البطريرك أغناطيوس الرابع (هزيم)

 ريمون رزق

النور - العدد الأوّل 2013


أترك لغيري، وهم كُثُر، مهمة التكلّم عن البطريرك أغناطيوس، خلال مسيره الطويل كأسقف وثم كبطريرك لكنيسة أنطاكية. وسأكتفي بالتكلّم عن الرّجل الّذي كان يختبئ، بوجل ورصانة، تحت أوجه مختلفة كانت تعكس في بعض الأحيان صورة خاطئة عن شخصيته الحقيقية. لهذا أودّ أن أقدِّم هنا شهادة شخصيّة عن هذا الذي أحاطني دائمًا بحنانه.

أَقْدم ذكرى لي، هي أنّ ”الأب هزيم“، كما كنا ندعوه، لعب دورًا مهمًا في تلقين الأرثوذكسية لعدد كبير منّا، حاثًّا إيّانا على الإلتزام في العمل الكنسيّ... كان من أوائلل المنتمين إلى حركة الشبيبة الأرثوذكسية، وفي الستّينات من القرن العشرين، غدا المعبر الإلزامي لكلّ مَن كان مهتمًّا بالنهضة أنطاكية. حينها كان يدير مدرسة البشارة الأرثوذكسية في بيروت الّتي أصبحت، بفضل ديناميّته وجهوده، من أفضل المدارس في بيروت. كان مُفعمًا بالحيوية. وكنت تجده في كلّ مكان، لا فقط في وسط الكنيسة الأرثوذكسية المحلّية، بل في أوساط الكنيسة الجامعة بواسطة  ”السنديسموس“، الذي اشترك في تأسيسها، وعبر الصداقات الوثيقة التي حصل عليها خلال دراسته لدى معهد القدّيس سيرجيوس في باريس، ومشاركته في مؤتمرات عالمية عدّة. كان يمثّل كنيستنا في الأوساط المسكونية والثقافية، الحديثة العهد آنذاك في لبنان. لعب دور المحرّك في اللجنة المسؤولة عن تأسيس معهد القدّيس يوحنّا الدمشقي اللاّهوتي في البلمند، الّذي استلم إدارته فيما بعد، لعدّة سنوات. في ذلك الحين، لم يكن يأتي على ذكر الجامعة ألأرثوذكسية، ولكنّي أعتقد أنّ الفكرة كانت حاضرة في ذهنه، لكنّه كان ينتظر الوقت المناسب.

كان بالنسبة لنا الذين التحقنا بصفوف حركة الشبيبة الأرثوذكسية في تلك الفترة أبًا روحيًّا ، قائدًا لفرقنا ، الموجّه المُلْهَم والمُلْهِم لكثرين. إلى جانب آخرين من أقرانه (الأب جورج (خضر)، والمرحوم الأرشمندريت إلياس (مرقص)، وألبير لحّام، وكوستي بندلي، والمرحوم الأب بولس بندلي، ويوحنّا منصور وسبيرو جبور)، كان الأب هزيم أحد التجلّيات الحيّة البارزة لنهضة أنطاكية.

رحيله عنّا اليوم إلى وجه ربّه، والأسماء التي سبق وذكرت ، يعيدان إلى ذهني كلّ هذه الوجوه المشرقة، هؤلاء "الشيوخ"، "آبائنا"، الّذين سيبقى ذكرهم حيّ في قلوبنا وفي كنيستنا لسنوات عديدة. وأحسّ بأنّةِ وغصّة في قلبي، مدركًا أنّ الرّب الإله سوف يستدعي قريبًا إليه الذين لم يفارقونا بعد، وأنّ علينا أن نكون كُفْأً بالميراث الّذي تركوه ,سيتركوه لنا.

كنّا ما زلنا في الجامعة، عندما بدأنا إجتماعاتنا الأسبوعية مع "الأب هزيم"، فرقًا فرقًا، للتأمّل بالإنجيل ومناقشة مواضيع شتّى تتعلّق بالمجتمع أو بالكنسية، أو كنّا نأتي بكلّ بساطة لنُصغي إليه معلّمًا. كانت هذه الإجتماعات تطول من دون أي اعتراضٍ من جانبه، ونحن كنّا غير آبهين بمرور الوقتت، وكان يبقى هو متغاضيًا عن مسؤولياته المتعددة، التي كانت  تنتظرته.

