسات الأنطاكي" ووضع دراسات حول الموقف الأرثوذكسي حول مواضيع شائكة. تعمّم هذه الدراسات على الشعب، وتلعب الدور الذي مفروض أن تلعبه القيادة الكنسيّة.

أخيرًا، أرفق طيًّا نصًّا كنت قد وضعته لاطلاع المجمع المقدّس ولا يلقى طبعًا أيّ تأثير أو جواب.

هذا بعض من كثير أوحاه لي تقرير اللجنة. أضعه بين يديك تاركًا لك التصرّف.

مع محبتي بالربّ

ريمون

 

مرفق: التوصيّات إلى المجمع المقدّس

1- الكهنوت: التهيئة الكهنوتية - متابعة الكاهن - معيشة الكاهن

- إدخال في تدريب الكهنة علوم في إدارة الاجتماعات والجماعات والعلوم النفسيّة والاجتماعيّة والمتعلّقة في تحدّيات العصر.

- أن تكون علاقة الكاهن بأسقفه نموذجًا لعلاقة الأب مع أولاده وليس الرئيس مع موظّفيه كما يحصل في كثير من الأحيان.

- أن يكون لكلّ كاهن "معرّف"  يقابله دوريًّا وأن يراقب المطران نموّ كهنته  الروحي والمناقبي وألّا يتساهل في مسلكيّتهم ويُفعّل الأنظمة التأديبيّة بحقّ المخالفين.

- أن يُعطى معاونون للكهنة، إضافة إلى مجلس رعيّته، يشاركونهم في الرعاية. الأنسب أن يكونوا من الشمامسة والشمّاسات إذا أقدم المجمع المقدّس على استعادة هذه الرتبة التي لم تُلغى في الكنيسة الأرثوذكسيّة، ولا توجد قوانين تمنع إحياءها. يجب تحديد عمر المنتسبات إليها (كان العمر المحدّد قديمًا أربعين سنة، لكنّ الأيّام تغيّرت ويسمح تحرّر المرأة من تخفيض هذا السنّ). تعيش الشمّاسات العاذبات والأرامل في بيت مشترك، ويقمن، إلى الصلاة وقدر من حياة الشركة، بمعاونة الكاهن في الخدمة الاجتماعيّة وأعمال الرحمة والعناية بالعجزة، والتنشئة المسيحيّة، والتبشير في البيوت حيث يصعب على الكاهن دخولها، ومناولة الشعب، إلخ. أمّا الشمّاسات المتزوّجات فتقمن بخدمتهنّ خلال النهار وتعود إلى بيوتهنّ. ولا بدّ أيضًا من تحويل دور الشمامسة الذي أصبح "زينة" ليتورجيّة إلى دوره الأصلي في الخدمة.

- فكّ الارتباط بين الكهنة (والمطارنة) والمال الذي يمثله "البطرشيل" بإيجاد نظام اشتراكات رعويّة ورسوم للخدمات.

- إيجاد "صناديق تعاضد" في كل الأبرشيّات تؤمّن معيشة كريمة للكهنة وعائلاتهم وتتكفّل بتعليم أولادهم وشؤونهم الصحيّة.

2- التواصل بين أبرشيات الوطن وأبرشيات الانتشار

- لا تختصر القضيّة على التواصل بين أبرشيّات الوطن وأبرشيّات الإنتشار، بل أيضًا وخاصّة بين أبرشيّات الوطن بينها بالذات، إذ تباعد رؤسائها وقلّة تعاضدهم وخلافاتهم يسبّبون عثرة للعباد.

- لكن كثيرًا ما نسمع في أوساطنا الكنسيّة كلامًا على "سلطة" الكاهن، الأسقف أو البطريرك، ومن جهة أخرى على "حقوق" العلمانيّين. بينما لا سلطة إلّا للمسيح ولا حقّ علينا إلا له. لا تخضع علاقات أبناء الله (بما فيهم الأساقفة) مع بعضهم البعض إلاّ لما دعاهم سيّدهم إليه من محبّة واحترام وأخوّة وانفتاح و"طاعة متبادلة". نرى مثلاً أساقفة يطلبون من العباد بإلحاح التقيّد بقوانين الكنيسة وممارسة طاعة عمياء تجاههم بدون اعتبار أنفسهم مُلزَمون هم أيضًا بالطاعة والمحبّة تجاه المؤمنين والأساقفة الآخرين وأوّلهم، البطريرك.

