كلمات نبويّة للأب سيرج بولغاكوف - أوريجنّس القرن العشرين

 ريمون رزق

النور - العدد السادس 2016


كنيسة آيا صوفيا‫ (13)

ليست كنيسة آيا صوفيا السماء ولا الأرض بل القبّة السماويّة فوق الأرض. ليست اللَّه ولا الإنسان بل الإلهيّ نفسه، وشاح الحماية الإلهيّة المشدود فوق العالم. كم كان صحيحًا شعور أجدادنا لدى دخولهم إلى هذه الكنيسة، كم كانوا محقّين في قولهم إنّهم لم يعرفوا إن كانوا في السماء أو على الأرض! ما كانوا فعلاً في السماء ولا على الأرض، لكن بينهما: كانوا في آيا صوفيا... التي هي آخر كشف للعبقريّة اليونانيّة، كشف صامت، نُقل إلى الأجيال في الحجر، والذي لم يتمكّن البيزنطيّون أنفسهم من وعيه كلّيًّا، لذا لم يعبّروا عنه لاهوتيًّا. مع ذلك كانت تعيش هذه الكنيسة في نفوسهم، ككشف سامٍ ولد لدى الإغريق وأُعلن في المسيحيّة. ليس من باب المصادفة أن تكون الليتورجيا الأرثوذكسيّة قد تكوّنت وظهرت في ملئها وجمالها الإلهيّ. قال القدّيس يوستينوس إنّ سقراط وأفلاطون كانا مسيحيّين قبل المسيح، لأنّ أفلاطون تنبّأ بالحكمة الإلهيّة في الوثنيّة. إنّها ترتفع فوق سديم اللاوجود، وتتغلّب عليه، لأنّ الفكرة قد سادت، كما بدا الكلّ كالواحد، ووحدة الكلّ. يُكشف فيها ملكوت الأفكار، ويُعلن للعالم. إلهيّ، كم مقدّس هو هذا الإعلان، كم هو عجيب، ولا يمكن تقديره!

يدخلها المرء فيجتاح نفسه من كلّ صوب، من فوق ومن تحت، شعور بالمدى والحرّيّة، شعور باللانهائيّة والحدود، وما من صراع بين المحدود والذي لا حدود له، بل سِمفونيّة بهجة، مليئة نورًا. فيهدأ العنف الذي لا مخرج منه، ويختفي في ليل مستضيء كالنهار.

يقف المرء قبل القبّة الواقعة أمامه. يرتّل ذهب الجدران بهدوء تلوّنه زينة عجيبة ونبيلة. يسعى المرء بواسطة الخيال إلى أن يضع جانبًا الدروع والطرش الذين أتوا لاحقًا (14)، ليستعيد العظمة القديمة. لكن يكفي الموجود: أيجب إضافة شيء على تمثال فينوس ميلو (15) ليرى أنّها جميلة؟

