"المهمّ ألّا يستحي بنا المسيح"

 ريمون رزق

النور - العدد السابع 1999

 

أجل، المهمّ ألّا يستحي بنا المسيح! كلّ اعتبار آخر ثانويّ أمام هذا التحدّي. الخيار الأفضل الوحيد المتاح لنا أن يكون المسيح، وهو وحده، الكلّ في الكلّ في حياتنا. رجاؤنا أن يتجرّأ كلّ واحد منّا ويتبنّى قول الرسول بولس: "قرّرت ألّا أعرف بينكم سوى يسوع المسيح" (1 كو 2: 2) في كلّ علاقة له مع الإخوة. بهذا نستجيب للدعوة الإلهيّة: "يا بنيّ أعطني قلبك". وكما نعلم، يشمل القلب في المفهوم الآبائيّ، كلّ الإنسان بكلّ طاقاته وعقله وعاطفته. إذ ذاك يكون المسيح محور حياتنا الحقيقيّ. ويكون هدف هذه الحياة الأسمى السعي إلى التمثّل به وملاقاته في كلّ مواضع سكناه، في الصلاة الفرديّة، في الكتاب العزيز، في الأسرار المقدّسة، وأيضًا في شركة الإخوة والإنسان، كلّ إنسان الذي ارتضاه يسوع هيكلاً له ودعانا لخدمته. إذا أردنا أن نكون فعلاً من أتباع السيّد – وليس فقط بالمظاهر والمراسيم وما أسماها وما أكثرها – لا بدّ من التحلّي بأخلاقه. لا بدّ من أن ينمو هو فينا وينقص الأنا. هو الحقّ والحياة، وهو في آن الطريق المؤدّي إلى الحقّ والحياة. إذا اخترنا نصيب الحياة فلا بدّ لنا من سلوك هذا الطريق.

ربّما قال قائل: هذا الكلام طوباويّ، نعرفه وقد سئمناه. لكن إذا نظرنا بشيء من الموضوعيّة وكثير من التواضع إلى حياتنا الشخصيّة، إلى فرقنا، إلى بيوتنا، إلى مكان دراستنا أو أعمالنا، إلى رعايانا وممارساتنا الطقسيّة والعباديّة والعلائقيّة، لا بدّ من أن ترتفع فينا صيحة المجدليّة: "أين وضعوا سيّدي"؟ (يو 20: 13)، أو بالأحرى أين وضعنا، الإخوة وأنا، السيّد؟ يجب الإقرار بأنّنا قلّما نسمع مثل هذه الصيحة في أوساطنا الكنسيّة. وإذا سمعناها تكون خفرة وغالبًا ما يطغى عليها الكلام الكثير عن إنجازاتنا وما حقّقناه وتحقّق من نشاطات ومشاريع ومؤسّسات. وكذلك يلهينا في كثير من الأحيان عن سماع هذه الصيحة تدغدغنا بأمجادنا العابرة ولاهوتنا وتاريخنا والفنّ البيزنطيّ والعقائد والطقوس إلخ... ولا يخطر ببالنا إلّا نادرًا أن نتساءل إذا كان كلامنا هذا ينقل فعلاً المسيح الحيّ أو فقط تراثًا منسوبًا إليه أو تعمّد به ولكنّا غالبًا ما أفرغناه من قوّته الحياتيّة. فيغيب إذ ذاك وجه يسوع الدامي والمنير تحت طغمة الكلام والإشارات والرموز والمشاريع المقامة باسمه.

ليس المقصود من هذا الكلام التقليل من ضرورة الإنجازات والمشاريع التي أعطانا الله أن نحقّقها وعن الإيجابيّات الناتجة منها. كذلك لا نريد أن نقلّل من أهمّيّة الخطاب اللاهوتيّ والثقافيّ ومن مكانة الممارسات الطقسيّة، إذ لا بدّ من تعبير في ديانة التجسّد، وعلينا أن نشكر الله دومًا على كلّ ما يتحقّق وعلى كثير ممّا يكتب أو يُقال.

