من بلاد الكرج إلى جورجیا الحدیثة


ريمون رزق

النور - العدد الخامس 2019

 

بلاد الكرج

تذكر «فیمي» (دعاء) البطریرك ّ الأنطاكي «بلاد الكرج» بین البلدان التي تشملها رعایته، مع ّ أن هذه الرعایة انتهت منذ قرون، حین ُمنحت كنیستها الاستقلال ّ الذاتي. فلا یدلّ هذا الذكر ّ المستمر ّإلا على تعلّق الأرثوذكسیّین، المرضي أحیانًا، بكلّ قدیم والبقاء علیه كأنّه ّمقدس، حتّى إذا ّمر علیه الزمن. ّ أما عبارة «الكرج» فتأتي من التسمیة التي أطلقها«الفرس ً قدیما على جورجیا «بلاد الذئاب»، أو «غرجستان» ،«gorg" لكثرة الذئاب فیها، والتي أصبحت «بلاد الكرج» بالعربیّة.

 القدیسة نینو

دخلت المسیحیّة ً فعلا إلى جیورجیا في القرن الرابع على ید القدیسة نینو أو نینا، «المعادلة الرسل ومنیرة جیورجیا»، مع ّ أن ً تقلیدا ً قدیما یروي أن أندراوس الرسول كان أول َمن ّ بشر هذه البلاد، وأن سمعان الغیور دُفن في إحدى مناطقها (أبخازیا). ّثمة روایات كثیرة حول أصل نینو ونشأتها، لكن الأكثر رواجا هي إنّها  ولدت في كبادوكیا نحو السنة 296، وانضمت إلى جماعة رهبانیّة استشهد كلّ أعضائها في أرمینیا، وتمكّنت من النجاة وحدها ودخلت إمارة أیبیریا الجیورجیّة سجینة نحو السنة 320 . تقول سیرتها إنّها نجحت في تنصیر الملكة نانا، ّثم زوجها الملك میران، وتكوین أول جماعة مسیحیّة في البلاد.

وأصبحت المسیحیّة دین الدولة نحو السنة 330. أما نینو فبعد أن سهرت في السنة 337 على البدء في تشیید الكنیسة الأولى في مدینة ِمتسختا، عاصمة البلاد آنذاك، انعزلت في قرية تُدعى «بودبیه»، منشغلة بالصلاة والصمت، ورقدت السنة 340 . ولا یزال الجیورجیّون یتباركون من قبرها في الدیر الذي ُشیّد في مكان رقادها.

تذكر حولیّات جیورجیّة قدیمة أن الأمبراطور قسطنطین الكبیر أرسل آنذاكً جزءا من عود الصلیب الكریم إلى جیورجیا، ُفوضعت أقسامه في مذاخر في الكنائس التي كانت قید الإنشاء. وبطلب من ّ القدیسة نینو انتشر تقلید نصب الصلبان في سائر أنحاء البلاد للاحتفال بتنصیرها. ّ واستمر هذا التقلید حتّى أیّامنا حیث یُرسم الصلیب أو یُحفر على واجهات الكنائس، ویُنصب في كلّ مكان.

استقلال الكنیسة ّ الجیورجیة

تعتبر الكنیسة الجیورجیّة أنّها نالت استقلالها ّ الذاتي السنة 483 ، لكن لا یستند هذا التاریخ إلى وقائع تاریخیّة ثابتة. كانت أبرشیّة ِمتسختا، ّ المؤسسة في القرن الرابع (من نینو وبعض الأنطاكیّین) تابعة ّ للكرسي ّ الأنطاكي، الذي أعطى متروبولیتها لقب كاثولیكوس. لكن لأسباب غیر واضحة، أكان بتأثیر من كنیسة أرمینیا المجاورة أم من یعاقبة ّ الكرسي الأنطاكي أتوا إلى جیورجیا، رفضت كنیسة جیورجیا قرارات المجمع ّ الخلقیدوني من السنة506 حتّى السنة 574، حین عادت إلى الإیمان القویم. ومن الثابت ّ أن كنیسة جیورجیا بقیت طیلة هذه الحقبة على علاقتها ّ بالكرسي ّ الأنطاكي ( ّ الخلقیدوني أو ّ الیعقوبي؟ لا یُعرف).