- كلّ سلطة في الكنيسة هي لخدمة المحبّة وتصبو إلى الوحدة، وإلاّ تسقط وتزول بصيرورتها سلطويّة. إنّها سلطة من دون تسلّط أو أيّ نوع من الهيمنة أو أيّ ضغط ماديّ أو معنويّ. تقابل الطاعة "المسيحيّة" هذا النوع من السلطة، وهي أساسًا طاعة للمسيح تنتقل تجاه الأسقف، الأوّل بين أخوة متساوين، وتجاه الكهنة وهؤلاء الأخوة، بقدر ما ينقلوا حقيقة المسيح ومحبّته. إنّها لا تُفهم إلّا في إطار منطق الجماعة الواحدة والشركة بين أعضائها. لا سلطة ولا طاعة إذًا إلّا في مناخ من الحريّة والحوار الدائم والإصغاء المتبادَل والانتباه المحبّ بين أعضاء شعب الله ومع أوّلهم ، ليس سوى القداسة، قداسة مَن يمارس السلطة وقداسة مَن تُمارَس عليه. وكلّما خفّت القداسة مالت السلطة إلى التسلّط، وكلّما زادت القداسة تجلّت السلطة في المحبّة والخدمة واحترام حريّة أبناء الله. وما يمكن أن يُسهّل ذلك تطبيق الأنظمة الأنطاكيّة وإنشاء مجالس الأبرشيّات ومؤتمراتها، بما فيه على الصعيد الأنطاكي العامّ.

- ألا يجب أن يجتمع أساقفة الوطن دوريّا (خارج إطار المجمع المقدّس) من أجل التباحث بهذه الأمور وتنمية الصداقة البشريّة والإخاء والتعارف الأفضل والتشاور بينهم؟ يمكن أن تكون هذه الاجتماعات بتنظيم خلوات في أحد الأديرة للصلاة معًا وممارسة سرّ الاعتراف والتداول في مواضيع روحيّة. وتكون أيضًا بتنظيم لقاءات دوريّة تجمعهم، تباعًا في كلّ الأبرشيّات، للتعبير عن وحدة الجسم الأسقفيّ.

- ضرورة إعادة إيجاد الصندوق "الملّي" المشترك، تساهم في تغزيته كلّ أبرشيّة حسب إمكانيّاتها لإطلاق مشاريع مشتركة.

- أمّا بالنسبة إلى أساقفة أبرشيّات الانتشار، فيجب أن يجتمع أيضًا دوريًّا أساقفة القارة الواحدة للغرض نفسه ولتنمية مجالات التبشير (أوروبا، أميركا الشماليّة، أميركا الجنوبيّة، أوستراليا).

- أمّا بالنسبة إلى التواصل بين أساقفة الوطن وبلاد الإنتشار، فيجب اللجوء أوّلًا إلى أوّل أسلوب تواصل استعملته المسيحيّة الأولى، ألا وهو المراسلة والزيارات المتبادلة. تسهّل الأساليب الإلِكترونيّة هذا التواصل. فلِما لا يتصل كلّ أسقف بزملائه مرّة كلّ ثلاثة أشهر أو أقل للإطمأنان على أحوالهم وإخبارهم نجاحاتهم وصعوباتهم؟

- أمّا الزيّارات، فتسمح للأساقفة أن يجتمعوا بكنيسة الأسقف الذي يزورون. وإذا أتى معهم وفد من الكهنة والرهبان والعلمانيّين يتعرّفون على الفئات المماثلة في الأبرشيّة المضيفة، ويقيمون معها اجتماعات للتعارف وتبادل الخبرات. فلماذا يوجد مثلًا جمعية تضمّ حركمات الشبيبة الأرثوذكسيّة في كلّ أنحاء العالم، ولا يوجد هيئة مماثلة في المدى الأنطاكي؟ وألا يجب أن يجتمع دوريًّا اللاهوتيّون الأنطاكيّون الموجودون في أنحاء العالم للمساهمة في بلورة المواقف الأنطاكيّة تجاه المشاكل الأرثوذكسيّة العامة وتحدّيات العصر؟

تفرض روح المجمعيّة أن يقدّم كلّ أسقف مساهماته ويسخّر مواهبه لخدمة الكنيسة جمعاء. فتساعد الأبرشيّة الغنيّة بالإمكانيّات الروحيّة والماديّة الأبرشيّات التي تفتقد إلى شيء منها بغية إنماء الجسد كلّه، وتساهم بجدّيّة حسب هذه الإمكانيّات بالمشاريع العامّة. لا يفهم القدّيس باسيليوس الكبير كرامة الأسقف منفصلة عن الكنيسة جمعاء، بل في علاقة وثيقة وشركة مع زملائه الأساقفة. يقول في رسالة له إلى الأسقف أتربيوس: "أرجوك، ابعد عن نفسك الفكرة أنّك لا تحتاج أن تكون بشركة مع أحد. الإنسان الذي يسير في المحبّة أو يكمّل شريعة المسيح لا ينفصل عن الوحدة مع إخوته"[1]. لا بل كان يعتقد باسيليوس أنّ الشركة مع باقي الأساقفة هي "علامة أرثوذكسيّة الأسقف بينما انفصاله عنهم هو انفصال عن الكنيسة"[2]. ويضيف في رسالته إلى أتربيوس: "سنُدان إذا لم نبذل كلّ جهدنا وحماسنا للبقاء على التوافق والاتّفاق في كلّ ما يتعلّق بأمور الله ونصنع كلّ ما هو بإمكاننا من أجل وحدة الكنائس". ويقول في رسالة أخرى: "لا يوجد أفضل من العلاقات السلاميّة. علينا أن نبدّي السلام على كلّ شيء آخر"[3]. ويذهب إلى القول إنّ "حالة الكنيسة تشبه معطف قديم يتمزّق بسهولة ولا يعود إلى متانته الأولى. لذلك علينا بذل أقصى الجهد وكثيرًا من الانتباه واليقظة للسهر على خير الكنيسة الذي يكمن في تأمين وحدة ما تبعثر. وسنصل إلى الوحدة إذا تساهلنا في كلّ ما لا يضرّ النفوس"[4].

