كلمات نبويّة للأب سيرج بولغاكوف - أوريجنس القرن العشرين

 ريمون رزق

النور- العدد الرابع 2016

 

صدرت مؤخّرًا ترجمة فرنسيّة لمذكّرات الأب سيرج (بولغاكوف) تحت عنوان »حياتي في الأرثوذكسيّة«(1). دُعي الأب بولغاكوف »أوريجانِّس القرن العشرين« لموسوعيّة ثقافته وشموليّة كتاباته التي لم تقتصر على اللاهوت والتفسير الكتابيّ والأمور الرعائيّة، بل تطرّقت إلى الفلسفة وعلم الاقتصاد ومجالات عديدة أخرى من مجالات المعرفة الإنسانيّة. وقد مرّ الأب سيرج من الماركسيّة والإلحاد إلى المثاليّة الفلسفيّة والدينيّة، قبل أن يعود إلى إيمان طفولته، ويصير كاهنًا. واشترك قبل ذلك في مجمع موسكو العام 1917، حيث كان في طليعة الذين عملوا على إعادة الكنيسة الروسيّة إلى ينابيعها الأصيلة، بعد تغرّب فُرض عليها منذ عهد بطرس الأكبر. وكان يُعتبر آنذاك من خيرة المفكّرين الروس الذين كان همّهم الأوّل إيجاد السبل لاستعادة تأثير المسيحيّة في حياة شعبهم والعالم. كما اشترك مع بردياييف وفرانك وستروف وغيرهم من المفكّرين الروس، وكانوا جميعًا ماركسيّين سابقين، في كتابة كتاب »الأوتاد« وإصداره السنة  1909 والذي عرف رواجًا غير مسبوق، وانتقدوا فيه »الإنتِليجِنسيا« الروسيّة لابتعادها عن القيم الروحيّة. واستمرّ معظم هؤلاء في الدعوة، حتّى بعد الثورة البولشفيّة وإحلال الحكم الشيوعيّ، إلى مثل هذا الوعي الروحيّ، معلنين خيبة آمالهم بالماركسيّة، ومنتقدين الجوّ الذي ساد بعد الثورة، القامع للمعرفة الحقّ والإبداع وحياة الفكر والمحارب الدين. لم ترق هذه الأفكار للحزب الشيوعيّ الذي خشي من تأثيرهم في الشعب، فأمر لينين بالقبض عليهم ونفيهم إلى الغرب في السنة 1922.

ولد بولغاكوف السنة 1871 في وسط روسيا في عائلة تميّزت بكثرة الكهنة والشمامسة بين أعضائها عبر سبعة أجيال. نما في جوّ مفعم بالإيمان والثقافة الأرثوذكسيّين، فالتحق بالمدرسة الإكليريكيّة بغية اتّباع مسيرة أبيه وأجداده في الكهنوت. لكنّه لم يرتح إلى الجوّ السائد في هذه المدرسة، وقرّر في الرابعة عشرة من عمره ألاّ يصير كاهنًا، إذ كان يعتبر نفسه آنذاك ماركسيًّا رافضًا كلّ مظاهر التقليد الروحيّ والكنسيّ الروسيّين. تابع دروسه في معاهد مدنيّة في روسيا وخارجها، وأصبح عالمًا في الشؤون الاقتصاديّة. وكان عنوان أوّل كتبه »دور السوق في الإنتاج الرأسماليّ«. تزوّج السنة 1898 ورُزق ثلاثة بنين وابنة. وسبّب له موت أحد أولاده في الثالثة من العمر السنة 1909 صدمة كبيرة، ساهمت في قلب بعض معاييره رأسًًا على عقب. مرّ في طريق عودته إلى الإيمان بمحطّات كان أوّلها اختباره السنة 1894 جمال الطبيعة وانسحاقه أمامه. أدّى به هذا الجمال إلى مُساءلة نهائيّة المبادئ المادّيّة التي كان يؤمن بها، ويطرح في أعماقه إمكانيّة وجود خالق مثل هذا الجمال. وعرف اختبارًا جماليًّا آخر أثّر فيه أيضًا لدى رؤيته لوحة للعذراء من رسم رفائيل في أحد المتاحف الألمانيّة. مع ذلك، تابع طريقه في الإنتاج العلميّ، فأصدر السنة 1901 كتابًا عن الرأسماليّة وآخر عن الزراعة. تبوّأ من 1901 إلى 1906 كرسيّ الاقتصاد السياسيّ في إحدى جامعات كييف. كوّن تعلّق الطلاب بشخصه وتفاعلهم مع أفكاره التي كانت في صدد الابتعاد عن الماركسيّة والاتّجاه نحو المثاليّة، محطّة ثانية في مسيرته الروحيّة، فأصبح أحد روّاد الإنتِليجِنسيا الروسيّة. فدوّن انتقاله الفكري هذا في كتاب »من الماركسيّة إلى المثاليّة« الذي صدر السنة 1903. عُيّن أستاذ الاقتصاد السياسيّ في جامعة موسكو السنة 1906، وأصدر خلال السنوات العشر التالية عددًا كبيرًا من المقالات والدراسات المتعلّقة بالنظريّات السياسيّة. عرف، في تلك الفترة، خبرات روحيّة عدّة، بخاصّة لدى زيارة أحد الأديرة، التي دفعته إلى اعتناق الدين المسيحيّ مجدّدًا في السنتين 1907 و1908، فاعتُبر عندها كأحد روّاد الإنتِليجِنسيا المسيحيّين، واشترك في إصدار كتاب »الأوتاد«(٢)، وعُيّن عضوًا في مجمع الكنيسة الروسيّة العام السنة 1917. وانتُخب أيضًا عضوًا في مجلس النوّاب الروسيّ (الدوما) حيث تميّز بمواقفه ضدّ الإعدام. وكتب آنذاك عددًا كبيرًا من المقالات في مواضيع فنّيّة وفلسفيّة واجتماعيّة، نشرها في السنتين 1917 (»المدينتان«) و1918 (»أفكار هادئة«). تعرّف في تلك الحقبة من حياته إلى الأب بول (فلورِنسكي) (1882-1937) (مات قتلاً في أحد مخيّمات الموت)، هذا العالم والمفكّر العملاق الذي كان له تأثير بارز في حياة بولغاكوف الروحيّة وتطوير فكره اللاهوتيّ.

