البطريرك يوحنّا العاشر في اسطنبول

 ريمون رزق

النور- العدد الرابع 2013

 

يوم الجمعة الواقع فيه 31 أيّار

وصل صاحب الغبطة البطريرك يوحنّا العاشر والوفد المرافق إلى مطار إسطنبول في مساء يوم 31 أيّار حيث كان بانتظارهم مكسيموس، متروبوليت نيو جرسيه (الولايات المتّحدة) ومتروبوليت آخر من البطريركيّة المسكونيّة وكهنة وشمامسة، واصطحبوهم إلى الفندق.

الزيارة السلاميّة: يقضي العرف الأرثوذكسيّ بأن يقوم المنتخب حديثًّا رئيسًا على إحدى الكنائس الأرثوذكسيّة بزيارات إلى سائر الكنائس الأرثوذكسيّة للتعارف والتعبير عن الأخوّة والوحدة في الإيمان. وتدعى هذه الزيارات بالزيارات السلاميّة. وتبدأ بعامّة بزيارة كنيسة القسطنطينيّة والبطريرك المسكونيّ الذي يتمتّع بأوّليّة الشرف بين سائر الكنائس الأرثوذكسيّة.

الوفد المرافق لغبطته كان مؤلّفًا من أصحاب السيادة، إلياس (كفوري) متروبوليت صيدا وصور، وسابا (إسبر) متروبوليت بصرى وحوران وجبل العرب، وأفرام (معلولي)، أسقف سلوقيا، ورئيس الديوان البطريركيّ، وقدس الأرشمندريت سلوان (أونر) من أبرشيّة اللاذقيّة، وقدس الأب الدكتور ميشال (نجم) من أبرشيّة الولايات المتّحدة، وقدس رئيس الشمامسة جراسيموس (كبّاس) التابع للدار البطريركيّة، وقدس الشمّاس الدكتور بورفيريوس (جورجي)  من أبرشيّة بيروت، والدكتور إيلي سالم رئيس جامعة البلمند، والسيّد جورج نشواتي (دمشق) وكاتب هذه السطور (بيروت). كما رافقهم وفد إعلامي مكوّن من السيّدين كارول سابا وتاكي لوقا.

يوم السبت الواقع  فيه 1 حزيران وهو يوم الزيارة الرسميّة الأوّل

المحطّة الأولى: كانت عند الساعة التاسعة والنصف صباحًا حين وصل غبطة البطريرك يوحنّا والوفد المرافق إلى مقرّ البطريركيّة المسكونيّة في حيّ الفنار في إسطنبول، حيث كان في استقبالهم لفيف من رؤساء الكهنة والكهنة والشمامسة والمؤمنين. فتوجّه الجميع إلى كاتدرائيّة القدّيس جاورجيوس داخل المقرّ، وترأّس غبطته صلاة الشكر.

المحطّة الثانية: ثمّ انتقل إلى ما يسمّى »قاعة العرش«، حيث استقبله، بموجب تقليد قديم، قداسة البطريرك برثولوماوس، محاطًا بما يزيد على 18 من مطارنة أعضاء المجمع المقدّس وأساقفة من مختلف أنحاء العالم تابعين للكرسيّ القسطنطينيّ. وكان في استقبال البطريرك الأنطاكيّ حشد من المؤمنين الأرثوذكسيّين الذين توافدوا من أنحاء مختلفة، وبخاصّة من منطقة أنطاكية. فتبادل البطريركيّان الكلمات الترحيبيّة من قبل البطريرك المسكونيّ، والشاكرة من قبل البطريرك الأنطاكيّ. وممّا قاله البطريرك المسكونيّ:

»أهلاً وسهلاً بكم، أيّها الأخ المحبوب، إذ تأتون ومعكم نعمة الأماكن المقدّسة في بلادكم، فتنحدر من علوّ أرز لبنان إلى ضفاف البوسفور. تأتي هذه النعمة من دمشق حيث ظهر الربّ لشاول الذي كان يضطهده، وحوّله إلى بولس، رسول الأمم. تأتي من صيدنايا حيث والدة الإله تستفقدنا يوميًّا بالمعجزات التي تقوم بها. تأتي من مزار القدّيسة تقلا أولى الشهيدات في معلولا، حيث اللغة التي استعملها المسيح في حياته على الأرض لا تزال تحكى. تأتي من المنطقة حيث عاش أسلافكم وصنعوا سلسلة ذهبيّة من القدّيسين والشهداء. تأتي من قبر الشهيد القدّيس إليان في حمص ومن قاعدة عمود القدّيس سمعان قرب حلب، ومن كهوف  نسّاك الصحراء السوريّة. إذًا تأتون إلينا "بالحياة التي منذ الأجيال« التي حافظتم عليها في خدمتكم...

أهلاً وسهلاً بكم، أيّها الأخ العزيز، إذ تأتون إلينا أيضًا حاملين أحزان شعبكم والتجارب التي تقتحمه، في خضمّ حرب أهليّة حيث يعاني شعبكم العنف وأمورًا رهيبة أخرى، وأفظعها كان في خطف أخيكم سيادة المتروبوليت بولس...

غبطتكم معروف بالتقوى. منذ شبابكم اخترتم خدمة الكنيسة. ترعرعتم في عائلة عميقة الإيمان. لكم الاحترام ومحبّة ملء الكنيسة من أجل سلوككم وعملكم ومواهبكم، وبخاصّة من أجل حياتكم الرهبانيّة الطابع التي اختبرتموها في جبل آثوس المقدّس، كما من أجل خدمتكم الكهنوتيّة الرفيعة. يدفع شخصكم إلى الرجاء، ليس فقط من قبل شعب كنيستكم، بل للأرثوذكسيّين جميعًا. وينظرون إليكم كعمود وضمان للكنيسة الجامعة...

المسيح قام! أهلاً بغبطتكم. المسيح في وسطنا وفي وسط كنستينا المقدّستين، في القسطنطينيّة وأنطاكية، كما كان دائمًا وكما سيبقى إلى الأبد«.

