إلى المطران جورج خضر - مئة عام


ريمون رزق 

موقع الحركة الالكترونيّ - 12 تموز 2023


أبي وسيّدي،

قيل فيك الكثير وسيُقال.

قال خلَفُك، سيادة المتروبوليت سلوان (موسي) إنّك أيقونة متجسّدة (1). وقد فتحت لنا بالفعل، كالأيقونة، أبواب السموات وجعلتنا نشتاق إليها.

وقال أحد تلاميذك الأبرار، الأب جورج مسّوح (2)، الذي تركنا باكرًا اشتياقًا إلى الملكوت، في عيدك التّسعينيّ، إنّك "أنطاكية في رجل" و"الكنيسة في رجل" و"الكتاب المقدّس في رجل"، لأنّك جعلتنا نتذوّق أنطاكية والكنيسة والكتاب المقدّس، وأرشدتنا من خلالهم إلى وجه يسوع، المجيد والدّامي، الذي عشقته.

قيل فيك في الأوساط الجامعيّة إنّك "رجلُ دين، كاتبٌ أديب، أستاذٌ جامعيّ، واعظٌ مفوّه، صاحبُ ثقافة متعدّدة مستنيرة، ناهلٌ من عبق المشرق صفاءَ روحٍ وانفتاحَ أفق... واعٍ لطروحات فلسفة الغرب... ومؤمن بعمقٍ بضرورة حوار الأديان وحضارات الشّعوب وحتميّته... صاحب مؤلّفات غزيرة في مسائل الحياة والإنسان والسّماء والرّجاء، راهنٌ زمانه لبهاء الكلمة" (3). يختصر هذا القول ببراعة وصدق كيف يُنظر إليك في الأوساط الثّقافيّة والمدنيّة العامّة. وها أنا أقرأ بعض ما قاله محبّوك بمناسبة مئويّتك هذه. وصفك أحدهم أنّك "مشروع محبّة وتواضع وتعمّق وتثقيف"(4). وقال آخر إنّ "حروفك وخطوط وجهك" يدعون كثيرين إلى العبور إلى وجه المسيح(5). وقالت الأمانة العامّة لحركة الشبيبة الأرثوذكسيّة، إنّك "بلغت من العمر على الأرض قرنًا، وما زال قلبك يناجي التّوبة والطّهارة" (6)، وترنو إلى أن يقبل الله توبتك.

وقال فيك الملتزمون في الحركة الكثير الكثير. ولا تزال مرشدًا لهم وملهمًا. هذه "الحركة" التي أسّستها مع خلّان لك، وحضنتها هي إبنتك المدلّلة وكانت مصبّ اهتماماتك طيلة حياتك. وأنت، سيّدي، وراء كلّ ما حقّقه الله بواسطتها. لخّصتها في شخصك المحبّب. وكنت حاملًا للنهضة التي دعت إليها. قلت فيها إنّها "إحياء للإنجيل، وغرسه، وعدم الإكتفاء بالعبادات ترجمة وحيدة للحياة الروحيّة، ولكن الذّهاب إلى الأصول، إلى المناهل" (7). وقلت إنّ هدفها الوحيد هو الحياة في المسيح، وعليها "هتك الحجب التي كانت تغطّي وجه المسيح لإيقاظ النيام ليشتهوه" (8).

 

سيّدي، أعود لأتأمّل بيوم مئويّتك المبارك. أجمل ما فيه كان إشتراكنا، نحن تلاميذك، كهنة وعلمانيّون، في القدّاس الإلهي الذي أُقيم على نيّتك. أنت علّمتنا أنّ يسوع وحده هو المبتغى، ولا سبيل لنا إلّا باندماج جسدنا بجسده ودمنا بدمه. وبعد أن تزودنّنا بالقرابين المقدّسة، شعرنا عند رؤياك بحضور الربّ الذي ينير وجهك.

وإذ كنتُ لا أزال في غمرة ما أُعطي لي أن أعيشه صبيحة ذلك اليوم، تذكّرت أوّل لقائي بك، وكان في ميناء طرابلس حيث خدمتَ كاهنًا. كنتُ حديث الالتحاق بالحركة، وطلب منّي المسؤولون في بيروت آنذاك أنّ أزورك. فذهبت إليك في عطلة نهاية الأسبوع. كنت أخشى هذا اللّقاء، متصوّرًا أنّني سأسمع كثيرًا من الوعظ، وإذ بي أكتشف رجلًا يصغي ولا يسأل. والمحبّة التي أظهرتها لي واهتمامك بما قلته جعلاني أُفصح لك بكلّ ما يخالجني. عرّاني انتباهك وتيقّنت أننّي محبوب، فانوجدت. الإصغاء المحبّ هو ميزة كبار الروحانيّين، وأنت منهم.

وكم كثرت لقاءاتنا بعد هذه الزّيارة في مناسبات الاعتراف والاجتماعات والنّشاطات الحركيّة والسّهرات معك والإخوة. بوركت هذه اللّقاءات التي رسّختنا في كلمة الربّ التي كنت تستحضرها من خلال كلّ كلام لك، وفي أيّ موضوع كان.

