كهنة وعلمانيّون

 ريمون رزق

النور - العدد السابع 2010


بين العهد الجديد والممارسات الطارئة

قال ميليتون، مطران خلقيدونية، في عظة ألقاها العام ال1982، مخاطباً العلمانيّين: "لقد اكتشفنا أنّكم موجودون، ليس فقط كمجموعة صغيرة من الناس الأتقياء، بل تكوّنون، حقّاً، ملء الكنيسة... لذلك لا بدّ من استغفاركم عن كل ما مضى والدخول في حوارٍ معكم. لا أعني حواراً عامّاً ونظريّاً، بل حواراً عميقاً بين الراعي والقطيع، وذلك في كلّ مكان وعلى كلّ الأصعدة، وفي كل رعية وقرية وكنيسة مستقلّة، حواراً ينطلق من الجذور، ليصل إلى القمّة".

 أمّا البابا بنيديكتوس السادس عشر، فدعا، في أيّار العام 2009، الأساقفة الكاثوليك في حاضرة الفاتيكان إلى: "تغيير في الذهنيّة، لاسيّما تجاه العلمانيين، والكفّ عن اعتبارهم مجرّد معاونين للكهنة، بل يجب اعتبارهم مشاركيهم في المسؤولية عن كيان الكنيسة وعملها". وكان طلب منهم قبلاً، العام 2008، في حلقة دراسيّة دعت إليها الهيئة الحبريّة من أجل العلمانيّين: "أن يبادروا، بمحبّة كلّيّة، إلى محاورة الحركات العلمانيّة... وألاّ يعتبروا أنّها تخلق مشكلة أو متاعب إضافيّة تزيد على اهتماماتهم الثقيلة، بل هبة من الله، وخميرة تغني، بمواهبها، الجماعة كلّها".

    تُرى لِمَ هذا "الاستغفار" و"التغيير في الذهنيّة" عند مسؤولَيْن كبيرَيْن من الشرق والغرب؟ لِمَ هذه الدعوات إلى الحوار والتفاعل؟ قبل الإجابة، يجدر بنا أن نرى، أولاً، إلى مكانة الكهنة والعلمانيّين في العهد الجديد وتطوّرها خلال القرون المسيحيّة الأولى.

هل من "علمانيّين" و "كهنة" في العهد الجديد؟

لا نجد، في العهد الجديد، أي إشارة إلى ما تعنيه، اليوم، لفظة "علمانيّ" أو "عامّيّ". ما يبدو فيه أنّ المؤمنين جميعاً، من دون تمييز، متساوون في الكرامة. ونلاحظ، على سبيل المثال، أنّ كتّابه يسمّون المسيحيّين "إخوة"، أو "تلاميذ" (أعمال 1:6، 7:7، 1:9 و 9:10)، أو "مؤمنين" (45:10، أفسس 2:1، كولوسي 2:1)، أو "قدّيسين" (رومية 7:1،كورنثوس 1:1، 14:7)، أو "أهل بيت الله" (أفسس 19:2). إنّهم،معاً، كما يبيّن كاتب الأعمال، أعضاء في شعب الله الواحد، يتشاركون في كلّ شيء، ويواظبون على تعليم الرسل والشركة وكسر الخبز والصلوات" (42:2 – 47).

أيضاً، لا تُطلق، في العهد الجديد، لفظة "كاهن" على سوى يسوع المسيح (عبرانيّين 20:10). وإلى هذه اللفظة الخاصّة بالربّ، نجد فيه كلاماً يربط الكهنوت بالشعب كلّه: "وجعلنا مملكةً وكهنةً لله أبيه" (رؤيا 6:1، 10:5، قابل مع: 1بطرس 5:2 و9). ونقرأ أنّ بولس يطلب من أهل رومية "أن تقرّبوا أجسادكم ذبيحة حيّة مقدّسة مرضيّة عند الله عبادة منكم عقليّة" (1:12). وهذا يكشف أنّ تعليم الرسل يبتعد، كلّيّاً، عن مفهوم الكهنوت الوظائفيّ كما في العهد القديم، أي لا يعتبره خدمة محصورة مرتبطة بطعمة خاصّة، بل بالرّعية كلّها. فالمسيح دشّن لنا جميعاً طريقاً جديداً يدخلنا، وراءه، قدس الأقداس شركاء في كهنوته (عبرانيّين 19:10 و20).

المواهب، المسؤوليّات والخدمة في الجماعة المسيحيّة الأولى

 ضمن شعب الله الواحد، أعطيت مواهب متنوّعة لكلّ عضو في سبيل تكامل خدمة الجسد الواحد: "وإنّما يُعطى كلّ واحد إظهار الروح للمنفعة. فيُعطى واحد بالروح كلام الحكمة، وآخر كلام العلم... وآخر الإيمان...، وآخر مواهب الشفاء... وآخر صُنع القوّات، وآخر تمييز الأرواح، وآخر أنواع الألسنة، وآخر ترجمة الألسنة. وهذا كلّه يعمله الروح الواحد بعينه، موزّعاً على كلّ واحد كيف يشاء" (1كورنثوس 7:12-11). وفي رومية 6:12-8 و1 كورنثوس 8:12-10 و28-30، يورد الرسول لوائح لهذه المواهب اختلافُ ترتيبها ظاهرٌ بين رسالة وأخرى. وهذا، الذي يبيّن أنّ واضعها يعلّي، فوق الرعاية، مواهب الرسل والأنبياء والمعلّمين والوعّاظ، يبيّن، تالياً، أنّه ما من تمييز بين المسؤوليّات الرعائيّة والخدمات. وفي موضع آخر، نراه لا يُسَمّي المضطلعين بمسؤوليّات رعائيّة. نقرأ: "الذين يتعبون بينكم... ويرأسونكم في الربّ، ويعظونكم" (1 تسالونيكي 12:5). وهذا، إلى وجود مسؤوليّات تنظيميّة لم تكن أنواعها قد حدّدت كلّيّاً بعد، يدلّ على حرّية المسيحيّين، في التنظيم الكنسيّ، وأوّليّة المظاهر الروحية. فالمهمّ لم كن مركز الشخص وسلطته، بل استقامة تعليمه وخدمته بما يفيد بنيان الجماعة. ليس في الكتب الجديدة من سلطة هرميّة، بل هرميّة الخدمة، وفوقها المحبّة (1 كورنثوس 13، 1 بطرس 10:4).

 Diakonia

الخدمة نوعان. النوع الأول يميل أكثر نحو الروحيّات (1 كورنثوس 28:2-31، 1:4-5، أفسس 20:2، 5:3، 11:4). والثاني نحو الإدارة (1تسالونيكي 11:5-13، فيلبّي 1:1، رومية 1:16). كلّها الله مصدرها ومرجعها (2كورنثوس 4:6،6:3-8، 1تيموثاوس 6:4)، وهدفها خدمة الجماعة (كولوسي 29:1، أفسس12:4، 1بطرس 16:1). وأمّا ممارستها، فتتطلّب تنافساً فيها (1كورنثوس 31:12)، وتواضعاً وحميّةً (1كورنثوس 19:9، 1بطرس 2:5 و3). و"محبّة" (1كورنثوس 13:13).

 اعترافاً منه بالمواهب وبحقّها في الخدمة، نرى بولس يتعاطى عمله جماعيّاً. ففي رسائله التي أملاها على بعض تلاميذه، يذكر أسماء نحو ثمانين معاوناً له في عمل البشارة. وبين هذه الأسماء، نجد نساءً، ك:طابيثة (أعمال 36:9-39)، ومريم أمّ يوحنا مرقس (أعمال 12:12) وبرسقلّة (أعمال 18:18). ونجد، أيضاً متزوّجين يقومون بخدمة البشارة معاً، ك: بطرس وزوجته (1كورنثوس 5:9)، وبرسقلّة وأقيلا (رومية 3:16)... وعلى اقتناعه بسلطته الرسوليّة، يرتدي بولس، دائماً، أمام الأخوة، ثوب المحبّة والوداعة (1كورنثوس 21:4)، واللطف (1تسالونيكي7:2). ولا يأمر أحداً، بل يرجو "لأجل المحبّة" (فيلمون 9). ويرسم بما قاله: "لا نريد أن نسود إيمانكم، بل نحن أعوان سروركم" (2كورنثوس 23:1)، و"لسنا سوى خدّام لكم لأجل المسيح" (2كورنثوس 5:4)، أنّ المحبّة والرعاية الحسنة تفوق أهمّيتهما كلّ مركز ومسؤوليّة، مهما سمت.

يبيّن العهد الجديد أنّ فعل الروح يسود الجماعات الأولى الجماعة كلّها تعيش في شركة واحدة (كينونيّا)، وتشكّل "أخوية" (وهذا كان اسمها في البدء)، كلّ أعضائها متساوون، حرّرهم روح ربّهم، ووجّههم إلى نشر رسالة الإنجيل ومتطلّبات الملكوت السماويّ عملاً لا يوازيه عمل.

