الوضع الأنطاكيّ اليوم وأولويّات الخدمة فيه

 

ريمون رزق

النور - العدد الثاني 2001


الرؤية النهضويّة:

أودّ أن أنقل إليكم كتوطئة لحديثي بعض ما ورد على لسان غبطة البطريرك أغناطيوس الرابع بشأن النهضة والشباب والذي يصبّ في صلب موضوعنا:

أ‌-     قال غبطته في مقابلة أجريتها معه في باريس ونشرت في مجلّة "SOP" منذ بضع سنوات: "توجد هاوية رهيبة بين الرؤية اللاهوتيّة الأرثوذكسيّة وواقع الكنيسة الحياتي" وتابع داعيًا إلى عدم قبول هذا الواقع وإلى العمل على تغييره.

ب‌- وفي عظة ألقاها في أيّار الماضي (2000) في باريس قال غبطته متكلّمًا على الشباب الأنطاكيّ بالذات أي، عنكم وسواكم، "إنّ شبابنا يأخذون المسيحيّة على محمل الجدّ لا يربكهم شكّ أو تردّد. الكنيسة تحيا بهم وبهم تخرج من سباتها. ليس لديهم تجاهها تساؤلات نقديّة وحسب، كما لو أنّها كانت خارجة عنهم أو جسم غريب، على قدر ما يحيون (في المسيح) يعرفون أنّهم هم الكنيسة... همّهم أن يفتحوا أعينهم على الخليقة كلّها، فيروا الواقع ويفعلوا. يسعون إلى قداسة لا ترفض شيئًا من خليقة الله. يريدون أن يكونوا قياميّين".

ت‌- هذا القول يذكّر بكلام مشابه قاله غبطته سنة 1969 في خطبة ألقاها لمناسبة عيد حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة: "أنتم الشباب يُطلب إليكم أن تكونوا في الكنيسة ذلك العنصر الذي يتطلّع إلى ما بعد. أنتم لستم في الحركة من أجل الكنيسة اليوم فقط أنتم في حركة من أجل الكنيسة إلى بعد أجيال... نحن هنا لنستجوب، لنستجوب كنيستنا، نستجوب عصرنا، نستجوب كلّ عادة من عاداتنا... علينا أن نتساءل ونسأل الجميع حيث الجميع يطمئنّون. يجب أن نقلق الكنيسة... يجب أن تهتزّ الضمائر. المؤسّسات التي ارتاح لها الناس خمسينات من السنين يجب أن يُقال ما قيمة هذه؟ كلّ شيء يجب بالفعل أن يوضَع موضع الامتحان والتفحّص وإلّا فالكنيسة تكون ناقلة أو مسجّلة تسجّل وتذيع ما سجّلت ولكنّها هي تبقى بدون حياة. الخطر أنّ الحياة ستغادرها وتغادرها كوسيلة أو قناة تساعد الإنسان للاتصال بربّه وخالقه. هنا الخطر: تكون واسطة للخير فتصبح عقبة في سبيل الخير. يُطلب إلينا أن نكون الصوت الذي يقول للمؤمن حذار ألّا تحبّ وللمحبّ حذار ألّا تترجّى وللمحبّ والمترجّي حذار ألّا يكون ذلك على أساس الإيمان".

إذا أردنا الاتعاظ من هذه الأقوال – وكما تعلمون تراث التيّار النهضويّ الأنطاكيّ، مليء من أمثالها وبخاصّة ما قاله ويقوله مُلهِم هذا التيّار الأساسيّ المطران جورج خضر – علينا أن نتمعّن بواقع كنيستنا الأنطاكيّة لمعرفة مدى تطابقه مع متطلّبات الربّ وعلينا أن نصلّي لكي يعطى لنا أن تكون نظرتنا لهذا الواقع على ضوء الإنجيل وبمحبّة. كما وعلينا أن نتبتّل للمسيح ونترجم كلّ هذا عملاً نهضويًّا وخدمة. هذه هي الرؤية التي يجب علينا أن نجسّد لكي يتغيّر هذا الواقع فعلاً ويصبح شاهدًا للمسيح.

