أفكار حول اللاهوت

 

ريمون رزق

النور - العدد الأوّل 1983


أن يكون لنا لاهوت على طريقة الصيّادين – الرسل وليس على طريقة أرسطو (القدّيس غريغوريوس النازيانصي)

حين نتحدّث عن "اللاهوت"، يتصّور الكثيرون أنّنا بصدد "منظومة فكريّة" تتناول مسائل الله والإنسان والعالم تعبّر عنها، بلغة مجرّدة، جماعة من المطّلعين تسمّى لاهوتيّين.

ملاحظتنا الأولى أنّ هذا المفهوم، وإن لم يكن بالكلّيّة غريبًا عن الشرق المعاصر والقديم على حدّ سواء، راسخ بشكل خاص في المنظور المسيحيّ الغربيّ. إنّ المسيحيّة الغربيّة، منذ عصر النهضة، عملت على عقلنة سرّ حياة الوحي المسيحيّ. أصبح اللاهوت شغل الإكليريكيّين، تلك الفئة صاحبة امتياز كشف الحقائق وتقديمها للإنسان العاديّ بحيث يقبلها حقائق مقدّسة غير قابلة للمسّ. هكذا نزع اللاهوت إلى التحوّل إلى "علم" ولكنّه "غير قابض على الواقع" ودارت المساجلات حول تفسير نصوص الكتاب المقدّس خارج إطار القراءة الحيّة والحقيقيّة التي يقوم بها شعب الله محرّكًا من الروح القدس. حين أراد اللاهوت لنفسه أن يصبح "علمًا"، أنتج لغة خاصّة به، وفي الغالب، غير مفهومة. وفي سيرته عبر الإستدلالات والبراهين ضعفت قدرته على الإحاطة بالسرّ فوقع في العديد من الثنائيّات (جسد وروح، طبيعة ونعمة، إكليريكيّون وعلمانيّون، شخص وجماعة إلخ...). هذا وشكّلت الثنائيّات إحدى قسمات حضارة سُمِّيَت مسيحيّة. في إطار مفهوم اللاهوت هذا، أو بالأحرى العلمويّة اللاهوتيّة (Scientisme théologique)، بات سهلاً الحديث عن الله والكتاب في المسائل الإلهيّة. ولكن، جوهر الحياة المسيحيّة ليس الحديث عن الله بل التطهّر به ولأجله.

إنّ لاهوتًا كهذا، نتاج "مسيحيّة" إقطاعيّة وثمّ رأسماليّة، لم يستطع أن يجاوب على حالة البؤس الروحيّ وإعادة النظر في كلّ قيم الماضي التي يعرفها الكثير من المسيحيّين، في زمن المواجهة مع العالم الحديث. إنّ إعادة النظر أو حتّى التمرّد، هي أوّلاً "دعوة لتجاوز اللاهوت المجرّد والبالي حيث لا يجد الإنسان المعاصر نفسه" ولكنّها تقود في الغالب، إلى "تفتّت كلّ من المضمون الإنجيليّ للإيمان والمعنى التاريخيّ للأحداث الكتابيّة" (أڤدوكيموڤ).

اللاهوت: خبرة شخصيّة

في مواجهة هذا الوضع، يستحسن أن نعود إلى الينابيع لاكتشاف ماهيّة اللاهوت في الكنيسة الأولى ولتبيان كيفيّة عيشه في التراث الشرقيّ وفي التجديد الحقيقيّ الذي يُعرف في الغرب.

أحد آباء الكنيسة اللاتينيّة في القرن الرابع، القدّيس هيلاريون كتب "إنّ رادءة الهراطقة والمجدّفين تجبرنا على القيام بأفعال محرّمة... على تناول موضوعات غير قابلة للوصف... على تقديم شروحات ممنوعة. كان يكفينا أن نحقّق بالإيمان وحده ما يفرض أن نقوم به: عبادة الآب ومعه إجلال الإبن والامتلاء من الروح القدس. ها نحن مضطرّون لاستخدام كلامنا المتواضع للحديث عن السرّ الذي لا يمكن وصفه. إنّ خطأ غيرنا يرمينا نحن في خطأ تعريض الأسرار لمخاطر محدوديّة اللغة الإنسانيّة".

