مقدّمة كتاب "سرّ الحبّ في الزواج والعائلة"
ريمون رزق
مع أنّ عامة الناس لا تتوقّف طويلاً عند سر الثالوث الإلهي، معتبرة إيّاه
صعب المنال، فإنّ الإيمان بالإله الثالوث هو ميزة المسيحية الأساسيّة. إنّ المحبّة
التي تجمع بين أقانيم الثالوث الثلاثة هي التي يريدنا الله أن نصبو إليها ونعيش في
هداها في كلّ علاقاتنا البشريّة. لذلك يقول الفيلسوف الروسيّ روزانوف إنّ
"الثالوث القدّوس هو برنامجنا الاجتماعي"، إذ خُلقنا على صورة الله
الثالوث ونصل إلى مثاله باكتساب المحبة وعيشه مع الله وإخوتنا البشر. المحبة هي
لغة تخاطب المسيحيّين وهي وحدها التي تخرج كل واحد منّا من العزلة الكيانيّة
الرهيبة التي يفرضها علينا عالمنا المعاصر الذي يريد الإنسان بمعزل عن الله،
ويدعوه إلى تحقيق ذاته بمزيد من التملّك والجشع، مخالفًا بذلك كلّ ما علّمتنا
كنيستنا المقدّسة، أنّ العزلة هي مصدر ال|آلام الأوّل، وأنّ الإنسان لا يكون حقًا
على صورة الله إلاّ إذا تواصل بالمحبّة مع الأخرين، وفتح قلبه ليشمل القريب والعدو
في محبّة واحدة تنبع من قلب الله. يعيش هكذا الراهب الذي يفتح عزلته ليشمل العالم
كلّة في صلاته المحبّة. وعلى مَن يتّحد في شركة الزواج المقدّسة، أن يعتبر أنّ..
بإمكانه أن يجسّد مع رفيق حياته، نموذجًا معاشًا على الأرض للوحدة في التعدّد التي
توجدها المحبّة. يذهب الذهبيّ الفم إلى القول إنّ الأنا أشنع ما يمكن وجوده في
الحياة الزوجيّة: "صرتم كيانًا واحدًا، وحياة واحدة، وما زلتم تقولان:
"هذا لي"! إنّها كلمة شيطانيّة". إذًا إن لم ينسى يمّحي كلّ من
الزوجين نفسح ويمّحي محبّة بالآخر، تمامًا كما يفعل الراهب في سعيه إلى القداسة، لن
يستطيعان أبدًا التشبّه بالله ولن تكون عائلتهما المسيحيّة "كنيسة صغيرة بيتيّة"
، إذ "عندما يتّحد الرجل والمرأة في شركة الزواج، لا يعودا يشكّلان شيئًا
أرضيًّا، بل صورة لله"، على حدّ قول القدّيس نفسه (العظة 20 في الرسالة إلى
أهل أفسس). وكان قد سبقه القدّيس اقليموس الإسكندري الذي اعتبر، في القرن الثاني،
أنّ الزواج هو "بيت الله"، وأنّ الإثنين أو الثلاثة الذين يتكلّم عنهم
الله (متّى 18: 20) هم بالضبط "الرجل والمرأة الذين وحّدهما الله في الزواج"
(الستروماتا، 3، 10، 68). فيكون في هذا المنظار المتزوّجان المريدان أن يكونا
مسيحيّين، أيقونة حيّة لله، نوعًا من "الظهور الإلهيّ"، يستشفّ من
خلالهما الإنسان كيف يجعل اتّحاد الحبّ الإلهيّ
بالمحبّة البشريّة، من إنسانين عاديّين، نواة تُظهر حضور الله في هذا
العالم، وصورة مسبقة لما سيكون الملكوت، حيث الله الكلّ في الكلّ، والجميع موحّدين
فيه. لا بدّ من صعوبات يواجهانها الزوجان. إن عرفا أنّها صليب المسيح بالنسبة
إليهما، وأنّ من خلاله عليهما أن يكتشفا وجه يسوع المنير والدامي في آن، الذي يسكن
دومًا في وسط صعوباتهم. إن عرف كلّ منهما أن يكتشف أيضًا المسيح في وجه الآخر،
فيتلاقى المسيح الذي يسعى إليه بالذي يراه في الأخر، فيذكر واحدهما الآخر أن تكون
عائلتهما مكانًا يسطع فيه نور الربّ، ويشرّع |أبوابه روحه القدّوس، فلا ينغلق
الزوجان على بعضهما البعض، وإن روقا أولادًا لا عليهم، بل يكون بيتهم كبيت الكنيسة
يستقبل إخوتهم بالمسيح ويعتبرونهم أهل البيت.