أتى البلاد بین 520 و571 من ُسّموا بالآباء الآشوریّین أو السوریّین الثلاثة عشر، وأسسوا أدیرة فیها ساهمت في نشر المسیحیة في سائر أرجائها. هم غالبا سریان أتوا من سوریة وبلاد ما بین النهرین. یختلف الباحثون حول هویّتهم الإیمانیّة. أكانوا یعاقبة هربوا من الاضطهاد الذي بدأوا یتعرضون له في المدى الأنطاكي على ید الدولة البیزنطیّة، أم هم أُرسلوا لتثبیت تنصیر جیورجیا؟ یُعتقد الیوم أنّهم كانوا من الجیورجیّین الخلقیدونیّون الذین عادوا إلى بلادهم من الأدیرة الأنطاكیّة التي كانوا یعیشون فیها. لم یكن عددهم ثلاثة عشر بل أكثر، لكن نُسب إلیهم هذا العدد تشبها بالمسیح وتلامیذه. حفظ التقلید اسم كبیرهم، یوحنّا «الزِدازیني» الآتي من مدینة أنطاكیة، وأسماء الاثني عشر الآخرین (أبیدوس، داود، عیسى، إیزیدوروس، یوسف، میخائیل، بیروس، شیّو، إستفانوس، ّتداوس وزینون). ارتبط اسم كلّ منهم بالدیر الذي شیّده في القرن السادس، والذي لا یزال ً موجودا حتّى الآن، والذي هو موضع تكریم كبیر ومقصد للحجاج.

یشوب علاقة الكنیسة الجیورجیّة بأنطاكیة شيء من الغرابة والغموض، إذ لم یُنصب أي من الكاثولیكوثات التسعة الذین احتلوا الكرسي ّ الجیورجي بین 650 و 740 في أنطاكیة، كما یقضي التقلید. ویبدو ّ أن البطریركیّة الأنطاكیّة أعطت أساقفة جیورجیا صلاحیّة انتخاب رئیسهم في منتصف القرن الثامن (744).  هذا ما یرتكز علیه البعض لتحدید استقلال كنیسة جیورجیا في القرن الثامن. لكن یعتبر باحثون آخرون أنّه یجب تأخیر هذا التاریخ إلى مطلع.القرن الحادي عشر (1008) حین أعلنت الوحدة السیاسیّة بین جیورجیا الشرقیّة والغربیّة. حافظت كنیسة جیورجیا على وحدتها رغم تقسیم البلاد إلى إمارات متناحرة إثر الغزو ّ المغولي، في أواخر القرن الثالث عشر، وظلت ّ موحدة عندما أخذ كلّ من أمراء المناطق یفرض بطریركه، في منتصف القرن السادس عشر. واللافت ّ أن البطریرك ّ الأنطاكي مكاریوس الثالث ابن الزعیم زار جیورجیا في السنة 1669 ، في طریق عودته من زیارته الثانیة إلى روسیا، وذلك بعد انقطاع العلاقة المباشرة بین الكرسیّین لقرون. ورقد ابنه الشماس بولس أثناء زیارته هذه إلى جیورجیا.

عرفت البلاد بعد ذلك غزوات فارسیّة جدیدة، فاستنجدت بالأمبراطوریّة الروسیّة لحمایتها، استنادا إلى وحدة الإیمان التي تربط البلدین. لكن لم یكن الاحتلال ّ الروسي أفضل من غیره، بل أسوأ في سعیه إلى طمس الهویّة الجیورجیّة، دینیًّا وثقافيًّا وفنيًّت ولغةً، لجعل البلد ینصهر كليًّا بروسیا. فألغت استقلال الكنیسة وبطریركیّتها في السنة 1811 ، وألحقتها بالمجمعّ المقدس الروسي. وأصبح معظم الأساقفة من الروس، وفُرضت السلافونیّة في الخدم اللیتورجیّة، وأُعطي التعلیم الإكلیریكي بالروسیّة، مبعدا الكهنة عن رعایاهم المتكلّمین اللغة الجیورجیّة فقط، كما استُبدل تكريم القدیسين المحلّيّون بالقدیسین الروس. وطليت الجداریّات الجیورجیّة القدیمة بالطین واستُبدلت ّ بالفن ّ الروسي الواقع آنذاك تحت التأثیر الغربي. لا یستطیع المرء ّ إلا أن ّ یتحسر لمثل هذا ّ التصرف ویقول: «یا ّ للأخوّةالأرثوذكسیّة"!

لم تسترجع جیورجیا استقلالها إلا لفترة وجیزة السنة 1917، إثر الثورة ِ البولشفیّة، قبل أن ّ یضمها الاتّحاد ّ السوفیاتي إلیه، ویُخضعها لاضطهاد قاس. فبعد أن عانت أدیرتها وكنائسها من حملات طمس معالمها الفنّیّة الأصیلة من قبل الأمبراطوریّة الروسیّة، عانت مجددا، من الإغلاق ّ القسري والإهمال أیّام الحكم ّ الشیوعي. ولم تحظ البلاد بالاستقلال كنیسة ً وشعبا، سوى السنة 1991، بعید سقوط الاتّحاد ّ السوفیاتي.

