هل من لاهوت للعمارة الكنسيّة البيزنطيّة 2

ريمون رزق

النور - العدد الثاني 2018 



ميزة الفنّ المعماريّ البيزنطيّ

بالنسبة إلى المسيحيّ تتكوّن الكنيسة في حدث الإفخارستيّا، وفي مشاركة المخلوق في الحياة الحقيقيّة النابعة من الثالوث الذي هو مثال كلّ شركة وتواصل. هذا النمط الثالوثيّ هو معيار الكنيسة الأساس، ولحم العالم الذي اختار المسيح أن يتّخذه، فيجعل الخليقة بأسرها تمتدّ وتملأ الملكوت. تدرس العمارة الكنسيّة البيزنطيّة واقع لحم الكلمة الكونيّ وتعلنه، مبشّرة بتخلّي اللَّه عن ذاته ليؤلّه الخليقة. باتّخاذ المسيح طبيعتنا المادّيّة يُدخل كياننا في الحياة الإلهيّة التي لا تعرف الفساد ولا تفنى. وكما يواجه الناسك جسده، يواجه المعماريّ المادّة التي يبني بها، دارسًا صعوباتها وإمكانيّاتها، باحثًا عن سبب وجودها وكيفيّة تطويعها لهدفه. فكانت جامدة قبل التجسّد، وصارت فيها ديناميّة بعده. وكذلك يبحث السبب الذي يربط بين حقارة المادّة الطبيعيّة بإمكانيّتها العجيبة لاحتواء هذا الذي لا يسعه شيء، ولتجسيد الذي لا جسد له، وجعله يعلن عن ذاته في جسد الإله الكلمة، أي في الكنيسة. يقول خريستوس يناراس، وهو لاهوتيّ وأستاذ جامعيّ يونانيّ معاصر، في كتابه «حرّيّة الأخلاق» إنّ «كلّ بناء بيزنطي هو حدث إفخارستيّ، إذ يُدخل بطريقة ديناميّة كلّ عنصر فرديّ في حدث الشركة الكنسيّة. وهذه العمليّة تتجاوز الاختلافات بين العناصر بدمجها في مجال الشركة، أي بالتحرّر الواعي من الأحاسيس، ومن اليقين الفكريّ، ومن التعلّق بالجمال. يجسّد كلّ مبنى بيزنطيّ تخلّي المهندس المعماريّ عن ذاته وسعيه إلى الزهد. لذلك يبيّن خصوصيّته وفي الوقت ذاته حقيقة الكنيسة الجامعة»(٦).

لذلك كلّ مبنى بيزنطيّ فريد من نوعه، إذ يمزج بين تطلّعات الباني ونسكه الشخصيّ واليقين الكنسيّ الذي لا يتغيّر. فنراه لا يحترم دومًا الموازاة في البناء، احترامًا منه لخصوصيّات المادّة المستعملة، ليجعل منها كنيسة، أي ليجعل من المادّة لحم كلمة اللَّه، كما يرى القدّيس مكسيموس المعترف الذي قال إنّ الخليقة بأسرها، «من الملائكة إلى المادّة الجامدة، تصبح حدث حبّ واحد ثابت، وعلاقة محبّة تجمع الخليقة، الشخصيّة وغير الشخصيّة، الناطقة والجامدة، في شركة متبادلة تتوق إلى العودة نحو اللَّه. وتشارك المادّة الجامدة في حدث الحبّ الكونيّ هذا، بموجب ما يتماشى معها عادة، أي مع نوعيّتها»(٧).

ويقول يناراس إنّ عدم احترام الموازاة في المبنى البيزنطيّ وطابعه الخاصّ «ليسا سوى التعبير عن احترام الباني للمادّة الطبيعيّة، ومحبّته لها التي تحترم الخليقة وتدرسها وتعلنها كأداة خلاص، فتساهم عضويًّا في شركة المخلوق وغير المخلوق، وفي استعادة كلّ الأشياء في علاقة المحبّة التي للآب والكلمة المتجسّد»(٨).