الواقع

بالفعل، إذا أردنا أن ننظر بجدّيّة إلى حالة الكرسي الأنطاكيّ والعالم الأرثوذكسيّ اليوم، لا بدّ من أن نلاحظ – إلى جانب تجلّيات عديدة وواضحة للروح هنا وهناك وعلى الرغم من معجزة الإفخارستيّا والأسرار الدائمة – الأمور السلبيّة التالية:

أ‌-     إن طغيان التقاليد على التقليد الشريف والعادات البشريّة وأحيانًا الخرافات كثيرًا ما يحجب وجه المسيح ويشوّه تعاليمه.

ب‌- إنّ تراثنا الليتورجيّ والروحيّ و---- وكتابات آبائنا هو على درجة فائقة من الغنى والعمق التي تجعلنا نقف في كثير من الأحيان تجاههم وقفة المتفرّج الذي يخاف أن يسأل ويطوّر أو يحاور بل يكتفي بالترداد. يحفظ ويحافظ. فتصبح الكنيسة متحفًا يقتني آثارًا فريدة ولكن ليس منبع حياة دافقة. وإذ بنا ندعو العالم إلى درس هذا التراث في التأمّل بالتاريخ الذي ساهم بصنعه ونغفل أن الدعوة يجب أن تكون أساسًا للالتصاق بشخص يسوع ووجهه الذي ما أراد التراث والآباء إلّا إبرازهما والدعوة للتمثّل بهما.

ت‌- أنّنا غالبًا ما نعيش، في ممارستنا االرعويّة واقعًا شبه هرطقيّ:

-         في فهمنا شبه السحريّ للأسرار.

-         في بعض المظاهر المرضيّة للتقوى.

-         في فقدنا فرح القيامة في حياتنا اليوميّة رغم تدغدغنا الدائم أنّنا كنيسة القيامة.

-         في فقدان الهمّ التبشيريّ.

-         في واقع السلطة والتسلّط الذي غالبًا ما يسود علاقاتنا ضمن شعب الله الواحد وذلك رغم تدغدغنا المستمرّ بأنّنا كنيسة الكهنوت الملوكيّ وأنّه لا يوجد لدينا فارق عضويّ بين أبناء شعب الله حيث كلّ واحد، كاهنًا كان أو علمانيًّا، مدعوّ إلى الخدمة حسب المواهب المعطاة من فوق.

-         في تراكم الرموز وفقدان مفاتيحها.

-         في افتقاد روح الشورى الحقيقيّة.

-         في ضيعان المحبّة الأخويّة وروح الخدمة وضعف ممارسة سرّ القريب.

-         في التقوقع وانعدام السعي الحثيث إلى الوحدة مع الإخوة المسيحيّين المبتعدين عن شركتنا.

-         في ضعف همّ الشهادة في عالم اليوم والتجاوب مع التحدّيات التي تطلقها الحداثة.

-         إلخ...

 

ث‌- هذا الواقع يخلق بُعدًا حقيقيًّا بين أعداد كبيرة من المسيحيّين والكنيسة. فهم ليسوا بالملحدين بل لا مبالين ما عادوا يفهمون لغة المخاطبة المتّبعة في الأوساط الكنسيّة. فيشعرون أنّ الكنيسة لا تهتمّ حقًّا بأمورهم ومشاكلهم ولا تستطيع أن تقول كلمة حياة لهذا العصر كما فعل الآباء في عصرهم.

ج‌-  هذا الواقع يرافقه تغيّرات أساسيّة حدثت في العالم في السنين الأخيرة. من مجتمع الاستهلاك إلى العولمة، إلى الثورة التكنولوجيّة، إلى تقهقر القيم التقليديّة وانفراط الروابط العائليّة، إلى ما هناك من انقلابات في المقاييس والمفاهيم. ولا أحد يسمع ولا أحد يسعى لفهم حقيقيّ لهذا الذي يحدث ولا مساءلة للذّات الفرديّة والجماعيّة تجاه كلّ هذه التحديات.

مقاربة موضوعيّة للواقع:

أ‌-     لقد أعدّت مؤخّرًا لجنة منبثقة من الأمانة العامّة في الحركة ورقة قدّمتها إلى غبطة البطريرك، وقد تضمّنت الأمور التالية التي توجز المشاكل التي تواجه الكرسي الأنطاكيّ كما يلي:

"تواجه الكنيسة الأنطاكيّة اليوم مشاكل مختلفة نتعرّف على بعض ظواهرها الخارجيّة دون أن تكون لنا معطيات دقيقة لا عن أسبابها ولا عن تأثيرها الطويل المدى. من أهمّ هذه المشاكل كما نتلمّسها:

1-  العلاقات ضمن الجماعة الكنسيّة وذلك على كلّ صعيد: ممارسة السلطة في الكنيسة، تطبيق الأنظمة، اكتمال الأنظمة إلخ... لهذه الأمور وجه مبدئيّ ووجه تنفيذيّ. السؤال المطروح هو حول وضوح الأوّل كما حول علاقة الثاني الفعليّة له.

