هل نحن أمام مشهد كنيسة تتفتّت؟

 

ريمون رزق

النور - العدد الثامن 2019

 

إنّها صرخة تعبّر عن حسرة تقود إلى فقدان الرجاء، لو لم "تكفي نعمة الله ولن تُكمَل قوّته في الضعف" (2 كورنثوس 12: 9). تأتي هذه الحسرة من الانشقاقات الراهنة في كنيستنا الأرثوذكسيّة، وابتعاد تصرّفاتها عن الصورة التي يريد لاهوتها إظهارها على أنّها كنيسة البدايات.

بعد التوقّف عند سمات جماعة البدايات المسيحيّة والانحرافات التي أصابتها، ماضيًا وحاضرًا، سنبحث في المشاكل التي تمزّق كنيستنا اليوم وما ينتظرها في المستقبل.

الجماعة الأولى

دُعي المسيحيّون بصورة خاصّة "القدّيسين" و"الإخوة"، ودُعيت جماعتهم "الأخويّة". كيف لا، والمسيحيّون إخوة متساوون في جسد المسيح، يشتركون جميعًا في بناء هذا الجسد، كلّ حسب المواهب المُعطاة له من الروح. يميّز بولس الرسول بين الإخوة مَن يسمّيه "... إبيسكوبس" (أي مراقب أو حارس)، و"... برسبيتروس" (أي الشيخ)، ويسند إليهما، إضافة إلى "... الدياكونوس" (أي الخادم) الاهتمام بالجماعات التي أسّسها الرسل. إنّ معظم ترجمات العهد الجديد الحاليّة تستعمل عبارتَيّ "الأسقف" و"الكاهن" للدّلالة إلى "الإبيسكوبوس" و"البرسبيتروس"، تأثيرًا واضحًا منها بأوضاع الكنيسة الحاليّة. بالحقيقة، لا وجود لعبارة "كاهن" في العهد الجديد، إلّا نسبة إلى كهنة اليهود. وأطلقت أيضًا على الربّ يسوع "رئيس كهنة إلى الأبد" (عبرانيّين 6: 19)، وعلى كهنوت المؤمنين الجماعيّ في عبارات "الكهنوت الملوكي" (1 بطرس 2: 9) و"الملوك والكهنة" (رؤيا 1: 6 و5: 10). كانت الجماعات الرسوليّة تلتئم حول "إبيسكوبوس" (أو بريسبيتروس) يترأس خدمة الإفخارستيّا التي تقيمها معه جماعة المؤمنين، بموجب كهنوتها الملوكي.

يعتبر بولس الرسول أنّ مسؤوليّة "المراقب" تكمن في رعاية "كنيسة الله" (أعمال 20: 28)، والسهر على وحدة شعب الله، ملاحظًا مواهب أبناء الله، ومذكّرًا إيّاهم، "في وقت مناسب وغير مناسب" (2 تيموثاوس 4: 21)، أنّهم حصلوا بالمعموديّة "مسحةً من القدّوس" (1 يوحنّا 2: 20). أمّا المؤمنون، فيطلب بولس منهم أن "يعتبروا الذين يتعبون بينكم ويرأسونكم في الربّ" (1 تسالونيكي 5: 12). وأن يتحمّلوا بعضهم البعض ويغفروا لبعضهم البعض، وقبل كلّ شيء أن "يلبسوا المحبّة التي هي رباط الكمال" (كولوسي 3: 14).