فردّ البطريرك يوحنّا قائلاً:

»أشكر لكم ولأعضاء مجمعكم المقدّس حفاوة الاستقبال... وهي إن دلّت على شيء تدلّ على المحبّة الأخويّة التي تجمعنا المبنيّة على إيماننا الواحد بربّنا يسوع المسيح الذي أرادنا أن نحافظ على هذه المحبّة الأخويّة وعلى هذه الوحدة »لكي يؤمن العالم«... جئناكم في أوّل زيارة نقوم بها إلى الكنائس الأرثوذكسيّة الشقيقة، وقلبنا مليء بالمحبّة وعقلنا منفتح على كلّ ما يوطّد هذه المحبّة بين الكنائس وكلّنا استعداد للجم كلّ تجارب التفرقة التي تحرّكنا احترامًا لقوانين كنيستنا المقدّسة، وحفاظًا على صون صوت الأرثوذكسيّة ورسالتها في هذا العالم، وسعيًا وراء انعقاد بأسرع وقت ممكن المجمع الكبير المقدّس الذي أطلق فكرة دعوته سلفكم المثلّث الرحمة البطريرك أثيناغوراس الجزيل القداسة، والذي تجتهدون لتسهيل انعقاده. نحن مقتنعون بأنّنا إن لم نصن وحدتنا ونتعال على جراحاتنا، فلن تستطيع الكنيسة الأرثوذكسيّة النطق بقول شافٍ لعالم يسوده العنف والبغضاء وهو ينتظر بشغف كشفنا المعنى الذي أعطي مرّة واحدة للقدّيسين والذي أعطي لنا أن نحافظ عليه بأمانة رغم خطايانا وتكاسلنا وانغماسنا في روح هذا العالم. وقد جئناكم أيضًا اليوم وقلبنا ينزف لما يجري في بلادنا من أعمال عنف وخطف وقتل، راجين أن تضيفوا صلواتكم إلى صلواتنا وصوتكم إلى صوتنا لكي يسمع العالم صراخ الأطفال والشيوخ الذين يرزحون تحت وطأة الظلم الحاصل، علّه يسعى بجدّيّة لإحلال السلام ونبذ لغة العنف كأسلوب تخاطب بين أبناء الشعب الواحد«.

المحطّة الثالثة:

ثمّ انطلق الجميع بصحبة البطريرك المسكونيّ وعدد من المطارنة ووفد كبير من أراخنة الكرسي القسطنطينيّ (وهم عادة الذين يقومون بخدمات مهمّة، ماليّة وغيرها، للبطريركيّة) من مختلف أنحاء العالم (ما عدا أميركا) الذين كانوا في زيارتهم السنويّة للكرسيّ في إسطنبول، إلى جزيرة هيبيلياذا (خالكي، من ضمن جزر الأمراء كما كانت تدعى في الحقبة البيزنطيّة)، وقاموا بزيارة دير الثالوث القدّوس فيها ومعهد اللاهوت الذي كان يعمل فيها، وقد أغلقته السلطات التركيّة في السنة 1971، وما يزال مغلقًا. وهناك أمال كبيرة أن يصدر في المستقبل القريب إذن لإعادة الدروس إليه. كان في استقبال الزوّار المطران إليبذفوروس، متروبوليت بورسا ورئيس الدير والمعهد، وهو يتكلّم العربيّة لكونه درسها في البلمند. فصار إلى تبادل الكلمات من رئيس الدير فرئيس الأراخنة، فالبطريرك المسكونيّ، وأخيرًا البطريرك يوحنّا، قبل التوجّه إلى مائدة محبّة أعدّت على شرف الحضور.

وذكّر البطريرك المسكونيّ في كلمته أنّ البطاركة الأنطاكيّين المثلّثي الرحمة، ألكسندروس وثيوذوسيوس وإلياس الرابع تخرّجوا من معهد خالكي، وعدد من المطارنة الأنطاكيّين.

أمّا البطريرك يوحنّا، فقال: »يفرحني كثيرًا أن نكون في هذا المكان المقدّس الذي تطلّع إليه عقودًا الأرثوذكسيّون من سائر البلدان كمصدر معرفة وانفتاح لاهوتيّ. وقد خرج منه، على ما أعتقد ما يقارب الألف متخرّج في الدروس اللاهوتيّة، أعطوا اثني عشر بطريركًا للكنيسة الأرثوذكسيّة ومئات المطارنة وعددًا كبيرًا من أساتذة المعاهد اللاهوتيّة والمدارس المختلفة. لا يسعني سوى الانحناء أمام هذا العمل الجبّار، وأعيد إلى ذاكرتنا أنّ الذي كان أبًا روحيًّا لكثيرين ورمزًا لنهضة الكنيسة الأنطاكيّة وإطلالتها على محيطها والعالم، المثلّث الرحمة البطريرك إلياس الرابع، تخرّج من هذا المعهد، ونقل إلى العربيّة كثيرًا ممّا اطّلع عليه وتذوّقه انطلاقًا من هذا المكان. ويؤسفني كثيرًا أن يكون المعهد مغلقًا منذ ما يزيد على أربعين سنة، وأرجو وأصلّي أن يعطى لكم أن يعاد فتحه للدراسة في أقرب وقت ممكن، لكي يعود فيحتلّ الموقع المرموق الذي كان له، ويتابع رسالته بالتعاون مع المعاهد اللاهوتيّة الكثيرة في عالمنا الأرثوذكسيّ. ومعهد القدّيس يوحنّا الدمشقيّ اللاهوتيّ، في البلمند، في لبنان، يتطلّع إلى مثل هذا التعاون، فيعود يتشابك الفكر الأنطاكيّ مع فكر الكرسيّ القسطنطينيّ، مستعيدًا تعاونًا فكريًّا دام لقرون«.

