دعوة المسيح إلى الحريّة والحياة

 

ريمون رزق - آب 2012


سلطة وطاعة

لا بدّ أنّكم اطلعتم على النقاش الدائر في الأوساط الكنسيّة الأنطاكيّة حول السلطة والطاعة. يزعم البعض، وهم غالبًا من الأساقفة وبعض الكهنة، أنّه يجب أن نطيع الأسقف طاعة عمياء، بينما يؤكّد البعض الآخر أنّ لا طاعة موجبة إلاّ للمسيح، وللأسقف بقدر ما يحبّ ويطيع، لأنّه يظهر بجلاء في العهد الجديد أنّ "على أعضاء شعب الله أن يطيعوا بعضهم بعضًا، في الإيمان والمحبّة واحترام حريّة كلّ واحد منهم، مع الحفاظ على أوّليّة "الأوّل بين متساوين" الذي هو الأسقف المُقام من الله لرعاية شعب الله" (ريمون رزق، السلطة والطاعة في الكنيسة، المواهب في الكنيسة، ص. 32).

يبيّن النقاش الدائر على مفهومين متباينين لحقيقة الرسالة التي أتى بها يسوع الناصريّ، وتتعدّى بكثير موضوع ممارسة السلطة في الكنيسة، إذ تطرح مدى أمانة الكنيسة، اليوم وفي فترات لا بأس بها من تاريخها، لربّها وتطابق مماراساتها مع تعاليمه وممارسات رسله.

دعوة يسوع

تتمحور دعوة الربّ يسوع حول الحريّة، واليقظة والتوبة، والحياة الحقّة المبنيّة على  المساواة الكيانيّة بين البشر وتغيّر جذريّ للمفاهيم الاجتماعيّة الموروثة. إنّها ثورة حقيقيّة بكلّ معنى الكلمة. وكلّ سعي لتقنينها وتدجينها يُفقدها نكهتها، ويجعل منها إيديولوجيا من إيديولوجيّات هذا العالم، وإذّذاك لم تعد تلعب الكنيسة دورها كضمير العالم، في هذه الأيّأم الصعبة التي فقد معها العالم معرفة ضميره، على حدّ قول المطران جورج (خضر).

سأتلو عليكم بعض النصوص الكتابيّة التي تذكّرنا بما دعانا الربّ إليه والذي غالبًا ما نطمسه تحت غبار خطايانا وكسلنا.

دعوته إلى الحريّة

 يقول بولس الرسول (غلاطية 5: 1-13، 4: 26-31، ا كورنثوس 7: 22، 2 كورنثوس 3: 17): " حرّرنا المسيح لنكون أحرارًا. فاثبتوا إذًا ولا تعودوا إلى نير العبوديّة... فأنتم، يا إخوتي، دعاكم الله لتكونوا أحرارًا، ولكن لا تجعلوا هذه الحريّة حجّة لإرضاء شهوات الجسد، بل اخدموا بعضكم بعضًا بالمحبّة". 

ويقول يسوع نفسه، في إنجيل يوحنّا (8: 32 و36): "الحقّ يحرّركم... فإذا حرّركم الابن، صرتم بالحقيقة أحرارًا".

الله يقبل أن يخضع للحريّة التي وهبنا

يقول بعض الآباء: "الله قادر على كلّ شيء سوى أن يفرض محبّته على البشر". لأن المحبّة لا تفرض، بل تحترم حريّة الآخر، مع أنّ الله هو مَن أعطى هذه الحريّة للإنسان. قبل الله، محبّة بنا، أن يقف على أبواب قلبنا ويتسوّل محبّتنا. تكتمل عظمته الفائقة بالضعف الذي تقبّله بسماحه للآخر، الإنسان، أن يعيش حرًّا، أيّ بسماحه له أن يرفضه. وهذا هو سرّ يصعب إدراكه. لا يريد الله أن يعمل في العالم إلاّ بواسطة أناس قبلوه طوعًا، وقلوب تنفتح على محبّته بملء إرادتها.

كتب القدّيس نيقولا كابازيلاس، الذي عاش في القرن الرابع عشر: "يأتي الله إلينا معلنًا عن محبّته وراجيًا أن نبادله المحبّة... إن رفضناه، يبقى واقفًا أمام بابنا... مقابل كلّ ما صنعه لنا، لا يطلب سوى محبّتنا. إذا قابلناه هذه المحبّة يزيل ديننا كلّه" (الحياة في المسيح 6). ويذهب إلى القول إنّ القضيّة القضيّة ليست أوّلاً أن نحبّ الله، بل أن نتذكّر أنّه يحبّنا.