لا وجود لمسيحيّ على حدة بل يوجد مع الإخوة

يخسر المسيحي صفته حالما يخرج من شركة جماعة الإخوة. إنّه يحقّق ذاته بتواصله مع الآخر، أيّ آخر، في وسط الجماعة وخارجها. تقوده محبّته للآخرين إلى ملاقاة الله، لأنّه "إن أحببنا بعضنا بعضًا فالله يثبت فينا، ومحبّته تكتمل فينا" (1 يوحنّا 4: 12). لذلك قال المطران كليستوس وير[1]: "في الكنيسة، نقول لبعضنا البعض: "أنا أحتاج إليك لأكون"... لذلك لا يستعمل أبناء الكنيسة "الأنا" بل ال"نحن"". لا نقول في صلواتنا "يا ربّ ارحمني" بل "ارحمنا". وأثناء صلاة الإستحالة، التي هي قمّة القدّاس الإلهي، يقول الكاهن: "نقدّم لك هذه العبادة الناطقة... ونطلب ونتضرّع ونسأل...". عندها، يؤكّد الشعب الحاضر، المشترك في تقديم "ذبيحة التسبيح" هذه الصلاة بآمينه المدوّي[2].

سرّ الإفخارستيا

يمثّل هذا السرّ، حيث يتناول المؤمنون من يد الأسقف، أو الكاهن الذي ينوب عنه، جسد الربّ ودمه الكريمَين، سرّ وحدة الكنيسة بامتياز. لا وحدة حقيقيّة بين المسيحيّين غير التي تؤمّن حضور المسيح في كلّ واحد منهم، محوّلاً إيّاهم إلى إخوة حقيقيّين، لأنّ الربّ "تكرّم أن يكون أخًا لهم"[3]، ويصنع منهم كنيسته. ضمن هذا المفهوم، يكون الأسقف الأخ الأكبر، "الأوّل بين متساوين"، في عائلة إخوة الربّ. لكن ولسوء الحظ، لا يُعاش هذا المفهوم الإفخارستيّ غالبًا في اجتماعاتنا الكنسيّة. نجد فيها، في كثير من الأحيان، مفاهيم تقسّمها إلى فئتَين، الكهنة والعلمانيّين، ونسمع فيها كلامًا على "سلطة" الإكليروس و"حقوق" العلمانيّين. ويكثر الكلام أيضًا حول الطاعة والأوّلويّات والصلاحيّات.

الأسقف: البدايات والانحرافات

في وصفه صفات الأسقف ومسؤوليّته، وعى بولس الرسول أنّ هذه المسؤوليّة ستُصاب لاحقًا بانحرافات، إذ قال، متوجّهًا إلى الأساقفة: "إحذروا لأنفسكم ولجميع القطيع... فإنّي أعلم أنّه بعد فراقي سيدخل بينكم ذئاب خاطفة لا تشفق على القطيع. ومنكم أنفسكم سيقوم رجال يتكلّمون بأقوال فاسدة ليجتذبوا التلاميذ وراءهم" (أعمال الرسل 20: 28 – 30). تحقّقت هذه النبوءة مرارًا في التاريخ الكنسيّ، ليس فقط بسبب هرطقة بعض الأساقفة، لكن من قبل الذين نصّبوا أنفسهم فوق شعب الله، وواجهوه بسلطويّة هذا العالم، مقرّرين مصيره دون الرجوع إليه.

كلّ سلطة في الكنيسة هي لتنمية المحبّة في الجماعة وخدمة وحدتها، وإلّا تتحوّل إلى سلطويّة. وكلّ طاعة للمسيح وتاليًا للإخوة المؤمنين، بما فيهم الأسقف. فالطاعة دائمًا متبادلة: أطيعك لأنّي أحبّك وأعرف أنّك مستعدّ أن تطيعني في الربّ. يعلّمنا آباؤنا أنّ هدف السلطة والطاعة في الكنيسة ليس سوى القداسة، قداسة مَن يمارس السلطة وقداسة مَن يُطيع. وكلّما خفّت القداسة مالت السلطة إلى التسلّط، والطاعة إلى استعباد، و"يفسد الملح".