الثقافة ّ الجیورجیة والأدب ّ الرهباني

باشر الجیورجیّون، منذ أواخر القرن الرابع، بترجمة العهد الجدید والمزامیر إلى اللغة الجیورجیّة وأكملوها في القرن الخامس. وظهر ّ أول أدب ّ كنسي ّ خاص َ بسیر الشهداء والقدیسین الجیورجیّین ابتدأ من القرن الخامس. وانتشر الرهبان في أنحاء البلاد ابتدأ من القرن السادس ونشروا الإیمان والعلم. وعرفت الرهبنة الجیورجیّة ً ازدهارا ملحوظً وأنشأت أدیرتها، لیس فقط في جیورجیا بل في فلسطین وآسیا الصغرى والقسطنطینیّة وجبل آثوس (دیر إیفیرون) وقبرص وبلغاریا ووصل رهبانها إلى دیرّ القدیسة كاترینا في سیناء.

وأصبحت هذه الأدیرة مراكز بارزة للتبادل الروحي والثقافي مع البلدان الأرثوذكسیّة الأخرى ونسخ المخطوطات وترجمتها كما التألیف. وأنشأت في القرن التاسع أكادیمیّة دیر إیكالتو، وفي القرن الثاني عشر أكادیمیّة دیر ِغلاتي، اللتان ساهمتا  كثیرا في نشر المعرفة.

التاریخ ّ الجیورجي: مآس ومرحلتان ذهبیتان

لكون جیورجیا محاطة بأمبراطوریّات، كان تاریخها ملیئًا بالحروب والاحتلالات قام بها الفرس والبیزنطیّون والعرب والمغول والعثمانیّون، والفرس مجددا ً وأخیرا الروس القیصریّون فالشیوعیّون. رافقت هذه المصاعب ِنزاعات بین المناطق الجیورجیّة وحروب أهلیّة. من ّ الطبیعي إذًا أن ینتج من ذلك تدمیر واسع للمعالم الجیورجیّة وتشویه. لم تحظ البلاد بشيء من الاستقرار إلا في عهد الملك «داود الرابع ّ الباني» (1072-1125) وخلفائه، بخاصة الملكة تمار (1213). عندها شهدت نموا دینیا وثقافیا كبیرا حاكى الذي عرفته في القرون التي تلت تنصیرها. ُفشیّدت الأدیرة والكنائس ُوزیّنت بالجداریّات وكُتبت الأیقونات والمنمنمات. واعتُبرت المرحلة الممتدة بین القرنین الخامس والثامن من جهة، والمرحلة بین القرنین الحادي عشر والثالث عشر مرحلتین ذهبیّتین للفن ّ الدیني ّ الجیورجي.

كنیسة جیورجا الیوم

أقفل الحكم ّ الشیوعي نحو 1500 كنیسة أو هدمها. لكن بدأت الأوضاع تتغیّر في مطلع ثمانینات القرن العشرین، إذ تزامنت مقاومة النظام الشیوعي عند الشباب مع إحیاء الانتماء الكنسي كمؤشر ورمز للهویّة الجیورجیّة. هذا الارتباط بین الدین والهویّة الوطنیّة ذات جذور تاریخیّة عمیقة في جیورجیا، إذ كانت الأرثوذكسیّة في صمیم هذه الهویّة طیلة قرون.

لذلك یجوز وصف الكنیسة الجیورجیّة، كعدد من الكنائس الأرثوذكسیّة الأخرى، بالكنیسة الوطنیّة وهي ّ بالأخص «الكنیسة الوطن». قاوم الاحتلال الروسي ثم السوفیاتي هذا الواقع وزعزعاه، لكنّهما لم یستطیعا أن یزیلاه كليًّا.