2-  الرعاية في الكنيسة: حجم الأبرشيّات، حجم الرعايا، نوعيّة الرعاية، تأهيل الخدّام، استقطاب المواهب، نوعيّة الرعاة والخدّام وحياتهم العامّة إلخ... هذه الأسئلة مطروحة على ضمير الكنيسة من قبل شبابها ومثقّفيها وذلك من أجل تغيير جذريّ في النمط الرعائيّ السائد، من خلال إنشاء لجان رعائيّة (يمكن أن تطال رقعة اهتمامها أكثر من رعيّة عندما لا تتوفّر الطاقات) من شأنها الإهتمام: بالإرشاد الزوجيّ (قبل الزواج)، برعاية العائلات الحديثة العهد، بتأمين السهرات الروحيّة ورعاية الشباب في عائلاتهم، بالتأهيل للشهادة في الجامعة والعمل، إلخ...

3-  حياة التقديس في الكنيسة: الصلوات في نصوصها وأدائها، الأبعاد الإيمانيّة في الحياة الأسراريّة، الوعظ، التعليم، البشارة إلخ... واقع "الطقوسيّة" في الكنيسة الأنطاكيّة لا يتلاءم والخلفيّة الإيمانيّة التي تقوم عليها الليتورجيا، أي التجسّد. كما أنّ واقع التعليم على كافّة مستوياته بحاجة إلى إعادة نظر جذريّة ربّما.

4-  الإعلام والبشارة: ماذا نقول للنّاس؟ كيف نقوله؟ متى نقوله؟ بأيّة لغة ننقله؟ بأيّة حدّة وجدّة ننقله؟ أسئلة يوميّة على كلّ لسان أرثوذكسيّ وفي كلّ مناسبة. الحماس وحده لا يكفي. الكنيسة، كجماعة مؤمنين، مطالَبة بأكثر في عالم اليوم. فلا نستحي لا بالصدق ولا بالحشمة ولا بالتفاني بالعمل وبخدمة المحتاج ولا بالازدراء، بل نركّز على حدّة الإنجيل في تعليم واضح للكتاب المقدّس قائم على الاستمراريّة في المواقف الأساسيّة من عصر الآباء إلى يومنا هذا. التحدّيات كبيرة، وسكوت الكنيسة غير مقبول من قبل أبنائها وهو يجعلهم في غربة عنها، ولا بدّ من التشاور بها مع أخصّائيّين لتبلور، إذا أمكن وإذا دعت الضرورة، جوابًا عنها. وعلى سبيل المثال لا الحصر: التقنيات الوراثيّة، العلاقات الجنسيّة قبل الزواج، الإجهاض، العنف والأخلاق، التلوّث على أنواعه، الزواج / الطلاق / المساكنة إلخ...

5-  المال والمؤسّسات: ماهيّة الأوقاف ودورها في حياة الكنيسة، ماهية المؤسّسات الكنسيّة وعلاقتها بالبشارة، المال والسلطة ودورهما في الكنيسة والتعامل مع مالكيهم... مجموعة أسئلة ولو كان الجواب المبدئيّ عليها واضحًا إلّا أنّ الواقع الكنسيّ لا يتماشى وهذه الأجوبة.

ب‌-        لا بدّ من إصلاح جذريّ وشامل إذا أردنا أن تستمرّ كنيستنا في أداء دورها الخلاصيّ. وهذه النهضة يجب أن تطال حياتنا الشخصيّة والجماعيّة والمؤسّسة في الكنيسة وأنماط العلاقة بين أبناء الكنيسة وبين الكنيسة والعالم والوسائل الجديدة التي يجب أن نعتمدها من أجل شهادة أفضل. ولقد صدر في السنوات القليلة الماضية عدد من المقالات بهذا الخصوص أذكر منها بصورة خاصّة الدراسات التي كتبها الأخ جورج نحّاس عن المأسسة في الكنيسة والتي صدرت تباعًا في مجلّة النّور. كذلك أريد الإشارة إلى القسم الثاني (ص 34 إلى 52) من الدراسة تحت عنوان: "تحدّيات القرن الآتي" التي وضعتها سنة 1996 (والتي صدرت في العدد التوثيقيّ لمجلّة النّور آنذاك).