ويقول أيضًا: «إن كان المعبد الإغريقيّ القديم يُبرز رؤية العالم الهلّينيستيّ المتمحورة حول النظام والتناغم،... فالمعبد البيزنطيّ يمثّل رؤية كنسيّة للعالم، ومشاركته في حياة الملكوت. من أجل ذلك، يحترم الطابع الخاصّ لموقع البناء، والمادّة المستعملة لبنائه، ونمط الجمال المخلوق كمطرح لعلاقة المخلوق بغير المخلوق، أي يجعل منه كنيسة. فتأخذ الخليقة المادّيّة شكل لحم الكلمة، ويكون بناء الكنيسة البيزنطيّة جسد الكلمة المتجسّد، وحركة السماوات المنحنية نحو الأرض، والخليقة التي تأخذ شكل الصليب»(٩). وأيضًا: «إنّ تقنيّة بناء قبّة الكنيسة وصدرها والأقواس هي التي تعطي بامتياز إمكانيّة الدراسة الشخصيّة والحرّة لسبب وجود المادّة... إنّها تعطي إمكانيّة التعبير بطريقة حسّيّة عن حركة التجسّد، أي انحدار اللَّه إلى العالم، وحركة «السماوات المنحنية» («لقد طأطأ السماوات وانحدر»)، وهي الحركة التي تشير إلى المعرفة اللاهوتيّة التنزيهيّة المتعلّقة بأهمّيّة الطاقة الإلهيّة في معرفة الإنسان للَّه. «أمّا الآن فبعد أن عرفتم اللَّه، أو بالحريّ عرفكم اللَّه، كيف ترجعون إلى الأركان الفقيرة التي تبتغون أن تعودوا إلى التعبّد لها؟» (غلاطية 4: 9)»(١٠). من أجل ذلك يقول الأب مِيخِاليس: «يقول المرء إنّ المبنى اكتمل من فوق إلى أسفل، وليس العكس»(١١).

والجدير بالملاحظة أنّ هذا البناء يقوم بحرّيّة تامّة، إذ لم يستعمل البيزنطيّون القوالب لبناء القبب. ذلك يتطلّب من المادّة المستعملة أن تتواصل مع موادّ أخرى إلى جانبها ليتماسك البناء. فما بقيت المادّة شيئًا بل حقيقة، فعلاً، طاقة شخصيّة. يقول غريغوريوس النيصصيّ في هذا الصدد: «لا شيء ممّا يُعتبر من صفات الجسد هو الجسد: لا الشكل، ولا اللون، ولا الوزن، ولا السعة، ولا العظمة، ولا شيء آخر ممّا يُعتبر من باب الجودة، لكن كلّ واحدة من هذه الأشياء هي سبب، تتلاقى الواحدة مع الأخرى، واتّحادهما هو الذي يوجد الجسد»(١٢).

العمارة تساهم في التسبيح الكونيّ

فهكذا لا يكتفي مبنى الكنيسة بإيواء المؤمنين المجتمعين لإقامة سرّ الشكر، وتاليًا تكوين الكنيسة وإعلان ملكوت اللَّه والخليقة الجديدة، بل يشترك معهم في إقامة إفخارستيّا الخليقة، ويشكّل بصحبتهم مدًى واحدًا وحدثًا حياتيًّا واحدًا. يقول ياناراس: «يشكّل المبنى والشعب... ليتورجيا الكنيسة الكاملة، وإعلان جسد المسيح الذي بتجسّده وضع الخليقة المادّيّة بأكملها على عرش اللَّه، فصارت لحم الكلمة، وصار العالم كنيسة»(١٣).

تعبّر العمارة البيزنطيّة عن حقيقة اللَّه الذي صار إنسانًا والعالم الذي صار كنيسة، بواسطة تقنيّة عجيبة، إذ تُدخل القياس البشريّ في أبعاد المبنى. تُقاس كلّ أقسام الكنيسة على أساس القياس البشريّ: الأبواب والنوافذ، والأعمدة، وكلّ شيء آخر.

