أحد الغفران

 

ريمون رزق


تعطي الرسالة والانجيل في قداس هذا اليوم توجيهاً واضحاً عن معنى هذا اليوم وما الذي يجب ان نعيه على عتبة فترة الصوم.

فالانجيل (متى 6 : 14 - 21 ) يبتدىء بوصيّة الغفران :"ان غفرتم للناس زلاتهم، يغفر لكم أبوكم السماوي، وان لم تغفروا للناس لا يغفر لكم ابوكم زلاتكم".  ثم يتكلّم الانجيل عن الصوم متابعاً موضوع رسالة بولس (رو 13 : 11 - 14). علينا ان نضبط شهوات الجسد ونسلك في وضح النهار، لابسين أسلحة النور، مبتعدين عن الظهور والتباهي قدام الناس لكي "نرتقي بخفة نحو الطريق السماوي"، كما نقول في صلاة المساء. بخفة كالملائكة.

ان نغفر للكل، وبخاصة الاعداء، هو شرط للمصالحه مع الله. هو من ثمار المحبة الطبيعية. المسيحي هو من يتمثّل بالاهه، اي يصبح "محبة"، لان الله محبة، وسكن فينا  وبيننا، لانه يحبنا. هو في البشر، ليس في سموات بعيدة. يريد ان نحبّه في البشر، ان نفتّش عنه فيهم، ان نعلنه لهم، ان نقنعهم انه يحبّهم. ولا اقناع الا بالمحبة والغفران. هكذا يعاملنا الله. أروع ما في المسيحية انك تعرف انك اذا تبت سيغفر لك. هكذا فعل أب الابن الشاطر، وهكذا يعاملنا الله. "اترك لنا ما علينا كما نترك نحن لمن لنا عليه". اذاً الغفران ضروري اذا اردنا ان تكون لنا علاقة بالرب. "من يقول انه يحب الله الذي لا يراه ولا يحب اخيه فهو كاذب". علينا على عتبة الصوم ان نعترف اننا من الكذّابين، وان هدفنا الاساسي هو ربما محبة ذواتنا، ثم من يحبّنا أو من نستلطف، بينما المطلوب هو ان نحب كل انسان ات الى العالم، وخاصة من لا نستلطفه، وحتى من يواجهنا بالعداء. كانت الوصية عند اليهود ان تحب قريبك اليهودي والا تكترث لغير اليهودي. الثورة التي أطلقها يسوع هي ان تفتح قليك الى الجميع، لانه بذلك تدخل بصلة مع الله، بل تتأله.

اول خطوة في طريق الغفران ان أعرف ذاتي وأتوب عن المعاصي. ليست التوبة بالندامة فقط، بل بتغيير الذات لكي تصبح قادرة على المحبة والغفران. لا أنا، بل أنت، أخي وأنت الاهي. التوبة هي رجوع الى الطبيعة الاصلية، الى صورة الله الدموغة فينا. "توبوا وارجعوا" (أش 21 ، 12 ). ليكن لكم قلباً جديداً وفكراً جديداً،... لاني "لا اريد، يقول الرب، ان يموت الانسان، بل ان  يعود ويحيا". (حز 18 ، 31 - 32 ). بدون التغيير الكلّي لن نكتشف الرب الآتي الينا ولن نسمع صوته الذي ينادينا.

عالمنا يشجعنا الى الانكماش على الذات، على الانانية. الانسان الذي لا يتصل بالاخرين، وينفتح عليهم، ويدخل في علاقة معهم، هو انسان ميت، لانه لا يفعل حسي ما دُعي اليه، عندما خلقه الله "وجها لوجه" معه.