أيمكن ألاّ تكون جدران الكنيسة مطليّة بالذهب، وألاّ تتلألأ بواسطة هذا المعدن الذي لا يعرف الصدأ؟ وإلاّ لماذا وجد الذهب في العالم؟ أيمكن ألاّ تكون أبنية أورشليم السماويّة، ولا النازلة من السماء على الأرض، من الذهب ومزيّنة بالحجارة الكريمة؟ حتمًا كلاّ. وهذا ما نشاهد هنا. أتت الأعمدة التي نرى على اليمين واليسار من معابد وثنيّة. أُتي بها إلى البازيليكا لتكتسب قدسيّة جديدة. يقع أمامك الهيكل، أو بالأحرى ما يرنو أن يكون هيكلاً، إذ عاد لا يوجد في هذا المكان المقدّس، الخالي من كلّ شيء، سوى هذا التوق. تدعوك القبّة إليها، تحتها، لكي تحيي باستمرار طابعها السماويّ. عندها تقف تحتها تمامًا، في وسطها، فتعانق النفس بطراوة وقوّة، وتدخلها. تحني رأسك إلى الخلف كي تنشقها ملء صدرك، وتسكر بها وتذوب، فتختفي النفس في لانهائيّتها. يفقد المرء الحسّ بالجاذبيّة، وكلّ حسّ بالجسد، ويطير، يطير كالعصفور. ثمّ، تحني رأسك مجدّدًا، وتنظر باندهاش وانخطاف إلى ما ينتصب أمامك: الأعمدة على الجانبين، وأروقة الجوقات مع تخريمهم الرخاميّ، وبريق الذهب على الجدران. ثمّ تعود إلى القبّة وتطير. أعرف جيّدًا مثل هذا الشعور، لأنّني عرفت مرارًا في حياتي فرح الانخطاف أمام إبداعات الفنّ الكبيرة، التي تلهمها الحكمة الإلهيّة. وفي كلّ مرّة، كان انتعاشي مختلفًا وفريدًا. كان شخصيًّا. وها نحن نجد الحرّيّة في آيا صوفيا، بعد أن مررنا بعبوديّة لا نهاية لها، وكنّا عبيدًا لعبيد، وعرفنا الجوع، وخضعنا لأسفه عناصر العالم الحاملي الموت، وبعد أن عشنا هذه العبوديّة التي بدت كأنّها قتلت نفسنا ودمغتها بالحديد والنار...

نتقدّم نحو الموضع حيث كان الهيكل، الآن هو خالٍ من كلّ شيء وبدون مذبح. ينطلق الفكر تلقائيًّا نحو الماضي. كيف كان بهاء هذه الكنيسة عندما كان يقيم الأمبراطور والبطريرك الخدمة، محاطين بالأساقفة وأعضاء الإكليروس اللابسين الحلل الحريريّة المقصّبة، في ذهب أورشليم العلويّة، في كنيسة تغصّ بالمؤمنين، وحيث كان الهيكل يشعّ نورًا وسط دخان البخور، وعندما كان يوجد فيها ملء الحياة وليس جسدّا جامدًا، إن كانت لا تزال الآن على هذا البهاء؟!... لم يكن يوجد في العالم مكان آخر تقام فيه الخدمة بمثل هذا البهاء...

والآن؟ الآن تُرفع العبادة لإله المسلمين (16). نُزع المكان المقدّس من المسيح وأعطي لنبيّهم. يشكّل هذا الواقع تجربة لأبناء البشر. لكن تُرفع الصلوات اليوم أيضًا نحو اللَّه في هذا المكان، بكرامة، وربّما بطريقة فضلى ربّما من التي كان سيرفعها أصحابها الأصليّون لو أُعطي لهم أن يبقوا فيها. غيّر اللَّه مكان الشعلة وسلّمه لشعب غريب، كما أسلم قديمًا الهيكل الأوّل إلى الغزاة. سُلبت الكنيسة من الذين لم يستحقّوها، وسُلّمت إلى »حرّاس« كُلّفوا بالحفاظ عليها. وقد انتابني الفكر أنّ هؤلاء الحرّاس أكثر كرامة من الذين رفعوا قديمًا الصليب (17) وتمادوا بفعل القبيحات فيها.