- ضرورة إعادة إيجاد الصندوق "الملّي" المشترك، تساهم في تغزيته كلّ أبرشيّة حسب إمكانيّاتها لإطلاق مشاريع مشتركة.

- على المجمع المقدّس أن يكون رمزًا عن الوحدة الأنطاكيّة والمحبّة الأخويّة والشورى الحقيقيّة والشفافيّة، يحترم خصوصيّة كلّ أبرشيّة ويسخّرها للخير العامّ. لذلك تساهم أبرشيّات الوطن والإنتشار بتحديد مواضيع البحث في جلساته وتعدّ أوراقًا حولها تُرسل إلى الجميع ليتسنى درسها قبل الاجتماع، فيكون البحث معمّقًا ومجديًّا.

- التوافق على طرق تفعيل اللجان المجمعيّة، التي يجب أن تتكوّن من مطارنة وكهنة ورهبان وعلمانيّين من الوطن والإنتشار. ترسم هذه اللجان سياسة وخطة عمل تقدّمها إلى المجمع حول كلّ من مجالات شؤون الإغاثة والهجرة والاهتمام بالفقراء والمحتاجين، وتوحيد الممارسات الليتورجيّة، ودراسة الوضع الديموغرافيّ الأنطاكيّ لإعادة النظر بحدود الأبرشيّات، والإعلام، والعلاقات مع الأديان، والشؤون السياسيّة، وتنمية الأوقاف، والعلاقات مع الكنائس الأرثوذكسيّة والكنائس الأرثوذكسيّة الشرقيّة والكنائس المسيحيّة الأخرى وكيفيّة مواجهة تحدّيات العصر.

- تنظيم حلقات دراسيّة مشتركة مع أبرشيّات الأنتشار لتوضيح الرؤية الأرثوذكسيّة تجاه التحدّيات التي تواجه شعبنا والإجابة على الأسئلة المصيريّة التالية: ماذا نقول للناس؟ كيف نقوله ومتى؟ وبأيّ لغة ننقله؟. أمّا المواضيع الأكثر إلحاحًا فهي خصوصيّات الفكر الأنطاكيّ التاريخيّة (سياسة التسامح والمصالحة والتعايش والانفتاح، نبذ العصبيّة العرقيّة أو الوطنيّة، علاقة الكنيسة بالطائفة، رفض التعصّب والعنف، إلخ)، مصير المسيحيّين في الشرق ومسألة الهويّة الأرثوذكسيّة (الانتماء الدينيّ والشخصيّة الاجتماعيّة والحضاريّة، الهويّة الفرديّة والهويّة الجماعيّة، الوعي التاريخيّ والعلاقة بالماضي)، العلاقة العقل بالقلب في الروحانيّة الأنطاكيّة، ظاهرة الأصوليّة والانفلاش الفكريّ والأخلاقيّ، الموقف من العلمنة والثقافة الدهريّة ومجتمع الاستهلاك والحداثة وكيفيّة الاستفادة من إيجابيّاتها والتنبيه إلى سلبيّاتها، والموقف من التقنيات الجينيّة واحترام الحياة وعدم التلاعب بها، إلخ... مثل هذه الدراسات المشتركة تقوي الروابط بين الأبرشيّات.

3- أبرشيات الانتشار ودورها في مساعدة الكنيسة في الوطن في ظل الظروف الراهنة

- ضرورة تذكير أبرشيّات الانتشار أن استقبال الموفدين إليهم ليس موضوع خيار بل واجب، إذ يقول آباؤنا إنّه يجب استقبال الغرباء كمرسلين من الربّ، لا بل الربّ نفسه. "استضيف عبر الغريب الآتي إليك مَن جعل نفسه غريبًا بين أهله من أجلك"[5]. ويقول الذهبي الفم: "نكون نحن أجانب (تجاه السماوات) إن لم نستضيف الأجانب على الأرض"[6]. ويضيف: "كلّما صغُر أخوكم كلّمًا يأتي معه المسيح إليكم... المسيح هو مَن يسافر، عاريًا وغريبًا، ويحتاج إلى مأوى. فاعطه إيّاه على الأقل، ولا تكون قاسي القلب وخالٍ من الشعور الإنسانيّ"[7].

- ليست استضافة المهجّر ومساعدته مطلّب أخلاقيًّ وحسب، بل عمل مركزيّ في الحياة الكنسيّة. تُرى، أتعي كنيستنا الأرثوذكسيّة، في بلادنا وفي بلاد الانتشار التي يقصدها المهاجرون، أنّها تعيش فرصة ذهبيّة لا يجب تفويتها لملاقاة المسيح في المهاجرين والمهجّرين، وتُعطى مجالًا لتجسيد الأخوّة المسيحيّة الحقّة.

