ملاحظات حول نصوص مجمع كريت

 

 ريمون رزق


لا يتطرّق هذا النصّ، الذي يردّد القول التقليدي الأرثوذكسي الصارم حول الصوم، إلى نواحيه الحياتيّة وممارساته التي تختلف جذريًّا بين الكنائس، تاركًا لكلّ أسقف أن يستعمل التدبير ليجد الحلول المناسبة لواقع شعبه. قد تبنّى المجمع النصّ كما قُدِّم. من الغريب أنّه لا يأتي على ذكر أهميّة فضيلة الاعتدال وزُهد الصيام في مجتمعاتنا الاستهلاكيّة التي تستدعي قول أشياء جديدة ونبويّة، كالتي وُجِدت في النصّ الذي قدّمته الكنيسة الأنطاكيّة في إحدى الإجتماعات التحضيريّة حول الصوم والذي لم يُنظَر فيه.

الزواج

بحث المجمع النصّ حول الزواج، مع أنّه رُفض من قبل كنيستَين (أنطاكية وجاورجيا) لأسباب مختلفة، كان يقضي الامتناع عن بحثه احترامًا لمبدأ الإجماع. يبحث بموانع الزواج، مردّدًا بعض القوانين الكنسيّة، ويكتفي بذكر المشاكل الرعويّة التي تطرحها على جماعاتنا الزيجات المختلطة وأشكال "الزيجات" التي تسمح بها القوانين المدنيّة، بدون إعطاء أي إرشاد سوى القول أنّه يجب في كل حال "المحافظة على قدسيّة الزواج". وقد أُضعف النصّ خلال مناقشته في المجمع بإقصاء من مبدأ التدبير الكنسيّ بالنسبة لزواج الأرثوذكسيّ مع مسيحيّ آخر، تماشيًا مع رغبة كانت قد قدّمتها كنيسة جاورجيا، متناسيًا أنّ مثل هذه الزيجات هي خبز بعض الكنائس اليوميّ! في الوقت الذي أصدر البابا فرنسيس منشوره حول الزواج، تحت عنوان "فرح المحبّة"، الذي يتناول بروح إنجيليّة مشاكل المسيحيّين الحقيقيّة، يتّسم النصّ "الأرثوذكسيّ" بالعموميّات، مردّدًا حقائق لاهوتيّة لم يعد يفهمها معاصرونا، خاصّة عندما تُفرض عليهم فرضًا.

في دراستها لهذَين النصَّين، اعتبرت الكنيسة الأنطاكيّة أنّهما يتطلّبان تعديلات جذريّة، وقامت بإعداد نصَّين مرادفَين.

العمل المسكونيّ

بعد مناقشته في المجمع، اتّسم نصّ "علاقات الكنيسة الأرثوذكسيّة بمجمل العالم المسيحيّ" ببصمة المتحفّظين بين الأرثوذكسيّين الذين نزعوا عنه صفة الكنائس عن باقي الجماعات المسيحيّة، مكتفين باعتبار، بتعالي، أنّها تسمّيها هكذا لمجرّد إطلاق هذه التسمية عليها عبر التاريخ! ينسى بعض الأرثوذكسيّون، بموقفهم المصرّ على أنّه لا يوجد سوى "العودة إلى الكنيسة" (أي الكنيسة الأرثوذكسيّة) كخيار وحيد للحوار بين المسيحيّين، ما سبّب لهم مثل هذا الخيار من مآسي عندما طُبِّق عليهم في التاريخ، وأنّهم يعيقون جدّيًّا التقارب بين المسيحيّين الآخرين، جاعلين منه مجرّد تسمية تعايشًا سلميًّا وتعاونًا حول المشاكل السياسيّة الاجتماعيّة المهمّة"، كما يقول النصّ النهائيّ. مع أنّه كان وصفيًّا ومليئًا بالعموميّات، كان هذا النصّ، بصيغته الأولى، الأفضل بين النصوص المعَدّة للمجمع، لكن أفقدته التعديلات التي أُدخلت عليه بعضًا من جودته.

