تأملات في الصليبُ،الذي هو شهادتُنا في هذا المشرق

 

 ريمون رزق

النور - العدد االسادس 2012


يعتبر البعض أن كل كلام عن الصليب يعكسُ خوفاﹰعلى مصير المسيحيّين في هذا الشرق، ويذكّر بالتالي بالاِستشهاد المُعاش مرارًاﹰ في تاريخِنا والذي لم يغبْ يوماﹰما. ونقل رفات القدّيس الشهيد يعقوب الحماطوريّ، مؤخّرًا، برهانﹲ قاطعﹲ على ذلك. هذا الإستشهادُ حاضرٌ اليوم من جديد. لم يرأف بنا بالطبع التاريخُ. فابتعدت منطقتُنا عن المسيحيّةِ شيئاﹰ فشيئاﹰ وخلت، تالياﹰ، في غالبيّتها من المسيحيّين. رحيل مسيحيّي العراق اليوم، ومكابدةُ مسيحيّي مصر، تطبع في نفوسِنا ذكريات بشعة. ويجبُ النظرُ الى هذه الذكريات بجدّيّة. وﺇن حاولنا المقارنةَ بين خبرةِ الغربِ المسيحيّ التاريخيّة وخبرتِنا، نجدُ أنّ خبرتَنا كانت، ولا زالت، أكثرَ مأساويّة. لقد دعينا الى حملِ الصليب ربّما أكثر منهم. إنّما ينبغي تجنُّّبَ اعتبارِ أنفسِنا ضحايا دائمين، والتصرف، تاليًا، على هذا الأساس، في الاِنغلاقِ على أنفسِنا، واللجوءِ إلى الهجرةِ والرحيل. هذا موقفٌ لن يكونَ موقفًا مسؤولاﹰ أو مسيحيًّا. علينا، خلافا لذلك، أن نتساءلَ لِمَ كان لنا هذا المصير ونحاولَ، تالياً، أن نفهمَ مقدارَ مسؤوليّتِنا فيه. هذه المسؤوليّة، بالنسبة إلينا، هائلةٌ في سيرورةِ التاريخ. أعني بذلك تاريخَ المسيحيّة المشرقيّة. ما كانَ الفتحُ الإسلاميُّ ليجري بهذه السهولة لو لم ينقسمْ مسيحيّو هذه البلاد، ولو لم يضطهدْ بعضُهم بعضاًً، منذ بداية القرن الثالث حتى السابع. ولو كان، يومَذاك، ايمانُ مسيحيّي هذه البلاد أعمق، ما كان لهذا الارتداد عن المسيحيّة وهذا الجنوح نحو الرحيل ليحصلا. ثمّ لو لم يُرِدْ المسيحيّون استعادَة البلادِ بالسيف والدّم، أعني دمِ الآخرين أثناء الحروب الصليبيّة، ما كان الصليب ليصيرَ بالنسبة إلى غير المسيحيّين في بلادنا علامةَ عيبٍ أو عملا شائنًا. عندما أزورُ المدنَ الميتَة في سوريا وكبادوكيا وغيرها من الاماكن المهجورة، أبقى عاجزاً عن الكلام امامَ الفراغ وامامَ خرابِ المعالِمِ المسيحيّة، ولا أستطيعُ، تاليًا، أن أُمسِكَ نفسي عن البكاء. يجب أن تدعونا هذه الإستعادةُ التاريخيّة، إلى التفكيرِ مليًّا والى التأمل. ألم يعاقبنا اللهُ نتيجةً لخطايانا؟ مِنَ الممكن أن يكونَ ذلك. ولكن من غير المغفور لنا عدمَ الإفادة من دروس التاريخ والعملَ على ألاّ تتكرر. وسيلةٌ واحدةٌ يجب أن نتمسّكَ بها وهي أن نوقفَ الكلامَ عن هواجسِنا ومخاوفِنا والتحسّرِ على أوضاعِنا، لنضعَ نُصْبَ أعيُنِنا أوّلاً وآخرًا صليبَ المسيحِ، ونتصرّفَ وفقَ معاييره. بهذا تكونُ شهادةُ الصليبِ بالصليب. جميعُ المسحيّين مدعوّون إلى ذلك، خاصّةً مسيحيّو الشرق.