التوبة هي استجابة لدعوة الله: "اقف على الباب وأقرع". هل نسمعه؟ أم العجقة التي نعيش فيها تمنعنا من سماعه. العجقة الخارجية والعجقة الداخلية. "أطلب مني أن أعود، وسوف أعود" (يو 32 ، 18 ). علينا ان نقوم، ونذهب اليه ونلاقيه فعلاً، لا ان نفكّر به وحسب. نفكر فقط بالغيّاب. هذا الطريق، طريق العودة، يتطلب خطوات ثلاث: 1 ) البحث مع الذات: أين أنا؟ لماذا وصلت الى هذا الحد؟ لماذا  اني غير محبوب؟  ان المرض، أو مصيبة ما، يمكنها أن تجعلني اقف وافكر، اذا عرفت ان اتعامل معها. هناك موقفين امام المصيبة: لماذا أنا؟، وهذا تسائل طبيعي، ولكن اذا بقينا علي هذا التسائل وثرنا على الناس وعلى الله، لن نستفيد، بل نزداد في المصيبة. اما اذا قبلنا وقلنا "فلتكن مشيئتك"، علما ان الله غير مسؤول عن مصيبتنا، فتفتح لنا أبواب التوبة والرجوع اليه. قال الله لقايين، عندما ثار واعتبر انه مظلوم، انه بامكانه تحويل هذا الشعور الى مناسبة سقوط اومناسبة قيامة ونمو، وان هذا مرتبط بارادته. امّا ان يثق بالله أو ان يشكّ بمحبته ويتصرّف لوحده وحسب مشيئته هو. 2 ) عندم نأخذ قرار الرجوع، تبدىء مصاعب أخرى، اذ تتجمع ضدنا القوى المعاكسة والاهواء المحرَّكة من الشيطان ومن ضعفنا: شو بدك من هالرجعة؟ أريّحلك هون. عندما يرى لكن الله قرارنا، يساعدنا على فهم المصاعب الجديدة وتخطيها. يمدّ لنا يده وينشلنا. نكتشف عندئذ كم يحبنا ونثق انه هو وحده الصخرة التي لا تتزعزع، والتي عليها يجب ان نرتكذ. فندخل بحوار مع الله. والصلاة هي هذا الحوار. عندما نستطيع ان نفتح قلبنا في صلاة شخصية الى الله نكون قد اعدنا العلاقة وخرجنا من عزلتنا ، ونكون قد بدأنا في طريق الشفاء. 3 ) بوعينا ان الشفاء الحقيقي  ات من الله، وليس منا ، نعي وضعنا على حقيقته ونقبله، ونرتمي مع ضعفاتنا في ذراعي الله، فنستطيع عندها ان نقول: "فلنطرح عنا كل اهتما م دنيوي لننا عازمون ان نستقبا ملك المجد" .

عندما ارجع الى الله ويضمني الى صدره، يزداد توقي للتشبه به و التخلص من روح العداوة التي تؤدي الى العنف وحتى القتل او امحاء الاخر. نحن دوماً امام خيار أليم.  يقول الرب "اضع امامك الحياة والموت. البركة واللعنة. اختر الحياة لكي تحيا، انت وسليلتك" (تث 30 ، 19 ). الموضوع متروك لارادتنا. نحن في عالم يسود فيه العنف في كل مجالاته. الموقف الوحيد ضد العنف والثأر يكمن في الغفران. الغفران يشفي الذاكرة. هو عمل ارادي يقطع رباطنا مع عالم العنف ويحعلنا نختار الحياة بدل الموت. هذا هو الطريق الذي رسمه لنا الرب. "سامحوا 77 مرة" (متى 18 ، 22). "احبوا اعدائكم، باركوا لاعنيكم، اصنعوا الخير لمن يبغضكم وصلّوا من اجل الذين يسيئون اليكم ويضطهدونكم، لكي تصيروا ابناء ابيكم الذي في السماوات". هذا برنامج كامل، لا لبس فيه. أنريد ان نكون من اتباع يسوع وابناءاً لله؟ أو من اتباع طائفة تحمل اسمه وتتّدعي انها تنطق به. ؟

تفوق محبة الاعداء والغفران القدرة البشرية. ولكن "ما هو غير مستطاع عند البشر هو مستطاع عند الله". يمكننا نقل الجبال بالنعمة ، وبغض اعدائنا وروح الثأر من أعظم الجبال. لا غفران حقيقي  بدون صلاة حقيقية. الغفران تأكيد وثقة ان نعمة الله تجترح فينا العجائب. اذاً الغفران مقرون دوماً بالصلاة. بالنهاية الله يغفر. آخر كلام السيّد على الصليب: "أغفر لهم لانهم لا يعرفون ما يفعلون".