انتُخب البطریرك ّ الحالي، إیلیّا الثاني، السنة 1977. استطاع، باتّباعه سیاسة حكیمة مع السلطات الشیوعیّة، أن یرسم أساقفة، ویفتح ًعددا من الكنائس، ویُصدر مجلّة. وسمح له بأن یُعیَّن في السنة 1979 كأحد رؤساء مجلس الكنائس العالمي. وأطلق في السنة 1985 مشروع ترجمة الكتاب المقدس إلى الجیورجیّة الحدیثة وأكمله السنة 1989. وتمكّن أیضا من إعادة فتح بعض الأدیرة، فانطلقت الحیاة الرهبانیّة مجددا بعد انقطاع طویل. ودشن في السنة 1988 معهدین لاهوتیّین، وأعاد مجمّعات رهبانیّة أخرى ّ مهمة للكنیسة. شهدت البلاد في أیّامه استعادة للممارسة الدینیّة، كما زاد اهتمام الشعب، بخاصة الشباب، بالمحافظة على التراث الفنّي والعمارة الكنسیّة. رغم ذلك، لم یخلُ الوضع من انتقاد مناهضي النظام الشیوعي ودعاة الحركة الاستقلالیّة الوطنیّة بسبب علاقته ”الطیّبة“ مع الحكم الشيوعي، وشكوا من فساد بعض رجال ّ المؤسّسة الكنسیّة، وطالبوا بإشراك العلمانیّین في شؤون الكنیسة وعملیّة انتخاب المطارنة والبطریرك.

عند التحریر، بینما أخذت الأوساط السیاسیّة تهتم ببناء الدولة وصون وحدتها، قامت الكنیسة بالاهتمام ّ بالأمة والوطن بإعطائهما مدى أخرویًّا. ذهب البطریرك في إحدى عظاته إلى القول ّ إنّ «الوطن هبة إلهیّة. وجیورجیا وطننا هي أیضا حصة العذراء مریم ّ الخاصة... وهي قالت ّ إن جیورجیا ستتلألأ في یوم الدین... وفي اللحظة التي تفقد فیها البشریّة الإیمان الحق... تكون لغتها لغة یوم القیامة». وفي عظات كثیرة أخرى، قال ّ إن جیورجیاّ أمة مختارة، ولذلك تمكّنت من الصمود في تاریخها المضطرب، وستتغلب على الصعوبات الحاضرة والآتیة.

أدت نظریّة الشعب المختار هذه إلى إظهار التاریخ ّ الجیورجي كله، من منظار الكنیسة التي هي وحدها «الجسر مع الماضي»، وركیزة الحاضر والطریق إلى المستقبل. فساد شعور، في سنوات الاستقلال الأولى، ّ أن كلّ جیورجي هو حكمًا أرثوذكسيًّا، حتّى لو لم یكن ممارسا أو كان ملحدا. ّوأدت ً هذه النظريّة أیضا إلى ّ تدخل واضح للبطریرك في الشؤون السیاسیّة كشریك للدولة ولیس كخاضع لها. خلق ذلك التباسات ونقاشات كثیرة هدأت عند توقیع اتّفاق بین البطریرك ورئیس الجمهوریّة في السنة 2002، حدد علاقات الدولة والكنیسة. تعطي الدولة، بموجبه، الحریّة الكاملة للكنیسة لتنظیم أوضاعها الداخلیّة كما تشاء، وحق مراقبة البرامج المدرسیّة، ورعایة الجیش والسجون، وأولویّتها على باقي الطوائف. وتعوضها عن الخسائر التي لحقت بها في الحقبة السوفیاتیّة، معیدة إلیها كلّ أملاكها المسلوبة. وتتكفّل بجزء من تمویلها مقابل دعوتها إلى تقویة نشاطها الاجتماعي. تجدر الملاحظة في هذا المضمارّ أن هذا التمویل زاد عشرین مرة بین 2005 و2014 بدون زیادة مماثلة للخدمة الاجتماعیّة! وإذ ثبّت التمویل موقع الكنیسة على صعید ّ المادیّات، خلق في الوقت عینه اتّكالًا واضحًا على الدولة وبعض التزلّف والفساد في الأوساط الإكلیریكیّة.

لم یؤثر هذا الاتّفاق في میل الكنیسة إلى الانزواء ّ الفكري في نوع من البرج  العاجي، رافضة كلّ جدید وغیر أصل جیورجي أصیل، ومعتبرة المدنیّة الحدیثة في كلّ مظاهرها من الشیطان ویجب محاربتها. ترفض الكنیسة قطعيًّا مثلا كلّ زواج مختلط، كما طالبت مجموعات كنسیّة قریبة من البطریركیّة بقطع العلاقات مع كنائس أنطاكیة والإسكندریّة ورومانیا لأنّها تقبل مبدأ هذه الزیجات مع غیر الأرثوذكسیّین!

