بضع ملاحظات حول القدّاس الإلهي
ريمون رزق
النور- العدد 1 2006
في كنيسة أنطاكيّة كبيرة
لاحظت خلال القداس الإلهي، في إحدى الكنائس الكبرى، أن
الكاهن والشمّاس والمرتّل يستخدمون اللغة اليونانيّة أكثر فأكثر، أي بمعدّل جملة
من اثنتين. فقلت في نفسي، معلّلاً هذا التوجّه، إنّه من الممكن أن يكون، بين
الحاضرين، مؤمنون يونانيّون، أو أنّ الذبيحة الإلهيّة مرفوعة على نيّة أعضاء
السفارة اليونانيّة، كما جرت العادة مرّة أو مرّتين في السنة. فجلت بناظريّ من
حولي، ولكن لا شيء من ذلك. لم أرَ، بين الحضور، سوى أبناء الرعيّة المعتادين والناطقين،
جميعاً، باللّغة العربيّة. فتذكّرت زمن انطلاقة حركة الشبيبة الأرثوذكسيّة. يومها
كانت اللغة اليونانيّة واسعة الانتشار، آهٍ، كم بذلنا من جهد لإقناع كهنتنا بضرورة
استخدام لغة تفهمها الرعيّة بأجمعها، وقد نجحنا في مسعانا، والحمد لله.
واليوم، بعد أكثر من ستّين سنة، ها هي ظاهرة إدراج مقاطع
يونانيّة في الصلاة، تعود من جديد، لتحثّ المؤمن على الاكتفاء باللحن على حساب
الفهم.
وكثيراً ما تساءلت عن السبب والدافع؟ هل بتنا ننسى أنّ
إحدى مفاخر الأرثوذكسيّة، كانت على الدوام، الاحتفال بالقدّاس الإلهيّ بلغة الشعب،
توخّياً للفهم الصحيح ولبشارة أكثر فعاليّة. ترى لماذا عدنا أدراجنا؟ هل غدا الهمّ
البشاريّ والرعائيّ ثانويّاً أم الأسباب محض جماليّة؟ لكن من قال إنّ الترتيل
باليونانيّة أجمل من العربيّة مع أنّ اللحن هو ذاته؟ أم أنّ الهدف هو التفاخر
بمعرفة اللّغة اليونانيّة؟ أنا متأكّد أنّ هذه الدّوافع غير موجودة، على الأقلّ،
عند عدد كبير من المعنيّين.
ترى هل هذا هروب لا واعٍ من حقيقة مرّة تعيشها البلاد،
أم نوع من اللجوء إلى ذاكرة جماعيّة تعتزّ ببيزنطية أسطوريّة، وهذا محتمل جدّاً.
ومهما يكن من أمر، هذا يدلّ بوضوح على أنّ الهمّ الرعائيّ يتلاشى، وأنّ القدّاس
الإلهيّ لم يبقَ سوى احتفال لا عملاً جماعيّاً يقوم به شعب الله مجتمعاً حول
سيّده.
وهذا يتّضح أكثر خلال صلاة التقدمة، وبالأخصّ عند
استدعاء الروح القدس للحلول على القرابين المقدّسة، حيث، في أحسن الأحوال، الكاهن
يتمتم الكلمات ولا يسمعها الشعب، في حين ترتّل الجوقة بأعلى صوتها ترنيمة يفترض
فيها أن تتقدّم هذه الصلاة لا أن ترافقها. وطبيعيّ إذاً، أنّ الكاهن هو الذي يقول
آمين بعد كلّ تثبيت لحضور جسد السيّد ودمه، في حين أنّ هذه الآمين هي إحدى حقوق
شعب الله المجتمع.
ألم تكن قراءة الصلوات "السرّيّة" بصوتٍ عالٍ
وواضح، إحدى تجلّيّات الإصلاح الأنطاكيّ الذي انطلق منذ أكثر من ستّين سنة؟ ألم
يكن أساقفتنا الحاليّون أبطال هذا الإصلاح الذي هدف إلى مشاركة المؤمنين، بشكل
أفضل، في ذكرى موت السيّد وقيامته، وهي التي نستعيدها في كلّ قدّاس إلهيّ؟
ونشهد أيضاً ضلالة أخرى، تجري في عدد لا بأس به من
رعايانا، وتتمثّل في الوعظ أو إذاعة الإعلانات المختلفة وذلك قبل المناولة. هل من
المعقول أنّنا ننسى أنّه، خلال القدّاس الإلهيّ، لم يبقَ هناك من مكان للكلام
الأرضيّ، أيّاً كان نوعه، وأنّ الوقت للصمت حتّى نجرؤ على الدنوّ، رغم عدم
استحقاقنا، من القرابين المقدّسة الطاهرة المعدّة لخلاصنا وللحياة الأبديّة.