- ضرورة إعلام أبرشيّات الانتشار بطريقة مستمرّة بهجرة المؤمنين إليها لكي يتسنّى لها رعايتهم. يكون ذلك من قبل كلّ أبرشيّة تتعرّض لهجرة أبنائها أو بواسطة مكتب موحّد يجمع استمارات بأسماء المهاجرين من كلّ أبرشيّات الوطن ويرسلها إلى أبرشيّة الانتشار المختصّة.

- إرسال إلى أبرشيّات الانتشار المتمكّنة ماديًّا معلومات حول حاجات المؤمنين الكارثيّة في الوطن لتقوم بواجب مساعدتهم.

- الطلب منها السعي مع حكومات بلادها للمساهمة في تهدئة أوضاع المنطقة.

4- العمل الكنسي والتحديات الرعائية التي تواجهها الكنيسة بسبب تداعيات أزمة كورونا وسبل مواجهتها

- تأخّرت الكنيسة في بحث هذا الموضوع. لكن يمكن أن تتجنّد أبرشيّات الوطن لمواجهة تداعيّاتها باتّباع الإرشادلا التالية.

- التوعيّة على أخطار المرض وضرورة تجنّب تداعياته.

- إطلاق حملات لتشجيع المؤمنين على اللقاح.

- الحثّ على الامتناع من تقبيل الأيقونات واستعمال القناع وعدم السلام على بعضهم البعض بالأيدي.

- الامتناع الملاصقة في الجلوس في الكنائس، وتجنّب المناسبات الشعبيّة (أعراس، دفن، إحتفالات، إلخ.).

- لكنّ الأهمّ الذي يسبّب عثرة لكثيرين تغيير طريقة المناولة بالملعقة المعدنيّة. تمّ بحث هذه القضيّة على الصعيد البطريركي في أوائل انتشار الوباء، لكن لم يؤخذ أيّ تدبير. ويستمر العديد من الكهنة بإدخال الملعقة في أفواه المتناولين، متسلّحين بالقول إنّ جسد الربّ يشفي الجسد والروح وأنّ الأمر يتعلّق بالتقليد الشريف، ولا يُمكن تغييره، متجاهلين الوقائع التاريخيّة التي تثبت أنّ الكنيسة غيّرت فعلًا ممارساتها القديمة التقليديّة عندما ادخلت استعمال الملعقة.

- أنّ المؤمن، أكان كاهنًا وعلمانيًا، كان يستلم جسد الربّ في يده، ويشرب دمه من الكأس مباشرة ما عدا ربّما في مناولة الأطفال والمرضى المقعدين، وذلك إبتدأء من العصر الرسولي.

وبدأ استعمال الملعقة في القرن السابع في فلسطين ولاقى معارضة واضحة من المجمع الخامس السادس. لكنّه امتدّ شيئًا فشيئًا إلى مناطق أخرى من الشرق والغرب، مع أنّ أغلبيّة الكنائس حافظت على التقليد الأوّل حتّى القرن العاشر أو بعده بقليل. وقد تمّ استعمال الملعقة لمناولة الشعب (مع بقاء الإكليروس على التقليد القديم) في معظم الكنائس في الشرق في منتصف القرن الحادي عشر، وعُمّم هذا الاستعمال في كلّ مكان بعيد منتصف القرن الثاني عشر، وفي أوائل القرن الثالث عشر.

- الجدير بالملاحظة أنّ استخدام الملعقة لم يُقرّر في مجمع عامّ، لكن حُرّم استعمالها مجمعيًّا. فلا شيء يمنع تغييره وقد ابتكرت اليوم بعض الكنائس الأرثوذكسيّة حلولًا جديدة. منها في وضع الجسد المقدّس المبلّل بالدم الكريم في فم المؤمن بدون أن تلمسه الملعقة، أو استعمال معالق خشبيّة، أو تغيّير المعلقة أو تعقيمها بعد كلّ مناولة، أو السماح باستعمال معالق فرديّة أو عائليّة يأتي بها المؤمنون، وأخيرًا وليس آخرًا العودة إلى التقليد الأصلي مع بعض التعديل الذي تفرضه الظروف الآنيّة، إذ يضع الكاهن الجسد المبلّل بالدم في يد المتقدّم. الحلول كثيرة لكن يجب ضرورة الإقدام إذ يمتنع كثيرون عن المناولة بسبب المعلقة وكثيرون لا يأتون إلى الكنائس. فحتّى متى هذا التجاهل؟

5- التحديات التي تواجهها الكنيسة الأنطاكية في الوطن في ظل الظروف السياسية والاقتصادية الراهنة وسبل التعاضد لمواجهتها

- نعيش أوضاعًا مأسويّة بكلّ معنى الكلمة، لا تعالج بالكلام والتطويبات. يكثر الفقر ويتكاثر المحتاجون. لا يكفي التحسّر والتعزية والشفقة. الحاجة إلى العمل. على الكنيسة والمؤمنين أن يسخّروا كلّ ممتلكاتهم لتأمين مراكز إغاثة، ومقامات طبيّة اجتماعيّة، وبرامج للتبنّي المدرسي وتأمين فرص عمل للعاطلين عن العمل في المؤسّسات التابعة للكنسيّة والمؤمنين. والسعي الجدّي لفضح الظلم الذس يصيب العباد من قبل مسؤولين لا يبالون. لا بدّ من استثمار جدّي وسريع لأوقافنا من أجل هذه الغاية، وإذا اقتضى الأمر بيعها من أجل الإعانة.

