هل من حياة رهبانيّة في العالم؟

ريمون رزق


ذكّر الآباء بأنّ متطلّبات الحياة الرهبانيّة لا تنحصر على الرهبان، بل أنّ العالم بأسره مدعوّ إلى ممارستها. لم يكن  باسيليوس الكبير يعتقد، أحد كبار مطلقي الرهبنة ومنظّميها، أنّ هدف الإنسان أن يترهّب بمعزل عن العالم. وكان قد شاهد نسّاك مصر في الصحراء، وانزعج لملاحظة أنّ تقشّف بعضهم القاسي لم يرافقه التواضع والمحبّة. ولاحظ أيضًا أنّ النسك الشديد أدّى الأقوياء بينهم إلى الكبرياء، بينما أضعف عزيمة الضعفاء. فاعتبر باسيليوس أنّ هذه الممارسات تُعطي أحيانًا صورة مغلوطة عن الله، كأنّه يحبّذ الآلام، وتعطي صورة خاطئة عن الخلاص كأنّه يُكتسب بالأوجاع.  كان مقتنعًا، على غرار يوحنّا الإنجيليّ، بأنّ الله محبّة وبأنّ الخلاص هو الدخول في شركة محبّة معه ومع الإخوة. لذلك نظامه "الرهبانيّ" الأوّل كان موجّهًا إلى المسيحيّين كافّة الذين يرغبون فعلًا في ممارسة "الحياة في المسيح". ولم يكن بصدد تأسيس جماعة رهبانيّة جديدة منفصلة عن الرعيّة. كان يريد جماعةً ملتزمة بتطبيق الحياة المسيحيّة كاملةً، تكون خميرة الرعيّة المطيعة الإنجيل والعيش به. كان يحلم بحركة تضمّ مسيحيّين عاديّين يختارون أن "يلبسوا" المسيح، ويكونوا في منتصف الطريق بين الرهبنة التقليديّة التي غالبًا ما تكون منقطعةً عن العالم وتحبّذ النسك والتوحّد، والرعيّة العاديّة. هذه الحركة مدعوّة إلى "بعث الحياة بالكنيسة كلّها". هذا ما يفسّر سعي القدّيس، أثناء تنظيمه للحياة داخل الأديار الجماعيّة التابعة له، ألّا يحوّل الترهّب عن مشاركة الرهبان الفعليّة في أعمال اجتماعيّة، في المدارس والمستشفيات والمياتم وأيّ نشاط آخر في خدمة الجماعة المحلّيّة.

يذكّر آباء آخرون بأنّ كتابات النسّاك إنّما تعني أيضًا المسيحيّين في العالم الذين يريدون الاستماع إلى كلمة المسيح واتّباع تعاليمه. إنّهم يشدّدون على أنّ الدعوة إلى القداسة موجّهة إلى الجميع، وأنّ المسيح قد أحبّنا كلّنا بالمحبّة نفسها، ويتوق إلى أن يرانا نبادله هذه المحبّة. فبعد أن يذكّر نيلوس البارّ (أواسط القرن الخامس) بأنّ الرهبان هم الذين يريدون "أن يخلصوا"، وهم الذين "يحيون بحسب الإنجيل، ويبحثون عن الحاجة الوحيدة الضروريّة"، يضيف بدون تردّد: "إنّ  الممارسات الرهبانيّة كافّة هي مفروضة على الناس الذين يعيشون في العالم"[1].

ويتوسّع يوحنّا الذهبيّ الفم في هذا السياق، قائلًا: "عندما يأمر المسيح بسلوك الدرب الضيّقة، فهو يتوجّه إلى الناس كافّة. على الراهب والعلمانيّ بلوغ المثال ذاته... يجب على الذين يعيشون في العالم، ولو كانوا متزوّجين، أن يشبهوا الرهبان بكلّ شيء... أنتم مخطئون تمامًا إذا كنتم تعتقدون بأنّه يوجد أمور مطلوبة من العلمانييّن وأخرى من الرهبان... فكلّهم سيحاسبون في اليوم الأخير"[2]. ويؤكّد ثيودورس الأستوديتيّ (759 – 826)، في حديثه عن الصلاة والصوم ومطالعة الكتاب المقدّس والقانون النسكيّ "على أنّ هذه اللائحة تنطبق كاملةً على الرهبان والعلمانيّين على حدّ سواء"[3]. ويقول سمعان اللاهوتيّ الحديث: "يمكن لسائر الناس، ليس فقط للرهبان بل أيضًا للعلمانيّين، أن يتوبوا باستمرار ويبكوا ويتضرّعوا إلى الله، لينالوا بذلك كلّ الفضائل الأخرى"[4]. وينصح غريغوريوس بالاماس "بالسعي إلى الكمال في طريقة العيش وليس في تبديل الملابس". أمّا نقولا كابازيلاس فيؤكّد أنّ الحياة في المسيح "لا تفترض أيّ فرض إضافيّ، ولا ينتج منها احتمال المشقّات أو إنفاق الأموال. ولا يتأتّى منها أيّ عار أو خزي... وهي لا تمنعنا من ممارسة مهنتنا، ولا تقيم أيّة حواجز أمام اهتماماتنا. فالقائد يستمرّ في قيادته والمزارع في زراعته والحرفيّ في عمله... لسنا مضطرّين إلى الانعكاف في مكان ما في الصحراء أو تناول طعام غريب أو ارتداء ملابس مختلفة أو إلحاق الضرر بصحّتنا أو المجازفة بحياتنا... فنحن لا نغيّر مكاننا بل طريقة حياتنا ومنهجها"[5].

تنبع الحياة الأبديّة إذًا من قلب حياتنا اليوميّة العاديّة. يتوجّه سيرافيم ساروفسكي إلى تلميذه موتوفيلوف، خلال الرؤيا المشتركة في نور الروح القدس، قائلًا: "لا داعي للتفكير بكونك علمانيًّا وكوني أنا راهبًا... يبحث الربّ عن القلوب الممتلئة محبّة به وبالقريب. هذا هو العرش الذي يحبّ أن يجلس عليه، والذي سيظهر جالسًا عليه عند اكتمال مجده السماويّ"[6].

ويؤكّد تيخون زادونسكي (+1783) على هذا التشابه في المصير بين الرهبان والعلمانيّين إذ يدعو العلمانيّين إلى ممارسة "رهبنة داخليّة"، مكرّرًا الدعوة التي أطلقها يوحنّا السلّميّ في القرن السابع.

إنّ حياة كلّ إنسان، كما يراها الآباء، هي حجّ متواصل بحثًا عن المسيح، بتوجيه من الروح القدس الذي يمدّنا دومًا إلى وجه الآب. ويشدّد نقولا كابازيلاس على هذا المفهوم، داعيًا العلمانيّ إلى عيش "حياة رهبانيّة" "مكرّسة" بواسطة الإقبال المتواصل على الأسرار وحفظ الوصايا والحرب ضدّ الأهواء وازدراء كلّ شيء يلهيه عن السير وراء المسيح، والمثابرة في تلاوة صلاة يسوع.

 



[1] الرسالة الأولى، 167 و169.

[2] العظة حول الرسالة إلى العبرانيّين، 7: 41.

[3] الباترولوجيا اليونانيّة 99، 1388.

[4] المواعظ التعليميّة 5.

[5] المرجع عينه.

[6] الحوار مع موتوفيلوف.

المشاركات الشائعة