الكنيسة تشمل العالم

 ريمون رزق

النور- العدد السادس  1968 


سنة انقضت على احتفالنا سوياً بمرور ربع قرن على تأسيس الحركة. ولقد أكدنا آنذاك وفي مناسبات عدة أن هذه الذكرى ليست بالنسبة لنا مواعظ تلقى أو غبطة تتملكنا بل هي فحص ضمير، تساؤل مستمر وولادة جديدة. ولقد أعلنا أيضاً أن الحركة، بعد خمس وعشرين سنة من الصراع المتواصل، تدعو أعضائها ومن يريد أن يسمع إلى دفق جديد وانطلاقة بكر.

حق لنا أن نتفحص اليوم أين ترانا أصبحنا من منجزات خلقها الله بنا؟ ليس همنا أن نعدد تلك المنجزات بقدر ما يهمنا أن ننظر إلى ما يجب أن يزرع اليوم. من يضع يده على المحراث ينظر دائماً إلى الأرض الجدباء التي حوله وأمامه وإذا نظر إلى الوراء فإنما ينظر لاصلاح خطأ حصل. ونحن في قرارة نفوسنا نعلم أننا عملة خاطئون ونسعى أن يكون كل يوم ولادة جديدة وقيامة مشرقة. وكلنا ثقة بأن الربّ هو في وسط هذه البيعة وأنها لن تتزعزع مهما كثر فيها المنافقون والمخربون إذا وجد فيها أناس يتبتلون للكلمة، قائلون مع عاموس النبي: "إني لست نبياً ولا ابن نبي إنما أنا راعي بقر وواخز جميز فأخذني الرب من وراء الغنم وقال لي الرب انطلق وتنبأ لشعبي إسرائيل" (عاموس 9:7-15). أناس مخصصون للسيد مكاناً في قلوبهم يسند إليه رأسه.***

المشاكل تتكاثر يوماً بعد يوم. ما عاشت كنيسة انطاكية، في تاريخها الحديث، مرحلة من المساومات والتخاذل والانشقاق كهذه المرحلة.

أكثر من أي وقت مضى تتعرّض الدول التي تشكلها الى أزمات داخلية وخارجية تصل بها حد الانفجار.

أكثر من أي وقت مضى يحسن المسؤولون التهرب بحذق مما هو أساسي وضارب في العمق، تاركين شعوبهم ترزح في بؤسها ولامبالاتها.

أكثر من أي وقت مضى يغرق شباب هذه البلاد في ضياعهم، يعيشون اضطرابهم الكياني، جاهلين القصد والمآل.

بلادنا تنحو تجاه الثورة. والكنيسة، بنظر الكثيرين الحليفة للمستغلين والمشلولة بهذا النظام السياسي- الطائفي، إنما ستتحمل العواقب إلا إذ صمّمنا، في لحظة إشراق، أن نجد ذواتنا، أن نعاود حمل النبؤة، أن نتحرر من منطق الغالب والمغلوب، حين ندرك أن الغلبة كتبت للعدالة والحق المتجسدين في شخص الناصري.

حتى يكون لنا هذا وجب أن نحطم طوق قوقعتنا وننطلق: أن نكف عن التفكير بالطائفة كمنظمة، كتجمع أفراد ومصالح، مدركين أن الكنيسة تشمل العالم، أن ندفن خوفنا على مصير الكنيسة. ان همنا لينصب على مناصرة ما تمثل من نهج حياة وعبادة من تبغي الاتحاد به.

لنخرج من قوقعتنا مشاركين أكثر فأكثر الحياة التبشيرية في رعياتنا وأبرشياتنا.

لنتعلم من جديد أن نعلنه رفضاً كاملاً وأن نصرخ: لا، بوجه كل انحراف وتلكؤ، أن نقرع الأبواب واحداً واحداً، أن نرجع للمساكين والمنبوذين مكانهم المقدس، ان يأخذ الأسقف المبادرة بقطع تحالف الكنيسة الوضعي مع الأثرياء المتحكمين ويمزق غشاء الحياة الاجتماعية والسياسية والدنيوية الذي يحيط بها فيصبح الأب الفعلي للشعب، الأول بين أخوة متساوين.

لنخرج من قوقعتنا رافضين الوضع الذي تعيشه كنيسة انطاكية، نرفض الكذب والمساومات. ضروري اعتماد الحكمة البشرية لكن مع يقين أنها جهالة أمام الله. وحده الله يجب أن يسود انطاكية والأنبياء والقديسون، المعتوهون في نظر البشر، وحدهم يحبونه.

بعض من مسؤولينا بإسم المحبة، وهي التي أخرجت بالسوط الباعة من الهيكل، يشوهون الاله في الأرض التي أحب. ليست المحبة تخاذلا ً أو موقفاً مداهناً، هي إذ تدعو الحاجة سوط يلهب ونار محرقة.

أيمكن أن نعاين، بموقف المتفرّج، صلب الفادي كل يوم؟ "أقول لكم أن سكت هؤلاء نطقت الحجارة".