المحطّة الرابعة: مساء، وبعد العودة من الجزيرة، أقام البطريرك المسكونيّ مائدة عشاء في دارته الخاصّة في إسطنبول، كان فيها إلى الوفد الأنطاكيّ القنصل اليونانيّ وبعض وجوه الجماعة اليونانيّة في إسطنبول، وكانت مناسبة لتبادل أخويّ بين الحضور سمح باطّلاع أفضل على أحوال الجماعة الأرثوذكسيّة ومشاكلها، كما أعطى غبطة البطريرك فرصة التحدّث طويلاً مع القنصل اليونانيّ بشتّى المواضيع، وبخاصّة قضيّة خطف مطراني حلب.

يوم الأحد الواقع  فيه 2 حزيران وهو يوم الزيارة الرسميّة الثاني

المحطّة الأولى: القدّاس الإلهيّ

كنّا في هذا القدّاس الإلهيّ الذي خدمه البطريركان وستّة مطارنة، ثلاثة من أنطاكية وثلاثة تابعون للبطريركيّة المسكونيّة، ولفيف من الكهنة والشمامسة، إحدى قمم هذه الزيارة السلاميّة. دام ما يقارب خمس ساعات، لكن لا أعتقد أنّ أحدًا اشتكى، بل كنّا كلّنا مأخوذين ببهاء الخدمة وقدسيّتها. كنت واقفًا في مقدّمة الكنيسة إلى يسارها. وكنت، كلّما التفت يسارًا، أرى ذخائر القدّيسين غريغوريوس اللاهوتيّ ويوحنّا الذهبيّ الفم، بطريركي القسطنطينيّة، التي أعادها إليها البابا يوحنّا بولس الثاني، منذ بضع سنوات. وكان بقربها ذخائر للقدّيس باسيليوس الكبير يبدو أنّ البطريركيّة حصلت عليها حديثًا. فكنت، إذًا، بصحبة »الثلاثة الأقمار«، وكنت أشعر بحضورهم واشتراكهم في القدّاس الإلهيّ الذي هو المناسبة الوحيدة حيث تلتئم الكنيسة جمعاء، أحياء وراقدين، قدّيسين ومجاهدين، في وحدة حقيقيّة يلمسها المؤمن لمس اليد، وبواسطتها يعيش »شركة القدّيسين«. وكانت الخدمة بعامّة والترتيل بخاصّة (بالتداول بين جوقة اليمين وجوقة اليسار) على إتقان وجمال كبيرين. لفتني أنّ الكهنة والشمامسة قبل أخذ الكيرون من البطريرك كانوا يصنعون مطانيّة كبرى أمامه، وكانت المرّة الأولى التي أشهد فيها مثل هذه الممارسة. من الأمور التي تجعلني أستذوق الخدم المقامة من قبل بطريرك أو رئيس كنيسة أنّه يذكر كلّ رؤساء الكنيسة الأرثوذكسيّة في العالم علانيّة، فيرمز  إلى الوحدة الأرثوذكسيّة الحقيقيّة التي لا تتحقّق في سوى القدّاس الإلهيّ، حيث مناولة الجميع جسد الربّ ودمه الكريمين تنقلك من الرمز إلى قلب الحقيقة، معطية أروع صورة للوحدة في الجسد الواحد، جسد الربّ، الذي هو مبرّر وجود الكنيسة. فتنطلق، إذًا، من المناولة، حيث تصير مشاركًا  في دم الربّ، ساعيًا وراء اكتشاف وجه يسوع في كلّ إخوتك، وفي كلّ إنسان. كما تنطلق من سرّ المذبح إلى سرّ الأخ، فتخدم يسوع في كلّ فقير ومتوجّع ومضطهد. فكيف يمكن لكنيسة، كالكنيسة الأرثوذكسيّة، التي أعطى اللَّه شعبها نعمة الاشتراك في ليتورجيّتها الملهمة والملهِمة، ألاّ تعي أكثر ما هي عليه، ضرورة غسل أرجل الناس، ونشر المحبّة بين البشر بواسطة ممارستها حقًّا بين أعضائها؟  

في نهاية القدّاس الإلهيّ، تبادل البطريركان الكلمات والهدايا. فأعطى البطريرك المسكونيّ البطريرك الأنطاكيّ ثلاثة »أنغولبيونات«، أمّا هديّة البطريرك الأنطاكيّ، فكانت أيقونة الرسولين بطرس وبولس، مؤسّسي الكرسيّ الأنطاكيّ، كتبتها راهبات دير القدّيس يعقوب الفارسيّ المقطّع.

ذكّر البطريرك المسكونيّ، في كلمته، بأهمّيّة هذه الزيارة السلاميّة في توطيد أواصر الشركة والتعاون بين الكنيستين، كما نوّه بالعلاقات الأخويّة التي كانت للكرسيّين عبر التاريخ. مستندًا إلى إنجيل السامريّة، كما أكّد أنّ الكنيسة الأرثوذكسيّة هي »ينبوع ماء حيّ«. إذ يوجد من جهة قدّوس واحد، وربّ واحد، يسوع المسيح في مجد اللَّه الآب. ومن جهة أخرى، توجد كنيسة واحدة، مقدّسة، رسوليّة. فالمسيح الربّ والكنيسة، خادمة البشريّة، متّحدان كلّيًّا. وحيث يوجد المسيح، توجد أيضًا الكنيسة، وحيث الكنيسة يوجد المسيح". وبما أنّ كنيسة القسطنطينيّة تقيم في هذا اليوم ذكرى قدّيسيها، دعا إلى التشبّه بهم في وسط الصعوبات التي نواجه وتقلّبات العصر، مذكّرًا بأغناطيوس الأنطاكيّ كمثال للشهداء، والبطريرك جرمانوس القسطنطينيّ كمثال للمعترفين، ويوحنّا الصوّام كمثال للزهّاد، ويوحنّا الذهبيّ الفم العظيم »الذي هو فخرنا المشترك«، وغريغوريوس اللاهوتيّ وجميع القدّيسين »الذين جاهدوا الجهاد الحسن وتكلّلوا«. وذكر أنّ أغناطيوس الأنطاكيّ طلب في طريقه إلى الاستشهاد أن »صلّوا من أجل كنيسة سورية التي وضع اللَّه راعيًا لها مكاني. وحده المسيح سيراقبها كأسقفها مع محبّتكم«، قائلاً إنّ على الكنيسة جمعاء اليوم أن تسمع كلامه وتشمل كنيسة سورية المعذّبة في صلواتها.