تصف بعض النصوص الكنسيّة التي وُضعت في القرون الأولى[4] اجتماعات الجماعة المسيحيّة الأولى كاجتماعات عائليّة، يرأسها أحدهم، ويشاركه إخوة متساوون. يبدو أنّ هذا الوضع بدأ يتغيّر بعد الاضطهادات الأولى، إذ لوحظ آنذاك تمحور أوسع للخدمات الكنسيّة حول الأسقف. ما لا شكّ فيه أن هذا الأمر ساعد في الدفاع بطريقة أفضل عن الإيمان، لكنّه خلق "بعض التضخّم في الهيرارخيّة الأسراريّة وإخلالاً بالتوازن الكنسيّ"[5]. من هنا بدأت ترتسم بصورة غير واعية أوّلاً، بعض الانشطارات، ليس على صعيد الرؤية اللاهوتيّة بل في الواقع المُعاش، وظهرت رؤى للكنيسة أكثر تمركزًا حول الإكليروس ومطعّمة بمفاهيم قانونية.

اتّسعت تلك الميول عندما أصبحت الكنيسة كنيسة الإمبراطوريّة، واضطرّت إلى عدد من "التسويات". يدلّ النصّان التاليان بوضوح على التغيير الذي حصل في مقام الأسقف وفي وعيه لنفسه وصورته في أعيُن المؤمنين.

نقرأ في كتاب الديداسكاليّة: "إذا حضر فقير أو فقيرة...، ولم يكن يوجد لهما مكان للجلوس، أعطهما، أيّها الأسقف، بطيبة خاطر مكانك ليجلسا فيه، حتّى لو اضطرّيت أن تجلس على الأرض"[6]. أمّا الفقرة المماثلة في كتاب التنظيمات الرسوليّة، فتقول: "إذا حضر فقير، ... ولم يكن له مكان للجلوس، فليعمل الشمّاس ما في وسعه على أن يجد له مكانًا"[7].

فنرى إقلاع الأسقف، خلال أقلّ من نصف قرن، عن الاهتمام الشخصي بالفقير وإسناد هذه المسؤوليّة إلى الشمّاس. لم يعدّ الأسقف الأخ الأوّل بين إخوة متساوين، الذي يعطي المثال في خدمة المحتاجين، بل أصبح مَن لا "يتنازل" عن كرسيه لإعانة الفقير. نُصّت التنظيمات الرسوليّة بعد "تنصير" الإمبراطوريّة، وكان قد اعتاد الأساقفة معاشرة الأباطرة وعظماء القوم. وجرت العادة أن يُدعى الأسقف "سيّدًا"، رغم طلب المسيح نفسه الملحاح ألّا يُدعى أحدًا على الأرض سيّدًا، لأنّ "سيّدكم واحد هو المسيح، وأنتم جميعًا إخوة..." (متّى 23: 8).

تبيّن نصوص قانونيّة أخرى[8]، كيف أنقص الأساقفة تدريجيًّا من دور الأنبياء والمعلّمين والقرّاء وباقي الخدمات الكنسيّة، أو كلّفوا الكهنة (الذين حلّوا مكان الشيوخ) أو الشمامسة القيام ببعضها. فنلاحظ أنّه لم تعد الخدمة في الكنيسة، نتيجة لموهبة إلهيّة يلاحظها الأسقف والجماعة في أحد أعضائها، بل تلبية لتوكيل صادر عن الأسقف وحده.

كما تقول التنظيمات الرسوليّة، متوجّهة إلى الأساقفة: "كونوا أنتم بين العلمانيّين أنبياء ورؤساء، مدبّرين وملوكًا ووسطاء بين الله ومؤمنيه، معلّمين ومبشّرين بالكلمة، حافظين الكتب المقدّسة وكلام الله، وشهودًا لإرادته"[9]. وتقول أيضًا، متوجّهة إلى العلمانيّين، إنّ الأسقف "هو إلهكم على الأرض بعد الله، ويحقّ له من طرفكم كلّ احترام... وليقدَّر بالكرامة التي تُؤَدَّى لله"[10]. لم يعد الأسقف بوضوح "الأخ الأكبر"، بل الملك والسيّد، الذي يحصر كلّ المواهب في يدَيه ويديّ الطغمة الكهنوتيّة التابعة له، والتي شُبِّهَت بالكهنة اللاويّين[11] في العهد القديم.