كانت الكنيسة الأولى تحذّر صياغة العقائد وتحاول دائمًا أن تتحاشى تحويل إيمان الأناجيل إلى منظومة فكريّة.

إنّ العقائد، كما شرحتها المجامع المسكونيّة تعكس خصوصيّات الظرف التاريخيّ واللغة. إنّها، في النهاية، شكل ملائم لمضمون لا يتغيّر وهذا المضمون هو ميزة اللاهوت الحقيقيّ. إنّه من الأهمّية بمكان وهذا ما لا نعيه كفاية – أن نميّز بين موضوع الإيمان وتقديمه بالارتباط مع بيئة ثقافيّة معيّنة. العقائد صياغات مقبولة لحقيقة مُوحى بها. ليست هذه الصياغات لاهوتًا "وصنع" اللاهوت ليس، بالتالي، إنتاج صياغات "حديثة".

من وجهة نظر الكنيسة الشرقيّة اللاهوت، أساسًا، "خبرة". الخبرة هذه، حسب القدّيس مكسيموس، هي: "المعرفة بالفعل الذي يتجاوز كلّ مفهوم... مشاركة في الموضوع الذي يكشف نفسه متجاوزًا كلّ فكر". اللاهوت هو، حسب الآباء، المعرفة التأمّلية بالمشاركة. اللاهوت هو "اتّصال" بحياة الله، مشاركة فيه وانطلاقة إلى الإنسان الذي هو صورته. يقول إفاغريوس البنطي "إذا كنت تصلّي حقيقة فأنت لاهوتيّ وإذا كنت لاهوتيًّا فإنّك تصلّي حقيقة". اللاهوتيّ هو من يعرف كيف يصمت حتى يدع الله يتكلّم.

"إنّ تعاطي" اللاهوت، بالنسبة للمسيحيّ، هو السعي إلى الله وهو الذي يقود بالتأكيد إلى اكتشاف الإنسان. السعي هذا، إن استخدم العقل، يقود إلى لقاء على الوجه الآخر من العقل لأنّ "المفاهيم تخلق أصنامًا والدهشة وحدها تفهم شيئًا ما" (غريغوريوس النيصوصي). يقول اسحق السريانيّ: "ليس الله فوق، إنّه أمامنا بانتظار اللقاء".

تعاطي اللاهوت، باختصار، قضيّة محبّة: محبّة الله وإذًا محبّة الإنسان. إنّه استعداد للقول، مع مريم المجدليّة عند القيامة، "أين وضعوا مخلّصي؟" أي أن نتذكّر الله في كلّ لحظة وأن نعي، على غرار تلميذَي عمواس، أنّ المسيح القائم من بين الأموات هو دائمًا قريب.

اللاهوتيّ، مثله مثل كلّ مسيحيّ حقيقيّ، مدعوّ أن يصبح شاهدًا للمسيح، يعرف أنّه محبوب من الله الذي يصبح بالنسبة له الحقيقة الوحيدة. إنّه من يريد إيصال هذه الحقيقة ويترجمها بالخدمة وبالمحبّة. حرّ من كلّ قيد لأنّه قد حُرّر، جاهز للمشاركة في كأس آلام الناس الذين يحيطون به. المسيحيّ مدعوّ أن يكون إنسانًا "داخليًّا" يقدّس (Sanctifie) العمل، يجعل العلاقات الاجتماعيّة والاقتصاديّة إنسانيّة، يتعالى عن الحقد، يرفض الظلم ويكون صوتًا نبويًّا يذكّر، في كلّ حين، بمستلزمات المحبّة والرحمة حتّى في قلب النضال من أجل قيام عالم أكثر عدلاً.

