الشمّاس اسبيرو جبّور

 ريمون رزق


إن نسيت فلن أنسى ليلة انتخاب جورج خضر مطرانًا على جبل لبنان. كنّا شبّابَا متحلّقين حول اسبيرو جبّور في أحد بيوت الإخوة في بيروت نصلّي ونرتّل. إذ بإسبيرو يتلو صلاة ارتجاليّة لا أّكر كلماتها، لمنّي أذكر كم أُّثّرت فينا، وملأت قلوبنا رجاء برأفة الله، وحبًّا بكنيسته الأنطاكيّة.

كان ابيرو جبّور بالنسبة إلى جيلنا أحد الذين كانوا، مع الأب جورج خضر والأخ ألبير لحّام خاصّة وغيرهما، يوصلونا بجيل مؤسّسيّ حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة، وينقلون إلينا بعضًا من اللهيب الذي أشعلهم. ومع أنّه لم يعدذ بين المؤسّسين الستة عشرة، كان فعلاً منهم إذ نشر التيّار النهضوي بالتزامن من مارسيا مرقس ابتداء من السنة 1942.

لم أعرفه عندما كان العامل الأوّل في تنمية الروح الرهبانيّة عند بعض الفتيات من اللاذقية، وكيف احتضنهنّ، مع جورج خضر والمرحومين ألبير لحام وبولس أسعيد، وأمّن لهنّ المأوى والإرشاد قبل أن تقبلنَ في دير مار جاورجيوس في دير الحرف، قبل أن تستقرنّ في دير ما يعقوب المقطّع. لكن عندما دخلت الحركة السنة 1956، كان هذا الأمر حديث الساعة في الأوساط الحركيّة المقتنعة أنّها ساهمت بهذا العمل في إرادة الروح القدس لإحياء الرهبنة في كنيسة أنطاكية الذي يشهد تاريخها على مساهماتها الكبيرة في انطلاقة الفكر الرهباني، قبل أن ينقطع في العهد العثماني.

تواصلت مع اسبيرو كثيرًا في أواخر عهد المثلّث الرحمات البطريرك ثيودوسيوس وأوائل عهد المثلّث الرحمات البطريرك إلياس الرابع، حيث شهدت الكنيسة الأنطاكيّة عمليّة واسعة للإيجاد مطارنة حسب قلب الله لدى رقاد المطارنة الشيوخ. وكانت العمليّة صعبة للغاية إذ تدخّلت فيها القوى السياسيّة والقوى الطائفيّة اتعاكس تطلّعات الحركة النهضويّة. وكان يشكّل اسبيرو مع الياس مطران حلب (لاحقًا البطريرك) وألبير لحّام العامل الرئيسيّ في دعم المرشحّين الصالحين. وكان بعض المطارنة آنذاك، وفي طليعتهم مطران حلب، لا يرفضون التشاور مع أبناء الكنيسة الملتزمين، وسيتشيرونهم في أسماء المطارنة المزمعة أن تترّأس جماعاتهم الافخارستيّة. وكانوا بذلك يتبعون تقليدًا كنسيًّا غارقًا في القِدم يقضي بمشاركة الشعب المؤمن في انتخاب أسقفه. وكانت الانظمة الأنطاكية تلحظ ذلك قبل أن يحوّرها التسلّط الأسقفيّ الراهن. وكان ألبير واسبريو يُشركون الشباب أمثالي الذين لم يكن لهم أيّ خبرة في "السياسات" الكنسيّة في المباحثات. وكانا يتكاملان، يتبنّى كلّ واحد منهما قسمًا من المهمّة في توافق كلّيّ بينهما.

تكلّم كثيرون على معرفة الشمّاس سبيرو الموسوعيّة واضطلاعه الكبير على البكتاب المقدّس والفكر الآبائي، لكنّهم لم يتكلّموا إلاّ قليلاً على أنّه اكتسب هذه المعرفة قبدون أن يلتحق بإحدى المعاهد اللاهوتيّة، بل اعتمد على جهده الخاصّ وقرآته وتنقيباته الشخصيّة في المكتبات والكتب. لم يتعلّم اللاهوت، لكنّه كان لاهوتيًّا بامتياز، ليس فقط بمعلوماته، بل بالأخصّ لأنّه كان يصلّي.

ويروي أهل اللاذقيّة أنّه قال لأحد حرّاس السجن الذي منعه من إدخال كتاب العهد الجديد إلى زنزاته، إنّه يعرفه غيبًا. وكان ذلك صحيحًا. مَن يسكن هكذا في كلمة الله ويتسربلها، كما فعل اسبيرو، يتمثّل بالمسيح الموجود فيها.

أعتبرته أحيانًا مجنونًا لكن أعي اليوم أنّه كان "مجنونًا من أجل المسيح".

 

المشاركات الشائعة