أمّا غبطة البطريرك الأنطاكيّ، فقد تطرّق في كلمته إلى تاريخ المساهمات الأنطاكيّة في حياة الكنيسة الجامعة مشدّدًا على ضرورة تفعيل أفضل للوحدة والتناغم بين الكنائس الأرثوذكسيّة الشقيقة، وضرورة حثّها على احترام القوانين الكنسيّة في تعاملها بعضها مع بعض ومع الآخرين. وقال:

»صاحب القداسة، رئيس أساقفة القسطنطينيّة - روما الجديدة والبطريرك المسكونيّ، أيّها المحبوب جدًّا بالمسيح الإله وشريك تواضعنا في الخدمة، كيريوس كيريوس برثولوماوس، نتوجّه إلى قداستكم أخويًّا بشوق ووقار مع رؤساء الكهنة والإكليروس الموقّر والشعب المحبّ للَّه، مصافحين إيّاكم بفرح.

المسيح قام!

جئتكم اليوم من أنطاكية حيث دعي أتباع ربّنا مسيحيّين أوّلاً. أنطاكية التي ذخرت برجالات اعترفت بقاماتهم المسيحيّة جمعاء. أنطاكية التي فيها بشّر هامتا الرسل بطرس وبولس والشهيد أغناطيوس المتوشّح باللَّه الذي أغنى الكنيسة الجامعة بفكره المتأصّل في إنجيل يوحنّا. أنطاكية التي منها انطلق يوحنّا الذهبيّ الفم الذي ركّز على إرث هؤلاء جميعًا، ونقله من أنطاكية إلى القسطنطينيّة وقد أعيد بعض من ذخائره إليها، وإلى هذه الكنيسة المقدّسة مؤخّرًا، بعد أن تغرّبت على أيدي الإفرنجة. أنطاكية التي في أرضها نبت أفرام وإسحق السريانيّان اللذان نصّرا الفكر السريانيّ وتركا للعالم بأسره أروع ما كتب في الروحانيّات والنسكيّات. ولن ننسى مساهمة مكسيموس المعترف، المتحدّر من هضبة الجولان بجوار دمشق، الذي صار معلّمًا للمسكونة ولخّص في شخصه الدفاع عن الإيمان القويم ضدّ جميع الكراسيّ والمقامات، تمامًا كيوحنّا الدمشقيّ الذي، إلى جانب إنتاجه اللاهوتيّ الرفيع، ترك للكنيسة أجمل تسابيح تزيّن خدم السنة الطقسيّة واحتفالاتها، وترفع معيّدي عيد الأعياد وموسم المواسم في جميع الأقطار الأرثوذكسيّة إلى السماء، وترسّّخهم في فرح القيامة المجيد الذي لا نزال الآن في غمرته. وقد ساهم العديد من الشهداء القدامى والمعاصرين، والرهبان والمفسّرين عبر العصور في بلورة هذا الفكر الأنطاكيّ فأغنوا المسيحيّة جمعاء بما أعطي لهم من إطلالات الروح. وهنا، لا أنسى أن أستذكر، أيضًا، أولئك الرجال الأنطاكيّين الذين شغلوا عرش البطريركيّة المسكونيّة، أمثال نكتاريوس الطرسوسيّ (381-397)، وأرساكيوس (404-405)، ويوحنّا الثالث السخولاستيكيّ (565-577)، وكوزما الأنطاكيّ (1075-1081). الأمر الذي يعبِّر عن تآخي كنيستينا منذ القِدم، وعن تزاوج ثقافاتنا والعلاقات الوطيدة التي تربط عرش القسطنطينيّة بعرش أنطاكية. وأنا، إذ أذكر هذه المساهمة الأنطاكيّة في حياة الكنيسة الجامعة، أؤكّد لقداستكم أنّنا، رغم الصعوبات الجسام والمآسي التي تلمّ بنا، سنبقى أوفياء لرسالة هؤلاء الآباء الكبار، وسنعيد إحياء إرثهم جميعًا، الذي تجسّد على امتداد الرقعة الأنطاكيّة، من أنطاكية إلى بلاد الشام، وما بين النهرين، والعربيّة، وسائر المشرق.

إلى جانب هذا الإشعاع اللاهوتيّ والروحيّ اتّسم تاريخ الكرسيّ الأنطاكيّ بدور الوسيط والداعي إلى الوحدة والسلام بين المتخاصمين في العائلة الأرثوذكسيّة، ساعيًا دومًا إلى تليين المواقف والعمل أبدًا على المصالحة بروح إنجيل ربّنا يسوع. ولا بدّ هنا من التذكير بالدور الذي قام به سلفنا البطريرك بطرس الثالث، في مطلع القرن الحادي عشر، عندما ذكّر بضرورة التسامح والإقلاع عن الاتّهامات الثانويّة وقبول الآخر بمحبّة لكسبه إلى الإيمان القويم، قائلاً لزميله القسطنطينيّ البطريرك كارولاريوس: »أترامى عند قدميك... وأتضرّع إليك ألاّ نطلب كلّ شيء، كيلا نخسر كلّ شيء، ... إذ يجب ألاّ يكره الإنسان شيئًا ممّا خلقه اللَّه، بل عليه أن يقبله بالشكران«.