1. لِمَ وكيف نؤدّي الشهادةَ بالصليب؟ ليس بالضبط في أن نجعلَ من الصليبِ وسيلةَ تجمّعٍ ضدّ الآخرين أو وسيلةَ تقوقعٍ أو أداةَ دفاعٍ عن النّفس أعني، بكلمةٍ أخرى، دفاعًا عن حقوقِنا وامتيازاتِنا. مات المسيحُ بنفسه على الصليب من أجل الآخرين. ﺇن كان الصليب الذي نركّزُ عليه هو صليبَ المسيح، لا صليبَ أهوائِنا، فيجبُ أن يكونَ وسيلةً لنا لاستعدادِنا الدائمِ أن نتصّرفَ على أساسِه. لم تَكُن الصلبانُ التي نعلّق على أعناقنا، والتي يجب أن ترافقنا منذ يوم معموديّتنا، وسائلِ للتزيينِ والافتتانِ بالمجوهرات كما يحصل عادةً. لِمَ إشارات الصليب التي نرسمها ميكانكيًّا ودون تفكير في العمق بمعناها، هذه الاشارة التي ثبتت عادتها منذ القرن الثاني، على حدّ تعبير اقليمندس الاسكندري، في السنة الـ212، والتي كانوا يدعونها "علامات السيّد"؟ لِمَ كلّ هذه الصلبان التي تًرفع في أعالي كنائسنا والتي كنّا في ما مضى نزيّن بها بيوتَنا ودورَنا القديمة؟ لِمَ كلّ هذا؟ يخبر ترتليانوس وقد عاش ايضا في القرن الثاني أنّ مسيحيّي عصرِه كانوا يرسمون إشارةَ الصليبِ عند كلِّ حركة، في الخروجِ والدخول، وعند ارتداءِ الثيابِ وانتعالِ الأحذية، وعند الإستحمام، وعند الجلوسِ على الطاولة، وعند إشعالِ القناديل، أيّ قبلَ كلّ عملٍ من أعمالِ الحياة اليوميّة. أيُمكننا أن نتساءلَ لِمَاذا كان ذلك يحصل؟ لِمَاذا التركيزُ على الصليبِ بهذه الطريقة، ولِماذاَ تدعونا الكنيسةُ في منتصفِ الصومِ، مثلاً ﺇلى ﺇكرام الصليب؟

2. استُعمِل رمز الصليبِ باكرًا في الحضارة الإنسانيّة، وكان يَأخذ وجوهًا عدّة، وغالبا ما كان يُعطى معنًى دينياً. كان رمزُ النارِ المقدّسة عند الآريّين والبوذيّين، ورمزُ الحياةِ عند المصريّين، ورمزُ الشمسِ عند الغاليّين وغيرِهم. أيكونُ هذا صورةً مسبقةً لما سيؤول إليه مع يسوعَ الناصريّ؟ من الممكن ان يكونَ كذلك. صارَ هذا الرمزُ، تالياً، علامةَ خزي عند اليونان والرومان، وأداةَ عقابٍ للمجرمين، والعبيدِ بنوعٍ خاص، كما صارَ تاليًا عند اليهودِ، الذين كانوا يُميتون عادة بالرّجمِ علامةَ تعذيبٍ وموت. إحدى حججِ اليهودِ في رفضِ الاِعترافِ بالمسيح في يسوعَ المصلوبِ تتأتّى من قناعتِهم أنّ المسيحَ أو الله لا يمكن ان يَخضعَ لمثل هذه المذلّة. يرفض المسلمون أيضا القبولَ بإلهٍ يموت. بالنّسبة إليهم إنّه من غير المعقول الإعتقاد بإله يموت. وبالنّسبة إليهم أيضاً شيءﹲ من غيرِ المعقول أن يسمحَ اللهُ بأن يموتَ نبيٌّ قدّيسٌ على الصليب. بهذا يَكمن الاِختلافُ الأساسيُّ بين الديانتين. خلالَ العصورِ الأولى، كان عبدة الأوثانِ يسخرون من المسيحيّين، ويسمّونهم "عبَدةَ الصليب"، ويُضيفون قائلين "إنّهم يعبدون ما يستحقّون". كذلك في يومِنا هذا، يعتبر شهودُ يهوه، وبعضُ الشيع الاخرى، تكريم الصليب مسلكاً وثنياﹰ.