ولكن لا بدّ من السؤال: لماذا لا يستطيع كلّ هذا جلب غالبيّة من شعبنا إلى المسيح؟ لماذا غالبيّة ساحقة من أبناء كنيستنا لا يمارسون؟ لماذا لا يسعَ جدّيًّا العديد من الذين يمارسون للتخلّق بأخلاق الربّ؟ تُرى هل أنّ المسيح قد فقد قوّة جذب الناس إليه؟ أو بالأحرى السبب هو نحن ومأسستنا للكنيسة؟

هل أصبحنا ستارًا يحجب النُّور ويمنع الرؤية؟ لا بدّ من طرح مثل هذه الأسئلة بجدّيّة على ضمائرنا وعلى ضمير الكنيسة وكلّ مسؤول فيها، وكلّنا مسؤولون. لا بدّ من مراجعة تصرّفاتنا وأقوالنا وممارساتنا بشكل جذريّ للتأكّد من رفع الغبار المتراكم من جرّاء ضعفاتنا وكسلنا وعدم مساءلتنا المتواصلة للتقاليد والمصالح البشريّة التي غالبًا ما تطغى على التقليد الشريف. كذلك عدم مساءلتنا لغة المخاطبة التي نتوجّه بها إلى الناس والتي ما عادوا يفهمون. وقبل كلّ شيء، مساءلتنا ذواتنا وجماعاتنا على مدى تخلّقنا بأخلاق إنجيليّة وماذا يجب عمله لاستعادة هذا "الفرح العظيم" الذي يتكلّم عليه إنجيل لوقا (لو 2: 10، 24: 52) والذي يدعونا إلى الثبات فيه، تُرى هل أصبحنا مثل تلميذَيّ عموس تمنعنا خطايانا وقلقنا من معرفة السيّد والشعور بفرح لقياه والحسّ العميق بضرورة نقل هذا الفرح إلى الآخرين؟ ما الذي يجب عمله أو تعديله أو إعادة النظر في ممارسته في حياتنا ووجودنا الكنسيّ للعيش في يقين فرح القيامة؟ إذ كيف يمكن للعالم بدون هذا الفرح أن يؤمن بأنّنا حاملون له "بشرى سارّة". إذا وجدَنا الناس كئيبين، إذا لم يروا النُّور يشعّ من أعيننا ويسطع في ابتسامتنا، كيف يمكن أن يؤمنوا بأنّنا مقتنعون حقًّا بأنّه لدينا مخلّص وأنّه حيّ وفاعل فينا وفي العالم هنا وثمّة.

هل نتجرّأ كذلك أن نقول لسائل عن إيماننا، وقبل الولوج بالشروحات والإرشاد إلى الكتب والأبحاث والمراجع، "تعال وانظر". تعال إلى بيتنا، إلى مكان دراستنا أو عملنا، إلى فرقنا وبخاصّة إلى رعيّتنا لكي تلمس هذا الفرح الذي ندعوك إليه وتختبر هذه المحبّة الأخويّة التي يدعونا إليها السيّد. وإذا تجرّأنا ودعونا ولبّى الناس الدعوة، تُرى هل سيقولون عنّا ما قيل آنفًا عن المسيحيّين الأوائل، إنّهم "غير شكل" لأنّهم يحبّون ويخدمون بعضهم البعض والآخرين ولأنّ "كلّ شيء بينهم مشترك"؟

المحبّة الأخويّة وحياة الشركة والخدمة تشكّل بالنهاية أسطع تعبير عن صدق التصاقنا بالمسيح. إن كنت تقول إنّك تحبّ الله الذي لا تراه ولا تحبّ أخاك فأنت كاذب (1 يو 4: 2). لا يكمن معيار صحّة أرثوذكسيّتنا في ترداد عقيدة نفتخر – وعن حقّ – بأنّها ما زالت متوافقة مع تعاليم الكنيسة الأولى قبل أيّ انشقاق. لا فضل لنا بذلك لأنّه نعمة من ربّي لا نستحقّها. لا ينفع إعلان الإيمان واجترار أقوال الآباء القدّيسين ولا يجعل العالم يؤمن بأنّ المسيح هو المخلّص المرسل من الله الآب إلّا إذا اقترن بالمحبّة الأخويّة والخدمة ووحدة الجماعة. "ليكونوا واحدًا لكي يؤمن العالم بأنّك أرسلتني" (يوحنّا 17: 21). هكذا صلّى ربّي. وهكذا تدعونا أيضًا الكنيسة أن نصلّي حين نقول في القدّاس الإلهيّ: "لنحبّ بعضنا بعضًا لكي بعزم واحد وقلب واحد نعترف مقرّين" بإيماننا بالثالوث الأقدس. الإيمان والمحبّة توأمان لا يصحّ الواحد من دون الآخر. ولكن لا بدّ من الإشارة إلى أنّ رسول الأمم ذكّرنا بأنّ المحبّة هي الأعظم (1 كورنثوس 13: 13).