هذه هي الحقيقة الله وتاليًا حقيقة المسيحيّة. ولكن، ويا للأسف، تظهر المسيحيّة عند الكثيرين من معاصرينا، وعند بعض المسيحيّين أنفسهم، كأداة عبوديّة، "أفيونًا للشعب". فيعتبرون أنّ الله هو ضدّ الإنسان، وعدوّ حريّته. وعلى الإنسان تاليًا أن "يقتل" الله لكي يتحرّر. "حقيقة المسيحيّة، يقول اللاهوتي الفرنسيّ الارثوذكسيّ، أوليفييه كليمان، ليست بتصوير الله ضدّ الإنسان، أو الإنسان ضدّ الله. لا يكون الإنسان إنسانيًّا بالحقيقة سوى بالله. كان المسيح يدعو ذاته "ابن الإنسان"، أيّ الإنسان الحقّ، الذي يعني في المفهوم الكتابيّ، الإنسان السماويّ" (ديونيسيوس والقائم من بين الأموات، في الإنجيل والثورة أمام الإلحاد المعاصر، ص. 87).

الحريّة خاصّة الإنسان وحده

يقول القدّيس غريغوريوس النيصصيّ: "أيّها الإنسان، انظر إلى كرامتك الملوكيّة! لم تُخلق السماء على صورة الله مثلك، ولا القمر، ولا الشمس، ولا أيّ شيء آخر ممّا نرى في الخليقة. لا شيء في المخلوقات أهل أن يُقاس بعظمتك" (العظة الثانية في نشيد الأنشاد). ويتابع، كما يفعل عدد من الآباء، أنّ هذه العظمة تكمن في حريّة الإنسان. بما أنّنا خُلقنا على صورة الله، لا بدّ لنا أن نكون أحرارًا كما هو حرّ. حتمًا حريّة الله هي مطلقة وغير مشروطة، بينما في عالمنا الساقط، حريّتنا الإنسانيّة مرهونة بالوراثة، والبيئة، وخطايانا وتأثير رغباتنا غير الواعية. لكن مع هذا كلّه، تبقى حريّتنا البشريّة شعاعًا حقيقيًّا  عن حريّة الثالوث الإلهيّ.

كيف ننمّي هذه الحريّة فينا؟: التمثّل بالمسيح

هذه الحريّة التي يتكلّم عليها الربّ ثمار حدثين مزدوجين: حدث حصل في التاريخ، هو موت يسوع المنتصر على الموت وجميع ظلاله، وحدث علاقتنا الشخصيّة به، والتصاقنا الواعي في التفتيش عنه في كل مواضع سكناه.

 "أين وضعوا سيّدي؟ قالت المجدليّة. إن أردنا أن نعيش الحريّة التي أعطانا يسوع، علينا مثلها أن نسعى إليه هو وليس فقط إلى مَن يدّعي تمثيله، إذ لا أحدًا يمثّله حقًّأ وقد ارتضى أن يكون معنا باستمرار وإلى انقضاء الدهر. بالتمثّل بيسوع والعيش بموجب وصاياه فقط، نتمتّع بحريّتنا ونصبح أحرارًا.

أحرارًا من خوف الموت الذي يجعلنا عادة، بوعي أو غير وعي، نُسكِر ذواتنا بالملذّات والمخدّرات وأنواع الممارسات الجنسيّة، هربّا من الواقع وسعيًا وراء نشوة تنسينا الموت، لكنّها لا تدوم.

التصاقنا بيسوع واكتساب فكره يحرّرنا أيضًا من صنميّة الشريعة، كلّ شريعة، إذ، كما يقول بولس (رومية 6: 15): "لم نعد تحت حكم الشريعة بل تحت النعمة". فلم نعد نضع أمل خلاصنا باتّباع شرائع معيّنة وفرائض، بل نحصل على خلاصنا بانفتاحنا على نبرات الروح القدس الذي "يئنّ فينا". سبيلنا أن نردّد "أيّها الملك السماويّ المعزّي، هلمّ واسكن فينا،... وخلّص، أيّها الصالح، نفوسنا"، لأنّه "حيث يكون روح الربّ تكون الحريّة" (2 كورنثوس 3: 17).