اللاهوت: خبرة كنسيّة

يقول أ. م. الشين (A. M. Allchin) (في كتابه "مساهمة الأرثوذكسيّة في النقاش حول الله"): "إن اختبار الله إلى كونه شخصيًّا بنسبة عالية، ليس فرديًّا. الخبرة والمعرفة لا تعطى للانسان معزولاً عن غيره، بل للجميع معًا. في أن كلّ واحد يتلقّى الرؤية الفريدة والخاصّة به في إطار جماعة المشاركة في الإيمان وفيه فقط. الكنيسة ليست، حسب التقليد الشرقيّ، مؤسّسة معصومة يخضع لها الفرد وإليها يلجأ. مفهوم كهذا ينقض الكرامة التي أعطاها الله للإنسان وحريّته في الروح القدس. الكنيسة مهمّة من حيث هي مكان شركة بين الناس وخبرة إيمان مشترك وحبّ وعبادة. في الكنيسة نلتقي الإنسان الآخر وفي تلك الشركة نلاقي الله". الكنيسة، بهذا المفهوم، هي العلامة الكبيرة لحضور المسيح في العالم. في الكنيسة تتحقّق وحدة الإنسانيّة متجاوزة كلّ الفروقات في الرأي والاختيارات وفيها أيضًا – في لحظتها الأسراريّة على الأقل يلتقي الزمان بالأبديّة الكنسيّة، حسب تحديد قديم جدًّا، هي المؤمنون حول الأسقف في الأفخارستيّة. بديهيّ إذًا، أنّ الكنيسة لا تحدّ بالمؤسّسات الكنسيّة. المؤسّسات، على امتداد التاريخ، أخفقت أحيانًا كثيرة. وإذا ما أخفقت الكنيسة بسببنا نحن، كهنة وأساقفة وعلمانيّين، فبنا أيضًا وبفعل الروح القدس تستطيع أن تصبح أكثر أمانة لرسالتها، فنكون أيقونة عالم يحبّ الناس فيه بعضهم بعضًا ومنه تنبع المحبّة. المسيحيّون، إذًا، مدعوّون للعمل بدءًا من التوبة الجماعيّة تعاطي اللاهوت يعني الفعل داخل الكنيسة – التي هي وطننا الروحيّ – حتّى تحقّق، أكثر فأكثر، ذاتها أي تكون عروس المسيح "مجيدة لا دنس فيها ولا غضن أو شيء من مثل ذلك بل تكون مقدّسة وبلا عيب" (أفسس 5، 27). في حركة التوبة هذه الذي دعي شعب الله إليها، علينا التمييز بين التقليد والتقاليد وبين الجوهريّ والعرضيّ. إنّ بعض التقاليد، من حيث هي في الغالب انعكاس لمصالح شخصيّة أو قوميّة، قد طمست التقليد الحقيقيّ. نحن مدعوّون للتخلّص من هذه التقاليد من غير التخلّي عن التقليد الحقيقيّ الذي أُخفيَت معالمه. بهذا المعنى نتحدّث عن جدليّة الاستمرار والانقطاع في الكنيسة: استمرار خطّ القداسة الذي يحيط بالسرّ الأساسيّ والانقطاع في بعض الأشكال التي تتغيّر بتغيّر الزمان والمكان. المسيحيّ هو من دُعي ليسلّم نفسه لفعل الروح حتّى يميّز حقيقة الله في مختلف الأمكنة والظروف، ويعمل من أجل عودة الكنيسة إلى ينابيعها متحرّرة من ثقل تركة التاريخ وتقلّباته.

في هذا المنظور، ليس من مجال للنشاط الإنسانيّ خارج اهتمام المسيحيّ بل هو مدعوّ للدخول إلى أعماق العالم حيث يتألّم الناس. المسيحيّ، وبالتالي، اللاهوتيّ، يلتفت بانتباه إلى صراخ العالم وإلى الاضطرابات التي يشهدها. عليه أن يعرف التمييز بين الأشكال التي يرتديها التزامه وأن يكون واعيًا أنّ كلّ شكل هو تحت حكم الله وأنّ كلّ جدّة تأتي من داخل الإنسان. الإنسان الجديد أُعطيَ لنا، لسنا بصدد صنعه بل اكتشافه. إنّه المسيح المتجسّد الذي إذا ما أصبح هو كنه ذاتنا يولد أشكالاً وبنى جديدة.

