المطران يوحنّا (منصور) - رجل الله

 

ريمون رزق 

اليوم الأوّل من أيّام الصوم الكبير المقدّس لسنة 2019

 

انضمّ شفيق منصور شابًا إلى صفوف حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة، التي جعلت منذ 1942 قلوب شباب من اللاذقية وطرابلس وبيروت، تتوق إلى التوبة الشخصيّة وإلى النهضة في الكنيسة الأنطاكيّة. فكان من أوّل الناشطين فيها في اللاذقيّة وقراها. وتولّى فيها مسؤوليّة تعليم الأطفال وتربيتهم تربية دينيّة لسنين طوال. وأخذ يشترك بهذه الصفة في مؤتمرات تضمّ ممثّلين عن معظم الأبرشيّات في مدى الأنطاكيّ. فاعتُبر رغم صِغر سنّه أحد قوّاد النهضة في أنطاكيّة. وكان يُعتبَر كذلك في الأوساط الحركيّة عندما دخلتها السنة 1956، وقد عطتني أن أكتشف وجه يسوع الحلو والدامي في آن، وجمالات كنيستيّ بعد شيء من التغرّب.

لكنّي لم أتعرّف شخصيًّا على المثلّث الرحمة المطران يوحنّا قبل السنة 1957. كان لا يزال علمانيًّا وأوّل مَن أتى إلى دير مار جاورجيوس في دير الحرف، بقصد تأسيس أوّل رهبنة رجاليّة في الكرسيّ الأنطاكيّ بعد انقطاع لها فيه دام قرون. وقد تبعه سريعًا رفيقان له من اللاذقيّة (مرسيل مرقس وحبيب فهدِه وكلاهما من الحركة).

ينبع تعلّق الحركة بالرهبنة من القناعة أنّ الرهبنة تغزّي الحياة الروحيّة الحقّ بين العباد، وأنّ صلاة الرهبان المستمرّة تجذّرهم في الكنيسة. وكانت هذه القناعة قد دفعت فتيات أغلبهنّ من اللاذقيّة إلى الترهّب في أوائل خمسينيّات القرن الماضي. أوّلاّ في بيت متواضع في إحدى ضواحي بيروت، ثمّ في دير مار جاورجيوس في دير الحرف، وأخيرًا في دير مار يعقوب المقطّع في ددّه في الكورة لبنان، حيث أعطاهنّ الربّ أن تثبتنَ فيه. وقد دفعت هذه القناعة نفسها شفيق منصور ورفقته أن يخوضوا تجربتهم الثانية في إعادة الحياة الرهبانيّة إلى ربوعنا.

منذ قيامهم في الدير، أخذ الشباب الحركيّ في بيروت وجبل لبنان، الذي حرّكته هذه التجربة عميقًا، يتوافد إلى دير الحرف، ابتدأً من السنة 1958. يقضي فيه وقتًا ليس بقصير، في التحدّث مع مريديّ الرهبنة هؤلاء. كانت رئاسة الدير تنتقل آنذاك بالتناوب بين المريدين إلى أن تولّاها "الأخ" شفيق منصور منفردًا من أب 1958 إلى 1961، حين أُسندت إلى المثلّث الرحمة "الأخ" إلياس (مرسيل) مرقس. وكان المثلّث الرحمة المطران إيليّا (كرم)، متروبوليت جبل لبنان، قد ألبس المريدين لباس المبتدئين في شهر آب من السنة 1959، بحضور المثلّث الرحمة إلياس (معوّض)، متروبوليت حلب (لاحقًا البطريرك إلياس الرابع) الذي كان رافق بعطف إعادة ولادة الرهبنة منذ بدايتها.

وكان الإخوة المبتدئين يتلقّون منذ فصح السنة 1959 دروسًا يوميّة مكثّفة حول الحياة الرهبانيّة والروحانيّة الأرثوذكسيّة والليتورجيّا والكتاب المقدّس من قبل المرحوم الأرشمندريت أندريه سكريما الرومانيّ. عاش معهم سنوات طويلة، ناقلًا إليهم الخبرة الرهبانيّة التي اكتسبها من تتلمذه على بعض كبار الرهبان الشيوخ في رومانيا، إضافة إلى معرفته العميقة في اللاهوت والفلسفة والعلوم.