علّمتنا الحركة كيف نتعرّف على يسوع وكيف نتمثّل به. وهذا يتطلّب جهدًا كبيرًا وجهادًا واستمراريّة في التفتيش عنه في كلّ مواضع سكناه. علّمتنا أنّه موجود ينتظر لقيانا في كتابه العزيز، وفي ليتورجيا كنيسته، وفي سرّ الشكر، وفي لقاء الصلاة الفرديّة وجها لوجه، والجماعيّة حيث تجتمع الكنيسة، وفي وجوه الإخوة وفي كلّ إنسان ضعيف، مضطهَد ومكسور ارتضى يسوع أن يسكن فيه. كما قال قديمّا المطران جورج، "إن برنامج الحركة الوحيد هو يسوع المسيح"، وكلّ برنامج آخر، ان لم يكن مرتبطا ارتباطّا وثيقا به يكون باطلاً.

كنيسة أنطاكية بحاجة اليوم أكثر من أيّ وقت مضى إلى أناس يتبتّلون للربّ ولا يريدون أن يعرفوا سواه. همّهم الوحيد إرضاءه وابتغاء وجهه. لا يفتّشون عن جاه أو تقدير أو شرف، إذ لا شرف لهم سوى شرف الخدمة وغسل أرجل الإخوة. بدون هذا السعي الدائم والدؤوب للالتصاق بالربّ والتخلّق بأخلاقه واكتساب فكره وحمل همّ التبشير بتعاليمه ونشر رسالته السارّة، لا قيمة لنا ولا حاجة إلينا. كثيرون هم المعلّمون. كثيرون هم المنظّرون. كثيرون هم الاسياد أو الذين يبتغون الوجاهة والسيادة. الكنيسة بحاجة الى هؤلاء الصغار الذين قرّروا أن يتبعوا يسوع حيث يريد أن يأخذهم، عالمين أنّ طرق الربّ تؤدي دومًا إلى صليب فقيامة. هكذا كانت الحركة في الأمس. فهل نحن على العهد باقون؟

الجرأة

يستعمل العهد الجديد عبارة يونانيّة هي "باريسيّا" التي تُترجم بكلمة "جرأة"، لكنّها تعني حقيقة جرأة واثقة، فخورة. وهي تعني حرفيًّا "حريّة قول كلّ شيء". هذه هي ثمرة الحريّة التي نحصل عليها بتمثّلنا بيسوع وابتغائنا روحه القدّوس.

تجعلنا أوّلاً هذه الجرأة نتصرّف تجاه الله كأبناء (أفسس 3: 12، عبرانيّين 3: 6، 4: 16، 1 يوحنّا 2: 28، 3: 21)، لأن "الروح الذي نلتموه (في المعموديّة) لا يستعبدكم  ويردّكم إلى الخوف، بل يجعلكم أبناء الله... وما دمنا أبناء الله فنحن... ورثة الله وشركاء المسيح... نشاركه في آلامه لنشاركه في مجده" (رومية 8: 15-17).

وتعطينا أيضًا جرأة كاملة لإعلان البشارة تجاه الناس، كما فعل الرسل بعد وعيهم للقيامة وحلول الروح عليهم (أعمال 2: 29، 4: 13).

هل تعطينا هذه الحريّة إمكانيّة فعل ما نشاء؟

ذكرنا سابقّا قول الرسول إلى أهل غلاطية ألاّ "تجعلوا هذه الحريّة حجّة لإرضاء شهوات الجسد"، وتكونوا "عبيد للمفاسد"، كما يقول بطرس الرسول (2 بطرس 2: 19). نعم، يقول بولس: "كلّ شيء يحلّ لي، ولكنّي لا أرضى بأن يستعبدني أيّ شيء" (1 كورنثوس 6: 12). وأيضًا: "كلّ شيء حلال، ولكن ليس كلّ شيء يبني" (1 كورنثوس 10: 12). أنا عبد المسيح، لا بل أخوه وابن أبيه بالتبنّي. فلا يليق بي، إن أردت أن أبقى على الحريّة الموهوبة إليّ، أن أنسى أنّي ملكه، وأنّ استعمال حريّتي الحقيقيّ يقضي بالعيش مثله، أيّ أن أسخّرها من أجل الخير وخدمة الآخرين.