يومَي الأحد والأربعاء، كنّا نشترك بالقدّاس الإلهي الّذي كان يقيمه في كنيسة مدرسة البشارة. كان يؤمّها مؤمنون كثر ف من رعايا مختلفة بغية سماع عظاته. كان يشدّد على فكرة مركزيّة واحدة بشكلٍ مقتضب وواضح، مذكّرًا إيّانا أنّ الرّسالة الإنجيليّة هي موجّهة لكلّ واحد منّا. كان الوعظ آنذاك نادرًا في كنائسنا، وإذا ما وُجد كانت تتكاثر فيه الأفكار وأحيانًا التّفاهات، فيخال للوعّاظ أنّهم إن قالوا الكثير فقد قالوا الكلّ.

في فصل الصّيف، كان الأب هزيم يكهن في كنيسة قريةٍ ٱسمها ”صَوْفر“، حيث كان بعضنا يمضي فصل الصّيف. فكانت علاقتنا به، نحن وعائلاتنا، تتوثّق خلال هذه الأشهر الّتي كان يشاركنا برحلاتنا ونشاطاتنا الإجتماعية الأخرى إلى جانب القدّاس الإلهي والإجتماعات.

أتاحت لنا هذه ”الرّفقة“ الّتي ٱستمرّت سنوات عديدة، أن نعرف أنّه كان يعيش حياة نسكية. فعندما كنّا نراه يأكل قليلاً، كان ينتابنا الشك حول صحّته، ولم نفقه آنذاك حقيقة تقشفه. وهنا أودّ أن أشارككم خبرة عشتها معه وأثّرت فيّ لفترة طويلة: كان شديد الدّقة وكان يعلّمنا أن نحترم المواعيد. في تلك الليلة حيث ذهبت إليه لاصتحابه إلى اجتماع ما، لم يَبدُ، على عكس عادته، أنّه على عجلة من أمره رغم تأخّرنا عن الموعد. وإذ كنت أُلحُّ عليه، قائلاً له إنّ هناك من يتوقّع وصولنا، ٱعترفَ بكلّ بساطة، أنّه كان ينتظر أن يردّ له حذائه الأوحد، الّذي كان قد بعث لإصلاحه! في ما بعد، أدركتُ، في مناسبات عدّة، أنّه رغم التكريم الّتي كان تيحيط به، استطاع أن يحافظ على بساطة عيشه، الّذي ترعرع عليه في مسقط رأسه، في ”محردة"، في سوريا. وعندما سيم أسقفًا ثم أصبح بطريركًا، وأُعطي له أن يعاشر كبار القوم، لم يفقد أبدًا تواضعه في التعامل مع النّاس والأشياء. رفض بشدة المجتمع الإستهلاكي. وأراد أن يعلّمنا، بطريقة عيشه، أنّه باستطاعتنا أن نواجه هذا المجتمع ونحدّ من إفراطه.

ماذا أقول بعد؟ أعتقد أنّ هذا التواضع وهذه البساطة في العيش أهمّ بكثير، في عين الله، من الإنجازات والأعمال الّتي قام بها، من دون التقليل من أهمّيتها.

أودّ ختامًا أن أدرج بعض النّصوص للبطريرك أغناطيوس الّتي لم يعرفها سوى القليلين. وهي نصوص تتعلّق بالعلاقات الداخلية بين الكنائس الأرثوذكسية، وبالشّتات الأرثوذكسيّ، والعلاقات مع كنيسة روما. أعتقد أنّ من خلالها يظهر لنا وجهًا جديدًا لمنحاه الفكري وطريقة عمله، ويجعلنا نكتشف أنّ بعض المبادرات، الّتي ٱتخذت في وقت لاحق في العالمين الأرثوذكسيّ والمسيحيّ، تعود أصلاً إليه.

في رسالة له، موجّهة إلى البطريرك برثلماوس في 20 أيلول 2001، كتب عن وضع الكنيسة في القارّة الأميركية قائلاً:

”إن كان علينا الصلاة والترجّي كي يأتي اليوم الّذي سوف يعطينا الله فيه، نحن (الكنائس الأمّ)، أن نحدّد سويًا معالم الكنيسة الأرثوذكسية الواحدة، في قارة أميركا الشماليّة، علينا منذ الآن أن نسعى، انتظارًا لهذا اليوم، ألاّ تكون العلاقات الحاضرة والمستقبليّة بين كلّ فئة وكنيستها الأم علاقات محض إدارية وتنظيمية. بل يجب أن نوجّهها نحو تمتين الرّباط الوثيق الحيّ القائم في كلّ من الكنائس مع التقليد الرّسولي، من خلال كنائسها الأمّ. أعلينا أن نذكّر أنّ الطريق نحو وحدة الأرثوذكس في أميركا يكمن في تنفيذ صارم لكلّ قرارات المؤتمرات الأرثوذكسيّة المعدّة للمجمع الكبير المقدّس العتيد، ومحاولة توطيدها، مشجّعين الـ[1]SCOBA  على خلق مزيد من الأرضيات التواصل بين الأرثوذكسيّين لتشجيع التبادل بين المعاهد اللاّهوتية، والحوار بين الأديار، والتنسيق الوثيق بين الحركات الشبابية، مع ترجمة مشتركة للنصوص الليتورجية للّغة الإنكليزية، والتوأمة للرعايا، إلخ. إنّ الوحدة يجب أن تُحقّق خطوة تلو الأخرى، حتمًا حول الـ SCOBA، ولكن أيضًا على مستوى شعب الله بأكمله. على أنّ هذه المبادارت يجب أن تترافق مع بحث جدّي على مدى العلاقات مع الكنائس الأم التي يجب الحفاظ عليها للاستفادة من الغنى الّذي يمكن أن تقدّمه كلّ واحدة منها للفئات الأخرى، إذا شاءت المشاركة بها. علينا أن ننمّي ألأمور في هذا المضمار مع المحافظة على الاستمراريّة التي نحن عليها . إنّ العمل من أجل وحدة الكنيسة على الأراضي الأميركية لا يعني قطع العلاقات مع الكنائس الأم، ولكن إعادة رسمها ضمن حوار محبّة وشركة. سيطلق هذه المبادرات ديناميّة حقيقية للوحدة على الأراضي الأميركية، متجذّرة في الوقت عينه في التقليد الرّسولي وحريصة على إثمار المواهب المكتسبة في العالم الجديد. إنّ هذه الديناميّة ستدفع مؤمنينا إلى ٱستقبال هذه الوحدة بالتسبيح والفرح في الزمن الّذي يراه الرّب موافقًا أن يهبنا إيّاها“.

وفي رسالة أخرى له للبطريرك المسكونيّ، بتاريخ 8 تشرين الثاني 2001، أقرّ أنّ:

”حالة النّزاع وٱنعدام التوافق الحقيقي السّائدان، في كلّ من الكنائس الأرثوذكسية وفيما بينها، تشكّل عثرة، ليس فقط للمؤمنين في كلّ منها، بل للمسيحيّة جمعاء“.

ويكمل:

”في مواجهة خطورة الحالة القائمة في كنيستنا المقدّسة الأرثوذكسيّة، والإنشقاقات المتعددة الّتي تمزّق ثوب المسيح، والضرورة القصوى لوضع حدٍّ لخلافاتنا الداخليّة، أسمح لنفسي أن "أسجد بالرّوح أمامكم متوسّلاً إليكم" أن تأخذوا الخطوات الضرورية لخلق وفاق عام وشامل بين جميع البطاركة والكنائس الأرثوذكسيّة، وذلك مهما كان الثّمن. على مثل هذه المطالحة تتعلّق مصداقيّة شهادتنا أمام رعايانا والعالم. علينا أن نشهد بأعمالنا للرّجاء الّذي فينا، وليس فقط بالأقوال. التاريخ يدقّ اليوم على أبوابنا، هل سندير له أذنًا صمّاء؟“.

أمّا في ما يتعلّق بالعلاقة مع كنيسة روما، فقد كتب رسالة إلى الكاردينال ”كاسبر“، وكان آنذاك مسؤول الفاتيكان للعلاقات مع الكنائس المسيحيّة، مؤرّخة 7 تشرين الثاني 2001، يتمنّى عليه فيها التالي:

”لنعمل سوية على سماع الرّوح فنجرؤ على أن نمضي قدمًا بأكثر حميّة على طريق لقيانا في الرّب... إنّي واثق أنّ إلهنا الأوحد والوحيد سيستمرّ في مدّ يد المعونة وإرشادنا إلى سبل الوحدة“.