هذا هو مضمون "البشرى السارّة"، جدّة الإنجيل. وإذا ما "فسد الملح" وضعف وجود القداسة في الحبّ الفاعل، أيّة مسيحيّة نقدّم للعالم وما هو مضمون مساهمتنا؟

اللاهوت: خبرة إنسانيّة تامّة

1 ) ممّا لا شكّ فيه أنّ كلّ سعي نحو القداسة الشخصيّة لا ينفصل عن البعد الاجتماعيّ. يقول الذهبيّ الفم "أن نسعى لخلاص أنفسنا فقط هو السبيل الأكيد لخسارة الخلاص. حياتنا معركة قاسية. إن ملكنا يأمرنا أن ننتصب واقفين في صفّ الآخرين من غير ملاحقة مصالحنا الخاصّة" ويقول في معرض آخر "الأغنياء لصوص من صنف معيّن. لا تقل: أتمتّع بمالي. إنك تتمتّع بما للآخرين فكلّ خيرات العالم ملك الجميع كالشمس والأرض والهواء وكلّ الباقي". أمّا باسيليوس الكبير فيقول: "أنت سارق إذا ما كدّست الملكيّة التي لك. إنّ الخبز الذي تخزّنه هو ملك الجائع...". لائحة الاستشهادات في هذه الروحيّة، طويلة عبر الأجيال. إنّ الفكر الإنجيليّ، كما يقول برديايڤ، واضح وحادّ في تناوله لمسائل الغنى والاستغلال. يشير أوليڤيه كليمان إلى أنّ التراث الشرقيّ يظهر بوضوح "أنّ الحضور الشخصيّ للمسيحيّين في السياسة والاقتصاد والفنّ ممكن وواجب" وهو حضور منفتح، مغيّر يبحث في الحب وبواسطته، عن وجه المسيح في الإنسان ويذكّر به، ويعمل اتجاه قصد الله للخليقة.

2 ) لا بدّ لنا من الاعتراف بأنّ التطوّرات التقنيّة والاقتصاديّة المهمّة، التي أحدثت تغييرات جدّية في بنى المجتمعات الحديثة وعقليّاتها، تطرح علينا مشكلات جديدة. ولكنّ الكنيسة، والغالبيّة الساحقة من المسيحيّين، ليست دائمًا قادرة على مواجهة هذه التحدّيات ونراها معرّضة للتجربتَين التاليتَين:

أ - في مواجهة إنسان يعيد النظر في كلّ شيء ويعتزّ بقدرته التقنية، ويستخدم لغة جديدة ولا يتحدّث البتّة عن الله، يحسّ عدد من المسيحيّين بنوع من الهول. إنّهم يرفضون سلطة الآلة وقساوة الحضارة التي ولّدت، ويرون في ذلك مظهرًا من مظاهر حكم المسيح الدجّال. إنّهم ينطوون على أنفسهم في تقوقع جامد لا يخلو من الكبرياء والأبويّة ويعبّر عن نفسه بإدانة كاملة وحادّة للعالم الحديث. يريدون أنفسهم "أرستوقراطيّة صلاة" تتسلّح بالنبؤات وبرؤيا يوحنّا، وتفهم، على طريقتها، كلمات يوحنّا: "لا تحبّوا العالم ولا الأشياء التي في العالم. إن أحبّ أحد العالم فليست فيه محبّة الآب" (رسالة يوحنّا الأولى، 2، 15). إنّهم ينسون أنّ "العالم" في فكر يوحنّا مرتبط بمفهوم "الجسد" في الكتاب المقدّس (المطران جورج خضر).

