الأب جورج مسّوح

 ريمون رزق

النور - العدد الرابع 2018


عندما قرأت ما كتبته نور إبنة الأبّ جورج مسّوح يوم دفنه، قلت في نفسي إذا لم ينتج عنه طيلة حياته سوى هذه الكلمات، لكان يكفي. لكنّه أنتج الكثير وألهم كثيرين. استوقفني فيما كتبنه نور قولها، متوجّهة لأبيها: "سأنظر إلى أيقونة المسيح وأراك أنت. أصبحت الأيقونة صورتك. أمسى لقاؤنا الوحيد في القدّاس الإلهيّ، على الباب الملوكيّ، في الكأس...".

كثيرًا ما يبدو لي أنّ كثيرين يتعاطون مع القدّاس الإلهيّ كشأن فرديّ يستقي منه كلّ واحد ما يناسبه، معتبرًا أنّ المناولة التي ينتهي إليها تبرّره. ولا نعي دومًا أنّ القدّاس الإلهيّ هو مسيرة جماعيّة تستحيل بمَن يشترك فيه، حيًّا أو ميتًا على رجاء القيامة، عضوًا في جسد المسيح، وتاليًا أخًا لكلّ البشر. نخرج منه حاملين، ليس فقط جسد الربّ ودمه الكريمين، بل كلّ أحبائنا في وحدة كيانيّة. وقد فهمت نور هذه الحقيقة المصيريّة التي يجهلها كثيرون.

لعلّ أهمّ شهادة على أصالة الإنسان الروحيّة أن يقول أولاده مثل هذا الكلام، إذ يكون قد استطاع أن يجعلهم يعشقون الفادي الذي كرّس هو نفسه له، ويعرفون أن يجدوه في وجوه عشّاقه.

عرفت جورج مسّوح شابًا طالبًا في معهد القدّيس سيرجيوس في باريس في أوائل تسعينات القرن الماضي، وبقينا فيما بعد على تواصل لكن بوتيرة أقل لانشغالنا المتبادل بمهامنا "المهنيّة". لكن عندما كنت ألتقيه كنت أشعر أن حوارنا انتهب البارحة، وعلينا متابعته.

كنت أنا منشغلاً بأمور هذا العالم. أمّا هو فكان "يشتغل بالله". كان يعمل من أجل الله في بيته ورعيّته والحركة والمعهد المسيحيّ الإسلاميّ الذي كان مسؤولاً عنه، وأخيرًا وليس آخرًا لدى كلّ الذين كانوا يقرأون ما يكتب في الصحف.

يدلّ كلام ابنته نور ببلاغة عن عمله في عائلته. لا أعرف الكثير عن عمله في رعيّته، لكن الوجوه الباكية الكثيرة التي شاهدتها أثناء جنازاته تشهد صامتة عن هذا العمل. لست مؤهّلاً أن أتكلّم على عمله في المعهد، لكن سمعت عنه الثناء من كثيرين،مسيحيّين وغير مسيحيّين. لن أتكلّم على عمله في الحركة التي جمعتنا، لأنه كان عمودًا من أعمدتها، وسنفتقده كثيرًا.

لكن أريد أن أتوقّف عند مقالاته الأسبوعيّة في إحدى الصحف البيروتيّة والمواقع الإخباريّة، والتي كانت تمثّل، إلى جانب إفتتاحيّات المطران جورج (خضر)، معلّمه وأبيه الروحيّ، الصوت الآخر الداوي الوحيد الناطق باسم الكنيسة الأرثوذكسيّة، لا بل باسم المسيحيّة الحقّة في أمور الناس وتحديّات العالم المعاصر.

انتقده البعض على مواقفه التي اعتبروها "ثوريّة" غير واعين أنّها كانت تمثّل ثورة الإنجيل الحقيقيّة التي تفوق حكمة العالم، وأنّ المسيحيّ إن فقد روح الثورة والنبوّي يصبح ملحًا لا يملّح. والآن حيث الصوتان تلاشيا، مَن سيذكّرنا أنّ الربّ يردينا شهودًا له "الآن وهنا".

