المساواة بين البشر، ثورة يسوع ومحبّة الأعداء

 ريمون رزق

النور - العدد الثاني 2015


هل تشبه حياتنا وحياة جماعاتنا الكنسيّة هؤلاء؟ "أمّا أنتم فلستم هكذا". هذا ما قاله الربّ لتلاميذه. فهل نحن حقًّا "غير شكل" عن الباقين؟ هل نجرؤ على أن نقول لمن يسألنا عن إيماننا: تعال وانظر! انظر إلينا، إلى فرقنا، إلى رعيّتنا، إلى كنيستنا الأنطاكيّة؟ هل يدرك الناس إن عاشرونا أنّ الإنسان لا يعيش بالخبز فقط، بل من كلّ كلمة تصدر عن اللَّه؟ وأنّه لا فائدة إذا غلب الإنسان العالم كلّه إن خسر نفسه؟

نقرأ في نصّ من القرن الثاني يُدعى الرسالة إلى ذيوغنيطس أنّ "المسيحيّين لا يختلفون عن سواهم من أبناء البشر في الوطن أو اللغة أو اللباس. فالواقع هو أنّهم لا يقطنون مدنًا لهم من دون سواهم، ولا يتكلّمون لغة غريبة خاصّة بهم... يحترمون العادات المحلّيّة بكلّ ما يختصّ بالملبس أو الطعام أو طريقة العيش، ولكنّ أسلوب معيشتهم يستوجب الإعجاب والإقرار بأنّه غير متوقّع، يأتيهم من كونهم أعضاء في جماعة ملهَمة من روح اللَّه... وكلّ بلد أجنبيّ وطنٌ لهم، وكلُّ وطن لهم بلدٌ غريب... هم في العالم، ولكنّهم لا يعيشون بمقتضاه. يجدون أنفسهم بالجسد، ولكنّهم لا يعيشون للجسد. يقضون أيّامهم على الأرض، ولكنّهم مواطنو السماء. يطيعون القوانين المرعيّة، ولكنّهم يتقيّدون بأكثر منها في حياتهم الخاصّة... يحبّون جميع الناس، ولكنّهم يُضطهدون... يُقتلون، وبالموت يكسبون الحياة. إنّهم فقراء، ولكنّهم يُغنون كثيرين. يعوزهم كلّ شيء، ولكنّهم ينعمون بكلّ شيء. يُحتقرون، وبذلك يجدون المجد... يُفترى عليهم، ولكنّهم يُبررّون. يُجدّف عليهم، ولكنّهم يُبارِكون. يهانون، ولكنّهم يُكرِّمون. يعملون الخير فيُجازون كأشرار، ولكنّهم يفرحون لأنّهم يحبّون. باختصار، إنّ المسيحيّين هم للعالم كما الروح للجسد. وكما أنّ الروح تسكن كلّ أعضاء الجسد، فإنّ المسيحيّين يقطنون كلّ مدن العالم. وكما أنّ الروح تسكن في الجسد وتظلّ ليست منه، فهكذا المسيحيّون يسكنون في العالم، ولكنّهم يظلّون غرباء عنه. وكما أنّ الروح غير المنظورة تُحبس في الجسد، فهكذا المسيحيّون. ومع أنّ النفس لا تسيء إلى الجسم، فإنّ الجسم يكرهها ويحاربها لأنّها تعيقه عن الانغماس في الملذّات، فالمسيحيّون كذلك لا يسيئون إلى العالم، لكنّ العالم يكرههم، لأنّهم يقاومون ملذّاته. والنفس تحبّ الجسد الذي يكرهها كما أنّ المسيحيّين يحبّون الذين يكرهونهم. وكما أنّ النفس تُحبس في الجسد، ولكنّها تشدّه إلى بعضه، فإنّ المسيحيّين، أيضًا، يُحبسون في العالم، ولكنّهم يشدّونه بعضه إلى بعض. وكما أنّ النفس الخالدة تسكن في مسكن فانٍ، فإنّ المسيحيّين، أيضًا، يعيشون غرباء بين الأشياء الفانية، منتظرين الخلود في السماء. وكما أنّ النفس تتحسّن بتقنين المأكل والمشرب، كذلك المسيحيّون. فمع أنّهم يُضطهدون، فإنّهم يتكاثرون يومًا بعد يوم. إنّ المسؤوليّة، التي أوكلها إليهم اللَّه هي على قدر كبير من الأهمّيّة، لا تسمح لهم بالانعزال عنها".