نرى، في موقف البطريرك بطرس هذا، منارةً لا نزال نستضيء بها، تدفعنا نحو القيام بدور مماثل في خضمّ الخلافات القائمة بين الكنائس الأرثوذكسيّة لدعم انفتاحها نحو المسيحيّين الآخرين. سندعو باستمرار إلى قبول الآخر من أجل تفهّمه والدخول معه بحوار، ساعين معًا لاستكشاف ملء حقيقة المسيح، بعيدًا عن كلّ التصاق بعرق أو قوميّة خاصّة، بل بالانفتاح على الجميع، لأنّ المسيح أتى ليعمّدنا جميعًا، كما يقول الرسول أنّه في المسيح يسوع »ليس يونانيّ ويهوديّ، ختان وغرلة، بربريّ وسكيثيّ، عبد وحرّ، بل المسيح الكلّ وفي الكلّ« (كولوسّّي3: 11).

جئناكم، إذًا، اليوم بمعيّة هؤلاء القدّيسين لنؤكّد المكانة الكبيرة التي لكرسيّكم الرسوليّ في قلب الأنطاكيّين، ونبدي التقدير العميق الذي نحفظه لكم لما قمتم به في فترات عصيبة من تاريخ كنيستنا من استضافة لبطاركتها وتزويدها بالدعم عندما اقتضت الحاجة. جئنا اليوم للتأكيد أنّنا ننظر إلى كرسيّكم الرسوليّ كمرجع أرثوذكسيّ يقوم بمسؤوليّة الحفاظ على الوحدة والتناغم بين الكنائس الأرثوذكسيّة الشقيقة، وحثّها على احترام القوانين المقدّسة في تعاملها بعضها مع بعض، ومع الآخرين. نحن بأمــّس الحاجة اليوم إلى من يمارس هذا الدور، متعاليًا على كلّ الاعتبارات القوميّة، والسياسيّة، والعرقيّة، والخاصّة، وعلى الجروحات، لكي يجعل الكنيسة الأرثوذكسيّة أكثر شهادة لربّها، ومستعدّةً لأن تجازف، بمحبّة الأخوّة المجّانيّة التي لا تحاسِب، لترتفع فوق الخصومات والنزاعات »الثانويّة« التي اتّسمت بها أحيانًا، ولا تزال، العلاقات بين كنائسنا.

جئناكم، أيّها الأخ القدّيس، في أوّل زيارة لنا بعد تنصيبنا بطريركًا على أنطاكية وسائر المشرق، وكلّنا أمل أن تسمح لنا الظروف المأسويّة، التي تعرفون، بمتابعة زياراتنا لسائر رؤساء الكنائس الشقيقة لننقل إليهم جميعًا رسالة سلام وأخوّة مشابهة لما ننقله الآن إليكم، ونتداول معهم بالأمور المشتركة، مصرّين على روح الإنجيل وليس على روح هذا الدهر، واضعين نصب أعيننا ما قاله لنا الربّ إنّ من يريد أن يكون بينكم أوّلاً عليه أن يكون للجميع خادمًا. فأمام كنائسنا الأرثوذكسيّة مهامّ كثيرة لرفع شأن الأرثوذكسيّة وجعلها تشهد حقيقة لرسالتها، سأتوقّف عند أهمّها.

لقد وضعناكم منذ اللحظة الأولى في صورة النزاع الذي خلقه الكرسيّ الأورشليميّ بادّعائه، خلافًا صريحًا للقوانين والتاريخ، أنّ منطقة الخليج العربيّ، العائدة لكرسيّنا الأنطاكيّ، وحيث لنا هناك أبرشيّة فاعلة وعدد من الرعايا النشيطة منذ عقود وسنوات، تخضع له، وبتسقيفه مطرانًا على قطر. لن نلجأ إلى الممارسات غير الأخويّة التي لجأ إليها هذا الكرسيّ مع غيرنا من الكنائس عندما واجه حالة مماثلة، لكنّنا نصرّ على حقّنا وننتظر من قداستكم إرجاع الأمور إلى نصابها في أسرع وقت ممكن.

ثمّ نريد التوقّف عند العمل التحضيريّ للمجمع الكبير المقدّس للتعبير عن قلقنا من المنحى الذي اتّخذه، خلافًا لنظرة البطريرك أثيناغوراس الشاملة عندما أطلق فكرة انعقاده، فنرجو ألاّ نختصره، إلى علاقاتنا مع غير الأرثوذكسيّين والعالم، وإلى قضايا تتعلّق بالمراكز والسلطة في الكنيسة. هذه القضايا الأخيرة وحدها قد تعطي العالم الانطباع أنّ روح الدهرنة يسود علاقاتِنا، بينما العالم ينتظر من الكنيسة الأرثوذكسيّة قولاً نبويًّا يساهم في إعادة المعنى لوجوده، هذا المعنى الذي فقده وتاه عنه. فعلينا السعي لتوسيع جدول أعمال هذا المجمع، لكي يتطرّق للتحدّيات التي تواجه شعبنا وشبابنا، حتّى يكون انعقاده حدثًا كنسيًّا عامًّا يهمّ الناس ويخصّهم جميعًا. يوجد متّسع من الوقت لفتح مثل هذا الملف، إذ لا بدّ للمجمع، في حال انعقاده، من أن يؤكّد من بين ما سوف يؤكّد عليه، مركزيّة الشخص الإنسانيّ، ومركزيّة الشركة بين البشر، وضرورة الاعتراف بمواهب جميع أعضاء شعب اللَّه والعمل على تفاعلها وتكاملها منعًا لانزلاق الكنيسة أكثر في دياجير المؤسّّساتيّة. إذ ذاك تكون الرئاسة الكنسيّة وشعب اللَّه في ترابط وتبادل مستمرّين في خدمة الحقّ الذي وحده يحرّر، فنشهد للقيامة التي تقيمنا حقًّا، وللروح الذي يحيينا، وللثالوث ينبوع كلّ محبّة وكلّ كيان شخصيّ. وعليه، ينبغي لنا النظر والإقرار، بتواضع، بأنّ التباعد بين لاهوت الكنيسة وواقعها السوسيولوجيّ يتزايد، وأن نقول قولاً شجاعًا وملهمًا يعيد إحياء ما شاخ من ممارساتنا وأفعالنا.