وفي رسالة له إلى الأخ ”آنزو بيانكي“، رئيس رهبنة ”بوز“ (Bosé بتاريخ 26 تشرين الأوّل 2001، أعاد البطريرك أغناطيوس التأكيد على أنّه يجب ”ألا ننهزم، بل أن نمضي قدمًا لتتحقّق مشيئة الله في كلّ واحد منّا وفي كنائسنا. ولتعطنا الشجاعة لانتظار اليوم الّذي نرجو أن يكون قريبًا، حين يكتشف كلانا أنّ المسيح السّاكن في قلوها هو نفسه المسيح السّاكن في قلوب الآخرين، وليس لنا خيار آخر سوى أن نقرّ أنّنا إخوة“.

وفي رسالة له في تشرين الأوّل 2001، موجّهة أيضًا إلى البطريرك برثلماوس، في فترة تعرقلت فيه أعمال اللجنة المشتركة مع الكاثوليك، كتب:

”إنّ التعرقل الحالي... يجب ألا يمنعنا من محاولة السّير معًا قدمًا لبلورة شهادة مشتركة ومُفحمة لمواجهة المشاكل الّتي تمزّق البشر .  علينا محاولة تشجيع المؤمنين في كلّ من رعايانا على إستئصال كلّ كره وحقد موروث من قلوبهم. لذلك علينا أن نعزّز حضارة الصداقة والمحبة. يجب أن نشجّع العلاقات الأخوية في الواقع المعاش. ويجب أن تترجم أقوالنا اللاّهوتية في كلّ ما لدينا من أمور مشتركة – ولدينا الكثير – أقول يجب أن تترجم إلى ما هو معاش، بٱعترافنا أنّ الآخر هو أخونا في الرّب يسوع، وذلك رغم كلّ الإختلافات والعراقيل في مسيرنا. يجب أن نقوم بأعمال نبويّة ذات دلالات رمزيّة فاعلة. يجب أن نُعطي الشعب المسيحي علامات حبلى بالرّجاء. علينا أن نجد سوية هذه الأعمال وهذه العلامات... فإنّه بهذا الثمن تتحرك الضمائر وتنكشف القلوب المتحجّرة أنّها من لحم. وبهذا الثمن أيضًا نساعد الكنائس على الخروج من حالة الجمود الحالي الّتي لا بدّ أن تبعدنا عن بعضنا البعض أكثر فأكثر، وتضعف مصداقيّة شهادتنا الإنجيلية“.

وفي خطاب ألقاه البطريرك أغناطيوس أمام البابا يوحنا بولس الثاني في الفاتيكان في 22 تشرين الأوّل 2001، قال بمعرض كلامه على ضرورة إدانة الإرهاب:

”يجب أيضًا إدانة العنف الّذي تمارسه الدول ضدّ الأَفراد أو الدول الأخرى، بخاصة العنف الموجّه ضد الفقراء. علينا في آن أن نرأف بالمُضْطَهدين الّذين يفتّشون عن تحرّرهم بالمقاومة ضد المحتلّين، والعمل على الحدّ من ذبح الأبرياء في كلّ البلدان حيث يموت الأولاد والعجزة والبشر الآخرين مجانًا. يجب أن يتحقّق العدل والسّلام، لا الإنتقام... يجب أن نعزّز هذا البحث عن العدالة مع كلّ الرّجال والنّساء ذوي الإرادة الحسنة... رافضين الخليط العديم التبصّر وردّات الفعل البدائية. دعنا نبشّر بالتعايش بين الأمم...إنّ المآسي الحالية سوف تدوم وتنتج عنها مآسي أعظم. على شهادة الكنائس أن تكون أكثر بلاغة، أكثر إلحاحًا وأكثر فعاليّة. رجاؤنا العميق أن ندعو سويّة كلّ الّذين يرغبون في العيش كمسيحيّين بموجب الروح الإنجيليّة، للصّلاة والصوم، حتّى يرحمنا الرّب الإله ويعطينا أن نقاوم قبضة الشرّ الّذي يبدو لنا مسيطرًا بشكل متزايد على البشريّة“.

بٱعتقادي أنّ هذه الأقوال البليغة النّبويّة، هي أفضل شهادة عن بطريرك أنطاكية الرّاحل أغناطيوس الرّابع (هزيم). ويبقى لي أن أصلّي من صميم القلب: ”فليكن ذكره مؤبّدًا“.



[1]  المؤتمر الدّائم للأساقفة الأرثوذكس القانونيين في أميركا - Standing Conference of the Canonical Orthodox Bishops in the Americas

 

المشاركات الشائعة