يوجد في التنظيمات الرسوليّة توصية أخرى للأساقفة تقول: "أيّها الأساقفة، كونوا على رأي واحد وانشدوا السلام في ما بينكم....فلا يكن بينكم انشقاق"[12]. يبدو أنّ هذه التوصية لم تُحترَم كثيرًا، نظرًا للمشاحنات والخلافات بين الأساقفة التي عمّت التاريخ الكنسيّ.

أمّا العلمانيّون، فرغم البقاء على تسميتهم في التنظيمات الرسوليّة، "كنيسة الله المختارة، كنيسة الله المقدّسة الكهنوتيّة... المكتوبة في السماء، كهنوتًا ملوكيًّا، أمّة مقدّسة وشعبًا مقتنى، وعروسًا مزيّنة للربّ الإله"[13]، فأفرغت التنظيمات هذه العبارات من معانيها، ولم تترك عمليًّا للعلمانيّين سوى الطاعة. فتطلب منهم ألّا "يفعلوا شيئًا بدون الأسقف"[14]، وأن يؤمّنوا معيشته و"معيشة مَن هم معه من رجال الإكليروس"[15].

من الواضح أنّ "فساد الملح" ابتدأ في القسم الثاني من القرن الثالث، وأنّ كنيسة "الإمبراطوريّة" فقدت شبهها بالكنيسة الأولى. لم تكن الكنيسة الأولى من هذا العالم، أمّا كنيسة الإمبراطوريّة فانزلقت عميقًا في هذا العالم. رافق هذا الانزلاق وإقبال أعداد كبيرة من المهتدين الجُدد بدون تهيئة كافية، إلى إضعاف حياة الجماعات الروحيّة. فتركها أفضل عناصرها مؤسّسين الرهبنة للمحافظة على النمط الحياتيّ الأوّل. يوجد في التنظيمات الرسوليّة بعض التناقض والضياع، إذ احتفظت أحيانًا بالمعايير القديمة وتكيّفت في أحيان أخرى بالأوضاع الراهنة المتغيّرة.

الآباء القدّيسون

انتفض عدد من الأساقفة القدّيسين والرهبان والعلمانيّين الورعين ضدّ ارتخاء الجماعات المسيحيّة، ونادوا بالعودة إلى الأصول الإنجيليّة، وذلك في مراحل مختلفة من مسيرة الكنيسة. ندعو هؤلاء الآباء القدّيسين. يحلو للأرثوذكسيّين عامّة التدغدغ بأقوالهم، لكن بدون التشبّه بحياتهم. أقوالهم كثيرة، سنكتفي بذكر اثنتَين منها:

كتب القدّيس باسيليوس الكبير في رسالة إلى أسقف، قائلاً: "الأحرى بنا أن نزول، نحن الأساقفة، وتعيش الكنائس في وئام متبادل، على أن نعاين كيف تلحق صراعاتنا السخيفة والحقيرة الأذيّة بشعب الله"[16]. ويقول المغبوط أوغسطين، متوجّهًا إلى رعاياه العلمانيّين: "يخيفني ما أمثّله تجاهكم، ولكن يريحني ما أشارككم فيه. بالنسبة إليكم، أنا الأسقف. أمّا معكم فأنا مجرّد مسيحيّ. يشير لقب الأسقف إلى مسؤوليّة يتحمّلها المرء. أمّا إسم المسيحيّ، فهو إسم النعمة الممنوحة إلينا جميعًا. نحن الأساقفة خدّامكم ورفاقكم في آن... نحن رؤساءكم ومرؤوسون لكم في آن. نسير في طليعتكم فقط إن كنّا نُسهم في خيركم. إذا لم يتصرّف الأسقف هكذا، فلن يبقى أسقفًا بالحقيقة، بل يحمل اسمًا على غير مسمّى"[17].