- لا ريب أن تدخل الكنيسة ميدان المؤسّسات ذات الطابع التجاري كالتعاونيّات والمشاغل لتؤمّن العمل واسترجاع معنى الحياة لأبنائها المحتاجين. وإلاّ فكلّ كلامنا عن "سرّ الأخ" الموازي "لسرّ المذبح"، يكون كلامًا فارغًا.

- يندفع عدد من شبابنا نحو المخدّرات سعيًا وراء النشوة والانفراج. لا يمكننا أن نقف متفرّجين غير مبالين، بل علينا التجنّد لخدمة هؤلاء وإطلاق برامج تكافح الإدمان.

- كثر عدد المجرّحين عقليًّا وجسديًّا، فلا بدّ بداية من تأمين مداخل مخصّصة للمعوّقين في كلّ الكنائس ليشعروا أنّهم مرغوب بهم فيها. والتواصل مع المؤسّسات المتخصّصة بالإعاقة لكي تشمل الكنيسة المعوقيّن في رعايتها.

- أمام تعاظم الظلم الذي يصيب العباد، على رؤساء الكنيسة أن يمتنعوا امتناعًا كلّيًّا عن تبجيل المسؤولين المدنيّين الغارقين غالبًا في فساد عميق ويختصرون علاقاتهم بهم على حثّهم على الاستقامة والعدالة وتقويم الأوضاع.

- أمام تبعثر القوى السياسيّة الأرثوذكسيّة وظهورمنظمات عدّة تنطق باسم الأرثوذكسيّة، على الكنيسة أن تتحرّك وتعمل لتستعيد الطائفة الارثوذكسيّة في بلادنا دورها التقليدي، والذي خسرته، أن تكون لا طائفيّة، وجماعة صانعة السلام، وجسرًا بين مقوّمات المجتمع، عالمة أنّ الجسر تدوسه الأقدام، لكن يؤمّن مع ذلك تلاقي العابرين.

- في عالم يعزّز باضطراد كلّ معالم العولمة، علينا بدل تكفير هذه النزعة، أن نتذكّر أنّنا مدعوين لتحمّل مسؤوليّة كونيّة. تُقدّم جماعتنا الإفخارستيّة العالم وكلّ ما فيه لله، قبل الذبيحة الحيّة غير الدمويّة، قائلة: "التي لك ممّا لك، نُقدّمها لك على كلّ شيء ومن جهة كلّ شيء". إنّ هذه المسؤوليّة تقتضي أوّلًا الصلاة التي تبقي الأرض مفتوحة على السماء. فإنّ الإستحالات الأسراريّة والتبرّكات الكنسيّة والصلوات، الجماعيّة والفرديّة، تغمر العالم بالنور بصورة خفيّة. وتمتدّ هذه المسؤوليّة إلى حماية البيئة والطبيعة والمحيط البشري. وقد أكّد المثلّث الرحمة البطريرك أغناطيوس الرابع على "ضرورة مقاربة ليس فقط أخلاقيّة، بل أيضًا روحيّة وأسراريّة وليتورجيّة، لمشكلة البيئة... وإبرام ميثاق إفخارستي بين الإنسانيّة والأرض التي تبقى دائمًا بمثابة أمّ لنا"[8]. على قلب الإنسان أن يتوسّع بروحانيّة تشمل الكوني بصداقة البشر. بذلك يُحضِّر تجلّي الكون الأخير. إن لم يفعل ويبتعد عن الطبيعة، تجرّه حريّته المنحرفة إلى تجاهلها واحتقارها أو تشوّيهها. اهتمام الكنيسة بالبيئة يُكسبها شبابها المتفاعل مع هذه القضيّة.

- لن يصدّق العالم الكلام الكنسي عن الإعانة والتعاضد طالما يشاهد أبرشيّات غنيّة وأبرشيّات يكاد ينقصها كلّ شيء ولا تنظر الغنيّة إليها. لذلك يردّد القول المأثور "إسمعوا أقوالهم ولا تفعلوا أفعالهم".

6- الاسترشاد الروحي وسر الاعتراف

- تعيش كنيستنا أزمة حقيقيّة بالنسبة إلى سرّ الاعتراف. كثيرون لا يمارسونه، وكثيرون يكتفون "بالصلاة على رؤوسهم". والذين يمارسونه يخلطون غالبًا بينه وبين الأبوّة الروحيّة.