وكان الأخ إلياس يزوّد الإخوة بترجمات عربيّة لتعاليم الأب أندريه التي كانت تُعطى بالفرنسيّة، وقد جمع لاحقًا بعضها في كتب نُشرت في منشورات النور الأرثوذكسيّة. أمّا الأخ شفيق الذي غيّر اسمه إلى يوحنّا، فكان، إضافة إلى حياته في الدير، يجول المنطقة واعظًا في كنائسها، وداعيًا سكّانها إلى التوبة ومعدًّا "طريق الربّ".

فجعله نشاطه هذا الرعائيّ يكتشف مع الوقت أنّ رسالته ليست العيش بين الرهبان بل في العالم، مكرّسًا كلّ وقته للعمل الرعائيّ والتبشير وإرشاد الشباب وقيادتهم إلى يسوع في كنيسته. كتب القدّيس ذيونيسيوس الآريوباجيّ في أواخر القرن الخامس في "الرئاسات الكنسيّة" (6: 3، 1-2) أنّ "ليس من رسالة الرهبنة قيادة الآخرين... إذ تكمن مسؤوليّة الرهبان في أن يُصبحوا واحدًا مع الواحد الأحد، ويتّحدوا به في وحدة مقدّسة". بهذا يبيّن التمايز بين الراهب والكاهن: الكاهن يزرع والراهب يصلّي لينمو الزرع. يتابع الراهب في الكنيسة الدور الذي لعبه الشهداء، إذ عليه عيش آلام المسيح ليتقدّس. وكلّما تقدّس الراهب واتّحد بالله، كلّما تقدّس العاملون في الكنيسة في رعاية الناس، إذ جميعنا مدعو إلى القداسة لأنّنا نعيش في "شركة القدّيسين". مع ذلك، ثمّة تقارب كبير بين الكاهن والراهب. على الكاهن، إن كان يريد النجاح في عمله الرعائيّ أن يكون "رجل صلاة". ليس فقط عند ترأسه اجتماع الكنيسة الإفخارستيّ، بل في حياته كلّها داعيًا رعيّته إلى التمثّل بصلاته، إذ وحدها الصلاة والاتّكال على الربّ يُنجحان كلّ رعاية ونشاط تبشيريّ. لذا لم يبتعد الأخ يوحنّا كثيرًا، بتركه الدير، عن رسالته الأصليّة، بل أراد أن تشمل صلاته وجوه الناس على أرض الواقع، فيدعو كلّ واحد منهم باسمه ويكون مستعدًا للموت من أجله.

ترك الأخ يوحنّا دير الحرف في شهر شباط من السنة 1962. رسمه المثلّث الرحمة المطران إلياس (قربان)، متروبوليت طرابلس، شمّاسًا في أيّار من السنة ذاتها وكاهنًا بعد حين. وعهد إليه برئاسة دير سيّدة بكفتين، حيث بقي حتى السنة 1966. وكنّا نجتمع به كثيرًا في تلك المرحلة، بمناسبة نشاطات الحركة التبشيريّة والنهضويّة المختلفة في أنحاء لبنان.

عند شغور أبرشيّة اللاذقيّة في العام 1966، عيّنه المثلّث الرحمة البطريرك ثيوذوسيوس السادس معتمدًا بطريركيًّا فيها. بقي في هذه المهمّة حتّى العام 1973. وكانت أبرشيّة اللاذقيّة تعيش في تلك المرحلة أصعب أيّامها بسبب الانشقاق الذي حصل آنذاك في الكرسيّ الأنطاكيّ وانتخاب مطرانين عليها. فكانت مهمّة المعتمد البطريركيّ عدم السماح للأسقف غير الشرعيّ دخول المدينة، رغم الدعم الذي كان يحظى به من قبل بعض السلطات. فكان عمله بالفعل بطوليًّا. وقد أُعطي لي أن أشهد بعضًا منه خلال زياراتي الكثيرة إلى اللاذقية بسبب الالتزام الحركيّ وأسباب عائليّة إذ كنت قد اقترنت بفتاة من اللاذقية. تمكّن الأرشمندريت يوحنّا، بهدوئه المعهود وتواضعه أن يوحّد كلمة الشعب، فالتفّ حوله الشعب وصمد، رغم الصعوبات، وتناوب في حراسة المطرانيّة، إلى أن أتى صاحبها الشرعيّ، المثلّث الرحمة المطران أغناطيوس (هزيم) في السنة 1973. وكان الأرشمندريت يوحنّا يجمع الوافدين إلى المطرانيّة حول كلمة الله، فكنت تراه دومًا فاتحًا الإنجيل وشارحًا. فأخذ يقصد المطرانيّة والكنائس مَن لم تطأها رجليهم قطّ. فأضحى يوحنّا الشاهد الأوّل لمحبة المسيح والمدافع الأوّل عن جماعته المهدّدة بالاغتصاب. كانت علاقته بالإنجيل تعطيه القوّة والثبات، إذ كانت تميّزه عن معظم الناس. كان يشدّد على العلاقة الشخصيّة مع يسوع وأساليب اكتساب الحياة فيه والعيش الدئم في حضرته وترجمة الالتصاق به في الحياة اليوميّة والعلاقة مع الآخرين ودعوتهم إلى العمل في ورشة الملكوت، إذ كان يقول مع بولس الرسول: "الويل لي إن لم أبشّر".