 ازدیاد الاقتناص من قبل شهود یهوه وشیع إنجیلیّة أخرى من جهة، ومن جهة ثانیة تأثیر بعض الجماعات الأرثوذكسیّة «الأصولیّة» المنشقّة (ذوي التقویم القدیم في الیونان وبلغاریا مثلا) على كبرى الرهبنات الجیورجیّة التي هددت المجمع  المقدس بالانشقاق إذا لم یقطع علاقاته مع كلّ كیان غیر أرثوذكسي، وجعلت الكنیسة الجیورجیّة تتّخذ موقفًا معادیا لكلّ عمل  مسكوني أدى بها إلى الانسحاب من مجلس

الكنائس ّ العالمي السنة 1997، ومنع كلّ صلاة (غیر إفخارستیّة) مع الكاثولیك

والبروتستانت، والتشبّث في معاداتها لكلّ انفتاح على العالم الحدیث والمدنیّة الغربیّة،

والخوف من كلّ آخر.

مع ذلك، تحظى الكنیسة الجیورجیّة بثقة أكثریّة السكّان. وقد دلّ استطلاع للرأي في شهر شباط من السنة 2010، على ّ أن 86 %من الأشخاص الذین سئلوا یثقون بالكنیسة و90 % بالبطریرك، مع ّ أن غالبيّتهم ليست لیسوا من الممارسین. ّ أما الممارسون فیقول بعض الكهنة ّ إن أغلبیّة المشاكل التي تُثیرها رعایاهم تشمل، إلى قضایا الصوم والعائلة والإنجاب، أمورا متّصلة بمظاهر التقوى الخارجیّة، أمثال تغطیة رأس النساء في الكنائس ومنعها من لبس البنطلون، وإجبارها رسم إشارة الصلیب أمام الكنائس، وحمل الصلیب حول العنق... معّ أن 84% من الشعب یعتبر نفسه «متدیّنا»، بموجب دراسة  أعدها مركز أبحاث ّ جیورجي السنة 2012، 36%بینهم ّصرحوا أنّهم یشتركون في الخدم الكنسیّة مرة واحدة في الشهر، و51 % في الأعیاد الكبرى فقط و12 % لا یمارسون إطلاقًا. تكتفي الغالبیّة بالفعل بحضور كنسي في مناسبات الزواج أو العماد أو الموت أو في الفصح والمیلاد.

مع ذلك لا ّبد من ملاحظة تكاثر عدد الكنائس في كلّ أنحاء جیورجیا وترمیم الكنائس القدیمة. قال أحدهم إنّه ُشیّد في الفترة بعد 1990 أبنیة كنسیّة أكثر من كلّ ما

شیّد في القرون الماضیة. كما زاد عدد الكنائس المقامة على قمم الجبال التي یصعب الوصول إلیها، كأنّها أنشئت لتُرى لا لیأتیها الناس!.

وازداد ً أیضا حضور الكنیسة خارج المباني الكنسیّة بواسطة نشاطات ثقافیّة، وزیّاحات حول الكنائس خلال السهرانیّات، والحج ّ الداخلي إلى المواقع المقدسة، ونقل الأیقونات العجائبیّة من مكان إلى آخر وسط احتفالات شعبیّة، مع  أنّه یُعتبر استحداثًا

للتقالید الجیورجیّة القدیمة التي لم تلحظ شيئًا من هذا القبیل. تعطي البطریركیّة

أهمیّة  خاصة لهذه الاحتفالات التي ّ یضم بعضها بضع عشرات الآلاف، وكذلك تفعل بعض الرعایا.

من یكتفي بهذه المظاهر الخارجیّة لن یعي المخاض  الداخلي الذي « ّ یمزق» الكنیسة الجیورجیّة، بین «الأصولیّین» (رهبان وعلمانیّین) المریدین مزیدا من الانعزال، و«التقدمیّین» الذین یحاربون التجارب الانعزالیّة ویدعون إلى الانفتاح الذي یعتبرونه من سمات الأرثوذكسیّة الأساسيّة.

مع أن غالبیّة الممارسین بدأت في الذهاب إلى الكنیسة في الفترة بین 1990 و2000 ما هو جدیر بالاهتمامّ أن ثلثي الممارسین في تبیلیسي مثلا هم من الشباب (أقل من ثلاثین عاما)، بینما لا یمثل الشیوخ، الذین نشأوا في أیّام الشیوعیّة، إلا نسبة ضئیلة (5 %). إذا استمر إقبال الشباب هذا، مع ما یأتون به من انفتاح على العالم، یبشر بمستقبل بهي للكنیسة الجیورجیّة، ویدفعها ربّما إلى الخروج من انعزالیّتها وتعلقها «الأعمى» بالتقالید، من دون التمییز بین التقلید الشریف والتقالید البشریّة التي ّ تغشیه.