إذا كنّا داخل البيعة متخاصمين، متباغضين، مستعملين في تعاطينا مع بعضنا البعض أساليب العالم وحيله، كيف نريد أن يصدّق الناس أنّ إلهنا محبّة وهو الذي دعانا إلى أن نحبّ بعضنا بعضًا كما هو أحبّنا؟ إذا وجد النّاس أنّنا لا نبالي واحدنا بالآخر، إذا رأوا جائعًا أو مريضًا أو حزينًا في أوساطنا ولا أحد يستفقده، كيف نريد أن يقتنعوا بأنّ المسيح ساكن فينا وفي هؤلاء وهو الذي قال: "كنت جائعًا فأطعمتموني، كنت مريضًا...". كيف نريد أن يؤمن البشر بأنّ بشارة المسيح بشارة فاعلة مغيّرة ومؤثّرة بالأعماق إن لم تكن كنيسة المسيح وكلّ الذين يؤكّدون انتماءهم إليها عائلة حقًّا، كلّ شيء بين أعضائها مشترك، في لياقة وشورى وترتيب واحترام لكل المواهب وإظهارها وتفاعلها لبناء الجسد كلّه. إذا لاحظ العالم "الهوّة الرهيبة السحيقة الكامنة بين لاهوتنا وممارساتنا الرعائيّة" على حدّ قول غبطة البطريرك الرابع الأنطاكيّ (في مقابلة أجريت معه في مجلّة SOP الفرنسيّة في عددها رقم 94 السنة 1984)، إذا اكتشف أنّنا في غالبيّة الأحيان نعيق تحرّك الروح القدس فينا وفي ما بيننا و"نُبقي الروح القدس أسيرًا في كنيسة الروح" (وهذا أيضًا من أقوال غبطة البطريرك). كيف نريد أن يهتدي العالم ويؤمن بأنّ الكنيسة تحمل إليه اليوم حقًّا بشارة خلاص؟

الخيار واضح، أنريد كنيسة متحف نتغنّى بتراثها الليتورجيّ والروحيّ والآبائيّ، همّها الأوّل الحفظ والترداد، أو كنيسة تفتح ورشة نهضويّة جارفة تطال كلّ الميادين محافظة بإصرار على كلّ ما "سلّم مرّة واحدة للقدّيسين"، ولكن مستعدّة لإعادة النظر بكلّ الأشكال ولغة التعبير ونمط الحياة والتعاطي بين أعضائها لكي تعود الوديعة الرسوليّة من جديد ينبوع حياة ومصدر إلهام ومثالاً حيًّا معاشًا يُهتدى به. عالم اليوم الذي يواجه تقلّبات أساسيّة في المقاييس والمفاهيم والذي يرفع غالبًا رايات مناقضة للموعظة على الجبل، ليس بحاجة إلى عقائديّين جافّين يطلقون الأحكام من أبراج عاجيّة، إنّه ليس بحاجة إلى مزيد من الشعارات بقدر ما هو بحاجة إلى نار ونور، إلى قداسة معاشة في محبّة لا تعبيرًا حقيقيًّا لها إلّا بغسل الأرجل. بهذا وحده سوف يكتشف أنّ المحبّة ممكنة وتاليًا أنّه يمكن أن يكون محبوبًا. وعندها يكتشف أنّ الإله المجهول الذي نسي اسمه له إسم ووجه وهما إسم يسوع المسيح الفاعل في جماعة محبّيه ووجهه، عندها ربّما يتجرّأ فيقول: "أؤمن يا ربّ فأعن قلّة إيماني".