الحريّة والمحبّة

تكتمل الحريّة بالمحبّة. أستغني عنها إن كانت تضرّ أخي. ليس هذا انتقاص للحريّة بل طريقة أسمى لممارستها. أنا حرّ بموجب صورة الله المغروسة في كياني، والتي جدّدتها المعموديّة، وأصل إلى "مثال" الله بخدمته وخدمة إخوته هؤلاء الصغار. أنا حرّ بلا شكّ، بل أقبل أن أصير عبدًا لإخوتي، لأتشبّه بالمسيح، الابن الذي جعل نفسه خادمًا للجميع.

الطاعة والحريّة والمحبّة

لذلك، وبالعودة إلى موضوع الطاعة، أطيع بقدر ما أحبّ وأُحَبّ. المحبّة هي المعيار، وفي الكنيسة تترافق مع الإيمان والحقيقة. تطيع المرأة زوجها لأنّه يحبّها ويبذل نفسه من أجلها، وهي أيضًا تقابله بالمثل. أحترم الأسقف وأطيعه إن كان يوزّع باستحقاق كلمة الحق، ويرعى شعب الله بمحبّة وتفانٍ، محترمًا مواهب الجميع ومفعّلها لخدمة الكنيسة جمعاء. لا إكراه بالطاعة، ولا فرضيّة مفروضة. لا يُفرض شيئًا لدى يسوع، بل نعطيه كلّ شيء لأنّه أحبّنا بشكل جنونيّ، ودعانا إلى التألّه.

فيجب أن يسود الكنيسة هذا التناغم العضويّ بين الاحترام المتبادَل والمحبّة والطاعة المرتبطة باحترام الحريّة والمواهب. ليست الكنيسة مؤسّسة بامتياز، وإن كان لا بدّ أن يكون لها طابع مؤسّساتيّ نخضعه غالبًا، وأحيانًا عن حق، لانتقادات لادعة جمّة. علينا أن نسعى دومًا إلى التوفيق بين طابع الكنيسة المؤسّساتيّ وطابعها المواهبيّ، النبويّ. كلّ كنيسة يصمت فيها صوت الأنبياء تصبح حتمًا مؤسّسة يسيطر عليها النظام الخارجيّ، القامع أحيانًا، تفقد نكهتها الإنجيليّة.

اليقظة والتوبة

"انهض أيّها النائم وقم من بين الأموات، فيضيء لك المسيح" (أفسس 5: 14 ).

"أنام لكنّ قلبي صاح، وأسمع حبيبي يقرع" (نشيد الأنشاد 5: 2).

"ها هو الختن يأتي في نصف الليل، فطوبى للعبد الذي يجده مستيقظًا... فيا نفسي لا تستغرقي في النوم بل كوني منتبهة" (طروباريّة سحر صلاة الختن).

"اسهروا وصلّوا لأنّكم لا تعرفون متى تأتي الساعة" (مرقس 13: 33).

"لماذا أنتم نيامى؟" "ما بالكم خائفين؟ أما عندكم إيمان؟" (مرقس 4: 40).

"كتبت إليكم أيّها الشبّان لأنّكم أقوياء وكلمة الله مقيمة فيكم وقد غلبتم الشرّير" (1 يوحنّا 2: 14). "لا يستخفنّ أحد بحداثتك" يقول بولس لتيموثاوس، "بل كن قدوة للمؤمنين بالكلام والسيرة والمحبّة والإيمان والعفاف" (1 تيموثاوس 4: 12) "واجتنب الكلام الفارغ والجدل الباطل الذي يحسبه الناس معرفة" (1 تيموثاوس 6: 20).