أولويّات خدمة التيّار النهضويّ لإيجاد الحلول:

أ‌-     ممّا لا شكّ فيه أن المشكلة كبيرة وكبيرة جدًّا. ولكن شئنا أم أبينا علينا رصد كلّ الطاقات لمواجهتها. سنضعف في الطريق. سنردّد الكلام الذي وضعه يوحنّا الرسول في فم الرسل: "هذا صعب لا نستطيع سماعه"  (6: 61) ولكنّ اليأس ممنوع لأنّ المسيح قد قام ولأنّ الكلام الصعب هو هذا الكلام الذي توجّه به للشاب الغنيّ حين قال له: "اتبعني".

ب‌-  سعت الأمانة العامّة للحركة في البرهة الأخيرة إلى بلورة بعض هذه المشاكل ووضع خطّة عمل لبحث كيفيّة مواجهة بعض هذه التحدّيات وذلك في مجال العمل الرعائيّ ومجال القوانين والأنظمة ومجال التواصل والإعلام. بعض النصوص المتعلّقة بالمجالَين الأوّلَين قد أُنجِزَت وما تبقّى قيد الإنجاز. هذه النّصوص تنطلق من القناعة أنّ الإصلاح لا بدّ أن يصل إلى البنية الكنسيّة. ليس كلّ شيء استلمناه مقدّس والكثير من ممارستنا الحاليّة تقف عائقًا بين الناس والربّ. لا بدّ إذًا من برنامج إصلاحيّ يطال كلّ ميادين حياتنا الرعائيّة. هذا هو مشروع طويل الأمد. ولكن لا بدّ من إطلاقه الآن على أرض الواقع والنصوص والممارسات وإلّا كنيستنا ستبقى متحفًا لتراث بيزنطيّ نتغنّى به أو في أحسن الأحوال غيتو نلتجئ إليه لممارسة ما يسمّيه البعض حياة روحيّة بمعزل عن الواقع والشهادة والخدمة. سوف تُرفَع هذه الأوراق عند اكتمالها إلى صاحب الغبطة ونأمل أن ينظر إليها المجمع المقدّس بعين الرضى لكي نسعى جميعًا إلى تطبيقها.

هذا العمل هو نموذج لما يمكن ويجب للتيّار النهضويّ أن يقوم به للمساعدة في رصد المشاكل الملحّة والتي تقف عائقًا في وجه الشهادة وفي السعي لإيجاد حلول لها علمًا أنّ الحلول لا يمكن أن تُوضَع حيّز التنفيذ إلّا إذا تجنّد لها أكبر عدد ممكن من الطاقات في الكنيسة وساهموا في ورشة الإصلاح.

ت‌- إضافة إلى ذلك يوجد أيضًا دور مهمّ للغاية يجب على الشباب الأرثوذكسيّ إذا أراد أن يكون نهضويًّا أن يلعبه في الفترة الحاليّة. وهو يتلخّص بنظري في الأمور التالية:

أولاً: تكريس حياتنا اليسوع: أن نعي أكثر فأكثر ونفعّل تكريسنا الكلّيّ للمسيح مرسّخين فينا الاقتناع بأنّ برنامجنا الوحيد هو يسوع المسيح. كنيسة أنطاكية بحاجة اليوم أكثر من أيّ وقت مضى إلى أُناس يتبتّلون للربّ ولا يريدون أن يعرفوا سواه. همّهم الوحيد إرضاؤه وابتغاء وجهه. لا يبتغون جاهًا أو تقديرًا أو شرفًا إذ لا شرف لهم سوى شرف الخدمة وغسل أرجل الإخوة. بدون هذا السعي الدائم والدؤوب إلى الالتصاق بالربّ والتخلّق بأخلاقه واكتساب فكره وحمل همّ التبشير بتعاليمه لا قيمة لنا ولا حاجة إلينا. كثيرون هم المعلّمون. كثيرون همّ المنظّرون. كثيرون هم الأسياد أو الذين يبتغون الوجاهة والسيادة. الكنيسة بحاجة إلى هؤلاء الصغار الذين قرّروا أن يتبعوا يسوع حيث يريد أن يأخذهم عالمين أنّ طرق الربّ تؤدّي دومًا إلى صليب وقيامة.