«هكذا يستطيع الباني البيزنطيّ أن يحافظ على قياس الإنسان، هذا «العالم الصغير»، بخلق وحدة حيّة بين الجسد وأعضائه. فحقيقة الجزء لا تختفي في الكلّ، بل تعطيه جودته. وحقيقة الكلّ لا تلغي الجزء بل تقوّمه. تعبّر هذه العلاقة العضويّة بين الجزء والكلّ، وارتفاع القياس البشريّ إلى أبعاد المبنى بكلّيّته، بطريقة مثيرة، على حقيقة الكنيسة، أي على علاقة الشخص بالطبيعة المشتركة... فصورة الكنيسة التي يجسّدها البناء الكنسيّ البيزنطيّ هي صورة جسد الكلمة المتجسّد، وأيضًا مطرح إعلان مواهب المعزّي الشخصيّة وطاقاته، ومكان الخضوع الحرّ والشخصيّ لمشيئة الآب، ومكان الجدليّة القائمة بين حرّيّة الموت والقيامة»(١٤).

استطاعت العمارة البيزنطيّة أن تجعل صورة العنصرة وعمل الروح القدس المحيي الباني الكنيسة ظاهرين، وذلك بتشديدها على إبراز النور، هذا النور الذي نزل على الرسل بشكل ألسنة ناريّة، والذي لا يزال ينزل بالروح القدس على المؤمنين والكنيسة. يتدفّق النور في الكنيسة البيزنطيّة من كلّ مكان، حتّى إنّ أوليفيه كليمان نعتها «بعمارة النور» يؤدّي النور إذًا دورًا أساسًا في مبنى الكنيسة البيزنطيّة، إذ يحدّد المدى الليتورجيّ الذي لا حدود له.

كان المعبد الوثنيّ يؤكّد على عظمة مظهره الخارجيّ، فيبهر الناس الواقفين خارجه. أمّا الكنيسة المسيحيّة، فكان همّها أن تؤثّر في الشعب الذي يدخلها، فيصير بمحبّته المتبادلة، واشتراكه في الإيمان الواحد، ومشاركته في الكأس الواحدة، كنيسة المسيح. نلاحظ بساطة واجهات البازيليكات المسيحيّة الأولى الخارجيّة، بينما كانت جدرانها الداخليّة وأرضيّاتها تُزيّن بأجمل الموادّ وأفخمها. مَن يشاهدها من الخارج لا يمكنه تصوّر ما في داخلها. ألا يوجد في ذلك سعي إلى تقديم «الداخليّ» على كلّ ما هو خارجيّ، الذي يميّز صراحة الإيمان المسيحيّ؟

يقول ميخاليس إنّ «العمارة والرسم البيزنطيّين يسبّحان اللَّه بواسطة أشعار حرّة، كما في شعر الكتاب المقدّس، وليس بأبيات مضبوطة كلاسيكيّة. تتبع أشعارهما إيقاعهما الخاصّ، وتعبّران عن شعور ذاتيّ ومعظِّم، وليس عن رؤية عقلانيّة موضوعيّة»(١٥).

ويتابع مقابلاً الكاتدرائيّات الغوطيّة بالكنائس البيزنطيّة ذات قبّة وسطيّة، قائلاً: «عندما تدخل الكاتدرائيّة الغوطيّة، ينتابك شعور بأنّك دخلت غابة صنوبر مظلمة وكبيرة جدًّا، ترتفع أشجارها نحو القمّة وتتشعّب، وتغمر بحسب قول هيغيل بأغصانها المتشابكة. فلا يوجد في الكاتدرائيّات الغوطيّة فُرجة تُظهر لك لمعان السماء، كما في آيا صوفيا. فلا تتحرّك، وتشعر بأنّك شديد الصِغَر وكمخلّع ضائع في جوّ الغابة المعتمة، ويكتنفك شعور يقترب إلى الرعشة أكثر منه إلى الانخطاف. بينما تشهد لدى دخولك آيا صوفيا نوعًا من المعجزة تدخلك في نشوة عميقة. في الكاتدرائيّة الغوطيّة المعجزة على وشك الحدوث، ويَسكنك أمام هذه الكثرة من الأعمدة الضخمة التي تحوط بك شعور من القلق والرعدة. في معظم هذه الكاتدرائيّات، لا يُحصر النور في قمّة صحن الكنيسة كي يستمتع به المؤمن، بل هو موزّع على جوانبها، ويبرز عبر زجاجيّات ملوّنة. فيبدو لنا أنّنا نشاهد أفقًا ملبّدًا بالغيوم، محاطًا بشريط من نور... بينما تُغرقنا الكاتدرائيّات الغوطيّة بأشجار غاباتها المظلمة في قلب المطهر، تقودنا العمارة البيزنطيّة من كوكب الأرض المتنوّع الألوان إلى قبّة سماء المنيرة حيث يجول اللَّه»(١٦).