عليكم إذًا، أيّها الإخوة الشباب، إن أردتم أن تتمتّعوا بحريّتكم أن تكونوا يقظين، واعين، ناظرين إلى خطاياكم قبل النظر إلى هفوات الآخرين. أنا متيقّن أنّكم قادرون على ذلك. "لكن عليكم أوّلاً الاقتناع بأنّكم أعضاء فعليّون في الكنيسة، وبأنّ الربّ نفسه يدعوكم إلى الاضطلاع بمسؤوليّاتكم فيها، وأنّ عليكم أن تطالبوا بالمكانة التي هي من حقّكم في كلّ نواحي حياة الكنيسة والحركة من دون غطرسة وكبرياء، إنّما بصلابة وضمن سهر دائم على احترام "الأوّل بين متساوين" في مختلف صعد الحياة الكنسيّة. كذلك، عليكم أن تتيقّنوا بأنّكم قبل كلّ شيء خدّام، وأنّ الخادم، على غرار السيّد، يكون مستعدًّا لغسل أرجل إخوته. إنّ القداسة هي المغامرة الوحيدة التي تستحقّ أن يعيشها الإنسان. فعصرنا بحاجة، أكثر من أيّ عصر آخر، إلى قدّيسين يعرفون أن يعطوا لرتابة الزمن طعم الأبديّة، بتذكيره أنّ الله يحبّنا... وأنّه افتدانا بثمن باهظ، وأنّه ينتظر، محترمًا حريّتنا أن نفسح له زاوية في قلبنا. عليكم أن تخوضوا هذه المغامرة التي ستحملكم، في يوميّات حياتكم، إلى اكتشاف وجه يسوع الداميّ والمنير في آن.عليكم أن تساهموا في خلاصكم ههنا، في هذا العالم، في خضمّ صراعات البشر، باتّحادكم مع الآخرين ومحبّتهم. فالهروب، حتّى في ما يسمّيه كثيرون الروحانيّات لن يجديكم نفعًا، لأنّ أيّام الغيتويات، حتّى الروحيّة منها، قد ولّت. المسيح قد تجسّد وروى بدمه أرض البشر. فاستيقظوا وتوبوا، لأنّ ملكوت الله قد حضر. لا تخافوا إذًا إن تلوّثت أيديكم في أوساخ هذه الأرض. لا يوجد من مقابل جدير بشبابكم تبادلون به حبّ المسيح الجنونيّ سوى أن تظهروا له وللذين اختار أن يسكن فيهم حبًّا مماثلاً. استيقظوا وفتّشوا عن المحبوب بحميّة وإلحاح، واعلموا أنّه أيضًا وأساسًا يسكن في قريبكم ومَن تعايشون. لا تهملوا أيّ مكان يمكن أن يركن إليه، لأنّ الربّ يأتي في نصف الليل، في اللحظة التي لا ننتظره فيها" (رر، إلى الشباب، الحياة في المسيح، ص.12-14). إنّكم مسؤولون بخاصّة عن كلّ شاب من جيلكم لا يستطيع بسبب تنافر اللغة أو الطريقة أن يفهم رموز كنيستنا ويكتشف المسيح في كنيسته. عليكم أن تقولوا لنا ماذا يجب أن نفعل. الأمر ملحّ، فلا تخجلوا على التعبير عن أفكاركم. ليس من الضرورة أن يحصل الإنسان على شهادة في اللاهوت ليكون لاهوتيًّا، إذ "اللاهوتي، في كنيستنا، هو مَن يعرف أن يصلّي".

ولا يجب أن يختصر همّكم التبشيريّ هذا على الشباب. فغالبًا ما ينتظر الآباء كلمة من أبنائهم لكي يهتدوا. أنتم تتمتّعون بالقوّة لتحملوا على أكتافكم كلّ ضيق العالم. فحطّموا الأغلال واخرجوا من الغيتويات، ومنها غيتو الحركة والكنيسة.

إنّكم مدعوّون إلى زحزحة الجبال. لا تقبلوا الحلول الوسطى السهلة المنال، أو الحلول التي من باب "رفع العتب". عليكم حمل راية المسيح. فلا تنسوا أنّ الراية لا توضع في الجيب كالمنديل أو المحرمة، بل تًرفع عاليًا في وجه العالم.

اصنعوا الأمور العاديّة بطريقة غير عاديّة، أيّ بالمحبّة. كونوا على يقين أنّ العالم الذي وضعنا فيه الله هو المطرح الذي نمارس فيه قداستنا. تذكّروا دومًا قول الربّ للتلاميذ" "لماذا تدعوني يا ربّ ، يا ربّ، ولا تعملون بما أقول؟" (لوقا 6: 46). فعلينا التلألىء بنور القيامة وفرحها، لكي يشعّ هذا الفرح وهذا النور في ظلمات العالم. المسيحيّ إنسان ثورويّ. فلا تقبلوا بالقناعة والخمول. كنيستنا فيها وهن، تعالوا فكنّسوه. كباركم بحاجة إلى قوّة حداثتكم وشبابكم. أنتم سفرائنا إلى العالم والحداثة. علّمونا كيفيّة مخاطبته بتواضع وفعاليّة. لا تجترّوا تعاليم الكنيسة، بل اجعلوها طعامًا تأكلوه وتعيدوه بلغتكم الخاصّة والتعابير التي يفهمها أترابكم.