من أجل بلورة هذه الأفكار نؤكّد لأخوّتكم أهمّيّة الدعوة إلى اجتماعات دوريّة لرؤساء الكنائس الأرثوذكسيّة، مع مجموعة من معاونيهم ومستشاريهم، للتداول بالشؤون التي تعوق الشهادة الأرثوذكسيّة، والعمل على إيجاد السبل لتعزيزها وتناغمها بين الكنائس، وتوسيع مواضيع المجمع العتيد وتحضيرها، لكونها تسهم في إزالة التباعد الحاصل بين الكنائس، والنظر في التحدّيات التي تواجهها.

من المنتظر أن تنظر مثل هذه الاجتماعات في الآفات التي تعبث اليوم بالأرثوذكسيّة. وأوّلها، في نظرنا، تفاقم الفكر العرقيّ. لا يخفى عليكم أنّه، في كثير من الأحيان، يبدو وكأنّ البعض منّا يتمسّكون بجنسيّتهم أو عرقهم أكثر ممّا يتعلّقون بأرثوذكسيّتهم، وهذا يعوق شهادة كنيستنا الواحدة ويظهرها للعالم مجزّئة غير متجانسة. لا بدّ من استعادة تأكيد ما قرّره المجمع المنعقد في هذه المدينة السنة 1872 ضدّ الفكر العرقيّ في الكنيسة. وليس انعكاس هذا الفكر العرقيّ على الشهادة الأرثوذكسيّة في عالم الانتشار أقلّ خطورة في هذا المجال.

أمّا الآفة الثانية، فهي التفرّد وانقطاع الحوار الحقيقيّ بين الكنائس الأرثوذكسيّة. انقطاع الحوار أو اختصاره على بعض الأمور وتحاشي المواضيع الحسّاسة، إن دلّ على شيء، إنّما يدلّ على عدم قبول الآخر كأخٍ من حقّه أن يسائلني، ومن واجبي الاستماع إليه والسعي لإبراز أفضل ما فيه من جمال ووزنات وضعها اللَّه في كلّ الثقافات والتقاليد، لكي تعمّ الفائدة. علينا الإقرار بأنّ الفروقات يمكن أن تكون مصدر غنًى للجميع، إن نظر إليها بتواضع وانفتاح وتفهّم.

ماذا ينتظر منّا العالم؟ لقد تطرّقتم، يا صاحب القداسة، إلى كثير من ذلك في خطبكم وبخاصّة في كتاب الحوارات مع أوليفييه كليمان. ويبدو لي أنّ العالم ينتظر منّا أقوالاً نبويّة أمثال ما قلتموه في الأمور البيئيّة وتجلّي الأرض والحرّيّة والحبّ والكنيسة والأوطان والدهريّة ومجتمعات الاستهلاك وغيرها من المواضيع الساخنة التي تتّسم بها الثقافة الكونيّة التي نعيش فيها. حبّذا لو نجعل الكنيسة الأرثوذكسيّة جمعاء تقول هذه الأقوال وتقتنع بمضمونها.

ينتظر العالم منّا، أيضًا، أن نسعى بجدّيّة إلى استعادة الوحدة بين المسيحيّين، غير الخلقيدونيّين أوّلاً والغربيّين تاليًا. بعد قرون من النزاعات والإبسالات المتبادلة ورفض الآخر وتجاهله، حان للجماعة المتضائلة التي تريد أن تجسّد رسالة يسوع، أن تعي صلاة يسوع بأنّ العالم لن يؤمن بيسوع إن لم يتوحّد المؤمنون به. لماذا لا نتابع، بجدّيّة، قرارات البلمند وشامبيزي مثلاً؟ علينا أن نعترف بأنّ الانشقاق اليوم ما عاد قائمًا بين الكنائس فحسب، بل داخل كلّ واحدة منها، بينما نحن مدعوّون إلى أن يتعلمّ واحدنا من الآخر الذي يفتّش هو أيضًا عن المسيح، ويسبّحه بعبارات وشعائر تختلف عمّا يمارسه هو. علينا أن نحبّ وجه المسيح كما يراه المسيحيّ الآخر، فتتكامل خبراتنا ونكتشف أنّ حائط عداوة الانشقاق لا يرتفع إلى السماوات. علينا أن نستعيد الزخم الذي ساد انفتاحنا أيّام أسلافكم الكبار. لا بدّ من أقوال وأفعال نبويّة تؤثّر في شعب اللَّه، وتعيد إليه رجاء أنّ الوحدة بين المسيحيّين ستتحقّق في مستقبل منظور. اللَّه يطرق أبوابنا قائلاً لنا إنّ الأيّام شرّيرة، إنّه يجب ألاّ نتوقّف عند الشكليّات، بل أن نفتّش عن الحقيقة في المحبّة، وندرك أنّه إن آمنّا يمكننا نقل الجبال، وألاّ ننسى أنّ المحبّة الحقّ يجب ألاّ تكون مشروطة.