مفهوم مدى العمارة الكنسيّة

يظهر مفهوم المدى في العمارة الكنسيّة بطرائق ثلاث متداخلة ومتضمّنة. أوّلاً هو مدًى مقدّس، إذ كلّ كنيسة هي باستعمال عبارات ميركيو إلياد، العالم الرومانيّ الأصل، «مركز مقدّس» ينقل الحسّ بالسرّ عبر طقوس الليتوجيا المسيحيّة، ويقوّي الحسّ بحصريّة مميّزة. وثانيًا هو مدًى اجتماعيّ لأنّ هذه الطقوس تُقام بلغة متأصّلة في أفكار الهويّة المدنيّة والاجتماعيّة، وفي مَن يقيمها، أي الإكليروس، فاكتسب مع الوقت مركزًا اجتماعيًّا مرموقًا خارج نطاق البناء الكنسيّ. وثالثًا هو مدًى يجمع طبيعتي المدى المقدّس والمدى الاجتماعيّ، ويضمّهما معًا باستمرار، أو بلغة إلياد، يجمع بين «المقدّس والدنيويّ». بهذا الفعل، خلقت العمارة الكنسيّة نوعًا آخر من المدى، هو مدى توسّط وغموض، ليس دنيويًّا محض وليس مقدّسًا محض، بل مدًى ديناميًّا يسمح للدنيويّ بأن يفوق الواقع الإنسانيّ، وللمقدّس بأن يظهر بشكل إنسانيّ. وتجسّد هذا المنظور في تصرّف رجال اللَّه، المتبالهين من أجل المسيح، الذين كان بوسعهم التكلّم بالحرّيّة ذاتها مع الأمبراطور ومع اللَّه، وكانوا بذلك يتمتّعون بسلطة روحيّة أكيدة. وتجسّد لاحقًا هذا المفهوم في لاهوت الأيقونات التي تسمح بتخطّي المدى الفاصل بين العالم الإنسانيّ والعالم الإلهيّ. فمبدأ الوساطة هذا تجسّد أيضًا ليس فقط في مظاهر عدّة من الليتورجيا، بل حتّى في العمارة الكنسيّة واستعمالها للمدى. ففصلت مثلاً بين الشيوخ والعلمانيّين من الشعب التي وضعتهم في جناحي البازيليكا الجانبيّين، تاركة الجناح الوسطيّ الأوسع كما الهيكل، مدى يتزعّمه الإكليروس، ويمارس فيه دوره كوسيط.

ولم ينحصر دور المبنى الكنسيّ في الوساطة بين اللَّه والناس، وبين الناس في ما بينهم، بل تخطّى كلّ ذلك ليتوسّط بين ثقافة العالم القديم والثقافة الجديدة التي ابتكرتها المسيحيّة. من هنا الاستمرار في استعمال بعض الأنماط التشكيليّة التي كان اعتادها الناس كالفسيفساء التي كانت تكسو كثيرًا من أرضيّات وأحيانًا جدران البازيليكات المدنيّة (والبيوت) القديمة، وأعطتها معاني جديدة. وكان ذلك أيضًا في استعمال الرموز الرومانيّة القديمة وإعطائها دلالات مسيحيّة.

فكان إذًا تنصير العالم الإغريقيّ التدرّجيّ عمليّة لم تلغِ تمامًا التعابير الاجتماعيّة والدينيّة القديمة، ولم تقبلها، بل أبدعت طريقًا ثالثًا تتّضح معالمه في العمارة الكنسيّة، يسمح للمنظّمات الاجتماعيّة والدينيّة التقليديّة، لا بل يشجّعها على العيش باندماجها الدائم الواقعيّ في خطاب يتأصّل في اللاهوت والطقوس المسيحيّين. فساهمت بذلك في تخطّي كلّ تضاد بين المقدّس والدنيويّ، وبين الإكليروس والشعب، وبين الديانة التقليديّة والمسيحيّة، وبين الحاضر والأبديّ، والماضي والمستقبل. وإيجاد حلول لهذا التضادّ عبر الانتماء إلى رؤية مسيحيّة شاملة تجمع المضادّات في رؤية مسيحيّة كونيّة واجتماعيّة واقتصاديّة وسياسيّة واحدة. فلم تؤالف المسيحيّة بينها، بل أوجدت مدًى لا يوافق بين المسيحيّ وغير المسيحيّ، بل يخلق واقعًا مستقلاًّ يطالب بتفهّم الاتّجاهين المعاكسين، ويفتح المجال لنقدهما.