إنها حريّة "مجد أبناء الله" الذي تكلّم عليها بولس (رومية 19:8). ففق العهد الجديد، لا نجد كلاماً على من يرئس صلاة الجماعة، إلاّ نادراً، لا لأن هذا كان من النوافل، بل لأنه كان نصيب الرسل في حياتهم، والشيوخ والأنبياء في ما بعد، كما كان، أيضاً، متاحاً أمام أيّ أخ يشترك في الكهنوت الملوكيّ (مثلاً، صاحب البيت الذي الجماعة تجتمع فيه). ومع تقادم الزمان، أمّ خدمة الجماعة من غدا رئيساً فيها. وبقي الطابع، الذي يحرّكه الروح النبويّ والرسوليّ، يشكّل، أساساً وكياناً، ميزة جماعة المعمّدين. فالمسؤوليات في الكنيسة لا تقوم على معايير حقوقيّة، بل على الخدمة بنياناً للجسد. وهذا ما دفع الرسل إلى أن يحذّر كل خادم، في الجماعة، من الوقوع في تجربة التسلّط (3يوحنا9:1، 1بطرس2:5 و3) الذي يحاكي العالم (متّى 25:20-28). ليس في الممارسة الأولى من وجود لأي سلطان إلاّ إذا استُعمل بإسم المسيح وكُرمى لبنيان جسده (2 كورنثوس 8:10). فالسلطة، في الجماعات الأولى، لا تمارس على شعب الله، بل معه ومن أجله.

نظرة إلى الجماعات المسيحية من العهد الجديد إلى القرون الثلاثة الأولى

إذا نظرنا إلى حياة الجماعة المسيحية الأولى وتنظيمها زمنيّاً، يمكننا أن نلاحظ ثلاث حقب: الأولى من العام 30 إلى 43، والثانية، وهي فترة الانتشار التبشيري، من العام 43 إلى 65-70، وفترة بدء التنظيم الرعائيّ من العام 65-70 إلى 95.

أ – تتمحور حياة الجماعات الأولى حول الرسل الاثني عشر الذين أقامهم الربّ، وأرسلهم، بعد قيامته، إلى الكرازة (متّى 19:28، لوقا30:22). إنّهم شهودُ عيانٍ (لوقا 2:1)، و"خدّام الكلمة" وتدبير الله الخلاصيّ، والمقامون على "خدمة المصالحة"، والمترئّسون عشاء الربّ، والمدبّرون توزيع الخيرات، والضامنون وحدة الجماعة. وتبيّن آثارهم أنّهم كانوا يرعون الجماعة، ويحترمون حريّة أعضائها، ويتشاورون مع الجميع (كما في: انتخاب رسول بدلاً من يهوذا، واختيار "الشمامسة" السبعة، ومجمع أورشليم). كانوا يدعون الإخوة إلى الاجتماعات، ويعرضون عليهم مواضيع النقاش، ثمّ ينفّذون القرارات التي اتّفقوا جميعاً عليها.

ب- في الحقبة التالية، يختلف تنظيم الجماعة وفق مكان وجودها. ثلاث مسؤوليّات، تظهر في أنطاكية، تتمحور حولها حياة الجماعة، وهي مسؤوليّات الرسل والأنبياء والمعلّمين. كان الرسل يتجوّلون بالكلمة (1كورنثوس28:12)، ويؤسّسون جماعات جديدة، ثمّ يعودون إلى الجماعة الأمّ يخبرونها عمّا فعلوا (أعمال27:14). إلى الاثني عشر، شملت صفة "رسول" أشخاصاً مثل برنابا وأَبُلُّبس (1كورنثوس26:3، 6:4-9)، وسلوانُس وتيموثاوس (2كورنثوس 19:1)، وأندرونيقوس ويونياس (رومية7:16 و8). وكان الأنبياء يتكلّمون بإلهام الروح (1كورنثوس 29:14-32). ويساهمون، بوعظهم، في بناء المؤمنين وحثّهم وتشديدهم (1كورنثوس3:14). يقول كتاب الديداكيّا (مطلع القرن الثاني): إنّهم يرئسون الإفخارستيا، ويرفعون الشكر "كما يشاؤون" (7:10) وأمّا المعلّمون، فهم الذين يقدّمون التعليم بأسلوب منهجيّ (أعمال 1:13، ديداكيّا1:15).

    بعد استشهاد استفانُس، تنظّمن الجماعة في أورشليم، أي أخذ يسهر عليها جمعٌ من الشيوخ  presbyters (أعمال 18:21، غلاطية 19:1). وهذا النمط تبعته جماعاتُ كيليكيا وآسيا الصغرى (أعمال23:14). أما كنيسة فيلبّي، فرئسها "مراقبون وخدّام" episcopoi kai diakonoi ديداكيّا 1:15). يقول الذهبيّ الفم إنّ الأساقفة كانوا، قديماً، يسمّون "مراقبين وخدّامَ" المسيح. ويجب أن نعرف أن ثمّة من يعرّب الوظائف الواردة هنا باللغة اليونانيّة: "كهنة" و"أساقفة" و"شمامسة"، فيحمّلون النصّ الكتابيّ دلالاتٍ لا يحملها. ويجب أن نعرف، تالياً، أنّ إدارة الجماعة كانت تناط، أحياناً، بعائلة، مثل عائلة أسطفاناس (1كورنثوس 16:1، 15:16) التي فتحت بيتها للجماعة، أو حتّى بامرأة، مثل فيبة خادمة الكنيسة في قنخريّة (رومية 1:16).

  ج – إذا نظرنا إلى الرسائل الرعائيّة التي كتبت قبيل موت الرسل (أو بعده)، نصادف أموراً تبدو جديدة، لاسيّما بتشديدها على المسؤوليات المحلّيّة. ففي الرسالة إلى تيطس (5:1) مثلاً، نقرأ أنّ الرسول يطلب من تلميذه تنظيم الجماعة وإقامة شيوخ في كلّ مدينة. ويوصي تيموثاوس بأن يتأنّى قبل وضع يده على أحد (الرسالة الأولى 22:5). ويبدو دور "المراقب"، راعياً، كما الشيوخ. وتظهر مسؤوليّات جديدة كـ: الشمامسة (1 تيموثاوس 8:3-13)، والمبشّرين (2تيموثاوس 5:4)... ولكنّ هذه الرسائل تبقى، في جوهرها، عامّة، أي تخصّ الجماعة كلّها، وإن صُدرت بإسم شخص، أو حَوَت إرشادات إلى الرعاة. وهذا، على التباين الخارجيّ الذي نجده بينها وبين الرسائل التي سبقتها، تؤكّده حياة الجماعة الواحدة. قراءتنا للرسائل المتأخّرة تفترض التزام ما ثبّته، مثلاً، كتاب الأعمال في وصف الجماعات الأولى. وتفيدنا بعض التنبيهات الخاصّة بالاهتمام بالأرامل أنّ ثمّة شططاً حصل في هذه الخدمة كما عُرِفت أوّلاً. وهذا يتبعه أنّ ما أكّده كتاب الأعمال من أنّ بنات فيلبّس كنّ يتنبّأن (9:21)، وفيبة وغيرها، واعتبار بولس أنّ المرأة يمكنها أن تتنبّأ طبيعياً (1كورنثوس 5:11)، لا يغيّره التغيير الظاهريّ (أو المحلّيّ) الذي يبيّنه، في الرسالة الأولى إلى تيموثاوس، منع النساء من الكلام والتعليم في اجتماعات الكنيسة (12:2). ثمّة من يعتبر أنّ هذا "التغيير"، الذي قد يُفهم خطأً، أنتجه تكاثر عدد المسيحيّين الذي فرض، مثلاً، إدخال بعض النظام في الجماعة وإيجاد من يسهر، خصوصاً، على وحدتها وثباتها، بعد موت الرسل، في التعليم الرسوليّ. وعلى هذا الاعتبار، لا نجد أيّ إشارة الى تقسيم الجماعة إلى فئتين: فئة كهنة وفئة علمانيّين. صحيح أنّ تيموثاوس، مثلاً، الذي هو ابن بولس بالإيمان (1تيموثاوس 2:1)، يجب اعتباره شخصاً استثنائيّاً، لكنّه يبقى أخاً للجميع ومعاوناً لله، كما الجماعة كلّها.

   د – مع تقادم الزمان وتزايد عدد الأنبياء، وضرورة تنظيم أفضل لمساعدة الفقراء وتالياً الخدمة الإفخارستيّة، وأسباب أخرى مختلفة، أخذت إدارة الكنيسة تبتعد عن طابعها الشركويّ بربطها المسؤوليات فيها بمناصب ورتب محدّدة. لقد ذكرنا أنّ ثمّة دلالات كثيرة أبرزت عدداً من الوظائف والخدمات الكنسيّة الجديدة. ورأينا، أيضاً، أن الأنبياء والمعلّمين، الذين كانوا يرئسون الخدمة غالباً، أخذوا يتنازلون ل"المراقبين" والشيوخ عن دورهم. وأخذ الجميعَ اقتناعٌ بضرورة إيجاد أناس يهتمّون بالكنائس الجديدة خصوصاً، ويسهرون على الخدم اللّيتورجيّة والاجتماعية والتنظيمية. ولقد دُعي هؤلاء الأخوة، أحياناً، "مراقبين"، أو، كما جرت العادة لاحقاً، أساقفة (تيطس 5:1-7). باتت عندنا، إذاً إلى المواهب المذكورة أعلاه، تسميات ثلاث: المراقب، الشيخ والخادم، من دون تدقيق في هويّة كلٍّ منها.