لا بدّ من أن يطال انفتاحنا على الآخر حتّى الديانات غير المسيحيّة، وبخاصّة الإسلام الذي يتزايد حضوره في العالم. جعلتنا تقلّبات التاريخ في أنطاكية »كنيسة العرب«، الذين يدين أكثرهم بالإسلام، وتعلّمنا أن ننمّي علاقة التعايش معهم، ونجحنا أحيانًا كثيرة في إطلاق الحوار الصريح معهم على أساس المحبّة واحترام الآخر. تأثّرنا كثيرًا من حملات المسيحيّين الذين أتونا بالصليب في يد والسلاح في الأخرى، فزادت علينا المصاعب. ومع أنّنا شجبنا الخلط بين الصليب والحرب، سوى على الأهواء، دفعنا ما فرض علينا من دم وإذلال. لكنّا حافظنا بإصرار على روح الصليب الحقيقيّ وسعينا نحو الشهادة لفكره. علينا اليوم أن نتابع هذه المسيرة، وأن نشهد، رغم الصعوبات، كيف أنّ مسيحنا يريدنا أن نحبّ الجميع. على الكنيسة الأرثوذكسيّة جمعاء، وبخاصّة كنائس الشرق، أن تتعاون في هذا المجال. لذلك علينا أن ننقل إليهم جميعًا رسالة سلام وأخوّة بين الأديان. لا يمكن أن يترك هذا الأمر للأطر السياسيّة لأنّ مصالحهم تحدّ من رؤيتهم للإنسان من جهة ولترابط المجتمعات من جهة أخرى. بل ربّما علينا أن نجد السبيل الأنجع لنكون ضمير هذا العالم السياسيّ، فلا تكون مصالحه المحدودة سبب ظلم يدفع ثمنه الضعيف والفقير.

إلى جانب الحوارات اللاهوتيّة المختلفة التي لا بدّ من متابعتها بزخم متزايد، علينا أن نتجنّد مع باقي المسيحيّين في خدمة الفقراء والمستضعفين وجميع الذين يرزحون تحت العنف المتنامي والاضطهاد في سائر أنحاء العالم، وفي بلادنا المشرقيّة بخاصّة، كما قال سلفي المثلّث الرحمة البطريرك إغناطيوس الرابع عند استقباله البابا يوحنّا بولس الثاني في دمشق: »نحن مدعوّون إلى أن نمسح دموع جميع الذين يبكون«، ليس فقط بالصلاة من أجلهم، بل أيضًا بمعاضدتهم والسعي لرفع الظلم عنهم، لكي يقتنعوا بأنّ الكلمة الأخيرة ليست للموت بل للحياة والمحبّة. علينا أن نجد الأقوال الناجعة والأفعال العمليّة لنذكّر الدول والمجتمعات الغنيّة والفاعلة بضرورة العمل بغية إحلال السلام حيث الحرب، والمشاركة حيث الإجحاف، والعيش الكريم حيث العنف والاضطهاد. ولا بدّ لي، في هذا السياق، من أن أذكر المآسي التي تعصف بسورية الحبيبة اليوم، كما عصفت في العراق ولبنان، وأن أقول إنّنا ننزف لكلّ جرح يصيب أولادها إلى أيّة طائفة انتموا، وأؤكّد أنّ علينا ألاّ نوفّر جهدًا لتوعية الناس على مصائب شعبها وإعانته. لذلك، ومن على هذا المنبر الشريف، وبدافعٍ من همّنا ومسؤوليّتنا المشتركة، أؤكّد على ضرورة التكاتف والعمل المشترك في سبيل تخفيف المعاناة بكلّ تداعياتها الإنسانيّة والاجتماعيّة والمعيشيّة والأمنيّة، التي أصابت بلادنا العظيمة بتاريخها وحضارتها. وعليه فإنّي أكرِّر مناشدتنا للمجتمع الدوليّ للقيام بواجباته في إفشال كلّ محاولةٍ لاستغلال مظاهر تنوّعنا الحضاريّ وتحويلها إلى تناقضاتٍ حقيقيّة تفرّق بين أبناء الشعب الواحد، وذلك من أجل الوصول إلى ترسيخ حقوق الجميع في الحرّيّة والكرامة والسيادة والعيش الكريم المشترك. وعليه أؤكّد الحاجة الملحّة إلى الحلّ السلميّ للأزمة في سورية عبر الحوار، لا سيّما أنّ التطرّف وصل إلى درجة استهداف رجال دين مسلمين ومسيحيّين، وكان من بينهم مؤخّرًا اختطاف المطرانين بولس ويوحنّا في حلب، وإنّنا نناشد الجميع من جديد مع المجتمع الدوليّ من هذا المكان الشريف لإطلاق سراحهما.

لــن أطيل كلامي أكثر من ذلك. إنّي فرح جدًّا بوجودي في هذه الديار، وأصلّي أن يساندكم اللَّه في رسالتكم فيها وفي العالم الأرثوذكسيّ أجمع، وإلى سنين عديدة«.

الجدير بالذكر أنّ أحد وجهاء اليونان في إسطنبول طلب منّي تزويده بنصّ الخطاب، قائلاً إنّه وجد فيه »فتوحات« قلّما سمعها من رؤساء كنسيّين، وأنّه يودّ دراسته بدقّة مع آخرين حوله للاستفادة.

المحطّة الثانية: دعي الوفد الأنطاكيّ إلى مائدة محبّة في أحد المطاعم، وجّه خلاله البطريرك المسكونيّ كلمة إلى البطريرك يوحنّا قال فيها: »هذه المائدة هي تكملة للمائدة الروحيّة، لعشاء الربّ الذي اشتركنا فيه، فنغذّي القسم العضويّ فينا بعد أن غذّينا القسم الروحيّ... أعطانا الربّ يسوع المسيح سرّ الإفخارستيّا المقدّسة بشكل طعام، مؤكّدًا على قوله: »إن لم تأكلوا جسد ابن الإنسان وتشربوا دمه، فلن تكون الحياة فيكم« (يوحنّا 6: 53)... وفي مكان آخر تكلّم على الملكوت السماويّ مشبّها إيّاه بمائدة كبرى علينا أن نتهيّأ ونستجيب لدعوة الالتحاق بها (لوقا 14: 15). وكذلك عندما التقى الربّ التلاميذ عند بحر الجليل، أعطاهم خبزًا وسمكًا (يوحنّا 21: 9- 13). ويرمز بواسطة كلّ ذلك إلى شخصه، كما عرفه تلميذا عمّاوس عند كسره الخبز، مباشرة قبل العشاء (لوقا 24: 30-31). كلّ هذه الاستشهادات تبيّن أنّ الموائد المشتركة لا تغذّي فقط أجسادنا، بل تنمّي علاقاتنا وتعطينا دفعًا نحو الطعام الروحيّ«.