كما يقول الأب جورج في مقدّمة كتابه الأخير[1]، كان بكتاباته "يتوسّل أوّلاً الحفاظ على استقامة الإيمان والأمانة له، ومحاولة لكسر الجمود وعدم القبول الأعمى بكلّ ما يقوله التقليد من غثّ وسمين". فنحتاج اليوم لمَن يذكّرنا بالغبار التي تراكمت على كنوز كنيستنا، والتي يقدّسها كثيرون، ناسين أنّ القربان يقدّس المذبح وليس العكس، غير واعين أنّ هذه الغبار تحجب في كثير من الأحيان وجه الربّ المنير. الجهل والخرافات والتحجّر بجميع أشكالهم لا يبنون أبدًا، وهم يتزايدون في بعض إوساطنا، ولا بدّ من مواجهتهم بروح الإنجيل كما كان يفعل الأب جورج. فمَن سيحمل المشعل الآن؟

تواجه كنيستنا تحديّات عديدة، منها داخليّة ومنها من عدم قابليّة التأقلم بالعالم المعاصر. في غياب قول الحق في أمور الحداثة والعولمة والدهريّة والمدنيّة الناتجة عنها، ينجرّ شعبنا إلى ما يأتيه من الغرب ويعتبره من "مكتسبات" الإنسان المعاصر التي لا يعارضها إلاّ "الأصوليّين" الذين يتشبثون بكلّ ما هو قديم بدون تمييز، لمجرّد أنّه قديم. بينما يوجد في تراث كنيستنا مواقف ملهَمَة فذّة وقفنا آباؤنا في شتّى العصور أمام تحديّات عصرهم. علينا أن نستعمل منطلقاتهم لنبتكر مواقف شبيهة بمواقفهم تلائم خصوصيّات عصرنا. يمرّ الزمن على كلّ جماعة لا تواجه التطوّر البشريّ إلاّ بالرفض بدون تبرير ارتكازها على مسلّمات لم تعد مفهومة وتاليًا غير مقبولة من كثيرين.

على الكنيسة التصدّي لهذا الواقع المرير بإيجاد حلقات تبحث كلّ هذه التحدّيات بواقعيّة، بعيدًا عن التزمّت، وتقيّيمها على ضوء الإنجيل والتقليد الآبائي، وتعطي العباد رؤية مسيحيّة لها، منبّهة إلى إيجابيّاتها ومحذّرة من سلبيّاتها، كما كان يفعل الأب جورج.

نحن بحاجة ملحّة لمَن يقول، أمام هذا المجتمع المتعطّش إلى التملّك، إنّ كلّ ما لنا عطيّة الله ولسنا سوى وكلاء عليها. وفي عالم يستخفّ الإلهيّات، علينا أن ندعو إلى ما يبدو عديم الفائدة لكثيرين، أيّ الصلاة، والقداسة، والمجّانيّة، والجمال، بيد أنّه ينير كلّ شيء ويعطيه معنى. وأمام عالم يوشك أن يفقد كلّ شعور بالذنب، ويُستباح فيه كلّ شيء، يتوجّب علينا ألاّ نخجل من التوبة إذ نعرف أنّنا خطئة، لكن خطأة يُغفر لهم. وفي عالم سادته الفردانيّة وانحلّت فيه الروابط العائليّة، ويسمّر فيه الشباب والشيوخ على صليب الوحدة والانعزال، علينا تحويل جماعاتنا الإفخارستيّة ومؤسّساتنا الكنسيّة إلى أماكن ضيافة رحبة وشركة وخدمة حقّة، مطارح تُختبر فيها وحدة البشريّة بغضّ النظر عن كلّ اختلاف بالرأي أو الجنس أو المعتقد، مطارح يلتقي فيها الزمن بالأبديّة فنتذوّق مسبقًا طعم الملكوت. وفي عالم يحتدم فيه العنف علينا القضاء على دوامة العداوة والثأر الجهنّميّة بمحبّة أعدائنا ولاعنينا. وأخيرًا في عالم يُستباح فيه كلّ شيء بما فيه قدسيّة الحياة، وتبدو الحريّة فيه كأنّها قد أطلقت لنفسها العنان، على كلّ الصعد، وخاصّة على صعيد الأخلاق والعلاقات الإنسانيّة، لا بدّ لنا أن نعرف بواسطة ضبط عيشتنا واحترام الآخر وحريّته والانفتاح على اختلافه وممارسة "الطاعة المتبادلة" معه (أفسس 5: 21)، ومحبّته بعيدًا عن كلّ مصلحة، أنّ "الأمر مختلف بالنسبة إلينا" (لوقا 22: 26) لأنّنا نريد تفعيل اهتدائنا بالربّ يسوع.

هذه الأقوال ومثيلاتها كان يقولها الأب جورج. سنفتقدها حتمًا. ولعطنا الربّ مَن يقولها مكانه.

فليكن ذكره مؤبّدًا!

 


 



[1]  الآن وهنا، تعاونيّة النور الأرثوذكسيّة للنشر والتوزيع، 2018.

المشاركات الشائعة