   ﻫ - لا نعرف كيف انتقل أغناطيوس الأنطاكيّ، في مطلع القرن الثاني، من هذه الثلاثيّة إلى كلام على أسقف، رأس الهرم يعاونه مجلس شيوخ وشمامسة طالباً أن يخضع المؤمنون له ولمجلسه (رسالته إلى أفسس 2:2 و1:4، وإلى سميرنا 1:8 و2:12)، لاسيما أنّ معاصره بوليكربوس يجهل هذا التنظيم، ويستمرّ باعتباره المراقب شيخاً. وما يجدر بنا ذكره أنّ أعناطيوس لم يستعمل، البتّة، لفظة "كاهن" أو "علمانيّ"، بل التزم، إلى التنظيم الأسقفيّ الهرميّ، مفهوم الشعب ذي الكهنوت الملوكيّ الواحد. هل كان يتكلّم على هذا التنظيم من باب التمنّي؟ ما نعلمه أن كلامه، وإن لم يؤثّر في الكنيسة على زمنه، إلاّ أنّه أثّر، تأثيراً كبيراً، في ما بعد. ولكنّنا، إن استعدنا ما قاله، بعد أغناطيوس توّاً، إيريناوس الليونيّ، أي: "حيث توجد الكنيسة، يوجد روح الله. وحيث يوجد روح الله، توجد الكنيسة وكلّ نعمة، والروح هو الحقيقة" (ضدّ الهرطقات 24:3)، فيمكننا أن نفتح باب التمنّي، الذي أشرنا إليه، على مصراعيه. ونجد، أيضاً، أنّ ترتليانُس، في نهاية حياته، يقابل بين "كنيسة الروح" المؤيّد و"زمرة من الأساقفة" (في التواضع 16:21 و17). ويخبر إقليمنضُس الروميّ، العام ال96، عن وجود شيوخ، في كنيسة كورنثوس، من دون أيّ أسقف يحاكي من تكلّم عليه أغناطيوس. وما عدا الإسكندرية، هذا كان حال الكنائس جميعاً. بعد نحو قرنين، تبنّى قبريانوس القرطاجيّ، علناً، رؤية أغناطيوس إلى الأسقفيّة، بقوله: "حيث يوجد الأسقف، توجد الكنيسة. وحيث توجد الكنيسة، يوجد الأسقف. وإن كان أحد على خلاف مع الأسقف، فهو خارج الكنيسة" (الرسالة 8:66، 2). وعلى ذلك، لم يعمّ مفهوم أغناطيوس قبل منتصف القرن الرابع، حيث نرى إيرونيموس يعتبر الأسقف "أوّل الشيوخ". وحصر تقادم الأيام بالأسقف كلّ المواهب التي يوزّعها الروح على جميع المعمّدين. وهذا ما نقرأه في صلاة رسامته التي تطلب له أن يُعطى موهبة التدبير لرعاية القطيع، وموهبة النبوّة لحسن التبشير ونشر الكلمة، وموهبة رئاسة الكهنوت، ليحلّ ويربط، ويرئس الافخارستيّا، ويتشفّع من أجل الشعب.

 يجب أن نشير إلى أنّ قبريانوس، على تأكيده محوريّة الأسقف، بقي اقتناعه ثابتاً بأنّ شعب الله هو الذي يحفظ الإيمان، ويحمل، مع الإكليريكيّين جميعاً، مسؤولية الكنيسة. يقول: "منذ تولّيَّ الأسقفية، قرّرتُ ألاّ آخذ أيّ قرار دون استشارة مجلس الشيوخ والحصول على موافقة الشعب كلّه" (الرسالة16). ومعروف أنّه كان يفضّل لفظة المؤمنين على العلمانيّين التي لم يستعملها إلاّ قليلاً. وكانت محاكمة الكهنة، في أيّامه، تجري أمام الأساقفة والمعترفين والشعب كلّه (الرسالة4:16). وكان المذنبون منهم يُعادون إلى رتبة العلمانيّين (ما يؤكّد أنّهم أدنى رتبة من الإكليريكيّين). وعندما أراد أن ينظر في قضيّة التائبين بعد حجود، حرص على أن تحصل المناقشات كلّها "مع الأساقفة والشيوخ والشمامسة والعلمانيّين الذين حافظوا على إيمانهم" (الرسالة5:55). وفي شأن هذه القضيّة، تؤكّد مراسلاته مع كنيسة روما أنّ للعلمانيّين توّاً بعد الشيوخ وقبل الشمامسة. ويؤكد أن الأسقف، الذي يفقد صلاحه، يعود لا يستطيع نقل نعمة الأسرار أو الكلمة، ولا بدّ، تالياً، من أن يسقط من درجته كما لو أنّه لم يكن أسقفاً يوماً (الرسالة 2:65، 4).

إلى هذا، يجب أن نذكر، أيضاً، أن الشعب كلّه، عند قبريانوس، كان ينتخب أساقفته. كان يعتبر أنّ هذا حقّ إلهيّ. يقول: "يجب ألاّ يُفرَض على الشب أسقفٌ لا يريده" (رسالة 5:4). وفي رسالة أخرى: "يجب الحفاظ، بكلّ دقّة، على التقليد الإلهيّ والممارسات الرسوليّة والبقاء على ما نمارسه عندنا وفي المحافظات عموماً. فعندما يُراد رسم رئيس من أجل الشعب، يجب أن يجتمع أساقفة المقاطعة، وأن يجري الانتخاب بحضور الشعب العارف حياة كلّ واحد والمختبر حسن سلوكه" (5:67). ويقول، أيضاً، يجب إعطاء "الشعب سلطان انتخاب أساقفة صالحين وإقصاء غير الصالحيـ، (3:67، 2). ويريد بـ"صالحين" أنّهم يتمتّعون بكلّ ما يطلبه العهد الجديد منهم.

    ح – بعد هدم هيكل أورشليم في العام الـ70، ولاسيما هدم المدينة كلّها وتهجير سكّانها في العام الـ135، اعتنق الإيمان عدد من الكهنة اليهود واللاويّين. فآثروا في تحويل الكهنوت إلى مؤسسة (وفق معتقداتهم قديماً) بحصرهم إيّاهم بمن يقيم الإفخارستيا وكما جرى مع أغناطيوس، جرى، في أواخر القرن الثاني، الأمر عينه إنّما مع الكهنوت المسيحيّ. مع أغناطيوس، غاب ما أكّده بطرس، في رسالته الأولى، من أنّ المسيح هو راعي نفوسنا وأسقفها الوحيد (4:5). وتطوّر مفهوم الأسقفية، حتّى تكلّم التقليد الرسوليّ على الأسقف كرئيس كهنة، وربط بين "كهنوته، الذي يقدّم بواسطته القرابين، وسلطانه في مغفرة الخطايا" (3). وهذه كانت المرّة الأولى التي يُربط فيها التسلسل الرسوليّ، ويفسّر كما لو أنّه سلطان. ومع الغلوّ في المحاكاة بالكهنوت اللاويّ وما رأيناه من ربط وتفسير، تشابه دور الأسقف بدور رئيس الكهنة اليهوديّ، فأطلق عليه هذا اللقب ذاته (رئيس الكهنة)، لكونه يرئس الخدمة الافخارستيّة عموماً، ويوزّع الأدوار فيها. ونتج عن هذا خلاف واضح على كون الكهنوت منوطاً بالجماعة المتّحدة بالكاهن الوحيد، يسوع المسيح، وفق تعليم الرسل. فنرى ترتليانُس، في مطلع القرن الثالث، يتكلّم على الأسقف "أوّل الكهنة" (في المعموديّة 1:17). ويقول هيبّوليتوس الرومانيّ، العام الـ220، إنّ "الله أسّس الرؤساء والكهنة"، والأسقف هو من يحظى "بالكهنوت الأعظم". وتبعه، في ما بعد، أوريجانس وقبريانوس. فتكلّما على الذين "لهم شرف الكهنوت الإلهيّ".

متى استعملت لفظتا "علمانيّ" و "كاهن"؟ وهل هذا الاستعمال من دون اعتراض؟

   أ - ابتداءً من القرن الثالث ق.م.، استعملت لفظة "علمانيّ"، في إطار مدنيّ، للتمييز بين الشعب ومن يعمل في الإدارة العامّة. ثمّ ظهرت، أوّل مرّة، في إطار دينيّ، في رسالة إقليمنضُس الروميّ إلى الكورنثيين (نحو العام ال96 ق.م.)، في سياق وصفه الرتب (رئيس الكهنة والكهنة واللاويّين)، داخل الشعب اليهوديّ، ومهمّاتِ كلٍّ منهم في أثناء خدمة الهيكل، حيث قال: "أمّا الإنسان العلمانيّ، فيخضع لشرائع العلمانيّين". ولقد أراد، في هذا القول، أن يحافظ قرّاؤه على ما تسلّموه من نظام، ويسهروا على سلام كنيستهم. وفي تفصيل سريع، لقد عرف إقليمنضُس أنّ بعض شيوخ هذه الكنيسة أخذهم تأخّر مجيء الربّ ثانيةً، وأرادوا أن يسبغوا على مناصبهم لفظتي "مراقبين وخدّام". وبما أنّ تسمية "مراقب" كانت تختصّ بالله الآتي في آخر الأزمنة، اعترض بعض الأخوة، واعتبروا هذا الأمر يشوّه ما تسلّموه من الرسل. فطالبوا بإقصاء من يختلس ما يخصّ الله، أو كادوا. ويجمع باحثون عديدون على أنّ لفظة "علمانيّ" ليس لها، في سياق هذه الرسالة، أيّ صِلة بالعبادة المسيحية التي لمّا تكن قد أخذت منحى التقاليد اليهوديّة، وتالياً لا تشير إلى أيّ تمييز داخل الجماعة المسيحيّة. وهذا يبيّن أنّه، حتّى أواخر القرن الثاني ب.م.، لا نرى أيّ أثر لفئة مميّزة، ضمن شعب الله، تُدعى العلمانيّين. نرى تلاميذ مسيحيّين يعترفون، فقط، بالمسيح معلّماً أوحد وسيّداً أوحد، وينعمون بمواهب الروح خدمةً للجماعة كلّها.