ثانيًا: المحبّة الأخويّة: علينا أن نترجم عمليًّا هذا الالتصاق بالربّ محبّة فيما بيننا. وذلك على صعيد الفرقة أوّلاً التي يجب أن تكون مختبرًا لحياة الشركة في المسيح ومن ثمّ على صعيد الأسرة والفرع والمركز والحركة جمعاء. إذا لم تَسُدْ المحبّة الحقّة كلّ علاقاتنا، إذا لم نسعَ أن يكون كلّ شيء بيننا مشترك، كيف يمكن للناس أن تعترف بأنّنا حقًّا أتباعٌ ليسوع؟ كنيسة أنطاكية اليوم أكثر من أيّ وقت مضى بحاجة إلى مشاهدة جماعة حيّة صفتها الأساسيّة أنّ أعضاءها يحبّون بعضهم بعضًا بدون مصلحة ويتعاضدون في سعيهم المشترك نحو القداسة. هذا يعني أنّه علينا تطبيق الإنجيل حرفيًّا في حياتنا الخاصّة ومعاملتنا مع بعضنا البعض والآخرين. هذا يعني أن "نعتزل الشّرير من وسطنا" (1 كور 5: 9). هذا يعني ألّا يكون أحد منّا لبولس أو لابولس بل أن نكون كلّنا للمسيح. ومن هو للمسيح لا يتحزّب إلّا للمسيح وبالطريقة التي يسمح المسيح التحزّب بها. بصورة خاصّة، علينا ألّا نتحزّب للحركة أو لهذا أو ذاك من الناس مهما سما شأنهم.

ثالثًا: حمل همّ الكنيسة: علينا أن نكون جماعة خادمة، متأصّلة في الكنيسة لأنّها مقتنعة أن لا حياة لها ولأعضائها إلّا في كنيسة المسيح وأنّه مهما بدت الأوضاع أحيانًا قاطعة فإنّ الغلبة حتمًا في النهاية للكنيسة وفيها. لذلك كلّ كلام يُسمع عن إزائيّة بين التيّار النهضويّ والكنيسة أو أنّ هذا التيّار هو كنيسة ضمن الكنيسة كلام فارغ لا جدوى فيه ولا أساس ولا معنى. كما قال غبطة البطريرك في النصّ الذي ذكرت في مطلع حديثي، من الطبيعيّ أن يعي من يسعى للالتصاق بالمسيح أنّه مع إخوته في شعب الله يشكّل الكنيسة. هذا صحيح ومطابق لمفهومنا الأرثوذكسيّ، مع احترام المواهب كافّة وبخاصّة مكانة الأسقف الذي حوله، في سرّ الشكر، تلتئم الكنيسة. وبما أنّنا الكنيسة، بهذا المعنى، يدمي قلوبنا كلّ انحراف أو شطط أو غضن فيها. ومن الطبيعيّ أن يكون همّنا "أن تخلع الكنيسة عنها ثوبًا ليس ثوبها وتكشف عن شبابها الخالد" كما كتب الأرشمندريت أغناطيوس هزيم سنة 1958. فعلينا بتواضع كبير وباعتراف أكيد بخطايانا الشخصيّة والجماعيّة أن ننبّه الآباء والإخوة كلّما نرى أنّ أساليب مغايرة للنمط الإنجيليّ تُستعمَل في الكنيسة. هذا التنبيه يجب أن يكون جريئًا بدون تحدّ، صارمًا بدون إدانة أشخاص، باذلاً أقصى الجهود للحفاظ على رباط السلام في البيعة. همّنا اقتلاع الخطيئة ومحاربتها فينا وفي الآخرين وفي البيعة والطلب الدائم من الله أن يغفر لنا جميعًا نحن الخطأة. هذا لا يعني أنّه ينبغي أن نفتّش على الوئام قبل كلّ شيء إذا كان ثمن الوئام باهظًا على الكنيسة كما يبدو لنا الحال أحيانًا في أيّامنا هذه. بالتأكيد يجب أن لا ندفع هذا الثمن بالسكوت عن الخطيئة لأنّ من يصمت عن الخطيئة هو شريك لها.