المحطّة الثالثة: عند المساء التأم اجتماع ضمّ، إلى أعضاء الوفد الأنطاكيّ، البطريرك المسكونيّ مع المطارنة أعضاء اللجنة البطريركيّة المسؤولة عن العلاقات الأرثوذكسيّة، وكان من أبرز أعضائها المتروبوليت جان (زيزيولاس)، كبير لاهوتيّ الكرسيّ القسطنطينيّ. تميّزت المحادثات بجو أخويّ صريح وشفّاف. وتطرّقت إلى عدد من المواضيع ذات الاهتمام المشترك، أهمّها قضيّة قطر، والهيئات الأسقفيّة المحلّيّة في أوروبّا وأميركا اللاتينيّة، وقضيّة اعتقال المطرانين وأمور أخرى. وقد لخّص البيان الذي صدر عن البطريركيّة الأنطاكيّة بتاريخ 4 حزيران مضمـون هـذه المحادثات، قائلاً: »في موضـوع قضيّة النزاع بين البطريركيّة الأنطاكيّة وبطريركيّة أورشليم التي تدّعـي أنّ لهـا ولايـة قانونيّة كنسيّة على قطر ومنطقة الخليج العربيّ، خلافًا صريحًا للقوانين والتاريخ، فقد شرح البطريرك يوحنّا والوفد المرافق له بإسهاب موقف  البطريركيّة الأنطاكيّة المحقّ، مبديًا أسفه لاضطرار الكنائس الأرثوذكسيّة في هذا الشرق المعذّب أمام التحدّيات والأخطار المحدقة بها، إلى مجابهة نزاعات من هذا النوع نحن بغنى عنها. وإذ شدّد غبطته على روح المحبّة والشركة التي يجب أن تسود العلاقات الكنسيّة الأخويّة، عاد وأكّد مجدّدًا موقف البطريركيّة الأنطاكيّة المحقّ والموثّق القاضي بعدم التفريط بالحقّ. أبدت البطريركيّة المسـكونيّة تفهّمًا لموقف البطريـركيّة الأنطاكيّة وتمّ الاتّفاق على متابعة الأمر من قبل البطريركيّة المسكونيّة مع بطـريركيّة أورشلـيم بأسـرع وقت ممكـن مـن أجـل التوصّل إلى حلّ يعيد الأمور إلى نصابها، ويبعد أخطار تفاقـم الوضـع بين البطريركيّتين وتداعيات نحن بغنى عنـها. كذلك كـان لموضوع خطف المطرانين وغيرهما من المخطوفـين، الـذي يؤلم البطريركيّة الأنطاكيّة والكنيسة جمعاء، حيّز كبير من المباحثات بين البطريركيّتين. فبعد شرح حيثيّات هذه القضيّة وتداعياتها وأخطارها، طلب غبطة البطريرك يوحنّا إلى البطريرك المسكونيّ متابعة دعمه الاتّصالات الإقليميّة والدوليّة الجارية لتحرير المطرانين. من جهتها أبدت البطريركيّة المسكونيّة تعاضدها الأخويّ أمام هذه المحنة الأليمة وأكـّدت أنّها تقوم أيضًا بالاتّصالات اللازمة من أجل تضافر الجهود المبذولة للوصول إلى إطلاق سراح المطرانين المخطوفين في حلب وعودتهما سالمين للكنيسة". وقد اتّفق الوفدين على ضرورة إعادة الزخم الى المحادثات مع الكنائس المسيحيّة الأخرى، وقد أبدى البطريرك الأنطاكيّ استعداد الكرسيّ الأنطاكيّ لاستضافتها.

المحطّة الرابعة: انتقل المجتمعون في نهاية المباحثات لتناول العشاء.

يوم الاثنين الواقع  فيه 3 حزيران وهو يوم الزيارة الرسميّة الثالث

المحطّة الأولى: اشترك البطريركان والوفود المرافقة في القدّاس الإلهيّ المقام في كنيسة القنصليّة الروسيّة في إسطنبول لمناسبة شفيعيها القدّيس قسطنطين والقدّيسة هيلانه بحسب التقويم الشرقيّ المتّبع من الكنيسة الروسيّة، تبعه لقاء أخويّ مع القنصل الروسيّ وأعضاء من الجالية الروسيّة.

المحطّة الثانية: ثمّ لبّى الجميع دعوة القنصل اليونانيّ إلى الغذاء في أحد المطاعم حيث تبادل البطريرك يوحنّا والقنصل الكلمات والهدايا.

المحطّة الثالثة: اجتمع البطريركان والمطارنة الأنطاكيّون المرافقون مع محافظ إسطنبول وتداولوا معه في المشاكل الراهنة وبخاصّة قضيّة خطف المطرانين، وقد وعد خيرًا.

المحطّة الرابعة: حضر الجميع حفلة الاستقبال في مقرّ البطريركيّة المسكونيّة حيث اجتمعوا مع أعضاء الجالية اليونانيّة وبعض الأنطاكيّين الساكنين في إسطنبول، وحيث تبادل البطريركان وممثّل هذه الجالية الكلمات الأخويّة.

المحطّة الخامسة: ثمّ دعا البطريرك المسكونيّ الوفد الأنطاكيّ إلى عشاء في أحد المطاعم، تصافح الجميع بعده. وكانت نهاية الزيارة الرسميّة.

يوم الثلاثاء الواقع  فيه 3 حزيران: غادر غبطة البطريرك يوحنّا والوفد المرافق إسطنبول في الساعة الواحدة والنصف بعد الظهر ووصلوا إلى بيروت نحو الثالثة، حيث كان استقبال رسميّ مثّل فيه معالي وزير الدفاع اللبنانيّ رئيس الجمهوريّة.l

 

المشاركات الشائعة