الكنيسة تتّسع للجميع

 ريمون رزق

النور - العدد الرابع 2006

 

على أثر وفاة إليزابيت بيرسيغل، مؤخّراً، عمدت إلى تصفّح بعض من كتبها، وبخاصّة مؤلّفها الأوّل الذي نشر بعد اهتدائها إلى الأرثوذكسيّة وعنوانه "الصلاة والقداسة في الكنيسة الأرثوذكسيّة". واسترعى انتباهي، بشكل خاصّ، الفصل الخامس الذي عالج النـزاع بين تلاميذ نيل سورسكيج (المعروف أيضاً بإسم نيل دوسورا 1432-1508) وأتباع جوزيف دوفولوكولامسك (1439-1515). وقد هزّ هذا الخلاف الكنيسة الروسيّة في نهاية القرن الخامس عشر وعلى مدى القرنين السادس عشر والسابع عشر.

وأروم، في هذا السياق، أن أعرض، باختصار، خصائص هذا الصراع، لاسيّما أن أقول لماذا يبدو لي راهناً، وكيف نستطيع أن نستخلص منه العبر في المرحلة العصيبة التي تمرّ بها، اليوم، الكنيسة الأرثوذكسيّة في العالم وكنيستنا الأنطاكيّة.

القدّيس سرجيوس رادونيج (1313-1392) بلغ مستوى من القداسة وكمالاً لم يستطع إليهما سبيلاً أحد من تلاميذه. وعرف، كما القدّيسين الكبار وآباء الكنيسة، كيف يوفّق، ببراعة وتناغم، بين حياة الوحدة وحياة الشركة، بين محبّة الله ومحبّة البشر. وعلى مثاله نجح القدّيس باسيليوس الكبير، في عصره، في أن يجمع، بشخصيّته، بين مريم ومرتا في آنٍ واحد. عدا هذه الاستثناءات النادرة، لم يكن هذا التناغم موجوداً في التاريخ الروسيّ خلال الحقبة التي تهمّنا. فحصل انقسام واضح بين التأمّل والفعل، بين ما سمّي "بالحياة الروحيّة" مقابل الخدمة، أو الدياكونيّة، والبشارة، بين الفقر الإنجيليّ والتملّك. وعمّ هذا الشرخ أرجاء روسيا، وانتقل بعدها إلى العالم الأرثوذكسيّ. زدْ على ذلك أنّنا نعيش، هذه الأيام، المفاعيل الضارّة والمضلّلة التي نجمت عن هذا الخلاف.

نيل وجوزيف كانا كلاهما راهبين، وأرادا إجراء إصلاحات في الرهبنة الروسيّة. كلاهما أسّس أدياراً، وعاش حياة نسكيّة. ومع ذلك، لم تكن مقاربة موضوع الحياة النسكيّة هي ذاتها عند كلّ من نيل وجوزيف. فقد اصطدما بالمشاكل التي سبّبتها آنذاك قضيّة أملاك الكنيسة، وبخاصّة تلك التابعة للأديار، والعلاقات بين الكنيسة والدولة والمواقف الواجب اتّخاذها تجاه الهراطقة.

رَفْض حيازة الأملاك نشأ عند نيل نتيجة تعلّقه بمثال الفقر عند الرهبان واعتباره أنّ الوقت، الذي يهدر في إدارة الممتلكات، يثني الرهبان عن دعوتهم المكرّسة للصلاة والوحدة ودراسـة الكتاب المقدّس ونتاج الآباء والعمل اليدويّ والفكريّ. وهذه الأملاك قد تنسيهم ضرورة أن يعيشوا من إنتاج أيديهم، وتبعدهم عن المحبّة الأخويّة.

بالإضافة إلى ما سبق، كان نيل يشجّع على الاستقلاليّة بين الكنيسة والدولة، ويعارض نظريّات المسيحيّة الروسيّة، ومقولة إنّ موسكو هي روما الثالثة التي ظهرت في تلك الحقبة، ودافع عنها بشدّة تلاميذ جوزيف.

وكان نيل يقول إنّ الممتلكات والتحالف مع الدولة تدفع، بسرعة، الرهبنة، وتالياً الكنيسة كلّها، إلى التحوّل إلى مؤسّسة تحاكي نمط هذا العالم، مستخدمة أساليبه وتفكيره على حساب الفكر الإنجيليّ. وعاجلاً أم آجلاً، قد يجرّهم هذا إلى التنكّر للحركة الإحيائيّة، التي يفترض فيهم أن يرتبطوا بها بامتياز، وإلى عدم الاكتفاء بالعيش في العالم من دون أن يكونوا فيها بالفعل.