  ب – أيضاً، لا نجد في فكر يوستينُس الفيلسوف، الذي وضع مؤلّفاته بين العام ال135 وال165، أيّ تمييز بين أعضاء شعب الله ومسؤوليّاتهم في الخدمة (ولا عند الآباء المناضلين). فيوستينُس يفتخر بأن يدعو نفسه "مسيحيّاً" ويسمّي الآخرين "إخوة" أو "مستنيرين" أو "تلاميذ" (الحوارات 1:17). ويقول إنّ "الكنيسة تضمّ بشراً كلّهم واحد" (الحوارات 2:4). ويؤكّد أن الله "أعطى كلّ من يعمل وصاياه الكرامة ذاتها" (الحوارات 3:134)، وأن الربّ "أمرنا بأن نقيم (بصيغة الجمع)"، نحن الذين نشكّل "أمّة كهنوتيّة بامتياز"، "خدمة خبز الإفخارستيّا" (الحوارات 116). وفي كلامه على الاجتماع الإفخارستيّ، يذكر "الذي ترأس"، ويسمّي رتبة الشمامسة و"الذي يقرأ"، ما يدلّ على أنّ صفة "المترئّس"، الذي قد يكون أحد الشيوخ، لا تهمّه كثيراً. ويقول إن من يترأّس يتولّى توزيع المساعدات على المحتاجين. وبهذا كلّه، نرى أنّ الجماعة، التي عرفها، تلتزم، بعد مرور ما يزيد على النصف قرن، أسلوب حياة جماعات العهد الجديد.

  ج – إلى هذا، نعرف أن أبناء الكنيسة، آنذاك، واجهوا، بوحدة كاملة، شراسة اضطهادات السلطات الرومانيّة وهذا تؤكّده، ممّا تؤكّده، شهادة شهداء عديدين أعلنوا أنّهم مسيحيّون، وتغنّوا "بأنّه لا يوجد لقب يفوق هذا اللقب (مسيحيّ) أهمّية وجمالاً، (أعمال كاربوس،34).

   د – أيضاً، إيريناوس، الذي كتب نحو العام ال180، يدعو المؤمنين "إخوة" أو "تلاميذ" أو "كهنة يبشّرون". يقول: "أمّا الكهنة، فهم جميع تلاميذ السيّد" (ضدّ الهرطقات 4:33). كلّهم يقومون بالتقدمة" (5:17)، و"يهتمّون، دوماً، بخدمة الله والمذبح" (8:4، 3). وهذا يبيّن أنّه لم يفرّق بين شعب الله. بلى، ذكر الشيوخ الذين كان واحداً منهم، وشهد على حسن حياتهم وسلوكهم. وقال إنّهم، هيئةً، يؤمّنون التسلسل الرسوليّ، ولهم موهبة الحفاظ على الحقيقة، وإنّ على المؤمنين أن يكونوا على اتّفاق معهم. وعندما أراد أن يذهب إلى كنيسة روما، كتبت كنيسة ليون إليها التعريف التالي به: "لو كنّا نعتبر أنّ مركزه بيننا يصنع منه إنساناّ كريماً، لكنّا قلنا، أوّلاً، إنه شيخ في كنيستنا، وهو كذلك" (2:4). وهذه الشهادة ترينا أنّ جماعة ليون عاشت، بعد بولس بما يزيد على المئة سنة، تحافظ على حياة الجماعات الأولى وتصرّفها روحيّاً ونوعيّاً.

  ﻫ - قبل القرن الثالث، لم نعرف ذكر لفظتي "علمانيّين" و "كهنة" فصلاً بين شعب الله. وما يبدو أنّ بعض الكتّاب قد ركبوا ركب رواج اللفظتين، فاستعملوهما. وبيّنّا أن ثمّة من اعترض على اللفظتين بمفاهيمهما الدخيلة. ومن ضمن كتّاب تلك الحقبة، سنكتفي بذكر ترتليانُس القرطاجيّ وإقليمنضُس الإسكندريّ والمعلّم أوريجانس. وسنذكر، أيضاً، بعض النصوص التي كتبت حينئذٍ، مثل: التقليد الرسوليّ (أوائل القرن الثالث) والذيداسكاليّا (نحو العام ال230).

  و – أمام الواقع الطارئ الذي بلبل الكثيرين، استعمل ترتليانُس لفظتي علمانيّين وكهنة باعتباره كُلاًّ منهما عرضيّة. فترتليانُس، هذا الرجل الصلد في دفاعه عن الإيمان أو "المعلّم" كما دعاه قبريانوس القرطاجيّ، لم يتخلَّ عن إيمان الكنيسة الأولى. يقول: "حيث يوجد ثلاثة، توجد الكنيسة، وإن كانوا علمانيّين" (التوجيه على الطهارة،7). وفي كتابه عن المعموديّة، قال للعلمانيّ: إنّ عليه "أن يتحلّى بلياقة ولباقة عظيمتين... حتّى لا ينتزع خدمة الأسقف" (2:7). وفي موقع آخر، توجّه إلى الأسقف أيضاً: "أنت تقول إنّ للكنيسة سلطانَ مغفرة الخطايا. وأنا أوافقك الرأي. لكنّي أسألك بأيّ حقّ سطوت على سلطان الكنيسة" (في التواضع 7:21-17). وهذا دفعه إلى أن يصرّ، مستنداً إلى قول الرؤيا إنّ يسوع "جعل منّا مملكةً وكهنةً لله أبيه" (6:1)، على أن "كلّ ما يُسمح للكهنة به يسمح للعلمانيّين" (التوجيه على الطهارة7). ومن المعلوم أنّ حركة المونتانيّة، التي حاربتها الكنيسة بشدّة لادّعائها تجسيد كنيسة الروح القدس الحقيقية الوحيدة ونزعتها النبويّة غير المنضبطة، جرّت ترتليانُس في آخر حياته.

   ز – إقليمنضُس، الشيخ الذي حلّ محلّ المعلّم بَنْدينُس الشهير في "مدرسة" الاسكندرية، ذكر، مرّةً واحدةً، لفظة علمانيّين، بمعنى مسيحيّين لم يرتقوا إلى المشيخة (التي توازي الأسقفيّة عنده) أو الشموسيّة. ورأي أنّ المرتبط منهم بامرأة واحدة يمكنه، إن لزم الأمر، أن يرتقي إلى الكهنوت الوظائفيّ (ستروماتيس 12:3، 90). والظاهر أنّه يفرّق بين المختارين. يقول: ثمّة منهم "من هم أكثر اختباراً" (أيّ غنيّ سيخلص؟، 36). أمّا عن الشيوخ، فيقول: "نعتبرهم صالحين، لا لأنّهم رسموا شيوخاً، بل لكون صلاحهم قد أدخلهم جماعة الشيوخ" (ستروماتيس 106:13).

   ح – أمّا المعلّم أوريجانس، ألمع معلّم مسيحيّ على الإطلاق، فميّز بين "الكنيسة التي يراها والكنيسة النقيّة التي لا عيب فيها، ولا غضن" (عظة على 1 كورنثوس1). وعبّر عن استيائه من أوضاع عاينها بقوله: "ما من مؤمنين اليوم. كان في الماضي مؤمنون حقيقيّون. كانوا يسيرون في الطريق الضيّق المؤدّي إلى الحياة. أمّا الآن، فالمؤمنون كثيرون، لكنّ المختارين قليلون. وقليلون هم الذين يستحقّون الاختيار الإلهيّ والطوبى" (عظة على إرميا 3:4). وقال أيضاً: "أيّ إنسان يمكنه أن يقيم الخدمة الليتورجيّة أمام الشعب. ولكنّ القليلين هم قدّيسون في أخلاقهم، وعالمون بالعقيدة، ومدرّبون على الحكمة، وقادرون على أن يظهروا حقيقة الأشياء كلّيّاً، ويعلّموا الإيمان" (عظة على اللاويّين 6:6). وأيضاً: "ماذا ينفعني أن أكون الأوّل على العرش إذا لم أتمكّن من أن أعمل ما يتطلّبه مركزي" (عظة على حزقيال 4:5. وأكّد، مراراً، أن العلمانيّين جميعاً، مع الأساقفة والشيوخ والشمامسة، يشتركون في خدمة الإفخارستيّا (المناقشة مع هيراكليدوس 22:4، 5). وكان يقلّل من أهمّيّة الألقاب والمراكز الإكليريكيّة في الأرض، ويعلّم أن الميع مدعوّون إلى الكمال الذي يجد قمّته في كهنوت سماويّ. وبهذا، بيّن أن الكلّ يستطيعون، إن أرادوا، أن يسترجعوا، في الزمن الإسخاتولوجيّ، صفتهم الكهنوتيّة. وعلى عبقريّته، لم ينتمِ إلى الكهنوت الوظائفيّ (أمّا رسامته كاهناً وإسقاطه، فقصّة أخرى!). وعندما دعاه ألكسندرُس أسقف أورشليم إلى أن يعظ عندهم، احتجّ، بشدّة، أسقفه ديمتريوس معبّراً أنّه لا يجوز لعلمانيّ أن يعظ أمام أساقفة. فردّ عليه ألكسندرُس: جرت العادة أن يتكلّم العلمانيّون المؤهَّلون لأن "يساعدوا الإخوة، وأنّ أساقفة عديدين يدعونهم إلى أن يتوجّهوا إلى الأخوة" (أفسابيوس القيصريّ، التاريخ الكنسيّ 19:6، 17-18). هذا يؤكّد أنّ العلمانيّين الواعين حقاً كانوا، لاسيّما إلى زمن أوريجانس، يعلّمون، ويعظون في الكنائس أمام الأساقفة والشعب.