العمارة الكنسیّة في جورجیا

عرف ّ الفن  المسیحي الجیورجي مرحلتینّ ذهبیتین، تمتد الأولى من زمن تنصیرالبلاد إلى القرن السابع زمن الاحتلال ّ العربي. أما الثانیة، وهي الأهم، فحصلت بین القرنین الحادي عشر والثالث عشر. یتمثّل هذا ّ الفن بالعمارة الكنسیة، وكتابة الفسیفساء والجداریات والأیقونات على أنواعها وتلبیسها ّ بالفضة والذهب والمینا والحجارة الكریمة، وكتابة المنمنمات، والنحت والزخرفة.

المرحلة الذهبیّة الأولى

قبل أن تأخذ الكنائس الجیورجیّة الشكل الذي یمیّزها الآن، اتّبعت كنائس المرحلة الذهبیّة الأولى نمطي  البازیلیكيّ الثلاثي الأجنحة  والمحوري مع قبّة، إضافة إلى نمط القاعات الكنسیّة الصغیرة الأحادیّة الجناح التي انتشرت  بخاصة في القرى. اتّبعت جیورجیا بذلك الأنماط المنتشرة في باقي العالم ّ المسیحي آنذاك، لكنّها أدخلت علیها أشكالا جدیدة، ّ بخاصة في نمط البازيليكات ذات ثلاثة أجنحة التي تفصل بینها جدران عالیة، جاعلة من كلّ جناح كنيسة مستقلّة، فیوجد هكذا ثلاث كنائس تحت سقف  بازیلیكي واحد. أما من بین التفاصیل المبتكرة الأخرى فنذكر وضع الصلیب وزخرفات مختلفة على الجدران الخارجیّة.

بعض البازیلیكات

كنیسة ِنكرِ سي التي ُشیّدت في القرن الرابع والتي التجأ إلیها أبیبوس، أحد الآباء السوریّین في أواخر القرن السادس وأقام بازیلیكا باسم رقاد السیّدة بقربها

بازیلیكة بولنیسي المثلّثة الأجنحة التي ُشیّدت في أواخر القرن الخامس، وهي من أقدم البازیلیكات ذات ثلاث كنائس تحت سقف بازیلیكي واحد. تتمیّز أیضا بأقدم نموذج للأبجدیّة.الجیورجیّة على أحد جدرانها الخارجیّة ونقوشاتها المتأثّرة ّ بالفن ّ الساساني.

كنیسة « ِ الأنتشسخاتي» التي ُشیّدت في مطلع القرن السادس على اسم العذراء مریم، وهي أقدم كنیسة في العاصمة تبیلیسي. إنّها بازیلیكة ذات ثلاثة أجنحة تفصل بینها أعمدة ضخمة. كانت تُدعى قدیما «كنیسة الأجراس»، لأنّها كانت الكنیسة الوحیدة التي كان یُسمح لها باستعمال أجراسها أیّام الاحتلال العربي. ثم ُدعیت ِ أنتشسخاتي (أي أیقونة «أنتشا») نسبة إلى أیقونة كُتبت في القرن السادس أو السابع، نُقلت إلیها من دیر «أنتشا» في تركیا الحالیّة في القرن السابع عشر

كنیسة دمانیسي سیوني ُشیّدت  أصلا في القرن السادس وأُدخلت تعدیلات علیها في.القرن العاشر. هي بازیلیكة أحادیّة الجناح.

الكنائس ّ المحوریة

ظهرت هذه الكنائس، مع قبّة وسطیّة، ابتداء من القسم الثاني من القرن السادس، ّ وأهمها هي:

كنیسة دجفاري: یروي تقلید محلّي أن ّ القدیسة نینو أقامت ًصلیبا خشبیا  كبیرا، في موقع معبد وثني كان على قمة الجبل المشرف على  متسختا، التي كانت عاصمة البلد آنذاك. فأصبح المكان  مقصداّ للحجاج، وشیّدت فيه كنیسة صغیرة، السنة 545، فوق بقایا الصلیب. أما الكنیسة الحالیّة  فشیّدت بین 590 و605، وهي أقدم نموذج للكنائس المحوریّة ذات أربعة صدور وقبّة متعددة الضلوع. أثر نمطها في تطور العمارة الكنسیّة الجیورجیّة، وكذلك الأرمنیّة. واجهاتها الخارجیّة مزیّنة بنقوشات

ونحوتات ممیّزة.

كنیسة ِأتني سیوني: شیّدت في القرن السابع، وهي محوریّة مع قبّة متعددة الأطراف. تحمل جدرانها الخارجیّة نماذج من الخط ّ الجیورجي القدیم ونحوتات مختلفة ذات تأثیر إیراني واضح، بینما تُزیّن جدرانها الداخلیّة جداریّات كُتبت في القرن الحادي عشر.