3. يميّزنا الصليبُ بشكلٍ واضحٍ عن محيطِنا غير المسيحيّ. إذاً لِمﹶ وكيف يجب ان نشهد بالصليب؟ الصليبﹸ هو اوّلاﹰ اداةَ خلاصِنا. لولا موتُ المسيح عليه لم نكن لنكونَ مخلّصين. على الصليب، حملَ المسيح عناّ خطايانا، وكلَّ مخاوِفِنا، وهواجِسِنا. وهو البريءُ قبلَ ان يذوقَ العذابَ، مشاركاً ﺇيّانا في آلامنا وعذاباتِنا التي تبدو كلا شيء، إذا ما قيست بعذاباتِه. عطِش مثلَنا. وَصَلَ إلى حدّ الشّك والشعور بتخلّي الله (إلهي إلهي لماذا تركتني؟)، كما يحدث معنا احياناً. غير أنّه علّمنا، بالموت على الصليب، انّ الله لن يتركنا ابداﹰ . إن كنّا معه يبقى معنا، حتى في سعير الأتون. ليس هناك من ساعة تخل. الله لا يتخلّى عنا، نحن مَن يتخلى عنه. عقيدةُ الخلاص بالصليب أساسيةﹲ في المسيحيّة وهي تعلن انّ الموتَ على الصليب قد اتى بالفداء والمصالحةَ مع الله لكلّ الإنسانيّة الساقطةَ .

يشكّل رفعَ المسيح على الصليب وموتَه الخلاصيّ سرّا لا يُسبَر ولا يُفسّر. معنى ذلك انّ امتدادَه لا يمكن ان يوصفَ في لغةِ البشرِ دون التشويهِ والتقليلِ من قيمته.
بالنسبة إلى البشر غير المستنيرين بالنعمة، يبقى صليبُ المسيح شيئاً غيرَ مقبولٍ، وتاليًا، عنوانَ مذلّة. بينما، بالنسبة إلى المؤمنين، هو قوّةٌ لا تُقهَر ولا تُفسّر، قوّةٌ إلهيّة! هذا ما يقوله الرسول بولس "نبشّر بالمسيح مصلوبًا شكّاً لليهود وجهالةً للأمم ... لكنّها قوّة الله وحكمته بالنسبة الى المدعوّين" (اكور 23). وبعيداﹰ عن أيّة مقاربةٍ قانونيّة تقول أنّ الابنَ قد أصلَحَ ما أصلَحَه تهدئةً لغضبِ الله الناتجِ عن ضلالِ البشريّة، ترتكزُ الرؤيا الأرثوذكسيّة المبنيّة على الكتابِ والتقليدِ الليتورجيّ والآبائيّ، على أنّ اللهَ لم يتركْ الإنسانيّةَ تذهبُ إلى الهاويَةِ نتيجةَ اختيارِها الشرّ، فبادر إلى مصالحتِها. حلّت عمليّةُ المصالحة هذه مع يسوعَ، الإله الحقّ والإنسانِ الحقّ، هذا الذي، بتسليمه نفسَه طوعاً الى الموت، حطّم قوّته كليًّا، وبموتِه، بسبب خطايانا، اشترانا بدمِه. تنبّأ النبيّ اشعياء بقوّة قائلاً: "أخذ عاهاتِنا وحمل أوجاعَنا ... جُرِح لأجل معاصينا وسُحِقَ لأجل آثامنا...
قُدِّم وهو خاضعﹲ ... كشاةٍ سيقَ إلى الذبحِ ولم يفتح فاه ولأجل معصية شعبِهِ أصابته الضربةُ ... لأنّه أفاض للموتِ نفسَه... وهو حمل خطايا كثيرين وشَفَعَ من أجل الخطاة".

في بداية كلّ قداس إلهيّ، وخلال التقدمة، يردّد الكاهن هذه الصلاة التي تختصر إيمانَ الكنيسة بقوّة الصليبِ كأداةٍ للفداء والخلاص، يقول: " لقد اشتريتَنا من لعنةِ الناموس بدمِك الكريم وبما أنّك سُمّرتَ على الصليب وطُعنتَ بحربةٍ قد أفضتَ عدمَ البِلى لنفوسِنا أيّها السيّد، المجدُ لك." وأيضًا خلالَ صلاةِ المساء لعيد رفع الصليب في الرابع عشر من أيلول نرنّم: " تعالوا يا جميعَ الأمم لنسجدَ للعودِ المباركِ الذي بِهِ حَصَلَ العدلُ الأبديّ. لأنّ الذي خَدَعَ آدمَ الأوّلَ بالعودِ قد خُدِعَ بالصليب... وبِدَمِ الإلهِ رَحَضَ سَمَّ الأفعى".