الكنيسة والعالم

مهّد لكلّ من أقسام هذه الوثيقة بحثًا لاهوتيًّا يُفرط في استعمال بعض النصوص الآبائيّة بمثابة براهين تغني عن البحث الحقيقيّ، وهي مسكوبة بلغة لا يفهمها إلّا العارفين. يتبع غالبًا هذا التمهيد لائحة "بشرور" مجتمعاتنا، تتّصف بعبارات وإرشادات عموميّة، دون تقديم معالم حلول متجسّدة في الواقع. أمّا "الشرور" فيؤلّفون جردة إجماليّة لمشاكل مجتمعاتنا، مشدّدة على نواحيها السلبيّة و"الشيطانيّة" بدون التعرّض إلى ضرورة مواجهتها بانتباه محبّ واحترام، والبحث عن النِّعم الإلهيّة التي ترافقها، رغم الأشكال الغريبة غير المألوفة التي تتّخذها. مع أنّه يتطرّق إلى معظم هذه المشاكل، يبقى النصّ على مستوى تجميع أكاديمي، حبّذا لو انتقل من "النيّات الحسنة" إلى مستوى الخدمة في الواقع المُعاش. لكان من المستحسن لو اقترح إنشاء هيئات أرثوذكسيّة مشترَكة للإعانة والتفكير بتحدّيات الحداثة. رغم بعض الإيجابيّات يعطي هذا النصّ الشعور أنّ الكنيسة لا تزال تخاف من العالم الحديث، ولم تنقطع عن محاكاته بشيء من الفوقية. فتكتفي مثلاّ بالحديث عن رعاية الشباب بضرورة "تعليمهم" دون الحديث عن ضرورة الاستماع إليهم. ويذكر النصّ ضرورة إيجاد "اقتصاد ترتبط فعاليّته بالعدالة والتعاضد الاجتماعيّ"، ويتأسّس "على مبادئ أخلاقيّة"، دون الإشارة إلى ضرورة تحرير الكنيسة وأعضائها من كلّ تحالف مع سلطات العالم، وعيشهم حياة تطبعها الكفاية والبساطة، كي تبقى حرّة لانتقادها وتذكيرها على الدوام بمتطلّبات العدالة والكرامة الإنسانيّة والخير العام. يدين النصّ "الحروب الناجمة عن النزعة القوميّة" بدون أن يذكر تعاظم هذه النزعات في الأوساط الكنسيّة. مع ذلك، فقد استقت الرسالة المجمعيّة التي صدرت في آخر أعماله العديد من النقاط المُثارة في هذه الوثيقة، مزيّنة إيّاها بلغة أكثر قربى من الناس.

بلاد الإنتشار

كان بنيّة الكنيسة الأنطاكيّة أن تشير إلى واقع تعيشه أميركا اللاتينيّة حيث امتنع أساقفة الجماعات الأرثوذكسيّة الأكثر انتشارًا من المشاركة في الهيئات الأسقفيّة، وذلك منذ عدد من السنين، ما يستوجب ضرورة البحث في طبيعة هذه الهيئات وممارستها لتصحيح مسارها، وعدم الاكتفاء، كما فعل المجمع، بالقول إنّها كانت مفيدة ويجب تمديد رسالتها، "لأنّ جماعاتنا ليست بعد مهيّئة لتطبيق القانون الأرثوذكسي" الذي يقضي بإيجاد أسقف واحد على أرض واحدة. يحقّ لنا التساؤل عن جديّة هذا الافتراض، وإن كانت الكنائس لا تزال غير مستعدّة، فتُرى متى ستكون؟ ألا يجب بعض الجرأة لفرض واقع جديد كي يزول مشهد تعدّد الأسقفيّات الأرثوذكسيّة الأليم في كلٍّ من بلدان الانتشار؟

مجمع كريت

قرّر المجمع المقدّس الأنطاكيّ، في آخر جلسة له في 27 حزيران 2016 أن يعتبر اجتماع كريت إجتماعًا تحضيريًّا للمجمع الكبير المقدّس الذي لا بدّ من دعوته إلى الانعقاد بعد مزيد من التحضير، وحلحلة المشاكل العالقة بين الكنائس التي تحول دون مشاركة إحداها فيه. ولكي يكون حقًّا "كبيرًا ومقدّسًا" من الأفضل أن يلتئم بحضور كلّ الجسم الأسقفي الأرثوذكسي، وأن تكون مشاركة الكهنة والرهبان والعلمانيّين مؤمّنة بطريقة حقيقيّة، لكي يجمع "ملء" الكنيسة.

علينا العمل والصلاة أن يؤخذ هذا القرار على محمل الجدّ لتفادي استعادة الخبرة المريرة التي حصلت في مطلع القرن الماضي، من خلال انعقاد مجمعًا في القسطنطينيّة السنة 1923، وآخر في موسكو السنة 1948، في جوّ من المخاصمة بين الكنائس. والجدير بالذكر أنّ كنيسة أنطاكية كانت من بين الكنائس الأرثوذكسيّة القليلة التي انوجدت في المجمعَين، مؤكّدة بذلك دورها التقليدي التوافقي، الذي نرجو أن تتمكّن من القيام به خلال الأزمة الطالعة علينا.


 

المشاركات الشائعة