عاد إلينا في لبنان بعد استقرار الأوضاع في اللاذقيّة، فعُيّن رئيسًا لدير سيّدة البلمند البطريركيّ، وتبع دروس معهد القدّيس يوحنّا الدمشقيّ اللاهوتيّ، وتخرّج منه في العام 1978. فاستعدنا العادات التي كنّا عليها معه قبل ذهابه إلى اللاذقيّة. فأخذ يساهم مجدّدًا، كما في السابق، بمعظم النشاطات الروحيّة التبشيريّة التي كانت تُقام خاصّة في طرابلس والكورة، إلى أن انتخبه المجمع الانطاكيّ المقدّس مطرانًا على اللاذقية في العام 1979.

ليس لي أن أتكلّم عن دوره كمطران، لكن لا بدّ لي أن أقول أنّ ما لفتني في عمله الأسقفيّ، أنّه بقي على تواضعه، وكان همّه الأساسي دعوة خيرة أبنائه إلى التكريس الكلّيّ، جاعلاً من اللاذقيه في عهده منبعًا حقيقيًّا للكهنة والرهبان في الكرسيّ الأنطاكيّ.وقد استلم بعضهم أعلى المناصب فيه ابتدأء من غبطة البطريرك يوحنّا العاشر إلى عدد من القيّمين على أبرشيات الكرسيّ الأنطاكيّ والعاملين فيها، في الوطن وبلاد الانتشار. ولا بدّ أيضًا من ذكر الأديرة التي سهر على إنشائها، خاصّة في بلمانا من أعمال بانياس. كان يعتبر أنّ هذا الدير يمثّل مع الذين تكرّسوا إرثه الأهمّ، وأراد أن يُدفن فيه. لذلك ذكر غبطة البطريرك يوحنّا العاشر، في تأبينه له هذا الإرث قائلاً: "ثمّة مَن يرحل بصمتٍ دونما أَثَر، أمّا أنت فتغادرنا مطمئنًا لأنّ الشتلات التي زرعْتها نمت وصارت شجرات وارفة الظلال. منحك ربّك سنين كثيرة ولم يشأ أن يخطفك إلى مجده إلّا بعد أن أتممت الرسالة بأفضل ما يمكن، وانتشر تلاميذك وأبناؤك في أصقاع الأرض وإلى أقاصي الدنيا".

وقال فيه الشمّاس المرحوم اسبيرو جبّور، ابن اللاذقيّة البار: "يؤكد مَن عرفك أنّك قد ضاعفتَ الوزنات المعطاة لك على أفضل وجه. أمّا وجهك الباش الوديع وبلاغة تواضعك وبسمتك العذبة في أثناء خدمتك للقدّاس الإلهيّ بشكل خاصّ، فمحفورة بعمق في ذاكرة أجيال كثيرة. سرّ قبولك لعطايا الله عظيم، وهو سرّ فرحك الدائم وسلامك المطمئن دومًا. لقد نحتك تواضعك آنية خزفيّة، قابلة للمعطوبيّة، لكن ارتضى ربّك أن يضع فيها الكثير من نعمه. بعدما اقتبلت بكلّ رضى كلّ شيء من لدنه، صرت، في شيخوختك الوقورة، مصدر بركة للكثيرين".



المشاركات الشائعة