رابعًا: إيجاد جماعات إفخارستيّة حيّة: علينا أن نسعى لإيجاد في كلّ رعيّة جماعة إفخارستيّة حيّة لا يختصر نشاطها على إقامة الخدم الليتورجيّة بل يتعدّاها بواسطة التعليم والإرشاد والعيش المشترك والاهتمام بالفقراء والهمّ التبشيريّ في الحي. فتصبح آنذاك الرعيّة جماعة أخويّة حقًّا على شابهة الجماعة المسيحيّة الأولى يتعاون ضمنها الكاهن وسائر الأخوة، بعيدًا عن كلّ تزاحم على صلاحيّات بل بتقبّل وتناغمها المواهب التي من الروح. علينا السعي المستمرّ لكي تستيقظ رعايانا من حالة الركود التي تسود معظمها والتي تجعلها تقتصر نشاطها على إقامة الخدم دون التساؤل لماذا غالبيّة الشعب لا يؤمّها ودون البحث عن سبل للخروج إليه علمًا أنّ الخروف الضالّ في أيامنا هذه يشكّل الغالبيّة الساحقة وأنّه على الراعي الصالح أن يخرج وراء هذه الأكثريّة اللامبالية، مجنّدًا لهذا الغرض كلّ الطاقات البشريّة والماليّة وغيرها الموجودة في رعيّته لتحديد مضمون البشارة ولغتها وتطوير أساليب الاتصال والشهادة. الويل لنا إن لم نبشّر. الويل لكنيستنا إذا أصبحت متحفًا ليتورجيًّا وحسب تكثر فيه الفرائض والشعائر بدون تأثير على الحياة.

العمل ضمن الرعايا صعب لأنّه يتطلّب صبرًا واستعدادًا دائمًا لقبول الآخر والتفاعل معه وحمله بالمحبّة والاقتناع على الإقلاع عمّا يمكن أن نعتبره أحيانًا خرافات أو تقاليد تعيق كشف وجه المسيح. ولكن لا بدّ من هذا العمل لأنّ الكنيسة تتكوّن في سرّ الشكر ضمن خدمة الرعيّة ويجب أن تعمّ النهضة فيها.

لا بدّ أيضًا من تذكير كلّ أعضاء الرعيّة أنّه إذا أرادوا أن تصبح جماعتهم الإفخارستيّة الكنيسة حقًّا يجب أن يقتنعوا أنّ الليتورجيا تستمرّ خارج حدود الهيكل بالمشاركة في سرّ الآخر. علينا ألّا نخدع بعضنا البعض ونريح ضمائرنا بتطمينات كاذبة: لا تتحقّق حياة الشركة وسرّ الآخر من خلال، فقط، موائد المحبّة والتبرّعات التي نادرًا ما نقيمها في رعايانا. مطلوب منّا أكثر من ذلك. على أعضاء الجماعة الإفخارستيّة أن يشتركوا في كلّ شيء. وألّا يقبلوا أن يجوع أحد بينهم وحولهم. كما يجب أن يعتبروا أنّ سيّدهم ساكن في كلّ فقير، وأنّ "عدم مساعدة الآخر هو نكران لمائدة الربّ" على حدّ قول القدّيس إيريناوس أسقف ليون. كذلك يجب أن يفهموا أنّ مثل هذه المساعدة يجب أن لا تقتصر على مساعدات آنيّة بل يجب أن تبرمج جدّيًّا بالاستفادة من المؤسّسات والأساليب الحديثة المتاحة وأن يخصّص لها جزء كبير من ميزانيّة الرعيّة.