- لم يُكتب في أنطاكية كثيرًا على مفهوم التوبة والاعتراف قدر ما كُتب على ضرورة المناولة المستمرّة المتواصلة بعد أن كانت المناولة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالإعتراف. ما جعل الناس يُقدمون على المناولة ويتناسون الاعتراف. فلا بدّ إذًا اليوم من إعادة تصويب الأمور وشرح مستفيض لمفهوم التوبة والاعتراف، منع البقاء على استقلاليّته عن سرّ الشكر. لا بدّ أن نُقنع الناس أن يعترفوا دوريًّا مع بقائهم على المناولة في كلّ قدّاس إلهي.

- يقول القدّيس إسحق السريانيّ إنّ "مَن يعرف خطاياه هو أعظم ممَّن يقيم الموتى"[9]. التوبة والإفصاح عن الخطايا مرحلة أساسيّة في مسيرة اللقاء مع الربّ. التوبة ليست مراجعة كئيبة لأوساخنا، بل رفعها إلى محبّة الله، والانتقال ممّا لم نستطع أن نحقّقه إلى ما يمكن تحقيقه بنعمة المسيح. التوبة شرط للفرح بالربّ والخروج من الجمود والموت الى التجدّد بالماء الحيّ. نحن والعالم المحيط بنا متعطّشون إلى هذا الماء والتعزية النابعة منه، ولا ندري وكثيرون من "المعرّفين" لا يدرون.

- هناك نوعان من التوبة، توبة الرعدة، وتوبة المحبّة، إذ تشمل النفس رعدة قبل أن يملؤها الحبّ. تختصّ الأولى بالمبتدئين في الجهاد الروحيّ، إذ يولّد الإيمان فيهم مخافة الله، فيخافون من العقاب، ولذلك يخضعون لله، ويريدون إتمام وصاياه. أمّا توبة المحبّة، فتكمن في الخوف من أن نُحرم من محبّة الله ومن خيرات صلاحه.

قال لاهوتي معاصر[10]: "ليست التوبة يأسًا بل هي انتظار حارّ؛ ليست الشعور بأنّك في مأزق، بل أنّك قد وجدت المخرج. هي أن تنظر إلى فوق، إلى محبّة الله. ألّا تنظر إلى ما لم تستطع أن تكونه، بل إلى ما يمكنك أن تكونه بنعمة المسيح".

- فلا بدّ من إعادة إحياء هذا السرّ، الذي هو أيضًا سرّ المصالحة مع الله والكنيسة وأعضائها أجمعين. وإيجاد كتيّب يشرح أهمّيته وطريقة ممارسته والاستعداد له وصفات المعرّف. لذلك يجب تدريب الكهنة على حسن ممارسته.

- ويجب التوضيح الفرق بين المعرّف والأب الروحي. المعرّف هو كاهن الرعيّة الذي يستمع إلى خطايانا ويتأكّد من توبتنا وعزمنا ألا نعود إلى الخطيئة، ويمكنه أن يذكّرنا بأقوال الإنجيل ليساعدنا على العودة، ويطلب من المسيح أن يغفر خطايانا. أمّا الأب الروحي فهو مَن يرشد تلميذه إلى طرق الحياة. لذلك عليه أن يكون قد سلكها. إنّه يوجّه ويترك مجالًا واسعًا لحريّة ابنه الروحي في التصرّف. يمكن أن يكون كاهن الرعيّة أبًا روحيًّا لكن ليس ضرورة. أمّا الاب الروحي فيمكن أن يكون كاهنًا، راهبًا أو علمانيًّا.

- ينصّب بعض الرهبان الأنطاكيّين أنفسهم آباء روحيّين. ويتدخّلون فيكل شاردة في حياة أبنائهم ويعطونهم ليس إرشادًا بل أوامر. الأب الروحي الصالح لا يأمر. هو ملهم فقط، مهمّته تنمية وعي ابنه واستعماله الراشد لحريّته. وهذه ظاهرة خطيرة يجب إيقافها. يشتكي معظم كبار الروحانيّين المعاصرين من قلّة الآباء الروحيّين الحقيقيّين. يقول أحدهم واصفًالاالوضع في اليونان: "كثير من كهنتنا  يدّعون موهبة الأبوّة الروحيّة سريعًا، وهم لا يزالون شبابًا وغير ناضجين وبدون خبرة رعائيّة، وبدون الخضوع إلى إرشادات أب روحيّ متمرّس. فيعتبرون ذواتهم "برصنوف جدد" أو شيوخًا ذات موهبة وهم لا يزالون أطفالًا... فيحومون سعيًا وراء التلاميذ. يتسلّطون على ضمائر الناس بادّعاء الطاعة العمياء الواجبة للشيوخ... أساقفتنا هم أيضًا مسؤولون عن هذا الوضع، إذ يقبلون أن يقوم بالإرشاد الروحيّ أناس غير راشدين". وأمام ادّعاء الكثيرين أنّهم آباء روحيّين، قال البطريرك الروسيّ الكسي الثاني: " يصرّحون عامّة أنّ شرط الخلاص الضروريّ والوحيد يكمن في طاعة كاملة لما يقولون، محوّلين أولادهم الروحيّين إلى آلات لا يستطيعون أن يفعلوا شيئًا بدون بركة واحد من هؤلاء "الستارتس". فيحرمون الناس من ممارسة حريّة إرادتهم المعطاة من الله. ويؤكّدون ممارساتهم باستشهاد خاطىء بأقوال الآباء القدّيسين، مشوّهين بذلك رتبة الأبوّة الروحيّة الحقيقيّة"[11]