أتباع جوزيف دافعوا عن ممتلكات الكنيسة، واعتبروها أداة للتأثير في الميادين الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، ما يؤمّن عملاً بشاريّاً أجدى وأفعل. وطالب هؤلاء بالاتّحاد الوثيق بين الكنيسة والدولة بالتحالف الإيجابيّ والبنّاء بينهم وبين أصحاب النفوذ في هذا العالم، بهدف تنمية مصالحهم المشتركة والمسيحيّة الروسيّة القوميّة. انتمى أتباع جوزيف إلى الأديرة القائمة في المدن الكبيرة مثل موسكو، على عكس معارضيهم الذين عاشوا في أديرة منسيّة في أقصى شمال روسيّا المترامية الأطراف. وبرز قدّيسون من كلا الطرفين، لكن كثر عددهم في الجهة الثانية. والنخبة من الطرفين اعترفت بأنّها متكاملة تقريباً. في الواقع هم جميعاً يمثّلون وجهين لعملة واحدة، وبدلاًَ من أن يتناغموا، هم لا يعترفون بعضهم ببعض. الطرفان يشبهان مريم ومرتا، وربّما كانت الثانية ضالّة بعض الشيء، إنّهما تتواجهان بعد أن نسيتا تماماً أنّهما شقيقتان.

لكن، على مرّ السنوات، غرق عدد كبير من الرهبان في التطرّف، ولم يطل الوقت حتّى وسموا بعضهم بعضاً بالهرطقة. من جهة، عند "الجوزيفيّين"، رجح إغراء الغنى الجامح والفعاليّة بأيّ ثمن على حساب الجوهر، وعمل هؤلاء على تعزيز المؤسّساتيّة في الكنيسة، كما أوثقوا عرى العلاقة مع الدولة والمتنفّذين، مع ما يستتبع ذلك من شبهات وتنازلات. تضاف إلى ذلك، طقوسيّة صارمة ومتزمّتة، وقساوة تجاه الخصوم والكثير الكثير من الاستبداد والصلابة والتعصّب.

وبعد دراسة بعض هذه المواقف والممارسات يتشكّل لدينا انطباع بأنّهم يفقهون الكنيسة على أنّها جماعة مجنّدة تتلخّص عقيدتها بالطاعة والنظام على الدوام. 

في الجهة المقابلة، كانت الغلبة لتصوّف جامع، أحياناً، عند المتطرّفين من أتباع نيل. وكأنّ هؤلاء لجأوا إلى برج عاجيّ رافضين العالم رفضاً تامّاً. وقد بالغوا بالادّعاء بأنّ نمط حياتهم قد فاق غيره، لكونهم أحراراً من أيّ ابتذال بشريّ. تصلّبوا في إنكارهم العالم ووصفوه بالشيطان، ونسوا خدمة الناس، فوقعوا في نوع من الفرّيسيّة. وفي أحلك مراحل النـزاع تباغض مناصرو التيّارين مستخفّين بعضهما ببعض. واعتبر كلّ منهما نفسه بأنّه، وحده، يحمل الحقيقة، متناسيين أنه لا حقيقة خارج القبول باختلاف الآخر ضمن المحبّة الأخويّة والحوار في كنف "ما سلّم مرّة واحدة للقدّيسين".

وفي النهاية، رجّحت كفّة تيّار جوزيف فولوكولامسك، وشكّل دير فولوكولامسك مشتلاً يخرّج أساقفة شجعوا على إكليروسيّة ابتلت بها كنيسة روسيا وأكثريّة الكنائس الأرثوذكسيّة، لأسباب مختلفة، وذلك في تناقض واضح مع الرؤية اللاهوتيّة الأرثوذكسيّة. كلّ الرؤساء الروحيّين الروس، في القرنين السادس عشر والسابع عشر، انتموا إلى هذه المدرسة.

وبالتأكيد كان لهذا التيّار تأثير ثقافيّ كبير، لكنّه افتقر إلى قدّيسين، وساهم في تحويل الكنيسة إلى مؤسّسة راسخة في هذا العالم، ومتحالفة مع السلطة ومتمحورة حول تقليديّة ساذجة وتقويّة متحجّرة. وأعلنت قداسة جوزيف (ثلاث مرّات!) خلال القرن السادس عشر، بينما قداسة نيل لم تعلن إلاّ بدء القرن العشرين، حين كانت الكنيسة الروسيّة تستعدّ لتحديث الدين وعصرنته، وقد صيغ هذا القانون مع بدء الثورة البولشيفيّة، لكنّه لم يبصر النور إلاّ مع قسم من المهاجرين الروس إلى الغرب، بسبب من هذه الثورة عينها.