آيا صوفيا هي الهيكل الكونيّ المطلق. إنّها ملك الكنيسة في جامعيّتها، وملك الإنسانيّة جمعاء. إنّها تخصّ أيضًا مستقبل الكنيسة العامّ. لكن تُمنع الآن عن المسيحيّين، وتبقى في أيدي الحرّاس، ما دامت الكنيسة العالميّة لم تظهر بكلّ قوّتها ومجدها، ونعيش أزمنة الانشقاقات في جسم الكنيسة داخليًّا وخارجيًّا. أيمكن استرجاع آيا صوفيا بالسيف كما يحلم البعض؟ أمامنا هذه الخيارات: أو آيا صوفيا ليست سوى معلم أثريّ، بدأ اندثاره، وتكون فكرة استرجاعها من أجل تنصيب الصليب عليها ليست سوى طموح دول عظمى، أو سوف تمنع هي ذاتها اقتحامها، لأنّ لا يزال يُسمع فيها صوت اللَّه، ويُعمل بوصاياه، ويؤمن بوعده الأزليّ. لا تزال تحيا بحياة لا تفنى، حياة إلهيّة، وتبقى واقعًا مؤثّرًا في الضمير المسيحيّ، وذلك في كلّ الأزمنة. أو أنّ آيا صوفيا هي حقًّا ما هي عليه، أي رمز إلهيّ، نبوءة وعلامة. يعتقد المؤمنون القدامى في روسيا أنّ نصب الصليب على آيا صوفيا مجدّدًا سيشير إلى نهاية التاريخ. أرى الآن أنّه معتقد سليم، إن حرّرناه من رعبه الإسكاتولوجيّ، وإن أظهرنا ما تحتويه من رؤية حقّ، تشير إلى أنّ آيا صوفيا لن تتحقّق بملئها إلاّ عند بلوغ المسيحيّة إلى ملئها، أي في آخر التاريخ، عندما يصل ثمرها الأخير إلى نضجه، وعندما يشعّ في العالم ملكوت الأرثوذكسيّة. له وحده، وليس لأيّ فاتح، أكان القيصر السلافيّ، سوف تُفتح أبواب مدينة المدن، وله وحده الحقّ في أن يرفع الصليب على آيا صوفيا، التي سيُعاد تكريسها، ليس بواسطة محسوب على راسبوتين، وليس من البطريرك المسكونيّ، لكن على يد الأسقف الكونيّ. لذلك، بما أنّ زمن التاريخ لم ينتهِ، لا يحقّ لنا أن نرفع الصليب على آيا صوفيا. لا نزال في التاريخ، ولنا تاريخ أمامنا، مع أنّنا نستشعر نهاية التاريخ. لكنّ التاريخ لم يكتمل داخليًّا، ويمضي في طريقه ونحن نسير معه ومعها.

علينا، في خضمّ الأزمات، في روسيا وفي أوروبّا، أن نستمع إلى صوت آيا صوفيا، وإلى نبوءتها. ليست آيا صوفيا فقط في الماضي، بل هي أيضًا في المستقبل. إنّها تنادي الأجيال، وتتنبّأ. نعم، فيها سينتهي التاريخ داخليًّا، ويصبح بالإمكان الكلام على »نهاية التاريخ«، ليس خوفًا أو ضجرًا. لا يزال التاريخ قائمًا، لم ينتهِ طالما لم يرَ العالم آيا صوفيا مسيحيّة من جديد، طالما لم تصبح حقيقة التاريخ المنتصرة، حتّى لحظة واحدة. هذا ما أخبرتني جدرانها التي يُقال إنّها هرمة. فماذا لو سقطت؟ حتّى إن حدث ذلك، معاذ اللَّه، سوف تستمرّ الصوفيا تظهر للعالم. شُيّدت آيا صوفيا قبل الانشقاق الكنسيّ الكبير، ولن تعود للعالم المسيحيّ قبل أن يُشفى جرح هذا الانشقاق«.

رقاد ابنه (18)