رسم زيتيّ لبولغاكوف مع الأب فلورِنسكي

نشر السنة 1912 كتابًا بعنوان »فلسفة الاقتصاد« قدّم فيه نظريّته »الصوفيولوجيّة« حول الحكمة الإلهيّة (الصوفيا) وعلاقتها بالعالم الذي يعتبره »ظهورًا« لها، التي لاقت بعض المؤيّدين وكثيرًا من المنتقدين(٣). إلى جانب هذا »الرأي اللاهوتيّ«، صدر له عدد كبير جدًّا من الكتب في العقائد الأرثوذكسيّة والكتاب المقدّس. جعله إنتاجه الفكريّ المتنوّع يشبه أوريجانِّس الذي اعترفت به الكنيسة »معلّمًا« مع التحفّظ على بعض آرائه.

كان من أبرز اللاهوتيّين الذين اشتركوا في المجمع العامّ، كما عيّن أحد العلمانيّين الاثنين في اللجنة الاستشاريّة للبطريرك الذي أعاده المجمع بعد انقطاع طويل إلى الرتبة البطريركيّة في روسيا. رسم كاهنًا السنة 1918، وعلّم في جامعة شبه جزيرة القرم حيث وضع كتابين مهمّين نُشرا في ما بعد في الغرب: »مأساة الفلسفة«(٤)، و»مدخل فلسفيّ لتكريم اسم اللَّه«(٥).

بعد النفي مرّ بولغاكوف بالقسطنطينيّة حيث تأثّر برؤية كنيسة آيا صوفيا، »قبّة السماء هذه التي فوق الأرض«، ثمّ بمدينة براغ حيث أدّى دورًا بارزًا في الحركة الفلسفيّة والروحيّة الروسيّة التي كانت ناشطة فيها، وساهم في أعمال حركة الشبيبة الروسيّة، وعلّم في معهد الحقوق الروسيّ. دُعي السنة 1925 إلى باريس للالتحاق بمعهد القدّيس سيرجيوس اللاهوتيّ الناشئ كعميد له وأستاذ في اللاهوت العقائديّ. قضى فيه ما بقي له من العمر موزّعًا وقته بين الخِدم الإلهيّة، والتعليم، والبحث اللاهوتيّ، والكتابة، والوعظ والنشاطات الرعائيّة والمسكونيّة.