يسوع قلب المقاييس. تعدّى كلّ مفاهيم الطاهر والمدنّس، والمقدّس والدنيويّ. رفض الشريعة. دحض تجربة الإنسان في خلق أعداء له. لا أعداء عنده ولا عداوة. »أحبّوا أعداءكم« هي وصيّته العظمى. إن اعتبرنا أنّها غير قابلة للتطبيق، فنحن غير مسيحيّين. يمكننا أن نحبّ الأعداء فقط عندما يموت الموت في داخلنا، وتزول الكراهيّة، وتحلّ محلّهما حياة القائم من بين الأموات. فلا نبقى بحاجة إلى أن نفتّش عن كبش المحرقة، ويصير الإنسان الآخر شريكنا في الإنسانيّة، رفيق جهاد، مدعوًّا مثلنا إلى التألّه. فلنلاحظ أنّ يسوع يعطي مثال السامريّ الشفوق ليشير إلى مَن تعدّى حواجز العرق والاختلاف العقائديّ والسياسيّ، وترأّف بالغريب قريبه الذي ليس من أبناء جنسه. وكذلك، أعلن لإمرأة سامريّة، أي غريبة، وزانية، أي مرذولة، أهمّ ما قاله عن عبادة اللَّه »بالروح والحقّ«. لا يخضع يسوع لأيّ تصنيف، مع أنّ الكنائس والمجتمعات المسيحيّة لا تكفّ عن إرادة تصنيفه لجعل رسالته أقرب إلى »المعقول«. تارة تجعل منه ملكًا، وهو رفض كلّ ملكيّة. وتارة أخرى تلبسه التيجان والألبسة الفخمة، وهو الذي لم يكن له مكان يسند إليه رأسه. وتارة تجعله يبارك الجيوش ويبرّر الحروب »العادلة«، وهو مَن قال لبطرس: »أرجع سيفك إلى غمده«. وتارة تجعل منه حليف المتسلّطين والأغنياء، وهو مَن طرد الباعة من الهيكل. وتارة تجعل منه حليف الثوّار، وهو مَن لم يأخذ موقفًا ضدّ قيصر، إذ أتى ليحرّر الإنسان أوّلا من خطاياه. لا، يسوع لا يمكن تصنيفه أبدًا. يتماثل مع الإنسانيّة جمعاء، الذين يعرفونه والذين يجهلونه: »كنت جائعًا، مريضًا، غريبًا، حبيسًا«. أنا هو الذي تحاكونه في كلّ إنسان. فانتبهوا. وكما قال أحد آباء الصحراء: »أخشى ألاّ ألبّي طلب أيّ متسوّل، خشيتي من أن يكون هو المسيح«! يسوع هذا، الذي علينا الامتثال به، عكس كلّ المقاييس. يترك التسع والتسعين ليفتقد النعجة الضائعة. يدفع لعمّال الساعة الحادية عشرة ما يدفعه لعمّال الساعة الأولى. تفوق محبّته العدل بمفهومه البشريّ والحدود التي وضعتها له البشريّة. هذا هو يسوع الذي علينا أن نشهد له، ليس بالكلام بل بعيشة »ثوريّة« كحياته هو. هل هو هذا المسيح نفسه الذي وجدتموه في كنيستكم؟ هل هو الذي يثور على الفقر والظلم والسلطويّة؟

علينا أن نثور مثله، بمحبّة واحترام، لكن بإصرار والتزام. كنيستنا تنوح لكثرة خياناتها له، التي هي خياناتنا جميعًا. مثل المعلّم، هي ليست من العالم، لكنّها تنغمس فيه أيّ انغماس، مستعملة أساليبه ولغته. تخشى الإنجيل وثورته. علينا أن نتذكّر متطلّبات هذا الإنجيل ونذكّر بها. هلمّ فلنستيقظ ونثور ثورة يسوع المحرّرة!

فلنذكّر بمتطلّبات المسيح »بوقتها أو بغير وقتها«. فلنتكلّم بجهارة وبصوت عالٍ، فإنّ كنيسة أنطاكية عطشى إلى سماع كلام الحقّ. إنّ السكوت والتقاعس المستشري عاد لا يُحتمل، إلاّ عندما نسعى إلى تحويله فعلاً وصلاة!

 

إذا سعينا إلى أن نعيش هكذا، سنشهد حقًّا أنّ اللَّه موجود وأنّ له اسمًا ووجهًا، اسم يسوع المسيح ووجهه، الذي مات لأنّه يحبّنا. وسنشهد أيضًا أنّ القريب هو أيضًا موجود وأنّه على صورة اللَّه، ولهذا يجب ألاّ يستخدمه بل يخدمه لكي يعي ويحقّق المثال الإلهيّ المدعوّ إليه. علينا أن نرذل الخوف، ونقتحم العالم بمحبّة الربّ يسوع، ولا نقبل أنصاف الحلول، أو أن يُقزَّم أحد الإنجيل أو كنيستنا بحصرها بشخصه أو جماعته. ولا نقزّم نحن المسيح في حياتنا، بل فلنجاهد باستمرار للوصول إلى ملء قامته. فلنعطه قلبنا وهو سوف يرفعنا إليه. وبنا، مع أعضاء شعب اللَّه جميعًا، سترتفع الكنيسة التي هي بحاجة إلى خدمة جميع أبنائها. علينا ألاّ ننتظر أن يدعونا أحد إلى الخدمة، بل أن نقدم ونمارس الخدمة التي ألقاها اللَّه على كتفينا. وإذا ضعفنا فلنستند إلى الربّ وبعضنا بعض، ونبقى على الرجاء لأنّ ما هو غير مستطاع عند الناس هو مستطاع لدى الربّ، وهو »قادر على أن يفعل أكثر بكثير ممّا نطلب«، كما قال الرسول إلى أهل أفسس (3: 21).l

 

 

 

المشاركات الشائعة