العمارة الكنسيّة هي «باب السماوات» (تكوين 28: 17).

يقول بول إفدوكيموف إنّ الكنيسة تمثّل العالم الذي صنعه اللَّه، وتحيي حضوره الفائق. إنّها «بيت اللَّه» و«باب السماوات»(١٧). الأيقونوسطاس الذي كان في الماضي فاصلاً قليل الارتفاع، يفصل الهيكل الممثّل السماوات عن صحن الكنيسة التي تمثّل الكوكب الأرضيّ المخصّص للعلمانيّين. وخلال القدّاس الإلهيّ، تُفتح أبواب الأيقونوسطاس لتسمح للجمع برؤية قدس الأقداس. المدى المقدّس، المحميّ هكذا من المدى الدنيويّ، يسمح للمؤمن بأن يستشعر شيئًا من مجد الفردوس والسلام السماويّ. فيتلاقى القدّيسون الموجودون على أيقونات الأيقونوسطاس مع المؤمنين، ويسبّحون معًا اللَّه بالاتّحاد مع الملائكة وجميع القدّيسين. يتّخذ الموجودون في المدى الكنسيّ، أثناء الخِدم، صفات سماويّة: الشيخ (الكاهن في لغة اليوم) صفة المسيح والشمّاس صفة الملائكة، والمرتّلون صفة الأجناد السماويّة. «فيتّحد عبر العمل الليتورجيّ السماء والأرض، واللَّه والإنسان، والأبديّة والزمن في وحدة مساريّة»(١٨). وما لا شكّ فيه أنّ الكنيسة تمثّل الفردوس، «السماء على الأرض». فعلى الأواني الليتورجيّة أن تكون إذًا فائقة الجمال والعظمة بما أنّها تشترك في عمل الليتورجيا الإلهيّ. أمّا الألبسة الكهنوتيّة، فكلّما كانت ثمينة وجميلة، كلّما يختفي الشخص الذي يلبسها وراء الخدمة التي يقوم بها، والتي يرمز اللباس إليها. فالمقيمون الخدمة لا يتحرّكون كشخص المسيح، بل كخدّامه المكلّفين بخدمة معيّنة. يمثّلون هذه الخدمة وليس شخصًا. الروح القدس هو الذي يجعل كلمات الأسقف أو الشيخ، أثناء صلاة الاستحالة، فاعلة، ويؤكّد حضور الربّ في القرابين المقدّسة. الكلمة هي طريقة المخاطبة بين البشر. من أجل ذلك، كتب الأب بول فلورِنسكي: «يأتي اللَّه إلينا عبر كلمته – كلمة اللَّه – ويذهب الإنسان لملاقاة اللَّه عبر كلمة بشريّة»(١٩).

