وبالمحبّة يتحقّق المثال

 ريمون رزق

النور - العدد الأوّل 2016

وبما أنّ اللَّه محبّة، وبما أنّ الإنسان هو على صورة اللَّه، عليه إذًا، في سعيه للوصول إلى المثال، أن يعزّز المحبّة فيه، نحو اللَّه والآخرين. لا يتحقّق بدونها المثال الإلهيّ أبدًا. يقول القدّيس مكسيموس المعترف إنّ "المثال يتحقّق بالنعمة، عندما توجد المحبّة" (الرسالة الأولى). ويقول أيضا: "الكلّ من أجل الفرد، والفرد من أجل الكلّ، أو بالأحرى الكلّ مع اللَّه وبعضهم مع بعض" (الرسالة الثالثة). ويتابع فيقول: "يجعل سرّ المحبّة من البشر آلهة" (الرسالة الثانية). فيُلخّص إذًا التصميم الإلهيّ بالنسبة إلى الإنسان في العبارات الآبائيّة التالية: "إنّ اللَّه صار إنسـانًا لكي يصير الإنسان إلهًا"، ولا يتحـقّق ذلك إلاّ بالمحبّة.

سرّ الإنسان

يقول القدّيس غريغوريوس النيصصيّ: "بما أنّ صفة الإدراك هي إحدى ميزات الطبيعة الالهيّة، على صورة اللَّه أن تكون كذلك". فلا يمكن إذًا اقتحام سرّ الإنسان. ويؤكّد إنجيل يوحنّا كينونة الإنسان المعمَّد السرّيّة هذه بقوله: "لا أحد يعرف أين يذهب المولود من الروح، ومن أين يأتي" (يوحنّا  ٣: ٣). لذلك لا يُعرف الإنسان بواسطة العقل فقط، بل يكشف نفسه في سرّ المحبّة. الإنسان ثلاثيّ التكوين على صورة الثالوث. يقول القدّيس غريغوريوس بالاماس: "كيان الإنسان الروحانيّ مؤلّف من ثلاث: نعمة الروح القدس، والنفس العاقلة والجسد الترابيّ". لا يكوّن الإنسان الحقيقيّ من جسد ونفس فقط، بل من نعمة الروح المسكوبة عليه بالمعموديّة ومسحة الميرون. ويؤكّد بولس الرسول هذه النظرة إلى الإنسان في الآية 23 من الإصحاح الخامس من الرسالة الأولى إلى أهل تسالونيكي. 

أن نصبح شخصًا إنسانيًّا يتواصل مع كلّ البشر

وبما أنّ اللَّه شركة بين أشخاص ثلاثة، على الإنسان، المخلوق على صورته، أن يتعالى عن الفرديّة فيه، ليصبح شخصًا إنسانيًّا، على صورة الشخص الإلهيّ الذي تجسّد، أي يسوع، الإلـه الإنسان، الذي هـو المثـال الأعـلى للشخص الإنسانيّ. كتب أوليفييه كليمان: "يمكن القول إنّه لا يوجد في التاريخ سوى شخص إنسانيّ حقيقيّ واحد، وهو في آن شخص إلهيّ، هو شخص يسوع. يسوع هو الإنسان الحقيقيّ، في ملء شركة الثالوث، وغير المنفصل عن أيّ إنسان آخر، وعن أيّ شيء". وبما أنّنا مدعوّون إلى أن نتمثّل بيسوع علينا أن نسعى، في كلّ أيّام حياتنا، إلى أن نصبح كيانًا شخصيًّا مشابهًا له، أي فريدًا وغير منفصل عن اللَّه والبشر في آن.

رغم شركة الإنسان مع الآخرين إلاّ أنّه يبقى الشخص البشريّ الفريد والمغاير كلّيًّا عنهم في سرّه. يبقى هذا "الشخص في الشركة" على صورة الثالوث حرًّا في أن يكون مختلفًا في كينونته الخاصّة. هو فريد بالكلّيّة على مثال كلّ واحد من الأقانيم الإلهيّة. لا يخضع لقوالب محدّدة تقولبه على شاكلة الآخرين، مع أنّ فرادته الحقيقيّة لا تظهر ولا تنمو بسوى علاقته بهم. لا توجد "الأنا"، بالنسبة إليه إلاّ إذا كانت متّصلة "بالأنت"، علمًا أنّ ميّزات كلّ من "الأنا" و"الأنت" تبقى فريدة وخاصة بكلّ منهما على شاكلة العلاقات بين أقانيم الثالوث. هذا ما يميّز الشخص عن الفرد. ولأنّ حرّيّة الإنسان مرتبطة بالشركة، فهي ليست حرّيّة تجاه الآخر، بل حرّيّة من أجله. حدودها حرّيّة الآخر. يعيش الشخص البشريّ إذًا من أجل الآخر، ويكتمل كإنسان شخصيّ ويتحقّق بقدر ما يقبل الآخرين معتبرًا إيّاهم أشخاصًا، لا أفرادًا. يقول القدّيس باسيليوس الكبير: "لا شيء يمكـن أن يصف طبيعتنا البشريّة سوى إمكانيّة التواصل مع الآخر". أنا أحتاج إليك، لكي أتحقّق. أنا كيان تواصليّ، كما هو اللَّه. محبّتي للآخر هي ما يحرّك حرّيّتي. لا معنى للحرّيّة إذا لم تكن مرادفة للمحبّة. اللَّه محبّة لأنّه ثالوث. لا يمكننا أن نحبّ إلاّ إذا كنّا كيانات شخصيّة تسمح للآخر بأن يكون آخر بالحقيقة، مع بقائنا على الشركة معه.

 

المشاركات الشائعة