كاتدرائیّة دراندا: یُعتقد أنّها شیّدت في القرن السادس بأمر من الأمبراطور  یوستنیانوس. هي محوریّة وبشكل صلیب، تعلوها قبّة  متعددة الأطراف.

كنیسة دیر كرومي: تمثل أحد أقدم نماذج للكنائس ذات قبّة وسطیّة ترتكز على أربعة أعمدة قائمة في زوایا «صلیب ّ یوناني». ُشیّدت في القرن السابع 

 تطور العمارة ّ الكنسیة من النصف الثانيمن القرن السابع إلى القرن العاشر

الكنائس السابقة الذكر ذات أحجام صغیرة عادت لا تتلائم في القرن التاسع مع عدد المؤمنین الذین یؤمونها. لذلك تطورت آنذاك العمارة الكنسیّة، محافظة على بعض العناصر التقلیدیّة ومبتكرة أشكالا جدیدة، بخاصة القبّة المرتفعة التي تمیّزت بها العمارة الجیورجیّة.

مثّلت هذه الحقبة مرحلة انتقالیّة اختبرت خلالها جیورجیا، رغم الأوضاع السیاسیّة الصعبة، أنماطًا جدیدة للعمارة الكنسیّة، یُهیّئ بعضها نهضة القرن الحادي عشر العمرانیّة. نتوقّف عند ّ أهم هذه الأنماط

كاتدرائیّة كوموردو: ُشیّدت في آخر القرن العاشر وتجمع بین النمط ّ البازیلیكي ومسطّ والمسدس الأطراف.

كنیسة القدیس جاورجیوس في أوبیزي

شیّدت في القرن التاسع، وهي بازیلیكة أحادیّة الجناح مع سقف معقود ذات ضلوع. زیّنت بالجداریّات في القرن الرابع عشر.

بـعـد تـوحـیــد جـیـورجــیــا وازدهــارهــا ّ الاقتصادي في مطلع القرن الحادي عشر، شّیدت ّ كاتدرائیات كبیرة، ّ أهمها

كاتدرائیة ّ القدیس جاورجیوس في ألافردي: ُشیّدت الكاتدرائیّة الحالیّة في القرن الحادي عشر في موقع كنیسة أقامها میخائیل، أحد الآباء السوریّین في القرن السادس مكان معبد  وثني، وزیّنت بالجداریّات. یصل ّعلوها إلى 55م، وكانت أعلى كنیسة في جیورجیا قبل بناء كاتدرائیّة ِسامبا (الروح القدس) في تبیلیسي، السنة 2004.

كاتدرائیة ِسف نیسخوفلّي (أي العمود المعطي الحیاة) في ِمتستخا: شیّدت في النصف الأول من القرن الحادي عشر في موقع كنیسة ِمتستخا الأولى التي أُقیمت السنة 379 في المكان الذي نُصب فیه أحد صلبان القدیسة نینو . یروي التقلید المحلّيّ أن أحد الیهود من أصل ّ جیورجي كان في أورشلیم أثناء صلب المسیح، فابتاع قمیص یسوع من أحد الجنود، وأتى به إلى جیورجیا، وحین لمست شقیقة الیهودي القمیص ماتت ُفدفنت معه. ونمت شجرة كبیرة فوق قبرها اضطرتّ القدیسة نینو إلى قطعها إلى سبعة أجزاء استُعملت في أساسات الكنیسة، لكن الجزء السابع ارتفع إلى السماء وحقّق معجزات. لذلك دعیت الكنیسة «العمود المعطي الحیاة». تتمیّز هذه الكاتدرائیّة بجداریّاتها الداخلیّة من القرن الحادي عشر.

كنیسة دیر سامتافیزي:  أسس الدیر إیزیدوروس، أحد الآباء السوریّین، في القرن السادس، وأعید بناؤه لاحقًا. ترجع كنیسته الرئیسة الحالیّة إلى أواخر القرن الحادي عشر (1186). لكنّها أُصیبت بأضرار جسیمة بسبب الهزات الأرضیّة، فرّممت في القرن الخامس عشر، مع الحفاظ على واجهتها الشرقیّة الأصلیّة التي تتمیّز بمنحوتاتها.

كنیسة ّ القدیس نیقولاوس في نیكورسمیندا: شیّدت في القرن الحادي عشر، وتتمیّز بصدورها الستّة وجداریّاتها، وبخاصة بمنحوتاتها الخارجیّة.