قال الأب ألكسندر مين (Men)، الذي قُتل شهيدًا في روسيا السنة 1990، وكان في طليعة الكهنة العاملين لنهضة حقيقيّة في الكنيسة الروسيّة من أجل انفتاحها على تحدّيات الإنسان المعاصرة ووجعه: "إنّ المسيحيّة ما زالت في بداءتها"، وإنّ عالم اليوم كثيرًا ما يشبه العصر الذي أطلق الرسل فيه المسيحيّة في العالم، إذ تتزايد فيه وثنيّة من نوع جديد. إذا كان هذا هو الواقع علينا الاتّعاظ والتساؤل لماذا قلّة عزية من البشر (الرسل)، لم يكن لديها مال أو مؤسّسات أو مدارس أو كلّ ما نفتخر اليوم بامتلاكه، اقتحمت العالم ونحن نفشل ونتقوقع. يبدو ساطعًا لكلّ من أراد مراجعة سفر أعمال الرسل أنّ مقوّمات عملهم كانت تتمحور حول الأمور التالية:

 قناعة بأنّ المسيح حيّ في ما بينهم يتوقون باستمرار للقياه بتوبة وانكسار.

 مواظبة على الصلاة وكسر الخبز والتعليم ترسيخًا لوحدتهم مع المسيح وسعيًا وراء معرفة فكره واكتسابه.

حياة شركة حقيقيّة بين جميع الإخوة تترجم مفاعيل سرّ الشكر سرًّا لخدمة القريب، إذ كان كلّ شيء في ما بينهم مشتركًا فعليًّا. فكانوا إذا جاع أحدهم، ولم يكن لديهم ما يكفي لإغاثته، يصومون عددًا من الأيام لتوفير اللازم، كما يشهد على ذلك نصّ من القرن الثاني.

 تخلّق بالأخلاق الإنجيليّة والمحبّة. "أمّا نحن فلسنا هكذا" (لوقا: 22 – 26). وقد شعر العالم الوثنيّ بهذا واستغرب مثل هذا التصرّف فتساءل وأعطي له أن يؤمن بالذي كان يلهم هذا النمط من الحياة.

 محوريّة الهمّ البشاريّ "الويل لي إن لم أبشّر".

أيننا من هذه الروح، كيف يمكن تعميمها في أوساطنا الكنسيّة؟ كيف يجب التعاطي مع كلّ ما لا يصبّ في اتّجاهها، وذلك وعلى صعيد حياتنا الشخصيّة والكنسيّة كما على صعيد تعاليمنا وشهادتنا وممارستنا الليتورجيّة وخدمتنا للعالم لكي يبرز وجه المسيح فينا ومن خلال كلّ عمل نقوم به. فإن سطع في نورانيّته لا بدّ من أن يكسر الجليد ويكسب القلوب. هذه هي الطروحات الوحيدة الجديرة بأخذ صدارة اهتماماتنا في كنيسة أنطاكية. وكلّ شيء آخر سوف يُعطى ويُزاد. الأوقات شرّيرة وأجيال متتالية تمرّ بقرب كنيسة المسيح جاهلة أنّها تحمل طاقات حياة.

لا بدّ من مساءلة الذات الفرديّة والجماعيّة والدعوة إلى توبة كبيرة على مستوى التحدّي. لا نهضة ولا معرفة ولا تبشير ولا مسيحيّة حقيقيّة بدون توبة عميقة دائمة. والتوبة بمفهومها الإنجيليّ ليست فقط بالتنهيدات والتضرّعات، بل أساسًا في التغيير الجذريّ الانقلابيّ في نمط الحياة والتعاطي مع الناس.

فلنصلّ لكي يعطينا الله من يذكّرنا بهذا كلّه باستمرار، "في الوقت المناسب وغير المناسب" (2 تيمو 4: 2)، ويكون لنا مثالاً حيًّا بالقول والفعل لكي نسلك معه في طرق الربّ، فتصير كنيسة أنطاكية "عروسًا بهيّة لا عيب فيها ولا دنس ولا شيء مثل هذا".

"تعال أيّها الربّ يسوع المسيح تعال" لكي لا يُفقَد الرجاء.




المشاركات الشائعة