أمّا في ما يخصّ الكتابة، فوضع مثلّثات لاهوتيّة متمحورة حول علاقة اللَّه بالعالم بواسطة تجسّد ابنه الوحيد: تضمّ الأولى »العلّيقة المشتعلة« (1927)، و»صديق العريس« (1928) و»سلّم يعقوب« (1929) وهي متمحورة حول والدة الإله والمعمدان والملائكة(٦). أمّا الثانية فتضمّ »حمل اللَّه« (1933حول المسيح)، والبراقليط (1936حول الروح القدس) و»عروس الحمل« (حول الكنيسة 1945)، وتتمحوّر حول اتّحاد اللاهوت والناسوت(٧). ووضع أيضًا كتابًا حول »الأرثوذكسيّة« السنة 1930 عرف رواجًا كبيرًا وكان مدخلاً قيّمًا إلى الكنيسة الأرثوذكسيّة بالنسبة إلى المسيحيّة الغربيّة(٨). كما وضع السنة 1931 مقالة كبيرة حول يهوذا الإسخريوطيّ، صدرت ترجمة فرنسيّة عنها مؤخّرًا(٩). ووضع السنة 1932 كتيّبًا حول الحكمة الإلهيّة، وشرحًا لرؤيا يوحنّا صدر بعد وفاته السنة 1948، وصدرت ترجمة فرنسيّة مؤخّرًا(١٠). وكانت قد صدرت السنة 2010 ترجمة فرنسيّة لكتابه عن الرسولين بطرس ويوحنا(١١). تُرجمت معظم كتبه إلى لغات مختلفة. يدلّ إصدار ترجمات جديدة لبعض كتبه في السنوات الأخيرة، والاستمرار في تداول الترجمات القديمة (التي أُعيد طباعة بعضها) على أنّ الاهتمام بفكره لا يزال حيًّا بعد ما يزيد على سبعين سنة من رقاده.

أُصيب الأب سيرج بسرطان في حلقه السنة 1939، خضع لعمليّتين جراحيّتين وخسر صوته. مع ذلك تابع التعليم وإقامة الخِدم الإلهيّة، ورقد السنة 1944.

أمّا الكتاب الذي نحن في صدده الآن، فلقد انتهى الأب سيرج من كتابته السنة 1939، وصدر بعد رقاده السنة 1946. هذا الكتاب تقع ترجمته الفرنسيّة بـ230 صفحة، وهي مقسّمة إلى ثلاثة أقسام. يبحث القسم الأوّل في نشأته، وإلحاده، وعودته إلى الإيمان، ورسامته الكهنوتيّة، وخبراته ككاهن أرثوذكسيّ. أمّا القسم الثاني، فيتوقّف عند أحداث مهمّة من مسيرته على طريق المنفى بما في ذلك مروره بالقسطنطينيّة، وموت ابنه، وخبراته الجماليّة، وبعض لقاءاته المسكونيّة، وينتهي بتأمّلات حول مرضه. ونجد في القسم الثالث مقتطفات من بعض رسائله.

ختامًا أودّ ذكر بعض ما قاله رئيس أساقفة الأب سيرج أثناء جنازته. قال: »عزيزي الأب سيرج، كنت مسيحيًّا حكيمًا، أبًا للكنيسة كريمًا ونقيًّا. استنرت بالروح القدس، روح الحكمة، روح الفهم، المعزّي، الذي خصّصته بدراساتك. هو مَن حوّل شاول فيك إلى بولس. هو الذي أرشدك حتّى نسمتك الأخيرة. وهبك نعمه المجّانيّة منذ 26 سنة عندما حصلت على سرّ الكهنوت، وحملت صليب الكاهن في الروح القدس. ليس من باب المصادفة أن تكون حصلت على تلك الموهبة في عيد العنصرة، حيث حلّ الروح على التلاميذ القدّيسين بصورة ألسنة ناريّة. فكان لك نصيب بها كالرسل. كنت رسولاً طيلة حياتك. وليس من باب المصادفة أيضًا أن تكون قد خدمت آخر قدّاس إلهيّ على هذه الأرض، في عيد العنصرة الأخير، الذي هو عيد رسامتك. كم كنت تشعّ نورًا يومها! كنت قد ختمت خدمتك الكهنوتيّة على هذه الأرض، لتتابعها في السماء مع الملائكة والرسل القدّيسين«.

لقد شغفتني قراءة هذا الكتاب الذي قرأته دفعه واحدة، فقرّرت أن أنقل أقسامًا منه إلى العربيّة لتعمّ الفائدة.

