تأمّل في كلمة "أبـانا"
ريمون رزق
النور - العدد الثالث 2013
يريدنا الربّ أن ندعو أباه أبانا.
وبالتالي يريدنا أن نصبح أبناء الله، أيّ أخوة له. هذا هو هدفه: أن نكون أبناء
الله يعني أن نكون أخوة ليسوع. وإن أصبحنا أبناء لله وأخوة ليسوع لا بدّ لنا أن
ندخل في علاقة صميميّة معهما، وأن نصير من
"عائلتهما"، أو بعبارة أخرى، أن نصبح، بشكل من الأشكال، آلهة بالنعمة
التي يغدقوها علينا باستمرار بالروح القدس. من هنا التأكيد منذ أيّام المسيحيّة
الأولى، من قبل عدد من الآباء القدماء، أنّ "الله صار إنسانًا كي يصير
الإنسان إلهًا".
لا نسمع في أيّامنا الكثير عن هذا
الهدف الذي وضعه يسوع لنا. المطلوب أن نصبح آلهة، ليس إلّا، وليس فقط أن نتخلّق
بما يُسمّى الأخلاق المسيحيّة، كما نسمع غالبًا في المواعظ. لا يتجرّاء الواعظ
ويذكّرنا بما أراده لنا يسوع، إذ يعتبره صعب المنال، إن لم يكن مستحيلًا، كما
يعتقد كثيرون جعلوا من النصرانيّة مجموعة أخلاق
"لائقة". ومن الجدير بالذكر في هذا المضمار ما يقوله سمعان اللاهوتي
الجديد، في أحد أناشيده: " لا تقولوا إنّ نيل الروح القدس أمر مستحيل!... لا
تقولوا إنّ الله لا يكشف نفسه للإنسان! لا تقولوا إنّ الإنسان لا يستطيع معاينة
النور الإلهي، وإنّ ذلك مستحيل في الأزمنة الحاليّة! لم
يكن هذا الأمر مستحيل يومًا، أيّها الأصدقاء! على العكس، إنّه ممكن جدًّا، عندما
نريد، لكن فقط للذين قد لطّفت الحياة أهواءهم، ونقّت عيون ذهنهم!". أقوال مثل
هذه عديدة في تراثنا، وسوف نكتفي بهذا القدر، مطمئنّين أنّ غيرنا قد وصل، وأنّه يمكننا تاليًا أن نتمثّل بهم، إن أردنا.
فلننظر إذًا إلى كيف يمكننا أن نصبح أبناء حقيقيّين لله، كما تدعونا الصلاة
الربيّة.
مَن يجعل منّا أبناء؟
يجعلنا أبناء أخونا البكر، يسوع.
هو وحده الطريق المؤدّية إلى الآب، إذ لم يرى الآب سوى الابن ومَن يعبّد له الابن الطريق. فتح الربّ يسوع الأبواب، مرّة وإلى
الأبد. هو آدم الجديد الذي أتى ليخلّصنا من عواقب خطيئة آدم الأوّل. البنوّة
الإلهيّة والخلاص حصلا بموته وقيامته. إذًا الباب مشرّع والطريق جاهز، فكيف ندخل؟
يتكلّم اللاهوت الأرثوذكسيّ بإسهاب بين عمل الله المجّاني
هذا عمّا يسمّيه "التناغم" الذي وضعه الله فينا، عندما خلقنا نحن على
صورته ومثاله، بفعل الإرادة الحرّة. وتاليًا علينا أن نجاهد من أجل الحصول على
خلاصنا. هذا الخلاص حاصل لي بالفعل، فقط إن أردته وسعيت بجدّ إليه، إذ يقول
إيريناوس: "لا إكراه عند الله، بل نصائح".
ما هي سمات الأبناء؟
سمتهم الأولى أن
يكونوا مثل والدهم وأخيهم. يؤكّد الكتاب العزيز بطريقة لا تحمل الجدل
أنّ الله محبّة، بالضبط لأنّه ثالوث. لا يمكننا أن نفهم ماهيّت المحبّة الحقيقيّة
إذ هي في سرّ الله الذي لا يُدرَك ولا يُدنى منه، بل يمكننا أن نتصوّرها من أفعالها ومما يقول بولس وغيره عن المحبّة البشريّة.
يقول الأبّ ليف جيلله: علينا أن نحبّ، بل أن نصبح محبّة. "مَن
يستطيع فهم المحبّة سوى مَن يحبّ؟". "أتّحد بحببي، ونفسي تعشقه"
(أودية سليمان). لذلك نرى المسيحيّون الأوائل يشدّدون على حياة المحبّة لله والأخوه والقريب والأعداء أكثر ما يشدّدون على أمور أخرى,
المسيح مات وقام محبّة بالجميع. ولا يمكننا أن نصبح أخوته إلّ ابأن نتصرّف مثله.