   ط – التقليد الرسوليّ، الذي كُتب غالباً في مطلع القرن الثالث، هو أوّل نصّ يحدّد ماهيّة الانتماء إلى الكهنوت (الوظائفيّ) في درجاته الثلاث: الأسقف، الكاهن، والشمّاس. وممّا نقرأه فيه أنّ الرسامة تتمّ بوضع الأيدي، وأنّ الأسقف يُختار من الشعب. ويبيّن، تالياً، وجود خدمات أخرى، مثل "الأرامل" اللواتي يطلب منهنّ الصلاة ليل نهار وخدمة المرضى والصوم الكثير. وهذا حصرٌ يعارض أنّ ما كان يُطلب يخصّ الجماعة كلّها. ويكشف هذا التقليد، أيضاً، عن وجود معلّمين وقرّاء ومعتنين بالموعوظين. وبقوله: "على من يعلّم، كاهناً أو عامّيّاً، أن يطلب الموعوظين بعد وضع اليد عليهم" (19)، يكشف أنّ التعليّم يخصّ الجماعة كلّها.

   ي – الذيدسكاليّا، التي كتب بعد التقليد الرسوليّ ببضع عشرات من السنين، تذكر التطوّر الطارئ الذي جرى. وفيما نؤكّد أن العلمانيّين هم "الكنيسة الجامعة والمقدّسة والمكتملة...، عروس مزيّنة للسيّد الإله" (26:2)، تطلب منهم أن يخضعوا، كلّيّاً، للأسقف، ويكرّموه "كأب وسيّد وإله" (20:2). وفي كلامها على "تأمين مخصّصات الإكليروس" (26:2)، تقول: "عليك أن تعطي فقط، وعلى الأسقف أن يتصرّف" (35:2). وأيضاً: "إنّ قوّة العلمانيّ تكمن في خيرات هذا العالم" (36:2)، وهذا يهمّش دوره كلّيّاً. وإلى كشف الذيداسكليّا عن وجود الدرجات الكهنوتيّة الثلاث، تتكلّم على شمّاسات (12:3)، وأمّا الأسقف، فنعتبره "الوسيط بين الناس والله" (3:2، 35). وتطلب منه أن "يحبّ العلمانيّين كأولاد، ويسعى أن تخرج فراخها منه" (20:2، 2)! ومن الأساقفة جميعاً ألاّ "يكونوا قساة معهم، وألاّ يحكموا عليهم بسرعة، ولا يكونوا بلا رحمة، ولا يحتقروا الشعب الذي بين أيديهم" (21:2). وأيضاً: "لا تكونوا متعالين ومتعجرفين" (24:2، 4). وعنيفين معهم. وهذه تنبيهات لا بدّ من أنّها تشير إلى وجود بعض أساقفة غير لائقين. ونلاحظ، أيضاً، أن العلاقة بين أبناء شعب الله الواحد تغيّرت، تغيّراً جذريّاً، عمّا كانت عليه من قبل.

القرنان الرابع والخامس: تثبيت الواقع الطارئ

   أ – مع اعتراف الأمبراطوريّة الرومانيّة بالمسيحيّة ديناً للدولة على عهد قسطنطين، ولاسيّما على عهد ثيوذوثيوس، نُقل التنظيم المدني إلى داخل حياة الكنيسة. فحظي الكهنة، نظير موظّفي الدولة، بامتيازات كثيرة. وزادوا من تسلّطهم. ولجموا كل دور للعلمانيّين، ما عدا مساهمتهم في مخصّاصتهم. وفق هذا، علت نزعة تقديس كلّ ما يتعلّق بالإكليروس الذين ليس للعوامّ أيّ أمل بالخلاص من دونهم. وإزاء هذا الانحراف، انتصب بعض أساقفة رافضين كلّ وساطة لهم بين الله والشعب باعتبار أنّ الوسيط الوحيد هو يسوع ربّنا. وها صوت أغسطينوس يدوّي: "ما أمثّله لكم يخيفني. لكنّ ما أنا عليه معكم وضمنكم، يريحني. أنا، عندكم، أسقفكم. ولكنّي معكم مجرّد مسيحيّ مثلكم. الأسقفيّة لفظة لمسؤوليّةٍ تُعطى. وأمّا لفظة مسيحيّ، فهي اسم النعمة التي مُنحت لنا جميعاً. نحن الأساقفة خدّامكم ومرافقوكم. نحن، في آنٍ، رؤساء ومرؤوسون. نمشي في الطليعة، فقط إذا ساهمنا في خيركم. إن لم يتصرّف أحدنا على هذا المنوال، فهو ليس بأسقف، بل يحمل اسمه فحسب" (العظة ال32). وهذا يدلّ على أنّ من يريد أن يعيش حقّ التعليم الرسوليّ يستطيع، دوماً، أن يكسر الأغلال المصطنعة، ويطفر حرّاً بالروح.

   ب – حصول الإكليروس على امتيازات من الدولة جعل الكثيرين، من دون تأهيل، يطلبون الانضمام إلى صفوفهم. وهذا، الذي أنبأ بظهور كنيسة عدديّة تتجاوز المواهب الشخصيّة وحياة الشركة وتزيد من الرقابة والطاعة في سبيل ضبط أعداد المتقدّمين، دفع أساقفة كباراً، أمثال الذهبيّ الفم، إلى أن يكثروا من الوعظ المربّي. وباسيليوس، الذي لم يرحه الأمر، إلى أن يمنع خورأسقفته من ارتضاء أيّ متقدّم إلى الكهنوت لا يرونه أهلاً، أيّاً كان دافعه ومشجّعه قريباً أو صديقاً (الرسالة ال104، القانون ال89). وعلى ذلك، زاد عدد الإكليريكيّين. وزاد، إزاءه، شعور العلمانيّين بالاتّكاليّة وضعف مساهمتهم في خدمة الكنيسة وبشارتها.

   ج – في ظلّ ما جرى، انتشرت، باطّراد مخيف، نزعة الكهنة "التقديسيّة" التي ذكرناها آنفاً، وأخذت، أحياناً، أبعاداً صنميّة. وهذا، مثلاً، يبيّنه نارساي أسقف نينوى الذي كتب: "كلّ الأسرار الكنسيّة تحت سلطة الكاهن... من دونه، لا يمكن أن يتزوّج أحد، أو أن يتقدّس الماءن ويتطهّر المنزل... الذين لم يرسموا، مهما كانوا أطهاراً، يمكنهم إقامة الإفخارستيّا. الكاهن، وإن كان خاطئاً، يمكنه أن ييستنـزل الروح. أمّا غيره، فلا يمكنه ذلك". وهذا، الذي أطاح بقدسيّة النعمة ومجّانيّتها وحياة الشركة، طبع الأجيال المسيحيّة الآتية. ونجد آثاره اليوم، في أوساط مسيحيّة كثيرة.

   د – فيما دعا مجمع خلقيدونية العلمانيّين بـ"المسيحيّين الدهريّين"، منعهم مجمع ترولّومن أن يتكلّموا، علناً، في أمور العقيدة والتعليم (القانون ال64). وبهذا، تبنّى ممارساتٍ شاعت في القرن الرابع. يقول غريغوريوس النزينزيّ: "بعضٌ (أي الكهنة) يعلّم، وبعضٌ (أي العامّيّ) يتعلّم. فَلِمَ نريد أن تكون رأساً فيما أنت أحد القدَمَيْن؟". وفي القرن الخامس، اعتُبر العلمانيّ بأنّه غير المثقّف. وكما قال ثيودوريطس القورشيّ: "ما عليه سوى الردّ "آمين" على كلّ ما يقوله القائمون على الليتورجيا" (تفسير الرسالة إلى أهل كورنثوس، 14). هكذا بشكل قاطع!