الآباء المعاصرون

لم ينتهي عصر الآباء، ولا يزال بعضهم يثور على الانحرافات كحالة الإكليريكانيّة المتنامية، وتفرّد الأساقفة وسلطويّتهم، واستعمال الكنيسة أساليب العالم في أفعالها.

كتب دانيال تشيبوتيا (الآن بطريرك رومانيا)، قائلاً: "يجب أن تكون البُنى الكنسيّة بُنى مشاركة وخدمة وحسب، إذ ليس هدفها الرئيس إقامة نظام بالمعنى القانوني للكلمة، أو حتّى وحدة من النوع المؤسّساتي، بل خلق انسجام في المحبّة الأخويّة، وتاليًا وحدة شراكيّة مبنيّة على بذل متبادل للذات، على غرار البذل المتبادل بين أقانيم الثالوث"[18]. ويقول في الطاعة: "علينا السهر على أن نبقى مطيعين، شرط إعادة المعنى الكنسيّ للطاعة، إذ يبدو أنّه يوجد شطط في الفهم الشائع لها. ليس هدف الطاعة في الكنيسة أبدًا الحفاظ على النظام بواسطة القضاء على المحبّة الأخويّة أو على شخصيّة "الصغار". ولا الطاعة رفع الآمِر وإذلال المطيع، بل أن تصبح حياة الطرفَين بذل للذات من خلال خدمة متبادلة محرّرة، ومسؤوليّة مشتركة من أجل بناء الكنيسة"[19]. بالحقيقة، الطاعة المسيحيّة دومًا متبادَلة، كما قال أحد آباء الصحراء: "طاعة مقابل طاعة: فمَن يطيع الله يطيعه الله"[20]. ونبّه الأنبا بيمِن أنّه على "مَن يترأس أن يكون دائمًا قدوة لا مشرِّعًا"[21]. فهل مشهد ما يفعله عدد من رؤساء كنائسنا يشكّل قدوة؟

الواقع الأليم

النظر إلى واقعنا الكنسيّ بواقعيّة، يجعلنا نعتبر أقوال آبائنا كأنّها آتية من عالم آخر. عبّر الأب نقولا أفاناسييف عن هذا الواقع الأليم بقوله: "أدخل التاريخ تعديلات جسيمة في الحياة الكنسيّة، وابتكر أشكالاً تختلف جذريًّا عن الأشكال الأولى، زارعًا مفاهيم غريبة". وأضاف: "علينا أن نجاهد اليوم لنتخلّص من الأشكال التي تعوّدنا عليها، والعودة إلى الأشكال القديمة التي تبدو لنا مستغرَبة"[22].

ليس هذا الكلام وحيدًا. يعي كثيرون من أعضاء شعب الله، في أيّامنا، خطورة ما وصلنا إليه، وضرورة العودة إلى تقليد الكنيسة الحيّ، هذا التقليد الذي أغرقته تقاليد بشريّة وانزلاقات تاريخيّة في مجموعة من المحظورات المسبوكة بلغة لا تحاكي الناس. جعلنا من التقاليد البشريّة وبعض القوانين والتيبيكونات المتروك تفسيرها وتطبيقها إلى هوى الناس، أحكامًا "مقدّسة" تحلّ غالبًا مكان الأحكام الإنجيليّة والرسوليّة. كنيستنا تكاد تعيش في الماضي، وتخاف من كلّ جديد وتغيير حتّى إن كان يقضي العودة إلى الينابيع. فأضحت في كثير من الأحيان متحفًا يغمر كنوزه كثير من الغبار.