"المحبّة أثمن من جميع العلوم وأكثر مجدًا من النبوءات وأعظم من جميع المواهب
الإلهيّة" يقول إيريناوس، أسقف ليون. "المحبّة تقود إلى علوٍّ لا يوصف ولا يُنطق به. تُلصقنا المحبّة
بالله... المحبّة لا تعرف الكبرياء، لا تغضب، تتحمّل كلّ شيء، ترفق،
تتأنّى. لا عنف فيها. تكمّل. من دون محبّة لا شيئ يرضي الله" يقول اقليموس
الرومانيّ. الموضوع ليس مناقبيًا مع أنّه يأخذ طابع مناقبيّ. كون الله محبّة هو سرّ، سرّ الثالوث. ومحبّة يسوع للعالم هي أيضًا
سرّ، سرّ التدبير الخلاصيّ. إذًا اكتسابنا المحبّة هو ولوج في سرّ الله، هو عيشنا
فيه ومعه. هو، كما يقول الربّ في صلاته إلى أبيه: أن "يكون فينا
الحبّ الذي أحببتني به، وأكون أنا فيهم"، وليس فقط موضوع حسن تصرّف.
"أنا هو الطريق"، قال الربّ.
لا سبيل لنا سوى اتّباع هذا الطريق. طريقنا إلى المحبّة هي في تمثّلنا بيسوع، كي
ينمو هو فينا ويبقص أنانا. يقول إيريناوس: "التمثّل بالمسيح ومحبّة الله
يوصلاننا إلى التألّه"، و"عندما نتمثّل بالمسيح وننفّذ أوامره، نتّحد
به". ويقول بوليكربوس، أسقف سميرنا: "اثبتوا
واتبعوا مثال الربّ". ويقول أغناطيوس الأنطاكيّ: "اقتدوا بالمسيح".
يمكن أن يوصل هذا التمثّل إلى الموت:"لا يحاولنّ أحد أن يمنعني من التمثّل
بالمسيح" يقول أغناطيوس الأنطاكيّ. هكذا تصرّف الشهداء. الحفاظ على نمط
الحياة هذا يتطلّب فضائل مختلفة سعوا إليها، لأنّه
بدونها لما وصلوا إلى المحبّة، التي هي أمّ الفضائل وأعظمها.
الأبناء يكتسبون الفضائل
يقول أغناطيوس الأنطاكي: "الإيمان هو بدء الحياة
والمحبّة المنتهى، والله هو في وحدتهما". ثمّ يأتي التواضع: "أنزل
الأعزّاء عن الكراسي ورفع المتواضعين" الذي يدعونا إلى "وضع جانبًا كلّ
عجرفة... لأنّ المسيح هو مسيح المتواضعين، لا مسيح الذين يتعالون على بعضهم"
كما يقول اقليموس الرومانيّ. ويضيف: "مَن اراد أن
يكون مؤمنًا... عليه أن يكون أكثر تواضعًا", وتقول رسالة برنابا: "كنّ
متواضعًا... كن وديعًا، لا تحقد، أحبب قريبك أكثر من نفسك، اعتبر كلّ ما يحدث لك
خيرًا". ويؤكّد أنّه يجب أن "نواجه غضب الناس بالوداعة ونبجّجهم بالدعة". وكتاب المراقي بدوره يؤكّد: "إن لم يكن
لديكم التواضع، لا ينفعكم حتّى إن تطعموا الناس كلّ ما لديكم...". ثمّ يأتي
الغفران المرادف للتواضع.
يقول اسطفانوس، أوّل الشهداء: "يا ربّ لا تُقم لهم هذه
الخطيئة". ويؤكّد الآباء الشيوخ: "يكمن التواضع في الغفران لأخيك الذي أساء إليك قبل أن يطلب المغفرة"، وأيضًا:
"التواضع في صنع الصلاح مع مَن يُسيء إليك".
يصلّون بلا انقطاع يعيشون في حضرة الله
الدائمة
نجد في
الديداكية: "صلّوا لأجل أعدائكم"، ولدى أغناطيوس الأنطاكي: "صلّوا
بلا انقطاع من أجل الآخرين لأنّكم بهذا تقودونهم إلى
الربّ"، وعند أنطونيوس الكبير: "أينما ذهبت فليكن الله نصب عينيك"،
ولدى آباء الصحراء: "إنّ مَن يريد أن يستجيب الله لصلاته... عليه قبل كلّ شيء
أن يصلّي أوّلًا من أجل أعدائه، وإن فعل ذلك، يستجيب الله لكلّ طلباته. ويقول
إفاغريوس البنطي: "المحبّة أعظم من الصلاة...