يكتب فيلاريت متروبوليت موسكو، في القرن الثامن عشر، في سرّ الصليب، قائلاً: "محبّةً الآب ومحبّة الابنِ المصلوبِ ومحبّةُ الروحِ القدس، ظهرت بقوّة الصليب. لأنّه هكذا قد أحبّ الله العالم". الصليبُ، إذاً، تعبيرٌ عن محبّة الله، ورمزٌ لانتصارِهِ، ودعوةٌ إلى الفرح. يفتح بابَ خلاصِنا ويقودُنا إلى القيامة، التي هي مرتبطةٌ بِهِ بغيرِ انفصال. نرتل "بالصليب قد أتى الفرحُ لكلّ المسكونة". فعلينا ان نكونَ مدركين تماماً لخلاصِنا، وفرحين بِهِ، كما يجب ان نعمَلَ لنستحقَّ هذا الخلاص. تصير الشهادةُ بالصليبِ فعليّةً عندما نقتنع بأنّنا مخلَّصون ونتصرف على هذا الأساس. هذا ما نعنيه بالفعل عندما نرسُم إشارةَ الصليب، وعندما نزيِّن بالصليبِ أعناقَنا، وعندما يكون الصليبُ مرجَعَنا الحقيقيّ. أيُّ استعمالٍ آخر للصليبِ هو تدنيس. قناعةٌ كهذه ستغيِّر تصرفاتِنا ونصبحُ اكثَرَ انفتاحاً وأقلَّ خوفًا، واثقين اكثر ومسؤولين اكثر.

4. يدَّعي البعضُ أنَّ الكنيسةَ الشرقيّةَ لا تتوقّفُ ما يكفي عندَ آلام الربّ على الصليب، بل تتجاهلُها بتأكيدها المطلق على القيامة. هذا القول غير صحيح كما هو مبيَّن في عدَدٍ من النصوص الليتورجيّة. فلنتذكّر ما نرتّله يوم الجمعة من الأسبوع العظيم قائلين: " إنّ كلّ عضوٍ من أعضاءِ جسدِكَ المقدّس كابَدَ إهانَةً من أجلِنا. فالهامةُ بالشّوكِ والوجهُ بالبصاقِ، والخدّانِ بالّلطمات، والفمُ بمذاقةِ الخلِّ الممزوجِ بمرارةٍ، والأذنانِ بالتجديفِ المفعمِ بالإلحادِ، والظهرُ بالسياطِ، واليدُ بالقصبةِ، وتمديدُ الجسمِ بالصليبِ، والأطرافُ بالمساميرِ، والجنبُ بالحربة...". (الإينوس في سحر الجمعة) يدعونا هذا النصّ صراحةً إلى تأمّلِ آلام السيِّّد والتوقّف عند كلّ واحدةٍ منها لكيّ نفهم عظمةَ ما فعله من اجلِنا ونسعى لمشاركتِه هذه الآلام.