... لا أريد أن أغفر الآلام وصلب ابني للسماء. كيف لي أن أغفر ما لا يمكنني إدراكه. ويجب ألاّ أغفر لأنّ اللَّه حكم على الذين دافعوا عنه تجاه أيّوب وفسّروا كلّ شيء وحكموا على كلّ شيء. كان يبدو لي أنّ اللَّه لم يرد أن أتصالح معه بسهولة، وأنّه كان عليّ أن أقبل أن يُطعن قلبي بالسيف. ليست ذبيحة إبراهيم بالأمر السهل، فصرخت أمام الضحيّة البريئة: »عادل أنت يا اللَّه، وعادلة أحكامك«، لكنّ هذه الصرخة لم تخرج من نفس راضية، بل من نفس ممزّقة. كنت أقول ذلك من كلّ قلبي. لم أكن ثائرًا، لم أتذمّر لأنّ الثورة تثير الشفقة وتدعو إلى الخيانة. لكنّي لم أرد الخنوع لأنّه سيكون شائنًا. وكان الآب يجيبني صامتًا: »صليب الابن الوحيد هنا، فوق جثمانه«. سمعت ذلك وخضعت له، لكنّ آلام البريء وشماتة الكافر حلّت بين الصليب والجسمان، كأنّها سحابة كثيفة. إنّي على يقين أنّ سرّ حياتي يكمن في هذه السحابة. كنت أعرف أنّه من السهولة بمكان نسيان هذه السحابة، وكان من المغري السعي إلى تفاديها. إذ ليس من السهل أن نحمل في نفسنا شيئًا لا يمكننا إدراكه، ومن الأفضل أن نعيش في العالم، ونعاشر شخصيّات مرموقة. وإلاّ لن تتبدّد السحابة سوى بالجهاد الروحيّ، والصليب الذي علينا أن نحمله طيلة حياتنا. كنت أكيدًا أنّها ستتبدّد وأنّها كانت ظلّ خطيئتي: أنا هو الذي صلب ابني بسبب خطاياي. كان يكلّمني ابني بهذه الأشياء في ليلة الجلجلة هذه، قائلاً: »احملني، أبتاه، ولنصعد معًا«. نعم، نعم، فلنذهب يا بنيّ، يا مرشدي، يا معلّمي، يا ملاكي الحارس! لكن هنا يبدأ ما لا يُنطق به. يا ابني القدّيس، يا أيّها الصبيّ الصغير، فهمت أمام ذخائرك المباركة، وجسدك الطاهر، كيف يتكلّم اللَّه. أدركت ما تعني عبارة »قال اللَّه!«. فملأ قلبي الجديد، الذي لم يكن يعرف قبل ذلك مثل هذه الفطنة، فرح سماوي وامتزج مع آلام الصليب. وفي وسط ظلمات التخلّي الإلهيّ، سكن اللَّه في قلبي. فانفتح قلبي على وجع البشر وآلامهم. والقلوب التي كانت غريبة عنه، وتاليًا مغلقة، انفتحت على مصراعيها مع وجعها ومحنتها. فهمت لأوّل مرّة في حياتي ما هو معنى »المحبّة«، ليس المحبّة البشريّة، الأنانيّة والتي تبتغي المصلحة، بل المحبّة الإلهيّة، هذه المحبّة التي يكنّها لنا المسيح. فسقط إذذاك الحجاب الذي كان يفصلني عن الآخرين، وظهر لي كلّ الظلام، والمرارة، والتعدّي، والعداوة والألم، فعشت حالة إثارة لا توصَف. وكنت أقول وأردّد: »قال لي اللَّه«، وأضيف ببساطة عندما أسمع صوتك أنّك أنت أيضًا قلت لي. وكان اللَّه يكلّمني، وكنت أنت أيضًا تكلّمني. أعيش الآن مجدّدًا في الظلمات والجليد، وأستعين بذاكرتي لأقول ما أقول، لكنّي أدرك ما هو معنى عبارة »قال اللَّه«. فهمت نهائيًّا أنّ اللَّه يتكلّم فعلاً، وأنّ الإنسان يسمع بدون أن يهلك. أعرف الآن كيف يكلّم اللَّه الأنبياء. فيا ملاكي المشعّ نورًا! يمكن أن يبدو كلامي جهالة وعميًا، تجديفًا وتدنيسًا، لكنّك تعرف أن لا شيء مثل ذلك. لا يمكنني أن أكذب عليك. عرفت آنذاك بكلّ يقين أنّ اللَّه كلّمني كما كان يكلّم الأنبياء. طبعًا كان يقول لهم أمورًا أخرى، ويكلّمهم بطرائق مختلفة. وكانوا هم يختلفون عنّي، إذ توجد هاوية لا يُسبر غورها بينهم وبيني. كنت أعرف ذلك وأشعر به. وما زلت على هذا اليقين اليوم. لكنّ اللَّه هو هو، وحلمه اللامحدود يبقى هو هو بالنسبة إلينا جميعًا. ومع أنّه توجد هوّة سحيقة بين نفسي المظلمة والخاطئة ونفس النبيّ القدّيسة، نعلم أنّ الهوّة بين اللَّه وخليقته، أيًّا كانت، لا يمكن قياسها. الأنبياء وأنا لسنا سوى خلائق يكلّمها اللَّه. يعني نسيان ذلك، والتشكيك في ما اختبرت، بالنسبة إليّ موتًا روحيًّا. يمكن للمرء أن يفقد كنزه، أو يخاف أن يدافع عنه، أو يتركه مرذولاً، لكن مع ذلك يبقى الكنز كنزًا...