خامسًا: احترام القوانين وتأليف المجالس: أن نكون من دُعاة تطبيق القوانين من أجل تعميم روح الشورى والمجمعيّة والتفاعل الإيجابيّ والبنّاء بين الإكليروس والعلمانيّين على صعيد مجلس الرعيّة ومجلس الأبرشيّة والمؤتمر الأنطاكيّ. هذا الأمر ملحّ ويجب الإلحاح بالمطالبة بتطبيقه لأنّ كنيستنا تمرّ على الرغم من المظاهر والتطمينات وما أكثرها بأزمة على صعيد وحدتها. فالتيّارات تتشكّل والمؤامرات تتكاثر وشياطين اعتقدنا أنّها قُهرت إلى الأبد تعود وتثير الشقاقات بين الناس. كما أنّ الخلافات والغيرة والنزاعات على النفوذ والمرجعيّة تظهر على جميع الأصعدة: الأساقفة ما بينهم، بين الأساقفة والكهنة، والكهنة في ما بينهم، بين الكهنة والرهبان، الرهبان في ما بينهم، بين الإكليريكيّين والعلمانيّين، والعلمانيّون في ما بينهم. علينا أن ندرك أنّ صلاة السيّد: "ليكونوا واحدًا لكي يؤمن العالم" تعني، بالدرجة الأولى، أعضاء الكنيسة، كنيسة أنطاكية المقدّسة التي تبدو وحدتها اليوم، شرطًا أساسيًّا حتّى يكون هناك وقع لشهادتنا وتاليًا مساهمة منّا لعودة الناس إلى ربّهم. والوحدة تُبنى بالممارسة، بقبول الآخر، باستنباط المواهب، بالعمل على تفاعلها، بدعوة الناس إلى المشاركة في التفكير والتخطيط والعمل وإبداء الرأي باختيار رعاتهم والمساهمة في إدارة شؤون العائلة الكنسيّة. وكلّ ذلك لا يمكن أن يكون إلّا بالاجتماع المتواصل، المنظّم الذي وضعت القوانين الأنطاكيّة غير المطبّقة غالبًا إطارًا صالحًا له.

تقع مسؤوليّة الحفاظ على الوحدة والحثّ على تناغم المواهب أوّلاً على عاتق المجمع المقدّس وكلّ أسقف في أبرشيّته الذي يجب أن يحترم ويطبّق القوانين ويسعى جاهدًا إلى تأليف المجالس الرعائيّة على المستويات كافّة. علينا بكلّ بساطة أن ندعو لعيش لاهوتنا فلا ننسج بعد الآن لاهوتًا يناسب وضعنا ومصالحنا وأهواءنا. يجب في هذا المجال استمرار التذكير بأنّ لاهوت الكهنوت الأرثوذكسيّ لا يفصل البتّة بين الإكليريكيّين والعلمانيّين، بل بين الإكليريكيّين والعلمانيّين الملتزمين بالتوبة الإنجيليّة والذين يؤلّفون "شعب الله" – من إكليريكيّين وعلمانيّين على حدّ سواء – الذين لا يرتبطون بالكنيسة إلّا لاعتبارات جماليّة أو اجتماعيّة سياسيّة أو لمصلحة شخصيّة أو جماعيّة. إنّ كنيسة المسيح تفتح بلا شكّ ذراعَيها وقلبها لاحتضان المعمّدين جميعهم (واحتضان كلّ إنسان في هذا العالم من خلالهم) كما تدعو المؤمنين كافّة، وبالإصرار عينه، إلى تأكيد انتمائهم لشعب الله بمشاركتهم الفعّالة في الحياة الليتورجيّة وفي الأسرار الكنسيّة واقتدائهم بالإنجيل في حياتهم اليوميّة. الطريق إذًا مفتوح والنهج مرسوم أمام الراغبين في أن يكونوا في عداد "شعب الله"، "حافظ الإيمان" فيشاركهم تاليًا في اتخاذ القرارات المتعلّقة بحياة الكنيسة الداخليّة. في زمن يتكاثر فيه الخلط بين الطائفة والكنيسة علينا التذكير بهذه الرؤية والسعي على ترجمتها في حياة أبرشيّاتنا.

سادسًا: التكريس في الكهنوت أو الرهبنة: نحن بحاجة ماسّة إلى كهنة ورهبان وتاليًا أساقفة على حسب قلب الله. يجب أن يعي النهضويّون هذه الحاجة الملحّة وألّا تغيب عن بالهم أبدًا. علينا أن نعي أنّ الكاهن التقيّ والمثقّف، والمتزوّج عادة بحسب تقاليدنا العريقة الحكيمة، هو المحرّك الأساسيّ لكلّ جماعة إفخارستيّة وأنّ الكنيسة تعيش أيضًا على صلوات الرهبان. إزاء هذا الإلحاح، يفترض بنا مقاومة التحفّظات التي تظهر هنا وهناك بين بعض الشباب، بسبب بعض الممارسات العلائقيّة والاعتبارات الماديّة. فمَن أراد تكريس نفسه إنّما يكرّسها لله لا لإنسان، فالله الذي يؤمّن قوت طيور السماء لن يعطي ابنه حجرًا حين يسأله خبزًا. ونحن الجماعة الحركيّة مسؤولون عن تأمين معيشة هؤلاء في هذا اختبار الشركة في الخيرات.