ب - في الطرف المقابل، هناك من يزجّون أنفسهم في العالم من غير طرح مشكلة المعنى الروحيّ والكونيّ للحضارة الحديثة بالنسبة لهؤلاء، لا بدّ من تحطيم الكنيسة حتى يولد الإنسان الجديد والأخلاق الجديدة التي ينتجها علماء الاجتماع والتحليل النفسي. وإذا ما استهوتهم إنسانيّة المسيح أعلنوا أنّ نقطة البداية للاهوت الجديد ليس في الله ولكن في الإنسانيّة.

3 ) الموقف المسيحيّ الحقيقيّ، في المنظور الشرقيّ، يتجاوز هذا الاستقطاب ولا يقع في إحدى التجربتَين. إنّه يلتقط بعض عناصر الحدس اللاهوتيّ الجديد ولكنّه لا يقبل بمحدوديّته بل يتجاوزه باللاهوت الحقيقيّ الذي ليس إلّا "حياة في المسيح" أو "اختبارًا مسيحانيًّا كاملاً".

4 ) إنّ الحدس اللاهوتيّ الجديد يتضمّن عناصر محرّرة وهو، إذ تولد في صراعات العالم الحديث وأزماته، يلاقي، على بعض المستويات، الأحاسيس المسيحيّة الأصيلة، الآبائيّة منها بوجه خاص.

أ ) إنّه أوّلاً يحرّرنا من صور خاطئة عن الله. فالإله الذي أماته نيتشه ليس الله الحيّ الذي به نؤمن ولذلك فإنّ "موت الله" الذي يعلنه الكثيرون لا يقلقنا.

ب ) إنّ مقاربة "اللاهوت الجديد" تحرّر أيضًا من صورة الإنسان الخاطئة. ماذا بقي من ثنائيّة الروح والجسد التي طبعت الحضارة الغربيّة – المسمّاة مسيحيّة – بعد اكتشافات علوم الطبيعة والاجتماع والتحليل النفسيّ؟ في هذا المجال، يذكّرنا العلم الحديث بواقعيّة آباء الكنيسة القائلة: "إنّ الشخص الإنسانيّ لا يتحدّد بأي جزء من طبيعته أو بجسده أو روحه ولا حتّى عقله التأمّلي. إنّه يتجاوز هذ االعقل الذي يبدو الآن متّصلاً بالمادة. إنّه الآخر بالكلّية وغير القابل للمقارنة والذي لا يُعرف إلا في مجازفة اللقاء" (أوليڤيه كليمان).

ج ) من شأن "اللاهوت الجديد" أن يساعدنا على التخلّص من الخرافات وبعض أشكال الممارسة الدينيّة. إنّه يشكّل محاولة جدّيّة لتشخيص الواقع المسيحي التاريخيّ والراهن حيث "يتبخّر الطابع الديني ويبرز مجدّدًا المظهر الوثنيّ وحيث يحلّ الفلكلور الديني محلّ الشأن الروحي والرموز والطقوس المفرغة من معناها محلّ السرّ".

د ) إنّه يساهم في كشف استخدام الدين لأغراض سياسيّة في الأوضاع، التي عرفت في الماضي وهي تعرف أيضًا اليوم، حيث يستخدم الله لتبرير أنظمة الاضطهاد والاستغلال. وهو بالتالي، يدفعنا إلى العمل – على المستوى العالمي – من أجل مجتمع يسوده العدل والسلام.

ه ) أخيرًا، يحرّر التوجّه اللاهوتيّ الجديد الكنيسة من دورها الأخلاقوي أي من عمليّة إضفاء طابع القدسيّة على الممنوعات أو المحرّمات الاجتماعيّة.

5 ) ولكن، إذا ما كان اللاهوت الحقيقيّ حياة في المسيح والتفكير اللاهوتيّ مسؤوليّة وموهبة، لا بدّ من الإشارة إلى محاذير "اللاهوت الجديد" من حيث أنّه يحدّ الالتزام المسيحيّ في أطر العمل الاجتماعيّ والسياسيّ.