   ﻫ - أمّا الروح القدس، على كلّ ما جرى، فقط أبقى اشتراك المؤمنين في الليتورجيا كاملاً. وأمدّتهم قوّته أن يحافظوا على شعورهم بمسؤوليّتهم عمّا يجري داخل بيت الكنيسة. وطبعت، تالياً، خدم الأعياد الكبرى والصلوات الأخرى حياتهم وعاداتهم. وهكذا بقوا، كلّما رأوا أسقفهم يقعد في مطلع كل خدمة إلهيّة وسطهم، يحسّون بأنّ هذه الخدمة تجسّد لهم وحدة كنيستهم. ومن نعم الروح أيضاً، أنّ أساقفة كباراً ساهموا، لاسيّما بتصرّفاتهم الخيّرة ومحبّتهم وإعلائهم سيادة الفقراء، في توطيد هذا الإحساس. وهذا، عبر العصور، وعلى تحذيرات بعض أساقفة مأسورين بوجه الكنيسة المؤسّساتي، شجّعهم على أن يبادروا إلى خدمة الكنيسة ورسالتها في العالم. وهكذا ظهر، من بينهم، لاهوتيّون ومبشّرون ومعلّمون كثيرون. وبقوا لاسيّما في الشرق، يعتبرون أنّهم، مع الإكليروس، يحافظون على إيمان كنيستهم (كما صرّح البطاركة الأرثوذكس في رسالتهم إلى بابا روما، قبيل انعقاد الجمع الفاتيكانيّ الأوّل، في القرن التاسع عشر).

   و – تجدر الإشارة إلى أن ثمّة علمانيّين مثقّفين ساهموا في توضيح الإيمان القويم والدفاع عنه. وهذا تؤكّده، ممّا تؤكّده، الأسئلة العميقة التي طرحوها على إكليريكيّين طالبين إجاباتٍ عنها (كما ورد، مثلاً، في رسائل باسيليوس، غريغوريوس النـزينـزيّ، أوغسطينوس، وغيرهم). ويخبر القدّيس غريغوريوس النيصصيّ أنّه حتّى الشعب "العاديّ" كان يهتمّ بالأمور اللاهوتيّة. يقول إنّ المرء، في أثناء الأزمة الأريوسيّة، كان لا يقدر على "الذهاب إلى الإسكاف، أو اللحّام أو الحمّام، من دون التحدّث عن ولادة الابن الأزليّة". وهذا ما بقي، في كنيستنا الشرقيّة، إلى اليوم.

   ز – أدّى، أيضاً، عدد من العلمانيّين المؤمنين، الذين اضطلعوا بمهمّات إدارية عالية في الدولة، دوراً رائداً في ترسيخ العدالة الاجتماعية في المجتمع ورفع الظلم عن المستضعفين. فعاونوا الأساقفة الكبار، ولبّوا طلباتهم، كما يظهر مثلاً، في رسائل باسيليوس الكبير وغيره.

   ح – أدّى، أيضاً، التجّار المسيحيّون دوراً محوريّاً في تبشير البلدان التي كانت أعمالهم تدفعهم إليها. ومنهم أنفسهِم رُسم أساقفة على الكنائس التي ساهموا في تأسيسها.

   ط – في ظلّ نظام الموعوظيّة التي كانت تدوم سنوات عدّة أحياناً، اضطلع العلمانيّون، الذين كانوا يعيّنون عرّابين للموعوظين، بدور أساس في حياة كنيستهم. كان لكلّ موعوظ عرّاب يعيّنه، ويتابع تعليمه وإرشاده، ويؤدّي معه دور الأب الروحيّ تأهيلاً لمعموديّته. وهذا تشير إليه نصوص قديمة بقولها إنّ لكل موعوظ، إن كان رجلاً، أباً عرّاباً، وإن امرأةً، أمّاً. ولكن، بعد أن راجت معموديّة الأطفال، اقتصر دور العرّاب على أن يكفل الطفل، ويتعهّد تعليمه الإيمان.

   ي – يشير مؤلّف "التنظيمات الرسوليّة"، الموضوع نحو العام ال380 إلى الممارسات الليتورجيّة في البيئة التي ظهر فيها. فيبيّن ترسيخ الرتب الكهنوتيّة الثلاث (أسقف، كاهن، وشمّاس)، ويضيف إليها درجة الشمّاسة والإيبوذياكون والقارئ، ويعتبرها من الوظائف المكرّسة، ويذكر خدمة كلٍّ منها (19:8- 22). ويذكر، أيضاً، وظائف المرتّل والبوّاب والأرامل، من دون أن يعتبرها من الرتب المكرّسة. ويدعو علمانيّاً كلّ من لا ينتمي إلى هذه الدرجات والرتب.

انتفاضة الرهبنة

ظهرت الرهبنة منذ مطلع القرن الثالث. والرهبنة، في أصلها، حركة علمانيّة قام بها مَنْ اعتبر أنّ الحياة المسيحية التراثية، الشركويّة التي تحرّكها مواهب الروح القدس، لا يمكن عيشها في ظلّ وقاع مؤسّساتي يقسّم شعب الله إلى فئات. وحافظت الرهبنة، غالباً، على علمانيّة أعضائها. ولكن، عندما أخذ بعض الأساقفة يُختارون من الأديار، جرت العادة، من غير حقّ، أن تُعتبر أقرب إلى الإكليريكيّة منها إلى العلمانيّة. وعلى ذلك، بقي همّ الرهبنة الأساس أن يحيا أهلها على طريقة الجماعة المسيحيّة الأولى. ويعرف القاصي والداني الدور الرائد الذي أدّاه كبار الرهبان، عبر العصور وإلى اليوم، في خدمة الكنيسة والدفاع عن نقاوة إيمانها القويم.

انتفاضات كبار الآباء والروحيّين عبر العصور

   أ – أيضاً، ثار آباء كبار على تهميش دور العلمانيّين، وساهموا في تثبيت مواهبهم، وحثّهم على تفعيلها مجدّداً. ومنهم نكتفي بذكر باسيليوس الكبير. وما نعرفه أنّ علماء ثقة، محّصوا كتاباته، قد أكّدوا أنّه، عندما كَتب ما اعتبر في ما بعد أوّل قانون للرهبنة فيما كان راهباً، أراد، فعلاً، وضع قانون "للمسيحيّ المقتنع". لم يكن يريد أن يخلق نظاماً خاصّاً بفئة، بل أن يدعو المؤمنين جميعاً إلى عيش حياة مسيحيّة توافق إنجيل الربّ. وعندما غدا أسقفاً، حرص على عدم دمج الحركة المواهبيّة، التي أطلقها، في الرعايا، بل سعى إلى أن يحافظ على خصوصيّتها، لتكون خميرة تذكّر بالأساس. وكتب، حينئذٍ، الأستيريكون الصغير، وعاد فيه إلى إيجاد مجموعة مسيحيّين (علمانيّين) يلتزمون الحياة المشتركة، ويهتمّون بالعمل، في الكنيسة المحلّيّة، في مجالات الخدمة الاجتماعية والاستشفاء وافتقاد الفقراء، ليكونوا فئةً بين من يحيا في "البرّيّة" ومن في "المدينة".

   ب – إلى هذا، يشهد التاريخ على بروز وجوه من العلمانيّين الممتلئين بالروح الذين قدّموا للكنيسة خدمات كبيرة، إن في مجال العلم والثقافة أو في الحياة الروحيّة. والتحق بعض هؤلاء، في ما بعد، بالرهبنة أو الكهنوت، وبقي بعضهم الآخر يناضل علمانيّاً. ونذكر منهم، مثلاً، من القرن التاسع، فوتيوس الكبير الذي رُفع، في أيّام عدّة، من درجة كهنوتيّة إلى أخرى، حتّى غدا بطريركاً على القسطنطينيّة. ونذكر، أيضاً، سمعان اللاهوتيّ الجديد (949-1022) الذي ذكّر بكرامة المسيحيين الرسوليّة وحقّ النبوّة في الكنيسة. ودعا كلّ أعضاء الكنيسة، رهباناً وكهنة وعوامّ، إلى اختبار حقيقيّ للإيمان. كان يعمل مدير أعمال أحد وجهاء عصره. وعلى عمله الذي يلزمه أن يذهب إلى قصر الأمبراطور يوميّاً، كان يختلي كلّ مساء، ويصلّي، بقلب متّقد، "صلاة يسوع" حبّاً بالله والإخوة. وفي العام ال977، قرّر، بعد أن غدا عضواً في مجلس الشيوخ، أن يترهّب. ونادى بأنّ المحبّة "سيّدة الأنبياء، ورفيقة الرسل، وقوّة الشهداء، ومصدر إلهام الآباء والمعلّمين، وكمال القديسين". وأكّد أنّ من صميم رسالة الكنيسة أن تميّز مواهب الروح، لتبقى، في كلّ آن، تحاكي الجماعات المسيحيّة الأولى. وعلّم أنّ "معموديّة الماء لا تكمل من دون ولادة بالروح". وممّا أدخله في جدل كبير مع الأساقفة أنّه وبّخ الذين لم "يلجوا منهم أبواب التوبة"، وحصر "سلطان الشهادة" بالرّوحيّين، أيّاً كانوا. وكان يؤكّد أن قوّة الأسرار، التي يحصل عليها المرء عبر التسلسل الرسوليّ المتمثّل بالأساقفة، هي التي توجد أناساً رسوليّين مزوّدين موهبة النبوّة التي تجدّد الكنيسة من داخلها، وتمنعها من الغرق في تفاهةٍ تعتريها أحياناً. واللافت أنّ الكنيسة أعلنت قداسة سمعان بعد رقاده بنحو خمسين سنة، وخصّته بلقب لاهوتيّ. وهذا يبيّن أنّها، فيما وافقت على صحّة مواقفه، وعت ضرورة العودة إلى ينابيع انطلاقتها الأولى.