كلّنا يعلم أن هناك تهاون و سقطات وأن الزوأن غالبًا ما يختلط بالقمح. وهذا طبيعيّ إذ نحن كلّنا بشر وخاطئون. المهم ألاّ نبقى على خطايانا متعلّلين بعللها. فلا ننسى أبدًا أنّنا خاطئون يٌغفر لهم، إذا أقبلوا على التوبة.

 الحركة مثلنا تتأرجح بين واقع مرير أحيانًا وبين المرتجى. نحن قائمون على الرجاء شرط أن نكمل السعي ولا نمل. تجربة العصور الذهبيّة والأمجاد العابرة هي تجربة أرثوذكسيّة بامتياز. لم يكن الأمس كلّه ساطعًا منيرًا، كما وأنّ روح الله يطلّ على شبابنا اليوم بإطلالات ساحرة. المهم أن نبقى على اليقظة ومساءلة نفوسنا وأوضاعنا على ضوء محبّتنا الأولى والاتّكال على الربّ الذي يستطيع أن يجعل من الحجارة أولادًا لإبراهيم. عليكم دومًا أن تتسائلوا هل أنتم حقًّا تلاميذ يسوع تربطكم به علاقة شخصيّة حميمة وتسعون إلى التخلّق بأخلاقه؟ وهل أنتم حاملون حقّا همّ الكنيسة وتتمزّقون إذا شاهدتم عيوبًا فيها، وإذا لاحظتم أنّ معاصينا تحول دون إبراز وجه المسيح وهبوب روحه القدوس فيها ؟

مسؤوليّتكم، أيّها الشباب، إظهار جماعتنا الحركيّة متجذرّة في الموعظة على الجبل، مجسّدة الفكر الإنجيليّ في الحياة اليوميّة وفي علاقاتنا مع الآخرين. العالم ليس بحاجة الى عقائديّين معلّميّ المسكونة، بل إلى أناس يقتدون بالمسيح، فيبرهنون بمسلكهم الحياتيّ أنّ الحياة ليست عبثيّة بل هي "تقدمة وخدمة ومشاركة وورشة للملكوت الآتيّ"، على حدّ قول الأخ كوستي بندلي. أبهر المسحيّيون الأوائل العالم الوثنيّ بعيشهم قيامة الربّ ومحبّتهم لبعضهم البعض وخدمتهم للإنسان، فاقتحموه وجعلوا المسيح يتغلّب عليه. لا اقتحام ولا غلبة على الوثنيّة المعاصرة إلاّ بأناس يعيشون على مثال الأوائل، متسلّحين بالزهد بالمغريات الأرضيّة، ومتعلّقين بروح المجانيّة وفرح العطاء، والحنان على كلّ مخلوق، ومصمّمين على مشاركة الإخوة في كلّ شيء.

العيش المبنيّ على المساواة بين البشر والتغيّير الجذريّ لمفاهيم العالم

يقول نصّ من القرن الثاني، يُدعى الرسالة إلى ذيوغنيطس، إنّ "المسيحيّين لا يختلفون عن سواهم من أبناء البشر في الوطن أو اللغة أو اللباس. فالواقع هو أنّهم لا يقطنون مدنًا لهم من دون سواهم، ولا يتكلّمون لغة غريبة خاصّة بهم... يحترمون العادات المحلّيّة بكلّ ما يختصّ بالملبس أو الطعام أو طريقة العيش، ولكنّ أسلوب معيشتهم يستوجب الإعجاب والإقرار بأنّه غير متوقّع، يأتيهم من كونهم أعضاء في جماعة ملهَمة من روح الله... وكلّ بلد أجنبيّ وطنٌ لهم، وكلُّ وطن لهم بلدٌ غريب... هم في العالم، ولكنّهم لا يعيشون بمقتضاه. يجدون أنفسهم بالجسد، ولكنّهم لا يعيشون للجسد. يقضون أيّامهم على الأرض، ولكنّهم مواطنو السماء. يطيعون القوانين المرعيّة، ولكنّهم يتقيّدون بأكثر منها في حياتهم الخاصّة... يحبّون جميع الناس، ولكنّهم يُضطهدون... يُقتلون، وبالموت يكسبون الحياة. إنّهم فقراء، ولكنّهم يُغنون كثيرين. يعوزهم كلّ شيء، ولكنّهم ينعمون بكلّ شيء. يُحتقرون، وبذلك يجدون المجد... يُفترى عليهم، ولكنّهم يُبررّون. يُجدّف عليهم، ولكنّهم يُبارِكون. يهانون، ولكنّهم يُكرِّمون. يعملون الخير فيُجازون كأشرار، ولكنّهم يفرحون لأنّهم يحبّون.