أ ) إنّ اللاهوت، حياة معرفة مغيِّرة ومؤلِّهة وهو، في جوهره، غيّر البنى الفكريّة والقيم التي يتضمّنها الالتزام الإنساني في المجتمع. إنّه "جديد" من جدّة "العالم الآتي". ليس اللاهوت بنية فوقيّة أو منظومة فكريّة مجرّدة، بل هو إيمان بالإنسان وبقوّة القيامة الفاعلة فيه. يقول بردياييڤ "إذا كان الخبز لي مسألة مادّية فإنّه لقريبي مسألة روحيّة".

ب ) إنّ "العالم الآتي" ليس بنية اجتماعيّة جديدة ولا إيديولوجيّة. ليس الإنجيل نموذجًا اجتماعيًّا بل هو حدث تاريخيّ يحمل الحياة الفعليّة للإنسان.

ج ) اللاهوت نبويّ: يطلع من الحدث، حيث يتكلّم الله الحيّ ويفعل روحه المحيي. يتحدّى تجارب السياسة والمحاولات التي تجعل من الإنسان ذا بُعد واحد.

د ) في عالم القمع والقهر والاستغلال، وفي مواجهة أنظمة تستبيح الكرامة الإنسانيّة وتسمح لفئة أن تتسلّط على الآخرين، يعي المسيحيّ نفسه مصلوبًا. إزاء العنف الذي يجتاح العالم بفعل الظلم، قد يجد المسيحيّ نفسه مضطرًّا لاستعمال العنف من أجل الدفاع عن الحقّ والعدل. ولكن، علينا ألّا نتسرّع في وضع لاهوت للعنف. لنقبل بتواضع أنّ العنف شرّ من شرور وضعنا الإنسانيّ ولا يجب أن نقيمه نظامًا. لقد عبّر يسوع المسيح بشكل واضح جدًّا عن رفضه للسيف والمال مبرزًا مركزيّة المحبّة من حيث هي جوهر "البشرى". لو لم تبرّر المسيحيّة التاريخيّة، بتسرّع، الحروب المسمّاة "عادلة"، لكان تاريخ البشريّة اختلف بشكل ملحوظ. يحتاج عالمنا اليوم إلى تجسيد فعليّ للمحبّة وإلى القول الإنجيليّ: "انظروا كيف يحبّون بعضهم"، أو إذا جازت لنا إعادة صياغته: "انظروا كيف يحبّون".

يقول پول اليوار: "لسنا بحاجة إلى كلّ شيء لكي نصنع عالمًا، إنّنا بحاجة إلى المحبّة ولا شيء غير ذلك". المسيحيّ وبالتالي اللاهوتيّ، مدعوّ في قلب العذاب، أن يحمل المحبّة وأن يكون مستعدًّا للشهادة. إنّ صلاة بولس الرسول في رسالته إلى أهل أفسس (3، 14 – 29) تستعيد كلّ راهنيتها وهي بالتالي مدعوّة أن تكون صلاتنا. "بسبب ذلك أحني ركبتيّ لدى أبي ربّنا يسوع المسيح الذي منه تسمى كل عشيرة في السموات وعلى الأرض. لكي يعطيكم بحسب غنى مجده أن تتأيّدوا بالقوّة بروحه في الإنسان الباطن. ليحلّ المسيح بالإيمان في قلوبكم وأنتم متأصّلون ومتأسّسون في المحبّة. حتّى تستطيعوا أن تدركوا مع جميع القدّيسين ما هو العرض والطول والعمق والعلو وتعرفوا محبّة المسيح الفائقة المعرفة لكي تمتلئوا إلى كلّ ملء الله. والقادر أن يفعل فوق كلّ شيء أكثر جدًّا ممّا نطلب أو نفتكر بحسب القوة التي تعمل فينا. له المجد في الكنيسة في المسيح يسوع إلى جميع أجيال دهر الدهور."


المشاركات الشائعة