دیر التجلّي في َسمتافرو: توجد فیه كنیسة  القدیسة نینو المبنیّة في القرن الرابع التي أُعيد بناؤها في القرن الحادي عشر، وهي مقصد دائم ّ للحجاج لأنّها تحتوي على قبري الملك ماریان والملكة نانا اللذین ّ تنصرا على ید ّ القدیسة نینو. عاش في هذا الدیر مؤخرا الكاهن الراهب جبرائیل ِ أورغبادزیه (1929-1995 (الذي أعلنت الكنیسة الجیورجیّة قداسته السنة 2012. وكان قد مارس البلاهة من أجل المسیح ووضعته السلطات السوفیاتیّة في مستشفى المجانین.

دیر ِغلاتي: یشكّل هذا الدیر إحدى قمم  الفن  المعماري والتشكیلي الجیورجي في القرن الثاني عشر. شیّدت كنیسته الرئیسة باسم میلاد السیّدة بین 1106 و1125، ثم أُضیفت كنیسة القدیس نیقولاوس في القرن الرابع عشر. زیّن صدرالكاتدرائیّة بالفسیفساء الذهبیّة حسب النمط ّ البیزنطي وجدرانها بالجداریّات. ّ أما كنیسةّ القدیس جاورجیوس التي ُشیّدت في أواخر القرن الحادي عشر، فزیّنت بجداریّات  تضررت بسبب حریق أشعله الأتراك فیها السنة 1510، وتم ترمیمها في القرن السادس عشر. تختلف عمارة كنیسة ّ القدیس نیقولاوس ذات الطبقتین عن نمط الكنیستین الأخریین. احتضن الدیر أكادمیّة شهیرة استضافت كبار المثقّفین، وكانت  مصدرا كبیرا للعلم والنسخ وكتابة المنمنمات والأیقونات وتلبیسها بالفضة أو الذهب. دعي الدیر بسبب هؤلاء المثقّفین وسمو معرفتهم وروحانیّتهم «الجبل آثوس الجدید» أو «الآثینا الجدیدة".

كنیسة ّ القدیس جاورجیوس في ناكیباري: ُشیّدت وكُتبت جداریّاتها السنة 1130.

دیر تیموت ّسوباني بالقرب من بورجومي:  یتكون الدیر من أبنیة  شیّدت بین القرن الحادي عشر والقرن الثامن عشر. أُقیمت كنیسة رقاد والدة الإله الرئیسة بین 1195 و1215 .إنّها بشكل صلیب تعلوها قبّة وسطیّة وتكسو جدرانها الداخلیّة جداریّات كُتبت في عشرینات القرن الثالث عشر

كنیسة ِمِتخي في تبیلیسي: ُشیّدت في القرن الثالث عشر على تلة تُشرف على العاصمة.

دیر القدیس أنطونیوس في مارتكوبي بالقرب من تبیلیسي: یُعتقد ّ أن أحد الآباء السوریّین كان ّ أول َمن أنشأه. ترجع كنیسته الحالیّة إلى القرن الثالث عشر.

كاتدرائیة سیوني في تبیلیسي: شیّدت أصلا في القرن السادس أو السابع، لكنّها ُدّمرت مرارا، وأُعید بناؤها في القرن الثالث عشر، ّوتم تزیینها مؤخرا.

كنائس دیر دافید غاریدجا

یقع الدیر شرق جیورجیا على سفح أحد الجبال شبه الخالیة من السكّان.  أسسه في القرن السادس أحد الآباء السوریّین. سكنه عبر الأجیال كبار القدیسین الجیورجیّین، أمثال هیلاریون ّالكرجي في القرن التاسع. اقتحمه الأتراك ثم المغول في القرنین الحادي عشر والقسم الثاني من القرن الثالث عشر. عرف في القرنین الثاني عشر والثالث عشر ّقمة ازدهاره، ّ بخاصة في كتابة الجداریّات. وفي السنة 1615، غزته جحافل فاریسیّة وقتلت رهبانه، وحرقت محتویاته  وأعمالا فنّیّة كثیرة. لكنّه عاد فانتعش في أواخر القرن السابع عشر إلى أن احتلته الجیوش الروسیّة السنة 1802، فظلّ بدون رهبان من 1811 إلى 1917، حیث استعادت الكنیسة الجیورجیّة استقلالها الكنسيّ والمدني اللذین ألغتهما الأمبراطوریّة الروسیّة. عادت إلیه الحیاة الرهبانیّة في ثمانینات القرن العشرین.

كنیسة الرقاد في خوبي: ُشیّدت في أواخر القرن الثالث عشر أو مطلع القرن الرابع عشر. اشتهرت وأصبحت ً مقصدا للحجاج لكثرة الذخائر (بخاصة ثوب العذراء) والأیقونات القدیمة التي كانت موجودة فیها.

المشاركات الشائعة