5. عندما نقفُ أمامَ صليبِ السيِّد، وبعد أن نكونَ قد تأمّلنا بآلامِهِ، ووعينا مداها الخلاصيّ، لا بدّ من أن نذكرَ أيضًا أمامَه آلامَنا وخوفَنا من الموت. كلُّ إنسانٍ يخافُ الموتَ ويهابُ ساعةَ مجيئِه لأنّه خُلقَ في البدء ليُقيمَ دومًا في الحياة. أمام الصليبِ نتعلّم أن لا نخافَ من موتِنا لأنّه سبيلٌ للقاء المسيح. يدعونا الآباء أن نذكُرَ دائمًا الموتَ لأنّ هذا الذكرَ يساعدُنا على عيشٍ أفضَلَ، وعلى عَدَمِ التعلّق بمقتنياتِ هذا العالمِ وإغراءاتِه، وأن نتَقبَلَ بأكثرِ قناعةٍ المشاكلَ أو المصائبَ التي تواجهُنا. إذا تعوّدنا على ذكرِ الموت، نكونُ مشاركينَ فعلاً بآلام الربِّ وصليبِه ومقتنعين بأنّ أيَّ صليبٍ نحملُه أخفُّ ممّا حَمَلَهُ هوَ من أجلِنا، ونفهم، تاليًا، أنّ لا جوابَ للسؤال، الذي غالبًا ما نطرحُه، لماذا الألم؟ لماذا يسمح الله به؟ سوى التأكيدّ أنّ يسوعَ ارتضى أن يشاركَنا آلامَنا ويكونَ مَعَنا دومًا في الأتون. مَن وعى وجودَ يسوعَ مَعَه يتعزّى ويرى أمامَه عَتَبَةَ الملكوت، كما قال السيّد للقدّيس سلوان الآثوسيّ في أوائل القرن العشرين: "عليك أن تبقى على الرجاء ولا تيأس حتى إذا كنتَ في الجحيم". مَن سعى أن يعيشَ هكذا، يتعوّد على فكرةِ الموتِ فيتحداها (هين شوكتك ايها الموت؟) ويُذكّر بالقول المأثور "عندما تموت قبل أن تموت، لن تموت عندما تموت."

6. كذلك يجدر بنا ونحن واقفون امام الصليب ان نذكر كل اخوتنا و نسلمهم الى رحمة المصلوب و نطلب اليه ان يشملهم بحنانه. "التي لك مما لك نقدمها لك على كل شيء و من جهة كل شيء.

7. تصرّفُ يسوعَ على الصليب وأقوالُهُ ترسمُ لنا قانونَ حياة. قولُهُ: "أغفُر لهم يا أبتاه لأنّهم لا يعرفون ماذا يفعلون" حطّم كلَّ القواعدِ الدينيّة والأخلاقيّة التي سادَت قبلَه. ما من أحد سواه بشّر بمحبّة الأعداء. هذه هي خصوصيّتُه، هذه التي يجب ان تكونَ خصوصيتَنا نحنُ إن كنّا نريدُ أن نكونَ تلامذةً حقيقيين له. بهذا التصرّف، النابع من تصرّف يسوع على الصليب، نعرف أنّنا مسيحيّون حقًّا. التأكيدُ على محبّة الأعداء، وليس على محبّة الأخوة وجميعِ من يشبهُنا فقط، والإصرارُ عليها مهما كان الثمن، تكون علامةً أساسيّةً في شهادتنا. هذا هو ما يعلّمنا إيّاه الصليب.

8. مِن على الصليب أكّدَ يسوعُ أنّ الملكوتَ قد بات مفتوحًا أمامَ جميعِ الذين يتوبون ويفتحونَ قلوبَهم لله كاللصّ الشكور. نحنُ نتمثل سرَّ الصليبِ بالندامةِ والتوبة. ليس من قبيل الصدفة ان يكونَ حولَ يسوعَ المصلوبِ لصّان. أحَدَهما لَعَنَ وجدّف. إنّه يشبهنا إلى حدٍّ كبير حين نرفضُ النّعمة َونضَعُ شروطاﹰ على الله وفقَ منطقِنا الغريب عن منطقِه، نقول له: "انْزِلْ عن الصليب حتى نؤمنْ" أو " إفعَلْ ما نريدْ حتى نؤمِن" ... متغافلينَ أنّهُ يعرف هو اكثر منا ما يناسبنا وانه اتى بالضبط ليَصعَدَ على الصليب من أجلِنا لأنّه يحبّنا حبًّا جنونيًّا. كان بولس الرسول يقول دائمًا أنّ الصليبَ رمزُ جهالة (رمزُ جنون كما ورد في النصّ الفرنسيّ) بالنسبة إلى الوثنيّين. هكذا جهالة تَدخلُ في منطِقِ محبّةِ اللهِ الجنونيَّة كما يصفُها نيكولاس كابازيلاس. والصليبُ رمزُ حماقةٍ (او جنون) ايضاً بالنّسبة إلى آخرين كثر من غير الوثنيين.