- على الكنيسة إرشاد الناس على كيفيّة التهيئة للإعتراف. بتلاوة بعض الصلوات من صلاة النوم الكبرى (يا ربّ إنّ مداينتك لمرهوبة... دموعًا أعطني يا الله...) والمطالبسي (طروباريّة الاودية الثالثة: أمنحي قطرات دموع...). والتأمّل بمقاطع من العهد الجديد: الإصحاح 5 من متّى: الموعظة على الجبل، الإصحاح 12 من الرسالة إلى رومية: المحبّة، الإصحاح 4 من الرسالة إلى أفسس: سلوك المؤمن، الإصحاح 3 من رسالة يعقوب: ضبط اللسان. ووتُعلمهم كيف يفحصون ضمائرهم، 

 وإذا لزم الأمر تدوين الخطايا خطيًّا، ليس فقط الخطايا "الكبيرة" (قتل، سرقة، زنى، الخ) بل كلّ ما يبعدنا عن محبّة السيّد.

- على الأب الروحي أن يتحلّي بالصفات التالية: التميّيز (دياكريسيس) الذي يمكّنه من معرفة أسرار القلوب بطريقة عفويّة ناتجة عن جهاد روحيّ طويل وكثيرًا من الصلاة. موهبة الكلام ("قلّ لي كلمة")، أيّ إبداء الرأي المناسب في الوقت المناسب بغية خلاص النفس. الصلاة الحارّة من أجل أبنائه. الشعور بخطيئته الخاصّة ووعي ضعفه. التواضع والمحبّةالرأفة والحنان. وأن يكون قد تتلمذ قبل أن يصير بدوره أبًا. عليه أن يعرف طريق الجهاد القاسيّ ومصاعبه وكيف يجب تجنّب مكايد الشيطان. وقد تدرّب أيضًا على معرفة القلب البشريّ وحركات النفس ومحاربة الأهواء، وخضع لإرشاد أب روحيّ متمرّس. لا يصير الإنسان من ليلة إلى ضحاها أبًا روحيًّا. عليه أن يكون إذًا ذات خبرة، ووصل إلى حالة اللاهوى والسكينة الداخليّة. أن يكون أهلًا بمساعدة أولاده على النظر إلى العالم كما خلقه الله أصلًا وكما يريدنا أن نجدّده. يجعلنا "نخرج في اللحظة"، نستعيد معنى وجودنا، نتذكّر وجود النور الذي يشعّ في ظلماتنا، فنقوّم مسيرتنا ونعي وجه الكون الحقيقيّ الذي علينا استعادته وتقدمته مجدّدًا إلى الخالق ("التي لك ممّا لك نقدّمه لك") ككهنة هذا الدهر. لا يتّكل الأب الروحيّ على فهمه أو علمه أو أيّ سلطان يدّعيه، بل عليه أن يدع الروح القدس يتكلّم من خلال ضعفه. دوره إذًا نبويّ، مواهبيّ. لا يهمّ إن كان شهيرًا أو متواضعًا، مثقّفًا أو لا، لأنّ الروح القدس يعمل فيه وليس إمكاناته العلميّة أو شخصيّته. ينهي الناس على تعظيمه، مذكّرًا دومًا أنّ لا استحقاق له بل للروح. لذلك يجب أن يكون له معرفة واسعة وعميقة بروح الكتاب المقدّس ونصوصه ويستشهد بها لكشف محبّة الله "الجنونيّة" غير المشروطة، ويُقنع الأبناء أنّهم محبوبين. ولا بدّ أن يكون قد تحرّر من الغضب، ويحارب أهواءه.

7- التطورات التي يشهدها العالم الأرثوذكسي ومقاربة الكنيسة الأنطاكية لها

- قضيّة قطع الشركة مع الكنيسة المقدسيّة: لقد طالت ويُخشى أن يتعوّد عليها الناس وتستمرّ قرونًا إذا لم يوضع لها حدّ. لا بدّ من الإقدام بروح نبويّة لا تتوقّف عند الموانع "القانونيّة". وكما تنازلت أنطاكية في الماضي على المقاطعتين الفلسطينيّتين لصالح بطريرك أورشليم لا مانع من أجل ردع تمزّق كنيسة المسيح من التنازل على قطر مقابل الاعتراف بسيادتنا على باقي الخليج.