   ج – ثمّ لا بدّ من أن نذكر رهبنات الجبل المقدّس التي، منذ تأسيسها في أواخر القرن العاشر، ما زالت تؤدّي دوراً رائداً في حياة الكنيسة الأرثوذكسيّة بإعلائها حياة الشركة والصلاة الدائمة وعيش الإنجيل أداةً للتقديس. وكما ذكرنا، معظم رهبان الجبل هم من العوامّ أيضاً. وبعضهم، إن كهنةً أو عوامّ، قد أُعطوا موهبة الأبوّة الروحيّة التي توازي، كنسيّاً، المواهب العظمى. ويجب أن نذكر، تالياً، الدور الكبير الذي قام به الستارتس (الشيوخ) في البلدان السلافيّة، وبخاصّة روسيا. فكانوا، لا سيّما في أزمنة الاضطهادات المريرة، منارةً لكلّ أعضاء الكنيسة، كهنةً وعلمانيّين. ولا بدّ، أيضاً، من أن نذكر "الفيلوكاليا" التي أنارت شعب الله هناك بتشجيعهم جميعاً، حتّى البسطاء منهم، على ممارسة صلاة يسوع، كما تشهد روايات "السائح الروسيّ".

   د – لا بدّ، أيضاً، من ذكر الدور الذي أدّاه بعض كبار رجال العلم والثقافة والفكر المسيحيّين في نشر الإيمان القويم، أمثال بسيللوس (القرن الحادي عشر) الذي وعا، وعياً عظيماً، كرامةَ كونِهِ مسيحيّاً. فهذا قال لبطريركه مرّةً: "أنا أيضاً، أحتلّ عرشاً لا يقل عظمةً عن عرشك". وفي هذا السياق، يمكننا أن نذكر، أيضاً، أحد كبار القانونيّين الأرثوذكسيّين، زوناراس، الذي دُعي "معلّم القوانين". فهذا كان علمانيّاً أيضاً. ولم يصبح راهباً إلا في شيخوخته.

   ﻫ - ظاهرة أخرى، لا بدّ من التوقف عندها، هي ظاهرة "الأبله بالمسيح" التي أخذت تظهر في القرن السادس (سمعان سالوس في سورية مثلاً). وانقلت إلى القسطنطينيّة (القديس أندراوس في القرن العاشر)، ثمّ إلى أمكنة أخرى عديدة وإلى البلاد السلافيّة، حيث كان لها دور كبير في روسيا. معظم من انتموا إلى هذه الظاهرةكانوا علمانيّين سعوا إلى أن يشيروا، عبر نهج جنونيّ اتّخذوه ظاهريّاً، إلى المظاهر البشريّة، ومنها المؤسّساتيّة البائسة في الكنيسة والدولة، التي، في أحيان كثيرة، تلهي عن النصيب الأفضل البادي، علناً، في المحبّة والتواضع والأخوّة.

   و – لا يمكننا أن نذكر جميع العلمانيّين الذي كرزوا بمسيحيّة رسوليّة عاشوها. سنكتفي، هنا، بذكر ميثوذيوس الذي بشّر، مع أخيه الراهب كيرلّس، البلاد السلافيّة في القرن التاسع، وتالياً إرساليّات الكنيسة الروسيّة في القرن التاسع عشر، ومن يبشّرون في بلدان إفريقية اليوم.

   ز – ثمّ يجب أن نذكر، أيضاً، كتّاباً أرثوذكسيين أفذاذاً، أمثال دوستويفسكي وسولجينتسين، عمّدوا الثقافة العامّة، وأثّروا، تالياً، في نشر الهموم المسيحيّة وفكر الربّ في العالم كلّه.

   ح – ذكرنا أنّ لاهوتيّين عديدين، في الماضي والحاضر، كانوا علمانيّين. هؤلاء يجب أن نذكر منهم، هنا، نيقولا كابازيلاس الذي احتلّ، في القرن الرابع عشر، مركزاً مرموقاً في العالم، لم يمنعه من أن يحيا وفق الإنجيل، ويبرّز في فكر كنيستنا، ويضع كتباً عن الأسرار والليتورجيا ما زال عطرها يتضوّع اليوم. ونذكر علمانيّين روساً كثيرين أدّوا، في المجمع الذي انعقد إثر ثورة العام ال1917، دوراً فاصلاً في وضع أسس نهضة عارمة في كنيستهم. ومن هذه الأسس، التي يمكننا أن نستقي منها اليوم، ما تطبّقه كنيستهم (وأيضاً كنائس الاسكندرية وأورشليم ورومانيا وفنلاندا وبعض الجماعات الأرثوذكسية في المغتربات)، أي واجب إشراك الرهبان والعلمانيّين في مجامع الكنيسة العامّة. ولنذكر، أيضاً، لاهوتيّين يونانيّين علمانيّين، أمثال بنايوتيس نيللاس ونيكوس نيسيوتيس وخريستو ياناراس وغيرهم، أدّوا دوراً رائداً، في القرنين المنصرمين، في إعادة اللاهوت الأرثوذكسيّ إلى ينابيعه الآبائيّة. وهذا ما فعله، في فرنسا، فلاديمير لوسكي وبول أفدوكيموف وجورج فيدوتوف وأوليفيه كليمان وغيرهم كثيرون. ويجدر بنا أن نذكر أنّ توتيس كونتوغلو وليوانيد أوسبنسكي أرجعا الفنّ الدينيّ الأرثوذكسيّ إلى مناهله البيزنطيّة الأصيلة.

الانتفاضات الشعبيّة والأخويّات في العالم الأرثوذكسيّ عبر العصور

   أ – ظهرت، عبر العصور، جمعيّات وأخويّات أرثوذكسيّة، تضمّ لاسيّما علمانيّين، شدّدت على عمل الروح القدس في الكنيسة، ودعت، في حقب ساد فيها الانحطاط، إلى النهضة. بعضها ذهب بعيداً في مطالبته إحلال الديمقراطيّة ضمن شعب الله، حتّى وصل إلى مواقف غريبة عن عمق الأرثوذكسيّة في رفضه الأسقفيّة رفضاً كلّيّاً. لن نتوسّع في الكلام عليها هنا. سنشير، فقط، إلى الحركة البوغوميليّة التي نشأت، في بلغاريا، في القرن الحادي عشر، وامتدّت إلى بلدان عديدة أخرى، ودامت قروناً. وتالياً حركة الغيورين التي شاعت في بلاد اليونان.

   ب – سنذكر، عبوراً، البروتستانتيّة التي بدأت، في الغرب، حركة اعتراض على النمط الهرميّ في الكثلكة وتقسيمها الكنيسة إلى فئة معلّمة (الإكليروس) وفئة متعلّمة (العلمانيّين).

   ج – من الأخويّات العديدة، التي استعادت في غير عصر دور العلمانيّين في الكنيسة وجسّدته في مواقف حيّة، نذكر تلك التي ظهرت، بخاصّة، في القرن السادس عشر، في أوكرانيا الأرثوذكسيّة، في وجه المطارنة الذين وافقوا على الإنضمام إلى كنيسة روما، ودافعت عن الإيمان القويم، وقامت بنشر الكتب، وحثّت المؤمنين على الصمود في وجه التراخي والانحطاط.

   د – أيضاً، ظهرت، في مطلع القرن المنصرم، حركات أرثوذكسيّة كثيرة في العالم دعت إلى النهضة وإحياء دور العلمانيّين في الكنيسة. من هذه الحركات، نذكر، في اليونان، حركة زويه التي هي، في الأصل، أخويّة لاهوتيّين، تأسّست العام ال1907، ثمّ انبثقت منها حركات للشباب والعمّال والعلماء والمثقّفين المعلّمين والنساء. وفي العام ال1970، خرجت منها حركة سوتير. وفي روسيا، تأسّست، بعد الثّورة الشيوعيّة مباشرةً، حركة العمل المسيحيّ للطلاّب الروس، وساهمت في مساعدة الكنيسة، لاسيّما في المهاجر، على استيعاب المشاكل الجمّة التي أنتجتها الثورة والشتات. وهذه  الحركة، التي تعنى بتربية الأطفال والشباب في بلدان أوروبيّة كثيرة، سمّت ذاتها، أخيراً، حركة الشبيبة الأرثوذكسية. وثمّة، أيضاً، في أوروبا الغربيّة، أخويّة أرثوذكسيّة، تعمل ببركة الهيئة الأسقفية للمطارنة الأرثوذكسيّين الشرعيّين في فرنسا، تعنى بالتعليم الدينيّ والنشر والإعلام وإقامة المؤتمرات العامّة. وثمّة أخويّة مثلها في بريطانيا. وفي خضم النظام الشيوعيّ، ظهرت، أيضاً، تجمّعات لعلمانيّين سعوا إلى نشر الإيمان وإضعاف وطأة مواقف بعض مطارنة تعاملوا مع الحزب الشيوعيّ الذي فتك بحياة الشعب سجناً وتقتيلاً في مخيّمات الموت. وبعد استعادة الكنيسة الروسيّة حرّيتها، ظهرت هيئات علمانيّة، مثل هئية الشباب الروسيّ المثقّف التي تعمل لا سيّما في الدفاع عن حقوق الإنسان داخل الكنيسة. وهذا عينه هو الحال في صربيا ورومانيا وبلدان أرثوذكسيّة عديدة. كما توجد حركات شبيبة أرثوذكسيّة في معظم الكنائس الأخرى.