ألم يكن الصليبُ، بالنسبة إلينا، أحيانًا، جنونًا حينَ نغلّبُ منطقَ القوّةِ على المحبّة وحين نلجأُ ﺇلى الابتزازِ لنحصلَ على غاياتِنا. ﺇلهُ المسيحيّين ارتضى أن يموت. أمّا الكثيرون من المسيحيّين فميّالون إلى التمسّكِ بالحياةِ حتى على حسابِ حياةِ الآخرين. الصليبُ يصيرُ شهادةً حيّةً عندما نرتضي أن نكونَ كاللصِّ الشكور. علينا أن نُسمَّر على صليبِ المسيحِ أو إلى جانِبِه، ونعملَ على تغييرِ حياتِنا وفتَحَ قلبَنا ليسوعَ ولسائرِ البشرِ الذين أحبّْ، ودعانا أن نتبنّى محبّتّهُ هُوَ تجاهَهُم. سوف يتعجّبُ حتمًا من ليس مسيحيًّا، وأيضًا العديدُ من المسيحيّين، من مواقفَ كهذه. وﺇن بحثوا عن السببِ، سنقول لهم: ﺇنّ هذا ليس سوى انعكاسٌ بسيطٌ لما يدعونا يسوعٌ أن نعمَلَ بهِ بواسطَةِ موتِهِ على الصليبِ الذي أرادَنا أن نجعَلَهُ مركزيًّا في حياتِنا. علينا ان نعتبر أنّ المسيحَ المصلوبَ هو كمصفاةٍ يمرُّ من خلالِها كلُّ شيء. هكذا، وبعيدًا عن المواعِظِ الطويلة والكلام، تكون مواقفُنا هذه المنبعثةُ من الصليبِ أفضلَ طريقةٍ للشهادة.

9. فلنتأمّل أيضًا بكلمةٍ أخرى من كلماتِ يسوع على الصليب التي وجَّهها الى أمّه وإلى تلميذه الحبيب يوحنّا الذي كان يمثّلنا عند قدمَيّ يسوع على الصليب: "هذا هو ابنُكِ وهذه هيَ أمّك." أن نتّخذَ من مريَمَ أمّا لنا، فيه تأكيدٌ على أخوّتنا ليسوع ولبعضنا بعضًا. الشهادةُ بالصليب هي شهادةٌ في أنّ مريمَ المعظّمُ تكريمُها في الإسلام، هي أُمٌّ لجميع المؤمنيين وجسرٌ يصلُنا بهم. هذا ما يجب ان نتعلّمَ إبرازَه كعاملِ لقاءٍ وتقارُب.

10. تفرضُ علينا الشـهادةُ بالصليب الاّ ننسـى أنّ الصليبَ مُدمًّى ومُمَجّدٌ في آن، وأنَّ فجرَ الفصحِ يتألّقُ عليه. علينا الاّ ننسـى أنَّ الصليبَ هو مرحلةٌ مهمّةٌ، ولكنّها، فقط، مرحلةٌ من مراحِلِ تصميمِ الله الخلاصيّ الذي يبدأُ بالتجسّـدِ ويكتملُ بالقيامةِ والعَنصَرَةِ وحلولِ الرّوحِ القدس.

بالنسبة الى اللاهوت الارثوذكسي والى الحياة الليتورجية التي تعبّر عنه من المسـتحيل ان نفصل، كما سبق وقلنا، العمل الخلاصيّ للمسـيح على الصليب عن القيامة وعن مجمل عمله الخلاصي. أن نشـهد بالصليب يعني ان نشـهد بالقيامة وبكل هذا العمل الخلاصي.

علينا أن نؤكّد قَوْلَ الرســول بولس "لو لم يَقُمِ المسـيحُ فباطلةٌ كرازتُنا وباطلٌ إيمانُنا." يجب الاّ نُقيم فاصلاً بينَ الصليب والقيامة. يجب أن تترسَّـخَ القناعةُ عندنا في أنَّ الموتَ قد أُميتَ نهائيًّا ولا موتَ بعد موتِ يسوعَ وقيامتِه. يجب أن نتعلّمَ عَدَمَ خِشـيَةِ الموتِ بعد اليوم لأنّ "الذين يخافون الموتَ يخافونَ الحياةَ ايـضاً". هكذا، بمواجهةِ الموتِ وإعطائِه معنى قيامتِنا نحنُ بالذات، ودخولِنا إلى الملكوت، نُصبحُ قادرينَ أن نحيا بلا أيّ خوف مقتحِمين الحياةَ اقتحاما. كلّ موتٍ تتبعه ولادةٌ جديدة. رحلتُنا في هذه الأرض هي فصحٌ لا ينقطع وعبورٌ من الموتِ نحوَ حياةٍ جديدَة. عندما ننام، نذوقُ شـيئًا من طعمِ الموتِ، وعندما نسـتيقظ في الصباح نكونُ وكأنّنا قد قُمنا من بين الأموات.