فما القول في مشهد انقسامات كنائسنا وخلافات أساقفتها حول "حقوق" كراسي أو أشخاص. يفوق تعلّق بعض كنائسنا بانتمائه العرقيّ إنتمائها إلى المسيح. نعيش فعلاً في هرطقات بيّنات، ولا أحد يبدو مهتمًّا!؟ صرخ مرّة المطران جورج (خضر)، قائلاً: "هذه الجماعة التي تأكل جسد الربّ تأكل نفسها بالكراهيّة". كم هو على حقّ! ما العمل إذًا أمام "فساد الملح" هذا؟

الروح القدس والمجمع

لن نستطيع أن نفعل شيئًا وحدنا. وحده الروح القدس يمكنه أن يمنع الملح من الفساد ويُعيد إليه نكهته الأصليّة. وحده يحيي كنيسة الإبن، إذا كفّ شعب الله من أسره في قيود أنانيّته. على هذا الشعب أن يريد لأنّ الروح دائمًا مستعدّ. مشكلتنا أنّنا لا نتّكل عليه، الذي يحمل كلّ جدّة، بل على عاداتنا التي مرّ عليها الزمن. مرجعيّتنا منظومة "الأسياد" التي أوصلتنا خطايانا إليها!

لا تعود أيّ رعيّة، أبرشيّة أو كنيسة مستقلّة كنيسة المسيح إن رفضت جدّة الروح، وأغلقت على نفسها، وافتخرت بإنجازاتها، واعتبرت أنّ بإمكانها الاستمرار في كونها هذه الكنيسة رغم تجاهلها الآخرين. رغم تجذّر كلّ أسقف وكلّ جماعة إفخارستيّة في مكان معيّن، إلّا أنّهما في شركة مع باقي الجماعات الإفخارستيّة وأساقفتهم، على صعيد المنطقة والعالم. تظهر هذه الشركة في المجمع الذي يضمّ الأساقفة منطقة جغرافيّة معيّنة بصفتهم ممثّلين لجماعاتهم الإفخارستيّة. وتظهر على الصعيد العالميّ في المجمع المسكوني. لا بدّ لكلّ مجمع أن يكون له "أوّل بين متساوين"، وليس "أوّل بدون متساوين" primus sine paribus حسب هرطقة مستحدثة[23].

الهرطقات المعاصرة

 أدّت هذه الهرطقة ومثيلاتها، خاصّة المتعلّقة بالانتماء العرقيّ، إلى قطع الشركة الإفخارستيّة بين كنيستَين أرثوذكسيّتَين، السنة 1966، ولأوّل مرّة في التاريخ الأرثوذكسيّ الحديث، لا لسبب عقائدي، بل لخلاف إداري حول صلاحيّات وحدود جغرافيّة في إستونيا. وما إن حُلَّت هذه المشكلة حتّى حدث قطع للشركة آخر، السنة 2015، قرّره الكرسيّ الأنطاكي تجاه بطريركيّة القدس. وكان ذلك أيضًا لسبب إداري يتعلّق بالحدود الجغرافيّة. ومن الملاحَظ أنّ قطع الشركة هذا حُصِر بالإكليريكيّين، كأنّهم يشكّلون جسمًا منفصلاً عن باقي المؤمنين! بالرغم من عدد المساعي، لم تُحَلّ هذه المشكلة حتّى الآن، ويبدو أنّ العالم الأرثوذكسيّ قد نسيها أو تناساها! وأخيرًا قطعت كنيسة روسيا الشركة الإفخارستيّة مع كنيسة القسطنطينيّة، بسبب الخلاف الإداري أيضًا حول أوكرانيا. وقد امتدّت هذه القطيعة إلى كنيسة اليونان وبطريرك الإسكندريّة الذين اعترفا بالكيان الذي أنشأه البطريرك المسكونيّ في أوكرانيا. ويُخشى أن تمتدّ القطيعة إلى كنائس "يونانيّة" أخرى إذا حذت حذو القسطنطينيّة.