   ﻫ - نشأت حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة في الكرسيّ الأنطاكيّ، في العام ال1942، على يد شباب جامعيّين. وعنها كتب الأسقف كاليستوس (وير) في كتاب "الأرثوذكسيّة، كنيسة المجامع السبعة"، يقول: "كانت البطريركيّة الأنطاكيّة، في أوائل القرن العشرين، تبدو كنيسة نائمة. فنهضت، لاسيّما على يد حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة،... التي تضمّ، اليوم، ما يقارب ال7000 عضو، معظم قادتها علمانيّون. وقد أعطت الحركة الأولويّة للتعليم الدينيّ والنشر". ثمّ يذكر مساهمة الحركة في إعادة انطلاقة الرهبنة، وتكريس عدد كبير من أعضائها فيها، وفي الكهنوت ووصول بعضهم إلى رئاسة الكهنوت... ويذكر الأنشطة التي تتعلّق بالشباب وتوعيتهم، ليؤدوا، في شركة كاملة مع رعاتهم، الدور الذي أراده الله منهم في خدمة كنيسته ونهضتها.

   و – هذا دليل على أن شعب الله، في أماكن وجوده كافّةً، ينتفض أمام الانحطاط ، ويعمل بالمواهب اللصيقة به المعطاة من الروح القدس. وما ينبغي لنا ذكره، هنا، أنّ وعي شباب كنيستنا، في غير مكان، لا ينحصر بمشاكل بلده أو كنيسته الخاصّة، بل يتعدّاها بحمله همّ كنائس العالم كلّه. ولهذه الغاية، تأسست، في العام ال1953، هيئة تنسيقيّة لحركات الشبيبة الأرثوذكسية في العالم، تُدعى سنديسموس، أي الرابط. وهي تقوم بنشاطات عديدة في بلدان مختلفة لتفعيل عمل الشباب، في كلّ مكان، والتنسيق بين الحركات خدمةً للكنيسة الجامعة.

انتفاضات القرن العشرين في الشرق والغرب

   أ – مع التطوّر الذي حصل في العالم خلال العقود الأخيرة وحركات التحرّر والثورة النسائية وانتشار الحسّ الديمقراطيّة وفصل الدين عن الدولة، ومع حركات الإصلاح الليتورجيّ والكتابيّ والآبائيّ التي حصلت في الغرب منذ أواخر القرن التاسع عشر، أخذ العلمانيّين وعيٌ جديد. وأعطاهم رجوعهم إلى العهد الجديد والتأمّل فيه على ضوء الدراسات الحديثة أن يدركوا أنّ ما هم عليه يختلف، اختلافاً جذريّاً، عمّا كان يمارس في العهد الرسوليّ. فاستدعى هذا كلّه نهضة تجديد تحافظ على أسس التسلسل الرسوليّ وحياة الأسرار الكنسيّة وإطلاق حرّيّة الروح وما تفترضه من تفعيل مواهب كلّ عضو في جسد المسيح. الكنيسة الكاثوليكية فهمت هذه الانتفاضة قبل غيرها. فعدّلت، في المجمع الفاتيكانيّ الثاني، مفهومها الكنسيّ، الذي كان يتمحور حول الهرميّة الأسقفيّة حصراً، بتركيزها على مفهوم شعب الله الذي تبرز في القرن العشرين، وشجّعتها ، ودعت إلى تشجيعها. ما جعل هذه الحركات، خلال بضع سنين، تمتدّ إلى العالم باسره. أمّا موقف كنيستنا، فبدا متزمّتاً بدءاً. وهذا عبّر عنه، في أول اجتماع للهيئة التحضيرية للمجمع الكبير المقدّس، أحد المطارنة بقوله: إنّه لا توجد مشكلة علمانيّين في الكنيسة الأرثوذكسية التي "حافظت، إلى اليوم، على رؤية العهد الجديد في أمر شعب الله". ولكن، يبدو أنّ الروح فعل فعله. وأعطى الكنيسة أن تصالح ما سلّمنا إيّاه الربّ ورسله، وتنازلت عنه لأسباب بشريّة.

   ب – إنّ تبعثر مجتمعات ما بعد الحداثة، ومسألة السلطة، وتقهقر الدعوات الكهنوتيّة (لاسيّما في الغرب)، وتفكّك الربط العائلية، وانتشار الفردانيّة، وبروز الهواجس الأخلاقيّة والبيئية، وأمور أخرى، تطغى على حياة الناس، تطرح أسئلة ملحّة على الكنيسة التي أخذت تصالح منطلقها الشركويّ الأصيل. لقد تجاوبت الكنيسة الكاثوليكيّة، والكنائس الشرقيّة المتحدة بـها، مع نداء أبنائها. وهذا أمر يجدر بنا أن نثمّنه كثيراً. وحبّاً برجاء تمثّل دائم، يجب أن نذكر بعض ما قاله رعاتها الكبار. نقرأ، في كتاب القانون الكنسيّ للعام 1983: "للمؤمنين الحقّ، لا بل أحياناً الواجب، أن يبدوا آراءهم أمام الرعاة في كلّ ما يتعلّق بخير الكنيسة، وأن يوصلوا هذه الآراء إلى المؤمنين كافّة، ويحافظوا، دوماً، على الإيمان المسلَّّم وواجب احترام الرعاة والخدمة العامّة وكرامة الأشخاص" (البند 3:212). ويقول البابا الحاليّ: إنّ "الحقيقة ليست ملك الإكليروس. إنّـها ملك عروس المسيح". ويذكر أن معظم الأساقفة، خلال الأزمة الآريوسيّة، قد سقطوا أحياناً. ولكنّ موقف المؤمنين الصلب أمّن غلبة الإيمان النيقاويّ. ونجد، في كتاب التعليم الدينيّ الكاثوليكيّ: "كلّ المؤمنين يشتركون في فهم الحقيقة المعلنة ونشرها" (91). وأيضاً: إنّ المعموديّة والتثبيت يكرّسان المؤمن لكهنوت مقدّس. وفي البند ال37 من القسم المتعلّق بالكنيسة في النصوص التي صدرت عن المجمع الفاتيكانيّ الثاني، نقرأ: "على الرعاة أ، يعترفوا بكرامة العلمانيّين ومسؤوليّتهم في الكنيسة ويشجّعوها، وأن يستشيروهم من دون تردّد، ويثقوا بتكليفهم مهمّاتٍ لخدمة الكنيسة، ويتركوا لهم مجالاً لحرّيّة الكلام والتصرّف". وفي المجمع ذاته، نقرأ عن مرسوم شأن التبشير والعلمانيّين: "اندماج العلمانيّين في المسيح يخوّلهم الحقّ والواجب، ليكونوا رسلاً. إن الربّ نفسه يدعوهم إلى التبشير". أمام هذه الإنجازات، هل سنعتبر نحن؟!

ماذا في أنطاكية الآن؟

إنّ الأزمة، التي حلّت على كنيسة حلب والطريقة التي عالجها فيها المجمع المقدّس (أو لم يعالجها!)، تجعلنا نزيد في اعتقادنا أنّنا، اليوم قبل غد، نحتاج إلى مؤتمر أنطاكيّ عامّ، تدعى إليه فئات من الشعب الأرثوذكسيّ، ننقاش فيه التحدّيات الداخليّة والخارجيّة التي تهدّدنا وبشارتنا، لربّما نوحّد قدراتنا، ونردّ عن شبابنا أيّ جنوح على الحظيرة التي حكم الله أن نبقى فيها. نتطلّع، برجاء وثقة كبيرين، إلى أبينا غبطة البطريرك الأنطاكيّ أغناطيوس الرابع الذي يعي، تماماً، ظلم هذه المشاكل كلّها، ويعرف، ببلاغة ظاهرة، أنّ معظمها تمكن معالجته بإطلاق حرّيّة الرّوح في الكنيسة. ألم يكتب غبطته، منذ سنوات في مؤلّفه الشهير "القيامة والإنسان المعاصر": "إنّ الرّوح القدس هو الجدّة الفاعلة في العالم. هو حضور الله معنا (رؤيا 6:8). من دونه، يبقى الله بعيداً، والمسيح في الماضي، والإنجيل أحرفاً مائتة، والكنيسة مجرّد مؤسسة، والسلطة تسلّطاً، والبشارة دعاية، والعبادة مجرّد ذكريات، والعمل المسيحيّ مناقبيّة عبيد. ولكن، في الروح، الكون ينتفض، والإنسان يدخل في عراك مع الجسد، والمسيح القائم من بين الأموات يظهر هنا وثمة، والإنجيل يصبح قوة حياة، والكنيسة تعني الشركة الثالوثيّة، والسلطة تصبح خدمة تحرّر، والشهادة عنصرة، والقدّاس ذكرى واستحضاراً، والعمل الإنسانيّ يتألّه"؟ كلّنا مدعوّون إلى أن نعتبر بهذا الكلام النبويّ الذي يدعونا إلى خير جدّة. فهذا، مع قولَيْ المسؤولَيْن الكبيرَيْن اللذين نقلناهما في افتتاح هذه السطور وكلّ خير استوقفنا فيها، ربّما يعطينا تمثّله أن نقترب، شيئاً فشيئاً، من الجماعة الكنسيّة الأولى وحياتها وممارستها التي هي حياتنا ونجاتنا.

 

المشاركات الشائعة