وصلنا إلى الكنيسة يوم دفنك، وكان القدّاس الإلهيّ قد بدأ. أكنّا في السماء أم على الأرض. »أن نستقبل ملك الكلّ محاطًا بالأجناد الملائكيّة«. كلمات مقدّسة، معروفة جيّدًا ومألوفة. ولكن مَن يقف في الهيكل على اليمين؟ أهو مشترك في الخدمة؟ رأيت أيضًا في الهيكل وجوه شياطين مرهبة ينظرون إليّ ببغض يفوق كلّ تخيّل، لم اختبر مثله قط، لكن لا أخشاكم، لأنّ ابني الصغير صاعد إلى السماء، ولا يمكنكم إلحاق الأذى به، أمام نوره ومَن يحميه. استمعت إلى الرسالة، تتكلّم على القيامة والتغيير الكونيّ الذي يحصل فجأة. وفهمت لأوّل مرّة أنّ الأمور ستكون كذلك، وكيف سوف تتمّ.

أيجب أن »نؤمن« بأنّ الملائكة تشاركنا في خدمة القدّاس الإلهيّ؟ لقد شاهدتهم. ألم يرَ زكريّا الكاهن ملاكًا بالقرب من مذبح البخور؟ ألم يرَ أحدهم ملاكًا يشارك القدّيس سيرجيوس (19) في الخدمة، كما تشهد سيرة القدّيس؟ أيجدر بي أن أشبّه ما حصل معي بهذه الوقائع؟ أهذا ممكن؟ لا بدّ لي من أن أذكر ما حدث معي، لأنّي لا أشبّه شخصي المظلِم بالخطايا بهم، بل أكتفي بذكر ما أعطاني التصميم الإلهيّ أن أرى. لقد تعمّدت، يا بنيّ، يوم عيد يوحنّا المعمدان، »الأكرم بين المولودين من النساء« (لوقا 7: 28)، وتنتمي الآن، يا رسول السماوات، إلى أجواق ملائكة السابق. أؤمن بأنّك ستقف إلى جانبي ساعة رقادي، كملاك للموت مشعّ، ينتابك وجع العتاب الصامت، أو فرح لقائنا الأبديّ.

الأساقفة (20)