لا نيّة لي التبحّر في أسباب هذه الانشقاقات، ومسؤوليّات جميع الكنائس فيها. إنّها خليط بين الانضباط القانوني الكنسيّ وخلافات حول "صلاحيّات"[24] رؤساء الكنائس وأسباب سياسيّة. إن دلّت على شيء تدلّ على انغماس كنائسنا في فكر العالم، الذي يقاصص مَن يخالفه الرأي بالمقاطعة الاقتصاديّة. أمّا نحن، ويا للأسف، نقاصصه بمنعه من الزاد السماويّ، كأنّنا نمتلكه!

من المحزن بمكان أن يكون الإنسان اليوم أرثوذكسيًّا! ومن المؤسف الملاحظة أنّ شؤون الكنيسة لا تُدار غالبًا بموجب فكر المسيح، لا بل بعيدًا كلّ البعد عن المحبّة التي يُفترَض أن تكون "السلاح" الوحيد المُتاح للذين يؤمنون به. تمنّى باسيليوس الكبير من أحد الأساقفة أن "ينبذ من نفسه فكرة أنّه لا يحتاج أن يكون في شركة مع أحد. لأنّه لا يمكن للإنسان الذي يعيش في المحبّة أو يسعى لحفظ ناموس المسيح، أن يقطع الشركة مع إخوته"[25]. وكتب في رسالة أخرى وجّهها إلى أثناسيوس الكبير: "عليك الاهتمام بعدم حصول انشقاق بين الكنائس... خوفًا من أن ينقسم الشعب الأرثوذكسيّ إلى فئات متعدّدة، ويتبع الرؤساء في انشقاقاتهم. علينا بذل كلّ جهد ليحلّ السلام قبل أيّ شيء آخر"[26]. أيوجَد مَن يسمع؟!

تساؤلات

يحقّ لنا أن تساءل إن كان رؤساء بعض كنائسنا يأخذون "ناموس المسيح"، الذي يتكلّم عنه باسيليوس الكبير، على محمل الجدّ، أو أنّهم يعتبرون أنّ صلاحيّاتهم ومراكزهم أهمّ منه؟ أيؤمنون فعلاً أنّ الإفخارستيّا نفسها تكوّن كنيستهم وكنيسة إخوانهم في الإيمان قبل قطعهم للشركة؟

المجمع

يجب أن تُبحَث كلّ الأمور الخلافيّة في مجمع، كما كان يُصار في الحقبة البيزنطيّة. لكن لم يعد يوجد إمبراطور لدعوة مثل هذا المجمع. من جهة ثانية، فإنّ خبرة "مجمع" كريت لم تكن ناجعة. الكنيسة الأرثوذكسيّة هي اليوم في مأزق حقيقيّ. نحن أمام رؤيتَين لمفهوم الكنيسة تتخاصمان. تشدّد القسطنطينيّة على الأولويّة "بدون متساوين"، ويشدّد آخرون على المساواة بين الكنائس. إنّه جدال عقيم لمَن يريد أن يكون مسيحيًّا مؤمنًا بالوحدة في التعدّديّة. يبدو أنّ هذا النزاع سيطول في ظلّ افتقاد الثقة المتبادلة، والمصالح السياسيّة التي يفتقد رؤساء الكنائس الجرأة لمقاومتها. سيطون الانشقاق إلى ما شاء الله، إذا لم تقرّر كنائس أرثوذكسيّة أخرى التدخّل و"إجبار" المتخاصمين قبول إلتئام المجمع.

أخويّات أرثوذكسيّة؟

عاشت الأرثوذكسيّة في الماضي أوضاعًا مأساويّة مماثلة، حيث تخلّى أساقفة عن مسؤوليّاتهم وتركوا رعاياهم. حدثت إحدى هذه المناسبات في القرن السادس عشر، في منطقة تقع بمجملها في أراضي أوكرانيا وروسيا البيضاء الحاليّتَين. نجت الكنيسة آنذاك بواسطة تحرّك أخويّات ضمّت رهبانًا وعلمانيّين تجنّدوا للدفاع عن الأرثوذكسيّة، فأعانهم الله.