الإنسان الذي يصلّي فقط عندما يصلّي لا يصلّي بتاتًا"، وأيضًا: "مَن
يحبّ الله يتحدّث معه دومًا كما مع أب".
يمارسون الرأفة والعطاء
إنّهما
واجب طبيعي لأنّ الله لا يفرّق بين الناس، وجعل الأغنياء وكلاء وليس ملاّكًا
لأموالهم. "فليعطي الغني الفقير وليشكر الفقير
الله الذي أوجد مَن يسدّ له عوزه" (اقليموس الرومانيّ). "إذا أخذ أحد
مالك فلا تطالبه بشيء، وكلّ مَن سألك فاعطه ولا تطالب بشيء. لا تفتح يدك عند الأخذ
وتطبّقها عند العطاء. لا تصرف المحتاج بل اقتسم كلّ شيء مع أخيك ولا تحتفظ به لنفسك
وحدك" (الديداكية). "رفض مساعدة الآخر هو
نكران مائدة الربّ"، و"نفس المؤمن هي هيكل المسيح الحقيقيّ. فزيّنوها
واكسوها وقدّموا لها الذبائح من أجل استقبال المسيح فيها. عندما يموت المسيح من
الجوع في شخص الفقير، لا جدوى من تزيّين الجدران" (أيريناوس). "أعطي
ببساطة المحتاجين لأنّ المعطي الحقيقي هو الله. لا
تتردّد في العطاء ولا تقل هذا يستحق وذاك لا يستحق. أعط الجميع لأنّ الله يريد أن
يشرك الجميع في خيراته... احذر فيما أنت في أرض غريبة أن تقتني أكثر ممّا أنت
بحاجة إليه... وبدل أن تبتاع الأراضي والأبنية، اشتري النفوس المعذّبة... احترزوا، أيّها الأغنياء من نحيب المحتاجين"
(الراعي هرماس). "لنا صندوق مال مشترك. ولا يتكوّن من مبالغ فخريّة يقدّمها
أفراد النخبة، كما لو أنّ الديانة تُعرض في المزاد العلنيّ، بل كلّ واحد منّا
يقدّم شيئًا زهيدًا، على قدر استطاعته وإمكانيّاته، في يوم معيّن من الشهر، أو في اليوم الذي يختاره، أو حين يستطيع ذلك، من
دون أن يُرغمه أحد على الدفع. ولا تُصرف مبالغ في سبيل المآدب أو جلسات السكر، بل
من أجل إطعام الفقراء أو دفنهم، ومساعدة الأيتام... الذين يفتقرون إلى المال،
والطاعنين في السنّ، والمعوزين، والمسيحيّين الذين
يعذّبون في سبيل الله... وهذه الأعمال الخيّرة هي، في نظر كثيرين، وصمة معيبة،
ويقولون مستهزئين: "انظروا كيف يحبّون بعضهم بعضًا" أو... "انظروا
كيف أنّهم مستعدّون للموت بعضهم في سبيل بعض" (ترتليانوس الإفريقيّ).
و"مغبوط مَن يعتبر جميع الناس بعد الله، الله"
(إيفاغريوس).
المحبّة الأخويّة
"لا تفعل للآخرين ما لا تريد أن
يفعله الناس بك" (الديداكةا). " أحبّوا مبغضيكم. فلا يكون لكم أعداء..
مَن لطمك على خدّك الأيمن، درّ له الآخر، فتكون كاملًا.. لا تبغض أحدًا، لكن أصلح
فيما بين الناس، وصلِّ من أجلهم" (الديداكية).
"لا تقل شيء ضدّ أيّ إنسان"، تسلاموا في ما بينكم" (الراعي هرماس).
"لماذا نمزّق أعضاء المسيح؟ ... أننسى أنّنا أعضاء واحدنا في الآخر؟"
(اقليموس الرومانيّ). "إن أحبّ إنسان إنسانًا أصبح قريبه، وإن أساء إليه صار
قاتله" (كتاب المراقي). "إنّ الحياة والموت يتعلّقان
بالقريب. إن رحمنا أخًا، يرحمنا الله، وإن أعثرناه أخطأنا إلى المسيح"
و"عندما ترى أخاك فترى الله إلهك"(أطونيوس الكبير). "الإنسان الذي
يعيش في العالم يخدم أخاه المريض، أفضل من ناسك لا يرحم القريب" (إيفاغريوس).
يعلّمنا أالآباء كيف نحصل على هذه
الفضائل وغيرها. وكلّما تقدّمت العصور وزادت الخبرات نجد مزيدًا من الإرشادات
النابعة من الخبرة المعاشة، لمحاربة الأهواء واكتساب الفضائل. إنّ معرفتهم للنفس
البشريّة توازي أحيانًا اكتشافات علم النفس الحديث، وأحيانًا تفوقها