"تعاني الأرثوذكسيّة، أوّلاّ في بيزنطية، ثمّ في الشرق وفي كنيسة موسكو نوعًا من البابويّة، لا بابويّة مرتكزة على عقيدة واعية وواضحة ومحدّدة، لكن بابويّة واقعيّة، بابويّة نفسيّة. الأرثوذكسيّة مجمعيّة وليست أسقفيّة. إنّها جسد الكنيسة وليست رأسًًا أو مجموعة رؤوس فقط. لأنّها تتّسم بهذا الطابع الخاصّ بها لا يمكنها أن تكون باروديًّا، أو كاريكاتور لسلطويّة كنيسة روما وأوتوقراطيّتها. أشير إلى الغلو السائد في الكنيسة الروسيّة (وباقي الكنائس السلافيّة) المختصّ بالأساقفة. سيبدو اعترافي هذا كصوت آتٍ من بلاد الموت (21)، ما يمكن أن يعطيه أثرًا أعظم كونه خاليًا من كلّ انتقاد شخصيّ. كان لي هذا الشعور طيلة حياتي مصدر ألم سكوت. يُفسّر سكوتي بجبني وخوفي من العثرة الذي كانت ستسبّبها قضيّة هذا »اللوثِر الروسيّ الصغير«. لكن لا يوجد أيّ شيء »لوثِرانيّ« في موقفي، ولا أيّة رغبة في الطعن بنعمة الأساقفة التي هي حقيقة روحيّة واضحة وضوح النور الساطع. »لوثِرانيّتي« هذه ليست ضدّ الأسقفيّة، بل من أجلها. وتسعى لإعادتها إلى كرامتها الحقيقيّة، والدفاع عنها من أي سلطويّة ناتجة من وضع فكريّ خانع. يظهر هذا الخنوع أوّلاً في علاقة الأساقفة مع السلطة المدنيّة، وفي تسلّط الحكم على الكنيسة، الحكم الأمبراطوريّ في بيزنطية، والحكم القيصريّ في موسكو، ثمّ الحكم السوفياتيّ، أو العنصريّ أو البولونيّ أو أيّ حكم آخر يدعو إلى »اتّحاد الكنيسة والدولة« الذي يجعل من ملكوت اللَّه ملكوت هذا العالم. كون الأساقفة يخضعون للقيصر، فهم يفرضون في وسط الكنيسة خضوعًا مماثلاً تجاههم، ليس من قبل العلمانيّين الذين يبقون طبعًا أحرارًا ويمارسون بالأحرى سلطة على الأساقفة، بل من قبل أعضاء الإكليروس، المرتبطين بالطاعة القانونيّة. يرافق سوء استعمال السلطة الرعائيّة هذا وتحويلها إلى سلطويّة، التمسّك بحصر الأسقفيّة، عندنا، بالرهبان، رغم قانون مجمع القسطنطينيّة المنعقد في كنيسة آيا صوفيا (22) منع الاستمرار بهذا التقليد. فكان الأساقفة عندنا من الرهبان، أو بصورة أدقّ من »شبه رهبان«. كان انتماؤهم إلى السلك الرهباني مجرّد مرحلة للوصول إلى الأسقفيّة، بدون أن يمارسوا أبدًا الجهاد الرهبانيّ. شجّعت حالة الحياة الكنسيّة الروسيّة الاستمرار بذلك، فأضحى الترهّب بغية الوصول إلى الأسقفيّة أبشع مظاهر مؤسّّستنا الكنسيّة، كما هو معروف جيّدًا. تظهر بشاعة هذه الحالة أكثر في أيّامنا هذه حيث تتغيّر السلطة المدنيّة باستمرار: تارة الحكم وطنيّ، وطورًا أجنبيّ للغزاة. يحلّ البعض مكان البعض الآخر، وكلّ فئة تضع لائحة بقيمها ومَن تُرشّح للأسقفيّة. هذا هو الوقت المناسب لطالبي المناصب الذين يُفسدون الأسقفيّة. ذلك كلّه سوف يؤدّي، لا محالة، إلى أزمة ستنقّي الحياة الكنسيّة، وتخلّصها ليس من الأساقفة بل باسمهم من بعض الأساقفة. ألم يتنبّأ القدّيس سِرافيم ساروفسكي على أنّ الكنيسة الروسيّة سوف تواجه مثل هذه الأيّام؟ لا بدّ من أنّ وضع الأساقفة صعب نفسانيًّا، إذ يعيش تجربة خاصّة بهم، هي نوع من تأليه أشخاصهم. كان هذا الوضع موجودًا دومًا وفي كلّ مكان، في الوثنيّة كما في العهد القديم، لأنّه لم تكن مصادفة أنّ ألدّ أعداء المسيح ومضطهديه كانا حنّان وقيافا، رئيسي الكهنة، مع كلّ ما كان رفضهم يحمله من عقد إيدولوجيّة، ودينيّة (تأليه شخصيهما)، ممزوجة باعتبارات إيمانيّة. لكن ويا للأسف! لم يزل موقف رؤساء الكهنة هذا وظهر مجدّدًا في تاريخ العهد الجديد. نحن أمام تضادّ: خدمة رئيس الكهنة مؤسّّسة إلهيّة في العهد القديم، لكنّها غير فاعلة بسبب خطاياها. وتدفع الإنسانيّة ثمنًا باهظًا من جرّاء ذلك، على المستويين التاريخيّ والنفسانيّ. لا يمكن التجرّؤ والوقوف ضدّ مؤسّّسة إلهيّة بسبب خطايا البشر، كما فعلت البروتِستانتيّة، لكن لا يمكن أيضًا السجود بخنوع أمام أوثان. هذه هي مأساة الحياة الكنسيّة. عُبّر عنها في كنيسة روما بواسطة تأليه البابا، وفي الشرق بانحرافات الأساقفة البابويّة في مجالات العقيدة والقانون الكنسيّ والرعاية. يظهر هذا الانحراف عمليًّا في الكنيسة الروسيّة بخاصّة بمظاهر التكريم التي تحوط بالأسقف أثناء الخدمة الإلهيّة، والتي تجعل الناس يعتقدون أنّ الأسقف هو موضوع العبادة. يحبّ الشعب هذه الأبّهة، لكنّها مسيئة لتربيته الدينيّة التي يهدّد استقامتها هذا النوع من التقوى. تغطّي هذه الأبّهة الأسقفيّة عظمة القدّاس الإلهيّ وتخفيها، كما أنّها تُطيل وقت الخدمة، ما يسيء على المستوى الدينيّ. تسيء هذه الأبّهة بخاصّة داخل الهيكل، إذ يحمي الأيقونسطاس الجماعة. لكن يصعب الحفاظ على الصفاء أمام ما يحدث في قدس الأقداس بحجّة التقوى. مع أنّ الأساقفة التافهين روحيًّا الذين يعتبرون أنفسهم أيقونات حيّة يتعلّقون بخاصّة بهذه الأبّهة، لكن تطال التجربة عامّة الجسم الأسقفيّ. والأفظع أنّ المأساة التي تسبّب للكنيسة هذه الأبّهة الأسقفيّة لا علاقة لها البتّة بوعي عقديّ، بل تبقى على مستوى النفسيّة الكنسيّة. تبقى المبادئ مصونة، لكن في الداخل يتفاعل المرض الروحيّ الذي يصيب الإنسان الذي يعتبر نفسه إلهًا. لذلك لا مجال للنهضة أو التقويم، إذ سوف يبدو عمل كهذا نتيجة غلبة تحدٍّ روحيّ. يكفي مساءلة "الموظّف" الأسقفيّ، وإعادة تربية المسؤولين في الكنيسة والإكليروس وشعب الكنيسة. لا بدّ لي من الاعتراف بأنّ تسلّط الأسقف كان الصليب الأثقل الذي أُعطي لي أن أحمله شخصيًّا، رغم الاحترام والمحبّة اللذين أكنّهما للأساقفة، وأشعر بأنّي مذنب لأنّي قبلت هذه الأوضاع بمراعاة كسولة واستسلاب. وكلّما كنت أتلو في الكنيسة كلام السيّد الغاضب بشأن "كرسيّ موسى"، كان يرتجف صوتي بسبب ألم أسعى إلى إخفائه.

المشاركات الشائعة