- قضيّة قطع الشركة بين كنيسة القسطنطينيّة وكنيسة روسيا بسبب القضيّة الأوكرانيّة: إذا ظلّت هذه المشكلة بدون حلّ مرضيّ، يُخشى أن تتعاظم الهاوية بين الكنائس "اليونانيّة" والكنائس "السلافيّة"، وتؤدّي إلى انشقاق دائم ضمن العائلة الأرثوذكسيّة. لم يعد يُسمع عن مساعٍ لتقريب وجهات النظر. ألا يمكن لأنطاكية التي عُرفت بالماضي البعيد أنّها كنيسة المصالحة أن تسترجع صوت بطرس الثالث وتقوم بعد التشاور مع الكنائس الأخرى غير المتحزّبة بمبادرة لإخراج هذه القضيّة من الجمود؟

- يمكن بدء مسيرة "المصالحة" هذه في بلاد الإنتشار حيث على الأساقفة الأنطاكيّين أن يُعيدوا الصلة والتعاون في المجالس الأسقفيّة الأرثوذكسيّة حيث انقطعت، ولا يتوقّفوا عند "صلاحيّات" ترأس هذه الاجتماعات، كما فعلوا في أميركا الجنوبيّة، لتسهيل العمل المشترك. كنيسة المسيح هي المستعدّة التخلّي عن كلّ "امتيازاتها" لتصون الوحدة.

- ألا يجب أيضًا الاستفادة من الأزمة الأوكرانيّة للسعي طرح موضوع التماهي بين الكنائس وقوميّاتها الذي أصبح منذ القرن التاسع عشر يسود معظم الكنائس الأرثوذكسيّة، والذي يشكّل واقعًا "هرطوقيًّا" يربط طبيعة الكنيسة بالعرق أو الوطنيّة، ويجعل من وضع الكنيسة موازيًا للدول، فتواجه تجربة الخضوع لها. فيتقدّم الواقع القوميّ على الواقع الكنسيّ، ما يجعل منالصعوبة بمكان تقارب الشعوب في بوتقة كنيسة المسيح. فبدل أن تدافع الكنيسة عن الوطن وتحميه مع كلّ مكوّناته، وهذا من ضمن مسؤوليّاتها، أصبحت بانغماسها بالأفكار "الوطنيّة" بعدًا منه، وعلامة إنتماء إليهبانجرافها هذا، انتقل مبدأ الكنيسة من الصعيد الإفخارستي الذي يقدّس الوطن وكلّ مَن فيه، إلى الصعيد السياسي العرقي الذي يتحزّب. إنّ هذا الواقع يشكّل حالة هرطوقيّة بامتياز، رفضها المجمع الأرثوذكسيّ العام، المنعقد في القسطنطينيّة، السنة 1872 الذي قال: "نرفض ونحرّم وندين القوميّة، أي الحكم على أسس عرقيّة، والخلافات والبغضاء والخصومات العرقيّة داخل كنيسة المسيح، ونعتبرها مخالفة لتعليم الإنجيل وقوانين الآباء القدّيسين، الذين يدعمون الكنيسة المقدّسة والعالم المسيحي ويقودونهما إلى القداسة الإلهيّة". أما حان الوقت للتصدّي للنزعة القوميّة في كنيسة المسيح الأرثوذكسيّة؟

- جرت العادة منذ الزمن الرسولي أن تساعد الكنائس بعضها البعض بدون منّة لأنّها كانت تعتبر مثل هذه المساعدة مسؤوليّة تجاه الجسد الواحد. فهل تساعد الكنائس الأرثوذكسيذة الكنيسة الأنطاكيّة في محنتها؟ وألا يجب تذكيرها بهذا الواجب من أجل خلاصها؟

8- التحديات المالية والاقتصادية التي يواجهها لبنان وتداعياتها المستقبلية وسبل مواجهتها

- أعتقد أنّه يجب أن يشمل هذا البند الأوضاع السوريّة التي لا تقلّ سوءًا عن الأوضاع اللبنانيّة (والتي تويد من تدهور الأوضاع في لبنان بسبب التهريب المنظّم).

- على الصعيد المالي والاقتصادي، لا يمكن لكنيسة أنطاكية أن تقوم إلّا بأعمال الغغاثة (التي ذُكرت آنفًا). أمّا على الصعيد السياسي، فيجب أن تسعى إلى توحيد مواقفها تجاه السلطات اللبنانيّة والسوريّة، على الأقل في ما يخص تصاريح أساقفتها. يتطلّب ذلك قسطًا من التشاور وشفافيّة في العلاقات.

- ويجب عليها أن تطّلع من المصادر العارفة (ومنها كنيسة روسيا وأسقفيات أميركا) على المشاريع المخطّطة للمنطقة، وتبحث مع الكنائس الشقيقة في ما تستطيع فعله في ما يخصّ مستقبل المسيحيّين في الشرق.

- ويمكنها أن تُنفّذ مشاريع في لبنان وسوريا لتشجيع الأرثوذكسيّين على عدم الهجرة.

 

 


 



[1]  الرسالة 65.

[2]  الرسالة 204.

[3]  الرسالة 69.

[4]  الرسالة 114.

[5]  غريغوريوس اللاهوتي، الخطاب 40، 31.

[6]  العظة حول أعمال الرسل، 45، 4.

[7]  المرجع عينه.

[8]  في كتابه Sauver la Création, DDB, Paris

[9]  نسكيّات 34.

[10]  الأسقف كاليستوس زير.

[11]  مذكور في ربيع الإيمان في روسيّا، ص. 144.

المشاركات الشائعة