الأساس في كلّ ذلك، أن نعرفَ دائمًا كيف "نسـتودعُ أنفسَـنا بين يديّ الـربّ". الشـهادةُ بالصليبِ هي اذا شـهادةٌ ضدَّ الموت. وهذا، مع الأسـف، ليسَ حالُ الكثيرينَ مِنَ المسـيحيّين في شـرقِنا هذا.

11. تتطلّب شـهادةٌ كهذه أن نعبِّرَ في وجوهِنا، وعَبرَ تصرّفاتِنا، عن القيامةِ وفَرَحِها. أن نكونَ قياميّين فعلاً، مقتنعين أنّ الموتَ قد ماتَ إلى غيرِ رجعة. "طوبى لمَن آمَنَ ولم يرى". علينا أن نعيشَ وكأنّنا شهودٌ عيان لقيامةِ السيّد في انتظار قيامتِنا نحن. يجب أن نعرفَ كيف نُعلنُ مع سـمعانَ اللاهوتيّ الجديد، وهو من كبارِ الآباء البيزنطيّين المتصوّفين في القرنِ الحادي عشر، ما قاله هو نفسـه: "أنا اعرفُ أنّي لن أموت، حيثُ أنّني في قلبِ الحياة، والحياة بكامِلِها تفيضُ في داخلي". يجب، أيضًا، أن نقتدي بالقدّيس سـيرافيم ساروفسـكي الذي كان يرحّب بالجميع قائلاً: "يا فرحي المسـيح قد قام". علينا أن نعرفَ كيفَ نسـترجعُ هذا "الفرح الكبير" الذي يتكلّم عنه إنجيل لوقا (لو 2، 10 و 24، 52)، هذا الفرح الذي يدعونا السيّدُ أن نُقيمَ دومًا فيه. في ردٍّ مفحِمٍ على "نيتشه" الذي كان يدَّعي أنّ "المسـيحيين لا يعرفون الفرح"، علينا الغوصُ في أعماقِِ الحياة الليتورجيّة لاستنباطِ الفرحِ الكامنِ فيها، ومعرفةِ كيفَ نحيا باسـتمرارٍ فَرَحَ الفصحِ المتجدِّدِ في كلِّ قدّاسٍ إلهيٍّ، والذي يجبُ أن يَفيضَ من خلالِ نظراتِنا وابتسـاماتِنا ووجوهِنا لكي يكونَ لنا نصيبﹲ في إقناعِ العالمِ بأنّ المسـيحَ قد قامَ فعلاً وحقًّا، وفي إقناعهم، أيضًا، أنّ صليبَه هو علامةُ الغلبةِ والرجاءِ في قيامتِنا الشخصيّة. هذا الفرح الذي نختبرُهُ بامتيازٍ ليلةَ الفصحِ، هو، بنوعٍ خاص، ميزة الكنيسة الشرقيّة. وعلينا أن نسعى لكي يَسكُنَنا دائمًا، فيكونُ عاملاً أساسيًّا في شهادتِنا عبرَ الصليبِ المُشرِقِ في حياتِنا اليوميّة في هذا الشرق، حيث أراد لنا اللهُ أن نولَد.