الغفران هو ايضا اقرار ان الحيا ة والانسان هبة ثمينة من الله لا يجب اتلافها. من هنا ضرورة التمييز الدلئم بين الانسان وأفعال. ندجين الافعال الشريرة ولكن نسامح من اقترفها. كلما نتقدم في الحياة الروحية، كلما نعي ضعفاتنا وتهاوننا، وكلما وعينا مداها، كلما اعتبرنا ان معاصي الغير ضئيلة بالنسبة لمعاصينا. اذذاك نفهم القول اننا اول الخطأة وبالتالي لا يحق لنا ان نحكم على غيرنا، بل أن نصلي من أجله. كان ينصح كبار الشيوخ ان نردد هذة الصلاة عندما يكون قد اٍسأء أحد الينا: ايها الرب يسوع، فلتكن مباركا في قاب فلان" ، اي المعتدي. هكذا صلاة تساعدنا وتنفع المعتدي.

لا يعني الغفران التسامح الأعمى عن هفوات الغير، الذي يجب ان تُدرس وتُعالج. ليس الغفران في التغاضي، او في السعي لايجاد ألاعذار، بل في محبة الآخر كما هو، والسعي لجعله يتحسن. الغفران مقرون بالحقيقة التي هي شرط المصالحة. لا يوجد علاقة حقيقية ان كانت مبنية على الكذب أو عدم الافصاح عن المشاكل. على كل واحد ان يقرّ بفعله ،واذا امكن، ان يتوب عنه. ولكن يكمن الموقف المسيحي تجاه المُسيء في القول: انني أعرف ما فعلت بي، وأرجو ان تعود عنه وتعتذر ولله، ولكن ثق انني غفرت لك، اعتذرت او لم تعتذر، لان هكذا أرادني الله ان أفعل ولاني أحبك، كما انت، مع معاصيك. ( مراجعة حادثة هوشع وطلب الله منه استرجاع امرأته الزانية 2 ، 21 - 22 ). يقول اسحق السرياني: "لا تبغض اخاك، بل الاهواء التي تحاربه". اذاً ليس الانسان المعتدي هو العدو الحقيقي ، بل من في داخله يحرّكه ويدفعه على المعصية.

 تعني ممارسة الغفران ان محبة الله هي في قلوبنا، واننا محبوبين، وانها تتأجج على قدر ما نمارسها تجاه الغير. يشير حديث السيّد مع السامرية وقوله لها "لوعرفت عطيّة الله (يو4 ،10 ) الى انها لم تحظى بالسعادة والملء في توقها الى المحبة - وهذا توق كل انسان - اذ كان لها خمسة رجال ولا تعيش مع واحد منهم، وان توقها الى المحبة لن يُشفى غليله سوى بالمحبة بلا حدود. اذا غرفنا من هذه المحبة نتمكن من المغفرة 77 مرة، لاننا نكون قد اصبحنا "رحماء كما هو ابانا السماوي" (لو 6 ، 36 ).

بالمحبة والغفران المقرونة بالحقيقية، نُظهر اننا اخوة الرب، اذ نكون تصرفنا كما يريد، فيعرف العالم اننا تلاميذه (يو13 ، 34 - 35 ). "احبوا بعضكم بعضاً، كما انا أحببتكم". يكمن كل شيء في "الكما". الذي يحب يعرف الله (1 يو 4 ، 7).  

ربما تلخص صلاة كتبها القديس فرانسيس الاسيزي كل ما قلناه:

يا سيّد، علّمني الا أفتّش عن التعزية، بل الى أمارس التعزية.
وأن أتفهم الاخرين بدل ان يتفهموني.
وأن أُحِب بدل ان أُحَب،
لانه بقدرعطائي، يُعطى لي،
وبقدر نسيان ذاتي أجدها،
وبقدر غفراني الاخرين، يُغفر لي،
وبقدر موتي سأقوم للحياة الابدية.

السجود للاخر في صلاة الغروب واستغفاره هي أفضل علامة على المحبة التي دعانا السّيد ان نقيم فيها. بها نأخذ وضعية من يريد مسح الارجل. بذلك نكوتن قد تشبّهنا بسيدنا الذي غسل أرجل التلاميذ.

المشاركات الشائعة