باختصار، إنّ المسيحيّين هم للعالم كما الروح للجسد. وكما أنّ الروح تسكن كلّ أعضاء الجسد، فإنّ المسيحيّين يقطنون كلّ مدن العالم. وكما أنّ الروح تسكن في الجسد وتظلّ ليست منه، فهكذا المسيحيّون يسكنون في العالم، ولكنّهم يظلّون غرباء عنه. وكما أنّ الروح غير المنظورة تُحبس في الجسد، فهكذا المسيحيّون... ومع أنّ النفس لا تسيء إلى الجسم، فإنّ الجسم يكرهها ويحاربها، لأنّها تعيقه عن الانغماس في الملذّات. فالمسيحيّون كذلك لا يسيئون إلى العالم، لكنّ العالم يكرههم، لأنّهم يقاومون ملذّاته. والنفس تحبّ الجسد الذي يكرهها كما أنّ المسيحيّين يحبّون الذين يكرهونهم. وكما أنّ النفس تُحبس في الجسد، ولكنّها تشدّه إلى بعضه، فإنّ المسيحيّين، أيضًا، يُحبسون في العالم، ولكنّهم يشدّونه بعضه إلى بعض. وكما أنّ النفس الخالدة تسكن في مسكن فانٍ، فإنّ المسيحيّين، أيضًا، يعيشون غرباء بين الأشياء الفانية، منتظرين الخلود في السماء. وكما أنّ النفس تتحسّن بتقنين المأكل والمشرب، كذلك المسيحيّون. مع أنّهم يُضطهدون، فإنّهم يتكاثرون يومًا بعد يوم. إنّ المسؤوليّة، التي أوكلها إليهم الله، هي على قدر كبير من الأهمّيّة، لا تسمح لهم بالانعزال عنها".

هل تشبه حياتنا وحياة جماعاتنا الكنسيّة هؤلاء؟ "أمّا أنتم فلستم هكذا". هذا ما قاله الربّ لتلاميذه. فهل نحن حقًّا "غير شكل" عن الباقين؟ هل نجرؤ ونقول لمّن يسألنا على إيماننا: تعالى وانظر! انظر إلينا، إلى فرقنا، إلى رعيّتنا، إلى كنيستنا الأنطاكيّة؟ هل يدرك الناس إن عاشرونا أنّ الإنسان لا يعيش بالخبز فقط، بل من كلّ كلمة تصدر عن الله؟ وأنّه لا فائدة إذا غلب الإنسان العالم كلّه إن خسر نفسه؟

يسوع قلب المقاييس. تعدّى كلّ مفاهيم الطاهر والمدنّس، والمقدّس والدنيويّ. رفض كلّ رفضيّة الشريعة. دحض تجربة الإنسان في خلق أعداء له لكي يطفي عليهم قلقه. لا أعداء عنده ولا عداوة. "أحبّوا أعداءكم" هي وصيّته العظمى. إن اعتبرنا أنّها غير قابلة للتطبيق، فنحن غير مسيحيّين. يمكننا أن نحبّ الأعداء فقط عندما يموت الموت في داخلنا، وتزول الكراهيّة، وتحلّ محلّهما حياة القائم من بين الأموات. فلا نعود بحاجة أن نفتّش عن كبش المحرقة، ويصير الإنسان الآخر شريكنا في الإنسانيّة، رفيق جهاد، مدعو مثلنا إلى التألّه. فلنلاحظ أنّ يسوع يعطي مثال السامريّ الشفوق ليشير إلى مَن تعدّى جدران العرق والاختلاف العقديّ والسياسيّ، وترأّف على الغريب قريبه الذي ليس من أبناء جنسه. وكذلك، أعلن لامرأة سامريّة، أيّ غريبة، وزانية، أيّ مرذولة، أهمّ ما قاله عن عبادة الله "بالروح والحقّ". لا يخضع يسوع لأيّ تصنيف، مع أنّ الكنائس والمجتمعات المسيحيّة لا تكفّ عن إرادة تصنيفه، لجعل رسالته أقرب إلى "المعقول". تارة تجعل منه ملكًا، وهو رفض كلّ ملكيّة. وتارة أخرى تلبسه التيجان والألبسة الفخمة، وهو الذي لم يكن له مكان يسند إليه رأسه. وتارة تجعله يبارك الجيوش ويبرّر الحروب "العادلة"، وهو مَن قال لبطرس"أرجع سيفك إلى غمده". وتارة تجعل منه حليف المتسلّطين والأغنياء، وهو مَن طرد الباعة من الهيكل. وتارة تجعل منه حليف الثوّار، وهو مّن لم يأخذ موقفًا ضدّ قيصر، إذ أتى ليحرّر الإنسان أوّلا من خطاياه. لا، يسوع لا يمكن تصنيفه أبدًا. يتماثل مع الإنسانيّة جمعاء، الذين يعرفونه والذين يجهلونه: "كنت جائعًا، مريضًا، غريبًا، حبيسًا". أنا هو الذي تحاكونه في كلّ إنسان. فانتبهوا وعوا. وكما قال أحد آباء الصحراء: "أخشى ألاّ ألبّي طلب أيّ متسوّل، خشيتي من أن يكون المسيح"! يسوع هذا، الذي علينا الامتثال به، عكس كلّ المقاييس. يترك التسعة والتسعين ليفتقد النعجة الضائعة. يدفع لعمّال الساعة الحادية عشر ما يدفعه لعمّال الساعة الأولى. تفوق محبّته العدل بمفهومه البشريّ والحدود التي وضعتها له البشريّة. هذا هو يسوع الذي علينا أن نشهد له، ليس بالكلام بل بعيشة "ثوريّة" كحياته هو. هل هو هذا المسيح نفسه الذي وجدتموه في كنيستكم؟ هل هو الذي يثور على الفقر والظلم والسلطويّة؟ هل هو الذي يدعونا ألاّ ندعو أحدأ على هذه الأرض أبًا لنا وسيّد؟