المكان حيث يتحقّق السرّ

تشدّد تفاسير القدّاس الإلهيّ القديمة، التي شاعت بخاصّة في القرن التاسع عشر، على أنّ القدّاس الإلهيّ هو تشخيص سرّيّ لحياة يسوع، من ميلاده حتّى الموت. أمّا المفسّرون القدامى، كما المعاصرون، فيفضّلون الكلام على لاهوت ليتورجيّ يستلهم تقليد الكنيسة القديم الثيوفانيّ الذي يقول إنّ الليتورجيا تعلن العقائد وتظهرها. بواسطة الترتيل تضع الليتورجيا بين أيدينا تعليمًا مسيحيًّا عظيمًا يُظهر بطريقة شعريّة حقائق الإيمان الموجودة في الكتاب المقدّس والتي تسعى العقائد إلى التعبير عنها. وكذلك تحقّق الليتورجيا ما تقوله. إنّها عمل شعب اللَّه المشترك الذي يجتمع ليصير كنيسة عبر تناوله الجسد المقدّس والدم الكريم، وتعبيره عن محبّته وإيمانه الواحد. فلا تقتصر الليتورجيا على كلام يعتبره البعض مضجّرًا. إنّها تُسائل الإنسان كلّه في عقله وقلبه وحواسّه، عبر كلمات وأفعال وطقوس. فالبخور يخلق جوًّا منيرًا: «ترتفع صلاتي أمامك كالبخور». والشمع المضاء والقناديل المنارة بالزيت، يغرقون الكنيسة في جوّ خاصّ يجعلنا نستشعر النور الآخر الذي يضيء السماوات. وكذلك الترتيل يوحّدنا مع الأجواق الملائكيّة، وبتآلف ألحانه، يُسمعنا أصواتًا ترفعنا إلى أبواب السماء. ليس من باب الصدفة أن تكون كلّ الليتورجيا البيزنطيّة مرتّلة. ولا بدّ من ذكر مساهمة الجسد الذي يرافق الترتيل بسجداته، أو بوقوفه أو جلوسه.

يشكّل العمل الليتورجيّ والمدى الذي يقوم فيه «لاهوتًا بصريًّا». فالليتورجيا تعلن الأسرار، وتجعلها حاضرة أمامنا، كما تفعل جميع عناصرها. فالأيقونة تُعلن وجه الربّ أو وجوه أصدقائه، وتؤكّد حضورهم معنا، وتذكّرنا باستمرار أنّ علينا التمثّل بهم وتاليًا التمثّل بالمثال الأعلى الذي يقدّسنا جميعًا. خُلق الإنسان على صورة اللَّه، وهذه الصورة حاضرة فيه تساعده على أن يصبح على مثال اللَّه. من أجل ذلك تشكّل الأيقونة جزءًا لا يتجزّأ من الليتورجيا، وتاليًا من المبنى الذي تُقام فيه. وكما يقول الدمشقيّ، المدافع الأكبر عن إكرام الأيقونات، «الصور هي أفكار الأشياء، والإنسان هو صورة اللَّه، والكلمة الإلهيّ هو صورة الفكر. الصورة هي ذكر الماضي وتصوير المستقبل. كلّ شيء صورة، والصورة هي في كلّ شيء».

لذلك مَن يدخل كنيسة أرثوذكسيّة يجد نفسه غارقًا في عالم من الصور. يجد نفسه في معيّة المختارين، قدّيسي اللَّه. فلا تكون الليتورجيا بالنسبة إليه سوى إبراز عجيب ومصوّر لأسرار خلاصنا بالمسيح. فالأشخاص المكتوبون على الأيقونات لا ينتظرون أن نأتي إليهم، بل هم الذين ينطلقون ويأتون إلى الذي يتأمّل فيهم. إنّهم يضمّوننا إلى صدورهم، ويرشدوننا إلى الخلاص الإلهيّ.

البناء الكنسيّ، الذي تعوّدنا تسميته «الكنيسة»، ليس أبدًا الكنيسة، بل المكان المعدّ ليجتمع فيه أعضاء الكنيسة ويكوّنوها في العمل الليتورجيّ.

الخلاصة

إذا كان الأمر هكذا والمفروض أن يتلاحم البناء الكنسيّ بالطقوس الليتورجيّة لتمجيد كونيّ للَّه، لا بدّ من أنّ الأسى الذي يصيب المؤمن الأرثوذكسيّ عند مشاهدة كنائسه القديمة محوّلة إلى متاحف، بسبب غير المسيحيّين (كما في القسطنطينيّة) أو بسبب المسيحيّين (كما في كييف)، يتضاعف أضعافًا لوعيه أنّها رغم جمالها ليست سوى جسم بلا نفس، وفم بلا صوت، وأنّها تئنّ (مَن له أذنان فليسمع!) لافتقادها نفوس المؤمنين وأصواتهم، التي كانت تتصاعد فيها كالبخور، وتتعانق مع فسيفسائها وجداريّاتها ومداها، فتُنزل حقًّا السماء على الأرض.n


المشاركات الشائعة