عالم اليوم قد يبتعد باضطراد عن مثل هذه المفاهيم، حتّى في المجتمعات التي
تعتبر نفسها مسيحيّة. مفهوم الحريّة
المطلقة الذي يسوده، وتطوّر العلم والإمكانات البشريّة المنوطة به، يجعله يتجاهل
بساطة الإنجيل والقيم الروحيّة الذي يطلّبها من الذين يريدون أن يتبعوا الطريق
الذي أعدّه السيّد فيه. تظهر نتائج هذا
الواقع للعيان تزعزع الهيكليّة العائليّة، وتكاثر
حالات الإجهاض وإضفاء الشرعيّة عليها في معظم البلدان الأوروبّيّة، وحالات
الطلاق المتزايدة، والانفلات الجنسيّ المتفشّي البعيد كلّ البعد عن مفهوم العفّة
الزوجيّة، وغيرها من المظاهر التي تجتاح مجتمعاتنا الشرقيّة المتلهفة إلى تقليد
الغرب.
لم يُكتب في كنيستنا بما فيه الكفاية عن مكانة الحب البشريّ بالنسبة إلى
الحبّ الإلهيّ، والذين كتبوا في الزواج، اكتفوا غالبًا بتفسير الأقوال الكتابيّة المتعلّقة به، ابتدأ من
إصحاح سفر التكوين الثاني، مرورًا بإلأناجيل (متى 19: 6، مرقس 10: 9،) ، وصولاً
إلى رسائل بولس وبطرس (أفسس 5: 32، 1 كورنثوس 7: 14، 11: 13، 1 بطرس 3: 4).
واستفاضوا بمفهوم السرّ في الكنيسة الذي هو إطلالة الروح عليها وعلى أبنائها. من
هنّا أهميّة الكتاب الذي بين أيديك، أيّها القارىء، إذ مع أنّ الكتاب مؤلّف من
مجموعة مقالات و عظات كُتبت أو ألقيت في مناسبات مختلفة، يكاد يتطرّق ليس فقط إلى
مفهوم سرّ الزواج وأنواع الزيجات التي تشهدها مجتمعاتنا (الجزء الثاني، ص. 25-85،
والجزء الرابع، ص. 150-228)، بل إلى طبيعة الحبّ البشريّ، ومكانة العشق وارتباطهما
بالحبّ الإلهيّ (الجزء الأوّل، ص. 4-24)، قبل أن يتبحّر بأمور العائلة وشجونها
(الجزء الثالث، ص. 86-149). لا يخطر على بالك أيّ موضوع متعلّق بالزواج والحياة
الزوجيّة وتربية الأطفال وانفتاح العائلة على العالم وغيره من المواضيع الحياتيّة
العائليّة إلا وتجد تأمّلاً فيه أو شرحًا له.
إلى كونه إذًا يشكّل موسوعة حقيقيّة تبحث الزواج من كلّ جوانبه، لا يتميّز
الكتاب فقط بشموليّته، بل بالطابع العمليّ الرعائيّ الذي يتّسم به. لدى قراءته للكتاب
يشعر المرء أنّه يخصّه، إذ عاش الواحدة أو
ال|أخرى للحالات التي يتكلم عليها. قلّما نجد في الكتب الدارجة والمواعظ التي
تُلقى علينا في الكنائس سوى مبادئ عامّة وإرشادات فوقيّة مليئة بالعموميّات لا
يشعر المرء أنّها تساءله في الصميم، وتحاكي المشاكل الذي يعاني منها في حياته
اليوميّة. المطران جورج لا يعرف إلاّ ربّه. لا يحابي الوجوه، ولا يشترك بفرح زوجيّ
غير فرح قانا الجليل حيث كان يسوع وأمّه. مَن سمعه يعظ أثناء خدم الزواج، استغرب أن يكون كلامه غالبًا مسلّطًا
النور على الجهاد الذي ينتظر العروسين إن أرادا أن يكونا حقًا تلاميذ ليسوع.
فالأكاليل الذي يعتبره الناس مظهر فرح وغلبة تعود معه فتأخذ مفهومها الحقيقي كأكاليل
الشهداء الذين تمجدّهم التسابيح. كم من "متبرجز" من ذواتنا الآتي إلى
العرس بعظمته وأناقة لباس زوجته وتعرّيها أحيانًا، استغرب، لا بل
"استغلظ" كلامه عن الموت والصليب الحامل له وللقيامة في
"فرحة" العرس. ألَم يستغرب الناس كلام الناصريّ في أيّامه، ويستغربون
كلام قدّيسيه الأمس واليوم؟ أمّا الذين أُعطي لهم أن يعرفوا ما يريده منهم المسيح،
لأنّهم لاقوا أشخاصًا ملهَمين وملهمين أمثال المطران جورج، فوجدوا في كلّ ما قاله
المطران نبراسًا يذكّرهم بمتطلّبات السيّد وحافزًا للتقيّد بوصاياه.