علّمتنا أنّ يسوع هو الألف والياء. وعلينا أن نجعل منه "برنامج" حياتنا، وأن نأخذ أقواله ووصاياه على محمل الجدّ، ساعين إلى التعرّي ونكران الذات و"لبسه"، وجاهدين في البّحث عن وجهه في كلّ مواضع سكناه، في الكتاب المقدّس وجماعة الإخوة وفي كلّ البشر، وخاصّة منهم الفقراء والمظلومين. ألم تكن أنت، سيّدي، مَن أحبّ الفقراء وقاسمهم ما يحتاجون إليه؟ وكم كنت مشجّعًا لنا للّدخول في مغامرة الغفران والتدرّب عليها تجاه مَن يسيء إلينا. كتبتَ لي مرّة: "ألا وهبك ربّي ما أنت بحاجة إليه للقربى إليه، وجعلك على عتباته مسترحمًا، ورحمك لترحم". واكتشفنا كلّنا أنّه لا يعنيك أن تكون مشرّعًا ساهرًا على تطبيق المحرّمات بالنّهي والعتاب والمحاسبة، بل شاهدًا لمحبّة الله في المسيح يسوع.

لقد مزّقت، سيّدي، من عقلنا وقلبنا، صورة الإله البعيد والجبّار، ورميتنا عليه قريبًا منّا ولصيقًا بنا ومصلوبًا من أجل قيامتنا. كنتَ، سيّدي، الأب والمعلّم والملهِم والصّديق في آن. أن يكون السيّد، برضاه، صديقًا لإخوته، يعني أن يكون قابلًا لمساءلتهم. هذا ما أردته بالفعل لك ولغيرك، لتبقى الكنيسة كنيسة الرّوح القدس. فكنتَ تريدنا أن نسائلك عن كلّ ضعف يعتريك أو كسل أو مزاجيّة. كتبت لي مرّة تشكو إخوة انتقدوك بدون مواجهتك، قائلًا: "كنتُ أرجو أن يأتوني ببساطة المسيح، وأنا متقبّل لنقد يصل حتّى القسوة... ضعفاتي أستطيع أن أسمع عنها. وقد يزيدني هذا إنكسارًا وزلفى إلى الله. وأنا أدعو الله أن يقوّي أصدقائي في الجرأة عليّ". وكتبت لي أيضًا: "أعرف نفسي فقيرًا فقيرًا جدًّا إلى كلٍّ منكم. آخذ ما تعطون، بالقدر الذي تعطون، ولا يعرف العتاب إلى نفسي سبيلًا لأنّ الفقراء لا يشترطون". أنت إذًا "الفقير الشكور الممتلئ محبّة أخويّة"، كما قال سمعان اللاهوتي الجديد. إنّ عصر آباء الكنيسة إذًا لم ينتهِ، وأنت منهم. عندما أبعدتنا الحرب اللبنانيّة عن بلدنا، كنتُ ألقاك، سيّدي، بالمراسلة وترجمة ما تيسّر لي من أعمالك (9). وخاصّة "لو حكيت مسرى الطفولة" الذي قوبل بالأوساط المسيحيّة الفرنسيّة بإعجاب منقطع النظير. وعندما رجعنا إلى لبنان، سمحت أن نعاود اجتمعاتنا، رغم مسؤوليّاتك الجسام في رعاية أوسع أبرشيّة في الكرسيّ الأنطاكي. وكنتَ لا تزال تدعونا أن نصبح جماعة إنجيليّة تحيا على صورة الكنيسة الأولى. وكنتَ قد اقترحت على بعضنا إنشاء "قرية مسيحيّة" نعيش فيها، كلّ عائلة في في بيتها الخاصّ، ونتشارك بالخيرات، ونقيم الصّلوات معًا، لكنّنا خذلناك بضعفاتنا ورفضنا التّكريس في هذه الأخويّة في العالم. سيّدي، أنت الأسقف الذي ثار ضدّ الأبّهة والمجد الدنيوي، وأحبّ وطاع قبل أن يفرض الطّاعة. وأنت "الذّهبي الفم الجديد" الذي نقل لنا الفكر الآبائي، وأقنعنا أنّ عهد القدّيسين ومعلّمي المسكونة لم ينتهِ في كنيسة أنطاكية. فلا تنسني، أبتاه، في صلواتك. أطلبُ منه تعالى أن يُبقيك بركة لنا أجمعين إلى سنين عديدة، تقدّسنا برؤيتك وكلماتك القليلة، بعد أن أيقظتنا بغزير كلامك. وأرفع الشّكر الدائم لله الذي دبّر أن نعرفك ونعايشك.

___________

1 في حديث تلفيزيوني أعطاه سيادته صباح الخميس 6 تموز 2023.

2 في الكلمة الذي كتبه باسم مركز جبل لبنان في حركة الشبيبة الأرثوكسيّة في تسعينيّة المطران جورج.

3 من كلمة الأستاذة الجامعيّة مادونا عسكر، التي أُلقيت في حفلة تكريم الجامعة الأنطونيّة للمطران جورج،"أسقف العربيّة".

صحيفة الأخبار في 5 تمّوز 2023. 

الكلام للأخ رينيه أنطون، أمين عام الحركة السابق.

6 في بيان صدر عن الأمانة العامّة للحركة، في 6 تمّوز 2023.

7 "هذا العالم لا يكفي"، منشورات تعاونيّة النورالأرثوذكسيّة، ص. 15.

8 أحد أقوال المطران جورج في الحركة، 1991.

9 Sel de la terre, Paris -Editions Cerf Et si je disais les chemins de l’enfance et L’appel de l’Esprit, ومقالات عديدة في مجلّة Contacts ونشرة SOP.


 

المشاركات الشائعة