12. وأخيرًا، أن نَشهَدَ بالصليب، يكمُنُ في أن نَدَعَ الذي عُلِّقَ على الصليبِ أن يَِشهَدَ هو نفسًه. ليسَ من خيارٍ أمامَنا سوى السعي وراءَ القداسةِ حتى يُقيمَ السيّدُ نفسُه فينا ويستطيع، تاليًا، أن يتكلّم عبرَنا. "لستُ أنا أحيا بل هو يحيا فيَّ ". علينا أن نُجَسِّدَ في حياتِنا اليوميّة الفكرَ الإنجيليّ بكلّ صرامتِه. هكذا نحمِلُ صليبَنا الشخصيّ وهَكَذا أيضًا نشاركُ في صليبِ المسيح. ليس من طريقٍ آخَرَ سوى الإصغاءِ بإمعان إلى من هُوَ وحدَه "الطريقُ والحقُّ والحياة". يجب، إذاً، أن نثابرَ على البحث عن يسوع في كلّ أماكنِ سُكناه: في الصلاةِ وجهًا لوجه، في التوبةِ والنّسك، في حياةٍ زاهِدَة معتدلَة، رافضةً الإنجذابَ السّهلَ نحوَ مجتمَعِ الإستهلاك، في المشاركة المستمِرّة في سرّ الشكر، في لقاءِ السيّدِ عبرَ كلمتِهِ في الكتاب المقدّس، في وعيِ حضورِه موجودًا في جماعةِ الإخوة، وفي القناعة الأكيدة أنّه هو الذي نصادفُهُ في كلِّ إنسانٍ يَسكنُ فيه ويدعونا لمساعدتِه . ينبغي أن نعيشَ واعين أنّنا دومًا في حضرتِه، مقيمين معه علاقةً شخصيّةً حميمةً ، كما يجب علينا، دائمًا، أن نسألَ ماذا يمكن للسيّد أن يفعلَ في هذا الموقف أو ذاك، ونطلبَ منهُ أن يساعدَنا لملاءمة حياتِنا مع تعاليمِه وثورتِه الإنجيليّة. الحياة في المسيح، لا تكمن، فقط، في مناقبيّةٍ حسنةٍ أو تصرّفٍ لائق. الحوارُ بينَ يسوعَ والشابِّ الغنيّ (وكلّ واحد منّا غنيّ بشكلٍ أو بآخر) واضحٌ، ويعلّمنا أنّه لا يكفي ان نتبَعَ الوصايا، بل ان نتبَعَ يسوعَ نفسَه، وأن ندعوَهُ للسّكنى فينا.

السّيرُ مع يسوعَ يعني الاستعدادَ للذهابِ معه إلى حيثُ يُريدُ دون تساؤلٍ أو تململ. وهو سيقودُنا حتمًا، نحوَ أبيه عبر الصليبِ والقيامة. العالمُ ليس بحاجةٍ إلى عقائديّين ومنظِّرين يُلقون التّهَمَ والمحرَّمات، بل هو بحاجةٍ إلى سفراء للمسيح يبرهنون بطريقةِ عيشهم أنّ الحياةَ ليست عبثيّةً، بل هي تقدمةً وخدمةً ومشاركةً، وأنّها بالتالي ورشةَ الملكوت.

ليس من مسيحيّةٍ حقّة من دون تغليّبَ الكيان على المُقتنى وحبِّ المظهر، ومن دون عدم التعلق بالمقتنيات الأرضيّة، ومن دون مجّانيّة وفرح ولطف ورأفة بالمخلوق وخدمة البشر والمشاركة. بهذا تكمن الشهادةُ الحقيقيّة بالصليب إذ هنا تكمُنُ الثورةُ الحقيقيّةُ للمسيحيّة. عندنا، ويا للأسف، ميلﹲ إلى نسيان أنّنا مدعوّون إلى أن نكونَ ثوّارًا حقيقيّين، شعارُهم عدمُ استعمالِ العنفِ مع سواهِم بل استعمالِه في قمعِ شهواتِهم.

13. بالصليب كلّ شيءٍ يُصبحُ ممكنًا. حتى في قلبِ السّعير، السيدُ مَعَنا. العالمُ يتباهى بالابتعاد عن الربّ، لكنَّ الله سيبقى أمينًا ومنتظرًا لُقيانا عبرَ يَدَيْه المبسوطَتَيْنِ على الصليب. ستكون شهادتُنا فاعلةً بقدرِ ما نكونُ شهودًا مشعّين حبًّا بالله والبشر، ودومًا عند أقدامِ الصليب وأمامَ القبرِ الفارِغ في آن، وعلينا دعوةِ مَن حولَنا، الذين لا يرون في الصليبِ سوى قطعةً من خشب، إلى تبنّي صلاة إسحق السرياني المتوجّهة إلى يسوع والتي يقول فيها: "لقد تخلّيتُ عنكَ فلا تتخلَّ عنّي، لقد ابتعدتُ فهيّا إلى لقائي." إن صلّيْنا هكذا، بقلبٍ طاهرٍ نقيٍّ، سنراه آتيًا إلى لقيانا ومقيمًا سكناه في نفوسِنا. فالنتهيء لاستقباله.

المشاركات الشائعة