نسأل الروح القدس أن يُلهم بعض أساقفتنا ورهباننا ولاهوتيّينا وعلمانيّينا للقيام بمثل هذا التحرّك. بدون التحزّب لخصومات المتنازعين، عليهم أن يصلّوا معًا ويتشاركوا في القدسات (رغم المحظورات)، فيخلقون بعون الله وعيًا بين الأرثوذكسيّين أنّ كنيستهم تتفتّت، وأنّ الوقت قد حان "لقلب موائد" الذين يتاجرون بالمقدّسات. وقد حان الوقت لنا جميعًا للتوبة والاستعداد إلى تأكيد "الرجاء الذي فينا" (1 بطرس3: 15).

 



[1]  في المحاضرة التي ألقاها في اجتماع اللاهوتيّين الأرثوذكسيّين الأخير في روما.

[2]  يقول باسيليوس الكبير إن "الأمين" كان يطنّ في كنيسته كصوت الرعد.

[3]  المغبوط أوغسطين، العظة 25.

[4]  خاصّة كتاب الديداكية (أوائل القرن الثاني)، والتقليد الرسولي (نحو 215) والديداسكالية (أوائل القرن الثالث).

[5]  الأب سرج بولغاكوف، أحد كبار اللاهوتيّين الأرثوذكسيّين في القرن العشرين، في كتاب العروس والخروف، منشورات لاج دوم، ص 214.

[6]  في الفصل الثاني عشر.

[7]  أو القوانين الرسوليّة وهي مجموعة من الأنظمة المسيحيّة وُضعت السنة 380 غالبًا من قبل أسقف في شمال سورية، وقد استعان ببعض فصول الديداكية والتقليد الرسولي والديداسكاليا أو تعليم الرسل الإثني عشر.

[8]  مثلاً النصوص الإقليمنسية، التي هي نصوص منحولة وُضعت غالبًا في القسم الأوّل من القرن الثالث، وقد ضمّ نصوصًا ذات نمط مسيحيّ يهوديّ من أواخر القرن الثاني.

[9]  البند 7 من الفقرة 25 من الكتاب الثاني.

[10]  البند 4 من الفقرة 26 من الكتاب الثاني.

[11]  التنظيمات الرسوليّة، البند 7 من الفقرة 25 من الكتاب الثاني.

[12]  المرجع عينه، الكتاب الثاني، الفقرة 44، البند الثاني.

[13]  المرجع عينه، الكتاب الثاني، الفقرة 26، البند 1.

[14]  المرجع عينه، الكتاب الثاني، الفقرة 27، البند 1.

[15]  المرجع عينه، الكتاب الثاني، الفقرة 34، البند 3.

[16]  الرسالة 204، 7.

[17]  العظة 32.

[18]  في مقال في الكنيسة سرّ الشركة والحريّة في عالم موسوم بالخطيئة والمحدوديّة، نشرة سوب، رقم 103، 1985، ص 18.

[19]  المرجع عينه، ص 21.

[20]  من أقوال الآباء الشيوخ.

[21]  مذكور في مقال تشيبوتيا، المرجع عينه، ص 21.

[22]  كنيسة الروح القدس، منشورات سرف، 1975، ص 347.

[23]  أوّل من كتب فيها المطران إلبيدوفوروس رئيس أساقفة الكنيسة اليونانيّة في الولايات المتحدة وأحد المقرّبين للبطريرك المسكوني الحالي.

[24]  لا صلاحيّة لأي رئيس كنيسة إلّا بذل الذات والمحبّة والخدمة.

[25]  الرسالة 65.

[26]  الرسالة 66.

المشاركات الشائعة