اليوم، جوزيف فولوكولامسك "شبه منسيّ تقريباً، بينما صورة نيل سورسكيج تلمع أكثر فأكثر، مشعّة بين قدّيسي روسيا القديمة"، على ما كتبت إليزابيت بيرسيغل. مع أنّ جوزيف امتلك روحاً دينيّة اهتمّت بخلاص النفوس. كان جادّاً، واتّبع نسكاً صارماً، صحيح أنّه كان قاسياً ومتزمّتاً تجاه الذين كان يعتبرهم على خطأ، أو لم يشاركوه في آرائه، وأنّه كان ينصح الأمراء باضطهاد الهراطقة. كما استأثر بحقّ فرض وجهة نظره وإعادة الآخرين إلى ما رآه الطريق القويم بواسطة القصاص والتأنيب. وكان يصعب التحاور معه. بالنسبة إليه الطاعة الصارمة شكّلت القاعدة المطلقة. لم يكن في قلبه مكان للتسامح، وبرأيه، التساهل خطيئة. اقتنع برؤيته، وعمل بموجبها بضمير مرتاح لاعتقاعده بضرورة خلاص كلّ الضالّين، رغماً منهم وبأي ثمن. وأيقن أنّه يعمل لخير الكنيسة، من دون أن يتجنّب الوقوع في فخّ اعتبار أنّ حدود الكنيسة تقف عنده. طبعه جاء نقيض لطف نيل دوسورا وتواضعه ودماثة أخلاقه.

وكان هذا الأخير مثال الراهب الهدوئيّ المدافع عن الرهبنة التأمّليّة. اتّبع نسكيّة صارمة مشابهة لما اتّصفت به طريقة جوزيف، لكنّها كانت محبّة وأكثر انفتاحاً. مارس الصلاة النقيّة، ودعا إلى التأمّل الحقيقيّ. فكان نموذجاً عن الستارتس الروس الذين منهم سيرافيم ساروفسكي وبعض رهبان أوبتينو. زدْ على ذلك أنّ "دوستويفسكي" استوحى منهم، ونشرت مذكّرات سائح روسيّ على دروب الربّ صورتهم في أرجاء المعمورة. وكان نيل، أحياناً، يردّد كلمات القدّيس سمعان اللاهوتيّ الحديث، حول تجربته النسكيّة متجنّباً الحديث عن خبرته الشخصيّة. وعندما كان يضطرّ إلى ذلك، لفائدة الإخوة، كان يقول إنّه أجبر على البوح بسرّ حياته الروحية والتكلّم على العلاقة الفائقة الوصف مع الله والتي، برأيه، شوّهها "الجوزيفيّون" بمقاربتهم.

بالخبرة، نعلم أنّه يصعب أحياناً التوفيق بين الزهد والواقعيّة، بين العمل والتأمّل، بين النظام والمواهبيّة، بين الوحدة والتنوّع. مع ذلك، يجب ألاّ نعتمد سياسة النعامة، ونقول إنّنا، في كنيستنا الأنطاكيّة، على أفضل حال. فنـزاع المدارس على أشدّه، ولسنا بعيدين عن إبراز مشاعر الحقد بعضنا تجاه بعض، بخفّة واستخفاف، ولا نتورّع عن نعت بعضنا بعضاً بالهرطقة. ينبغي لنا أن نعترف، بتواضع، بأننا نعيش أزمة سلطة ونفوذ ومجمعيّة، في كلّ الكنيسة الأرثوذكسيّة، وبخاصّة في كنيستنا. لا جدوى من التستّر، فالموضوع على كلّ شفة ولسان، طبعاً بالسرّ في حضرة البطريرك أو المطارنة، وبأعلى صوت في غيابهم. نادرون هم الذين يجرؤون على المواجهة بالحقيقة والانتقاد باحترام ومحبّة. وهؤلاء إذا وجدوا، عكّروا الصفو القائم، ولا يُعطَوْن الأذن الصاغية التي هي من نصيب المتنفّذين.

مع ذلك، نحن كنيسة العنصرة، كنيسة الروح القدس. أوَليس قدرنا، كأعضاء في هذه الكنيسة، أن نصلح ما يبدو، لأوّل وهلة، متناقضاً. إذا امتنعنا عن اتّخاذ أيّ خطوة، أو لم نتوصّل إلى أيّة نتيجة، ألا يجدر بنا أن نسأل إذا كنّا حقيقة نؤمن بالتجسّد وبالخلاصات اللاهوتيّة الصادرة عن مجمع خلقيدونية. اليوم، كنيستنا مبتلية بالانقسام في حين هي مدعوّة إلى العيش بتناغم كلّ عناصرها المتناقضة. هل نحن حقّاً نحاول ألاّ تكون المجمعيّة في كنيسة أنطاكية مجرّد كلمة في قاموس؟ هل نعتبر بجدّيّة، أن الكنيسة هي ملك مشترك، الحقل الذي علينا أن نزرعه سويّة، إكليروس وعلمانيّين كلّ أعضاء شعب الله، مسؤولين ومتضامنين؟

مثل الرّاهبين، الوارد آنفاً، ألا يضع الإصبع على الفرص الضائعة والنـزاعات غير المجدية والهزّات المدمّرة التي تصيب جسد المسيح الدامي الذي هو الكنيسة، وذلك بفعل كبريائنا وادّعائنا ورفضنا الآخر.

ويضيق الوقت، فالله يطرق بابنا، فهل نصمّ آذاننا؟ طوبى لمن له أذنان ويسمع.

 

 

المشاركات الشائعة