لا بدّ أيضًا في هذا المضمار من أن نسعى إلى لفت نظر القيّمين على إعداد الكهنة وكلّ عامل في حقل الرعاية على ضرورة تثبيتهم ليس فقط في المعرفة والحياة الليتورجيّة والفكر الآبائيّ، بل حثّهم أيضًا على التخلّق بأخلاق الربّ وإلى اقتناء محبّة عظيمة للبشر وإحساس عميق ببؤس العالم، ومدّهم بالأدوات، الفكريّة والعلميّة، وباللغة التي تمكّنهم من نقل كلمة الحياة إلى العالم.

سابعًا: تطوير أساليب الكرازة: لا بدّ أيضًا في مجال الكرازة من أن نسعى إلى إعادة النظر في بعض أساليبنا التعليميّة لأنّه بدلاً من أن نقدّم للناس معلومات عن الله، علينا أن نقول لهم، في لغة يفهمونها، أنّ الله يحبّهم، وأنّه صار إنسانًا ليصيروا هم آلهة، وأنّ كنيسته لا تريد أن تقزّمهم بل هي تدعوهم إلى "حريّة أبناء الله" وتساعدهم على استنباط وجه المسيح وتهجئة اسمه في الجمال والثقافة والكون وبصورة خاصّة في وجوه البشر.

الشباب هم سفراء الكنيسة إلى العالم وهم أيضًا مدعوّون إلى أن ينقلوا إلى الكنيسة هموم العالم. هم يتحسّسون أكثر من غيرهم مشاكل المدنيّة الحديثة والتغيّرات التي تهبّ في العالم المعاصر والتحدّيات الناتجة منها. على الشباب الملتزم أن يصغي باحترام وانتباه إلى مثل هذه التحدّيات ويسعى بدون خوف أو تزمّت – إلى أن يتفاعل معها ويكتشف كيف يمكن أن يكشف وجه يسوع إلى رفاقه الذين لا يعرفونه والذين ما عادوا يفهمون لغة المخاطبة الدارجة في الأوساط الكنسيّة. عليه أن يبتكر أساليب وربّما لغة جديدة لنقل ما "سلّم مرّة واحدة للقدّيسين" كما عليه أن يقلق الكنيسة بتساؤلات رفاقه هؤلاء وتذكيرها بواجب الانتباه والتفاعل وضرورة مخاطبة الناس من ضمن المشاكل التي يعيشون والهواجس الأخلاقيّة والمعيشيّة وغيرها التي يطرحها عليهم العالم الحديث.

 

خاتمة:

هذا قليل من كثير. تطبيق كلّ هذه الأمور من الصعوبة بمكان ولكنّه ممكن. الروح ما زال يفعل في كنيسته وسوف يفعل فينا إذا قبلنا أن ينقص الأنا فينا وينمو المسيح.

كلا! الإنجيل ليس أتوبيا. لا تقبلوا أنصاف الحلول. لا تدعو أحدًا "يهزأ بحداثتكم" لكن اسهروا أن تكونوا بالفعل وليس بالكلام "قدوة للمؤمنين" بالتقوى واستقامة الحياة والمحبّة الصادقة التي لا تعبير عنها سوى خدمة الناس.

لا تقبلوا أن يُقزّم الإنجيل. لا تقبلوا أن يقزّم أحد كنيستكم بحصرها بشخصه أو بجماعته أو بكبت صوت الروح فيها. لا تقزّموا أنتم المسيح في حياتكم بل جاهدوا باستمرار للوصول إلى ملء قامته. أعطوه قلوبكم وهو يرفعكم إليه. وبكم ومعكم ترتفع الكنيسة.

وكما قال بابا رومية منذ يومَين متوجّهًا إلى المليونَيّ شاب الذين اجتمعوا في روما: "أنتم فرحي وتاج رأسي... لا تخافوا أن تكونوا قدّيسي الألفيّة الثالثة". هذه الدعوة للجميع. هي لكم أيضًا.

ما هو غير مستطاع لدى الناس فهو مستطاع لديه وهو "القادر على أن يفعل أكثر بكثير ممّا نطلب... فله المجد... إلى جميع الأجيال" (أفسس 3: 21).

 


المشاركات الشائعة