لنخرج من قوقعتنا ونتأمل العالم الذي نحيا ضمنه. كفى لامبالاة بمشاكله ومآسيه. لنذكر أن المسيحي إنسان وأن ما من أمر يتعلق بالبشرية هو عنه غريب.

لنتقبل كوننا لبنانيين وعرباً في آن، لنحطم الغربة الكائنة أو التي يراد لها الكينونة بين تطلعات العرب والمسيحية. لنلتزم آمال شعبنا. لنصارع بغية إحقاق العدالة. لنفضح التسويات والأكاذيب ومظاهر العفونة. لنعِ الخطر الإسرائيلي ولنفتح الأعين والضمائر عليه. لنحارب بكافة إمكاناتنا الطائفية وذيولها.  لنشارك فكراً وعملاً في نهضة هذا البلد، في تغيير مرتكزاته وفي ارسائه على دعائم أكثر صحة، أكثر علمية وأكثر إنسانية.

... لنعلم أن العمل صلاة وأن ترجمة المسيح في وضع حياتي على صعيدين واحد شخصي وآخر عام إنما هو أيضاً تقدمة وذبيحة.

هناك صراع يوجده بعض بين مرتا ومريم مفضلين الأخيرة، موحدين بينها وبين الموقف الثنائي عن مشاكل العالم. ألا يحمل هذا التفضيل خطأ؟ أليس الارتماء على قدمي يسوع أيضاً تجنداً في خدمة الانسان؟ أليس المسيحي مدعواً أن يكون في آن مرتا ومريم؟

بلدنا يتوقع ثورة. شبيبته تعيش أزمة لأنه هو يعيشها. أنترك لسوانا طرح القضايا؟ أما زلنا نعاين الأزمة كمتفرجين عجز؟ أنترك الكنيسة غائبة عن آلام الإنسان، جاهلة تعطشه للعدالة والمساواة.

الحركة بعد ست وعشرين سنة من الصراع مدعوة أكثر فأكثر للجهاد في هذه الميادين كلها والوقوف في طليعة من يعملون لأخوة حقة بين أبناء هذا البلد مرتكزة على العدل والحق والاحترام المتبادل.

 مجابهتنا هذه المشاكل وتهيؤنا لاقتبال جميع المتطلبات والمسؤوليات التي تنتظرنا إنما يستلزمان في البدء انكفاء على ذواتنا. حياة المسيحي مدّ وجزر متواتران. هي نوع من الخلوات تعقبها انطلاقات.

حقيقة تهدي دروبنا فلنندركها: المسيح فينا فلنعِ وجوده مرسخينه في العمق، المسيح في الآخر فلنتق إلى لقائه فيه. كل إنسان هو مسيح لي. فالحوار معه قائم بالضرورة. فلأدع مسيحي فيه. إذ ذاك نشهد وحدتنا واقع الحياة يتجسّد كل لحظة.

دعوة نوجهها الى كل مؤمن في هذه البيعة: الحقل واسع والعمل وفير والعملة قليلون. أو نترك الأرض جدباء؟ أو نكتفي بتشجيع من يعمل أو نناصره في مشاركة حياة وفعل وتضحية؟ صوت الرب يدعونا جميعاً وإذا سمعتم هذا الصوت فلا تقسوا قلوبكم.

بورجوازيو الإيمان، هؤلاء الذين يريدون أن يعملوا القدر اللازم ليبقوا في مستنقعات اكتفائيتهم وسكونهم، هؤلاء لم يفهموا دعوة المسيح ولم يفهموا هذه الحركة ولم يسمعوا ما قاله رجل الله اشعيا: :"إني لأجل صهيون لا أسكت ولأجل أوروشليم لا أهدأ حتى يخرج كضياء برها وخلاصها كمصباح متقد.

حركة الشبيبة الأرثوذكسية منذ ست وعشرين سنة تسعى أن تسلك هذا السبيل. وكما قال قدس الأب جورج خضر: "القضية ليست قضيتنا لنغض النظر عنها. إنها لقضية أورشليم الجديدة الكنيسة العروس التي لا نرضى لها كلفاً ولا غضناً. من أجل ذلك لا نفتر ولا ندع الله يفتر حتى تصبح أرض انطاكية تسبحة في الدنيا كلها".

صوت صارخ في برية مدننا وقرانا. بالنسبة لنا كانت الحركة دوماً هذا الصوت. وكلنا ثقة بأنها لن تكف عن أن تكونه، لأن المسيح آت، لأنه هنا ولأن روحه يوجه الكنيسة وهو قادر دائماً أن يخلق بيننا أناساً يدركون أن حبة الحنطة ان لم تمت فلا حصاد.

لنعش في هذا الترجي لنصير حياتنا صوماً دائماً  كي تنار الكنيسة والعالم بنور الطالع من القبر. إذ ذاك يعلنا ملء قامتهما – قيامة المخلص.

____________

* ألقيت في احتفال الذكرى السادسة والعشرين لتأسيس الحركة

المشاركات الشائعة