ثوروا!

أنتم أقوياء، أيّها الشباب، وتقدرون أن تثوروا مثله، بمحبّة واحترام، لكن بإصرار والتزام. كنيستكم تنوح لكثرة خياناتها له، التي هي خياناتنا جميعًا. مثل المعلّم، هي ليست من العالم ، لكنّها تنغمس فيه أيّ انغماس، مستعملة أساليبه ولغته. تخشى الإنجيل وثورته. عليكم أن تتذكّروا متطلبّات هذا الإنجيل وتُذكّروا بها. هلمّ اسيقظوا وثوروا ثورة يسوع المحرّرة!

ذكّرون بمتطلّبات المسيح "بوقتها أو بغير وقتها". تكلّموا بجهارة وبصوت عالٍ، فإنّ كنيسة أنطاكية عطشى لسماع كلام الحقّ. إنّ السكوت الراهن والتقاعس المستشري لم يعد يُحتمل، إلاّ عندما نسعى أن نحوّله فعلاً وصلاة!

إذا سعيتم أن تعيشوا هكذا، ستشهدون حقاً أنّ الله موجود وأنّ له اسماً ووجهًا، اسم يسوع المسيح ووجهه، الذي مات لأنّه يحبّنا. وتشهدون أيضًا أنّ القريب هو أيضًا موجود وأنّه على صورة الله، لا يجب استخدامه بل خدمته، لكي يعي ويحقّق المثال الإلهيّ المدعو إليه. فلا تخافوا! اقتحموا العالم بمحبّة الربّ يسوع! لا تقبلوا أنصاف الحلول. لا تدعوا أحدًا يهزأ بحداثتكم، و لكن اسهروا أن تكونوا قدوة للمؤمنين بالتقوى واستقامة الحياة والمحبّة الصادقة التي لا تعبير عنها سوى في خدمة الناس. لا تقبلوا أن يُقزَّم الإنجيل. لا تقبلوا أن يُقزِّم أحد كنيستكم بحصرها بشخصه أو جماعته. لا تقزّموا أنتم المسيح في حياتكم، بل جاهدوا باستمرار للوصول إلى ملء قامته. اعطوه قلوبكم فيرفعكم إليه. وبكم ومعكم ترتفع الكنيسة التي هي في أمسّ الحاجة إليكم. فلا تنتظروا أن يدعوكم أحد للخدمة، بل تقدّموا ومارسوا الخدمة التي ألقاها الله على أكتافكم. وإذا ضعفتم فاستندوا على الربّ وعلى بعضكم البعض، وابقوا على الرجاء لأنّ ما هو غير مستطاع عند الناس هو مستطاع لدى الربّ، و"هو قادر أن يفعل أكثر بكثير ممّا نطلب"، كما يقول الرسول إلى أهل أفسس (3: 21).


المشاركات الشائعة