انطباعات حول رعيّة باريسيّة صغيرة

ريمون رزق

النور - العدد الخامس 2006 


شاركتُ، منذ بضعة أيّام، في القدّاس الإلهيّ، في كنيسة باريسيّة صغيرة حيث يجتمع كلّ أحد، أرثوذكس ينتمون إلى إثنيّات متعدّدة، من بينها اليونانيّة والروسيّة والصربيّة والعربيّة والأوغنديّة. لم يحل هذا التنوّع الإثنيّ دون أن يلتقي المؤمنون، ليحتفلوا بموت يسوع وقيامته بلغة مشتركة بينهم، وأعني بها اللغة الفرنسية. إنّها إحدى الرعايا النادرة في فرنسا، (ربّما هناك أقلّ من عشر أُخر غيرها)، التي تُقام فيها الذبيحة الإلهيّة باللغة المحلّيّة، في حين معظم الكنائس الأرثوذكسيّة الباقية ما تزال الصلوات فيها بالسلافونيّة أو اليونانيّة القديمة أو بالعربيّة، مع أنّ الأجيال الفتيّة، في كلّ من هذه المجموعات الإثنيّة، لا تفهم لغتها الأمّ، وإذا فهمتها فبصعوبة بالغة. 

إنّها الميزة اللافتة في هذه الكنيسة. والثانية لا تقلّ عنها أهمّيّة، وتتمثّل في أنّ معظم المؤمنين، عندما يدخلون الكنيسة، وحتّى قبل أن يضيئوا الشموع أمام أيقونة السيّد أو السيّدة أو أيّ قدّيس آخر، يتعانقون بحرارة. ومن الواضح أنّ كلّ الذين يرتادون هذه الكنيسة يعرفون بعضهم بعضاً حقّ المعرفة. وهم يعون أيضاً أنّهم يشكّلون معاً مجموعة متعايشة وعائلة كبيرة. السعادة بادية على وجوههم، والسبب أنّهم يجتمعون ليسبّحوا إلههم ويمجّدوه، وهم يدركون أنّهم، باشتراكهم في الإفخارستيّا، مدعوّون إلى تكوين الكنيسة، وبذلك يفتخرون رغم تواضعهم الكبير. خلال الخدمة وبعدها لكلّ واحد منهم مسؤوليّة خاصّة به. والكاهن أب لكلّ منهم يعرفهم جيّداً ويحبّهم. عدد من العلمانيّين، رجالاً ونساءً، يُنتَخَبون، ليمثّلوا الإخوة في مجلس الرعيّة، حيث يتقاسمون فعلاً، مع الكاهن، مسؤوليّات الرعيّة ورسالتها. تسنّى لي، منذ سنوات، حضور إحدى اللقاءات الرعائية التي يُدعى إليها عادة كلّ المنتمين إلى الرعيّة والمشاطرين حياتها الكنسيّة. لقد تعلّمت الكثير من هذا الاجتماع، وأعجبت بجدّية الحوار وبالرغبة الواضحة في التجدّد وقبول الآخر والشهادة. المجتمعون يتحاججون بصراحة واحترام متبادلين، والكاهن يدير النقاش من دون أن يفرض نفسه، ويتدخّل فقط عندما يرى ذلك مناسباً، لكن على أساس أنّه عضو في الرّعيّة و"كأوّل بين متساوين"، وهو مستعدّ دوماً ليترك الكلام للآخرين كي يعبّروا عن آرائهم بحرّية مذكّراً في كلّ حين بمقتضيات الإنجيل ودعوة الربّ السيّد إلى التوبة.

تكمن الميزة الثالثة في أنّ كلّ مؤمن، وعند ولوجه عتبة الكنيسة، يضع لائحة بأسماء الأحياء والأموات الذين يودّ ذكرهم، فيخصّص، لهذا الغرض، جزء من خبز التقدمة يعطى للكاهن ليقوم بالذكرانيّة. هكذا يدرك كلّ واحد منهم أنّه يأتي إلى الكنيسة ليلتقي أيضاً أحبّاء غائبين أو مرضى أو آخرين أصبحوا جزءاً من الكنيسة غير المرئيّة. الجوّ السائد في هذه الكنيسة يتّسم بالخشوع، الأيقونات تؤكّد حضور الربّ وقدّيسيه، المؤمنون يحتفلون، مع أمواتهم والملائكة، بذكرى موت السيّد وقيامته التي تدعونا جميعاً، أحياءً وأمواتاً إلى أن نكون أعضاء في عائلة الآب الواحدة.

عند تلاوة الطلبات الإلحاحيّة، لا يكتفي الكاهن بتعداد أسماء المرضى والمتوفّين، كما في كلّ مكان، بل يذكر أيضاً المقهورين والمظلومين في بلدان أخرى، يعيشون حالات العنف والظلم والكوارث، ويعدّد أسماء النساء الحوامل والموعوظين الذين يستعدّون للانتماء إلى الكنيسة الأرثوذكسية. تضاف إلى ما سبق نيّات وطلبات مختلفة يطلبها المؤمنون. وهذا يترك عند الحاضر انطباعاً بأنّ الرّعية تحمل العالم، بأفراحه وأتراحه، لتنقله إلى ملاقاة ذلك الذي سيأتي. هذه الرعيّة لم تتحجّر في تكرار، قد يكون في أكثر الأحيان، عقيماً لا يحاكي المؤمنين. وإذا عدت بالذاكرة إلى الحرب التي دارت في لبنان، عندما كنت في بعض الآحاد، أتردّد على هذه الكنيسة، كان الكاهن يرفع الصلاة من أجل لبنان ووجميع أبنائه الذين يعانون الكثير من جرّاء أعمال العنف والحرب الأهليّة.

الصلاة من أجل الموعوظين هي دليل دامغ على أنّ الرعيّة تعي دورها كمبشّرة ومعلّمة، وإلا فهي لن تبقى أمينة لرسالتها. على أيّ حال الصلوات الخاصّة بالموعوظين، في نهاية خدمة الموعوظين التي تُقرأ بصوت عالٍ، تجد معناها الكامل، ولا تعتبر، البتّة، غريبة وخارجة عن سياق القدّاس، كما تبدو في كنائس كثيرة.

خلال صلاة استدعاء الروح القدس، ليحلّ علينا وعلى القرابين المقدّسة، فيحوّلها إلى جسد يسوع المسيح ودمه، يسود الصمت في الكنيسة، ووحده صوت الكاهن يعلو، ليتلو هذه الصلاة في حين يجثو المؤمنون على ركبهم مكرّرين الاستجابة، آمين، ثلاث مرّات ومؤكّدين أنّهم يشتركون حقّاً في ذبيحة الشكر، ويمارسون فعلاً كهنوتهم الملوكيّ. 

مباركة هذه الرعيّة ومثيلاتها، وليعطنا الربّ الإله نعمة تكاثرها في كنيستنا الأنطاكيّة.

 

 

 

المشاركات الشائعة