أعاده جمال الطبيعة إلى اكتشاف اللَّه(1٢)

توشّحت جبال القوقاس القريبة منّا بلون أزرق. كنت أراها لأوّل مرّة. فأضحيت منتبهًا لإعلان الطبيعة هذا، ونظرت إلى الجبال بشغف، كأنّي أشرب النور والهواء. منذ زمن طويل تعوّدت نفسي بألم خفي وصامت ألاّ ترى في الطبيعة سوى صحراء ميتة تختبئ تحت ستار الجمال، كأنّه قناع ساخر بدون أن أعي ذلك، كانت ترفض الطبيعة بدون اللَّه. وفجـأة تحـرّكـت في تلك اللحظة وارتعشت وابتهجت. تساءلت: إن كانت الطبيعة تخفي شيئًا. إن لم تكن صحراء، ولا أكذوبة، ولا قناعًا، ولا موت بل وشاح الآب المحبّ والصالح. هو ومحبّته. كان قلبي ينبض على وقع انطلاق القطار الذي كان يقلّني، سعيت إلى استرجاع الفكـرة العابـرة التـي أتتنـي مجـدّدًا، والبقاء على هذه البهجـة. لو كانت مشاعر طفولتي المباركة، حين كنت أعيش معه، أسير أمام وجهه، وأحبّه مرتعدًا من عدم قدرتي على الاقتراب منه، لو كانت تلك المشاعر حقيقيّة. لو كانت دموعي وتوقّدي الفتيّة، وحلاوة صلاتي، ونقاوة طفولتي التي سخرت بها ودنّستها، لو كـان هذا كلّه حقيقة، يكون ما اعتقدت به لاحقًا ميتًا وفارغًا، وكاذبًا ومعـميًّا. أخذت أتساءل هل يكون هذا ممكنًا، وأنا عرفت منذ أيّام المدرسة الإكليـريـكيّة أن لا وجـود للَّه؟ أيمكننـي مـجـرّد التكـلّم على ذلك؟ أيمكنني الإقرار بمثل هذه الأفكار بدون أن أخجل من سخافتي، وبدون الشعور بخـوف مرعـب أمام النظريّات »العلميّة« ومجامعها؟ شعرت كأنّني أختنق مسجونًا في هذه النظــريّات التــي تلــوّث الشباب والأولاد والــتي لـوّثتنـي إلى حدّ أنّني كنت أنشـرها. قرع اللَّه على باب قلبي بخفر، فسمـع وارتـجف، لـكنّه لـم يُفتح. فاختـفى اللَّه، ونسـيت بعد حين خبرتي لكنّ هذا »الشيء« كلّمني مجدّدًا، هذه المـرّة بقـوّة وكـأنّه ظـافر. والشعـاع الذي تلألأ لحظة في تلـك الليـلة واختـفى بـدا الآن ساطـعًا مليئًا ومرنّمًا كأنّه جوقة مهيبة وعجيبة. تلألأ أمامي أوّل أيّام الخليقة.

كلّ شيء كان صافيًا، هادئًا، مملوءًا بهجة. كاد قلبي ينفجر فرحًا. ما بقي يوجد حياة ولا موت، بل وحده هذا اليـوم الحاضر، الآن، كأنّه أبديّ. »الآن أطلق عبدك بسلام...« (لوقا 2: 29). تردّدت هذه الكلمات في نفسي وفي الطبيعة، ودخل شعور الغلبة على الموت غير منتظَر إلى نفسي يقوّيها ويمدّدها. كنت أودّ أن أموت في تلك اللحظـة. كانت نفسـي تتـوق إلى الموت كي تذوب بفرح وحـميّة في الجمـال الأصـليّ الـذي كان يرتفع ويشعّ ويتـألّق. لكـن لـم تكن ثمّة كلمات، ولا اسم للَّه ولا »المسيـح قـام«، مــوجّهة إلــى العـالم وقمم الجبال. ثمّه شيء كان يسودها، عظيم ولا حدّ له. وكان إعلان "هذا الشيء" في تلـك اللحـظة، ولمـجرّد وجـوده، يـزيل كلّ عوائق، وكــلّ نظـــريّاتي »العــلـميّة« وأصـرحتها الورقــيّة. ســبّب هذا »اللقاء-اللحظة« انطبـاعًا في نفسي لا يُمحى، وكان عــرسًًا. لـم أكن أعــرف آنذاك، ولم أفهم ما كان ينتظرنـي من هـذا اللقـاء. لكــنّه ســبّب منعـطفًا جديدًا في حياتي. يتبع...

 

 

المشاركات الشائعة